وضع داكن
18-04-2024
Logo
الدرس : 4 - سورة الأنفال - تفسير الآية 72 ، المعنى الحقيقي للهجرة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

  الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .

المعنى الحقيقي للهجرة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ الآية الثانية والسبعون من سورة الأنفال قوله تعالى :

﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾

 الهجرة أيها الأخوة ؛ ونحن هذه الأيام نعيش ذكرى الهجرة ، الهجرة هي المظهر العملي للإيمان .
 الإيمان : ما وقر في القلب ، وأقره اللسان ، وصدقه العمل .
 فالإنسان أيها الأخوة إذا آمن بالله ، آمن بالله ولكنْ من دون حركة نحو الله فذلك مستحيل ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ ، آمن بالله من دون تطوير لنمط حياته فهذا مستحيل ، آمن بالله من دون تغيير لطريقة كسب المال فهذا ليس إيماناً . فكأن الله سبحانه وتعالى أراد من الهجرة معناها الواسع ، والهجرة لها معنى ضيق ، ولها معنى واسع ، فمعناها الضيق الانتقال من مكة إلى المدينة في عهد النبي، لكن باب الهجرة أغلق بعد الفتح ، لقول النبي عليه الصلاة والسلام :

((عن بن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا))

[سنن الترمذي]

 لكن باب الهجرة مفتوح إلى يوم القيامة بين كل مدينتين تشبهان مكة والمدينة ، باب الهجرة مفتوح من دار الكفر إلى دار الإسلام ، ويبقى هذا هو المعنى الضيق .
 لكن المعنى الواسع : المهاجر من هجر ما نهى الله عنه ، عندما يرتاد الإنسانُ بيوتَ الله ، ويدع الأماكن الموبوءة فقد هاجر إلى الله ، عندما ينضم الإنسان إلى المؤمنين ، ويأنس بهم ، ويدع الفسقة والفجار ، فقد هاجر إلى الله ، عندما يأوي الإنسان إلى بيته ويجعله كهفه في زمن الفتن ، والانحرافات ، والضلال فقد هاجر إلى الله ، وحينما يدع الإنسان الحرام ، ويأخذ الحلال فقد هاجر إلى الله .
 فالهجرة بمعناها الواسع الانتقال من المعصية إلى الإيمان ، من التفلُّت إلى الانضباط، من مجتمع الكفار إلى مجتمع المؤمنين ، من تقليد الكفار إلى تقليد المؤمنين ، من التخلي عن أهل الدنيا والانضمام إلى أهل الدين ، هذا المعنى الواسع ، وهذا المعنى يسع الناس في كل زمان ، وفي كل مكان ، وأجمل ما في الموضوع الحديث القدسي الذي يقول الله جل جلاله فيه :

((عبادةٌ في الهرج كهجرةٍ إليّ ))

[ مسلم عن معقل بن يسار ]

 الهرج الفتن ، أي إذا كان الطريق مليئًا بالكاسيات العاريات ، فغضُّ البصر حينئذٍ هجرة ، ولزومُ مجالس العلم هجرة ، والالتجاء إلى بيوت الله هجرة ، والانضمام إلى المؤمنين الصادقين هجرة .

((عبادةٌ في الهرج كهجرةٍ إليّ ))

[ مسلم عن معقل بن يسار ]

 هذا ما يقوله الله عز وجل في الحديث القدسي . لذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام قال مرةً :

((اشتقت لأحبابي قالوا أو لسنا أحبابك ؟ قال لا : أنتم أصحابي ، أحبابي أناس يأتون في آخر الزمان ، القابض منهم على دينه كالقابض على جمر أجره كأجر سبعين ، قالوا: منا أم منهم قال : بل منكم ، قالوا : ولِمَ ؟ قال : لأنكم تجدون على الخير معواناً ولا يجدون))

الشعور بالغربة علامة صادقة على الإيمان :

 الإنسان إذا تديّن حقًّا ، وإذا استقام حورِب من كل الناس ، حتى من أهله ، وزوجته ، وأولاده ، حتى من أقرب الناس إليه . هكذا قال عليه الصلاة والسلام :

(( بدأ الدين غريباً وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء أناسٌ صالحون في قوم سوءٍ كثير ))

 فإذا شعرت بالغربة فهي علامة صادقة على إيمانك ، يقول بعضهم : أخي الناس كلهم فسقة ، الناس كلهم منحرفون ، وأنا منهم ، وإلا فأين أذهب ؟ ثم يعايشهم ، أمّا أنت إن شعرت بالغربة فهذه علامة طيبة ، لأن الله عز وجل قال :

﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾

[ سورة يوسف : 103 ]

دروس الهجرة :

1 ـ من تعارضت مصالحه مع مبادئه فعليه بالمبادئ :

 أخواننا الكرام ؛ إنّ الأحداث التي مرت بعهد النبي أحداثٌ ساقها الله عز وجل لحكمةٍ بالغةٍ بالغة ، ليقف النبي منها موقفاً كاملاً ، ليكون هذا الموقف تشريعاً إلى يوم القيامة ، لأن هذه الأحداث تتكرر .
 الأحداث التي وقعت في عهد النبي ليست أحداثاً تاريخية وقعت ولن تقع ، وقعت وسوف تقع ، وسوف تقع دائماً ، لذلك جاءت في عهد النبي ، ووقف منها النبي موقفاً كاملاً ، ليكون هذا الموقف موقفاً تشريعياً لمَن كان في عصره ، ولمَن بعده إلى يوم القيامة .
 أول درس أيها الأخوة من الهجرة ؛ أن الهجرة تعلمنا أنه إذا تعارضت مصالحك مع مبادئك فعليك بالمبادئ ، إذا تعارض حبُّك لبلدك ولمكان إقامتك مع طاعتك لله عز وجل ، فابحث عن مكانٍ تطيع فيه الله عز وجل .

﴿كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾

[ سورة النساء : 97 ]

 طبعا هناك كثير من الأقطار أو القرى أو المدن تلجأ إليها ، ففي العصور الوسطى حدَث اضطهاد ديني ، فالذين رضوا بالاضطهاد الديني تفلَّتتْ أمورهم ، وتركوا عباداتهم ، وأطلقوا لبناتهم العنان إرضاءً للمضطهدين ، ضيعوا دينهم وآخرتهم ، لكن الذين فروا بدينهم هم كثيرٌ ، فرُّوا بدينهم من الاضطهاد الديني فأنقذوا آخرتهم .
 فالإنسان إذا كان الخيار صعبًا لديه ، بين أن يقيم شرع الله وبين أن يترك ، عليه أن يطيع الله في أي مكان آخر ، هذا أول درس .

2 ـ الأخذ الأسباب لا يتناقض مع التوكل :

 الدرس الثاني أيها الأخوة ؛ النبي عليه الصلاة والسلام علمنا بحادثة الهجرة أنّ الأخذ الأسباب لا يتناقض مع التوكل ، فقد رَسَمَ خطّةً محكمة ، وغطّى كل الثغرات ، أولاً : سار باتجاه البحر ، وربض في غار ثور ، وكلف إنسانًا لتقصي الأخبار ، وإنسانًا ليمحو الآثار ، وإنسانًا ليأتي له بالزاد والأخبار ، واستأجر خبيرًا في الطريق ، لقد هيَّأَ كلَّ شيء ، هذا هو الأخذ بالأسباب ، ومع ذلك كان متوكِّلاً صادقًا .
 أيها الأخوة ؛ المسلم الصادق يأخذ بالأسباب ، ويتوكل على رب الأرباب ، لأنّ عنده منزلقين .
 أول منزلق : أن يأخذ بالأسباب وأن يعتمد عليها فيقع في الشرك .
 ثاني منزلق : إنْ لم يأخذ بها وقع في المعصية . فأنت أيها المسلم بين معصيتين ، أن تأخذ بالأسباب وتقع في الشرك ، أو أن تدع الأخذ بالأسباب فتقع في المعصية ، وما سبب تخلف المسلمين إلا أنهم أخذوا بالأسباب ، واعتمدوا عليها ، فأشركوا ، فأحبط الله أعمالهم ، أو أنهم تركوا الأخذ بالأسباب لفهمٍ ساذجٍ للتوكل ، فوقعوا في المعصية ، فلم يستحقوا نصر الله عز وجل .
 هذا درسٌ بليغ ، يجب أن يضعه كل مسلم نصب عينيه في حياته اليومية كلها ، في كل شأنٍ من شؤون حياته ، حتى في شأن صحته ، سمِّ الله وكُلْ لكن التفاحة ليست مغسولة ، هذا ليس توكلاً ، هذا عدم أخذ بالأسباب ، ألا تلقح أولادك ؟ يا أخي أنا متوكل على الله ، هذه غفلة ومعصية ، عدم الأخذ بالأسباب معصية ، وأن تأخذ بالأسباب وتقول : لا يوجد شيء ، وأنا عملت مراجعة للسيارة وهي جاهزة للسفر ، لن يحدث معي شيء يسوءني ، هذا شرك ، لأنّك اعتمدت عليها ، الله عز وجل قادر أنْ يخلق لك مشكلة ، وأنت آخذ بكل الأسباب .
 أيها الأخوة : من لم يأخذ بالأسباب فقد عصى ، ومن أخذ بها واعتمد عليها فقد أشرك ، والنبي علمنا بالهجرة كيف أنه أخذ بالأسباب ، فلما جاؤوا إليه توكل على الله ، وصلوا له رغم كل الأسباب ، وصلوا إلى غار حراء ، فلأنه لم يعتمد عليها ، ولو أنه اعتمد عليها لانهار ، لكنه أخذ بها طاعةً لله ، ولم يعتمد عليها ، بل اعتمد على الله عز وجل ، لذلك لم يخف أبدًا ، قال : يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟ قال أبو بكر : لقد رأونا ، قال : يا أبا بكر ، ألم تقرأ قول الله تعالى :

﴿وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾

[ سورة الأعراف : 198 ]

 يبدو أن أحد المطاردين وقعت عينه على عين أبي بكر رضي الله عنه ، قال له : لقد رأونا ، فقال له عليه الصلاة والسلام : ألم تقرأ قوله تعالى :

﴿وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾

[ سورة الأعراف : 198 ]

 أنت حينما تأخذ بالأسباب ، ولا تكفي الأسباب ، فالله يرمم لك إياها ، أنت حينما تأخذ بالأسباب ، ولا تكفي الأسباب ، فالله يتولى الباقي ، أما إن لم تأخذ بها فهذه استهانةٌ بنظام الكون ، وهذا استخفافٌ بنظام الله عز وجل ، أما إذا أخذتها واعتمدت عليها ونسيت الله فقد أشركت ، وهذا الدرس الثاني .

3 ـ من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه :

 الدرس الثالث أيها الأخوة ؛ هذا الحديث الشريف ، والله أتمنى عليكم أن يكون أمامكم في كل ساعة .

(( ما ترك عبدٌ شيئًا لله إلاّ عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه ))

[ الجامع الصغير عن ابن عمر ]

 أقسم بذات الله زوال الكون أهون على الله من أن يدع مؤمنٌ شيئًا لله ثم يخسر .

(( ما ترك عبدٌ شيئًا لله إلاّ عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه ))

[ الجامع الصغير عن ابن عمر ]

 أحد الصحابة حينما بايع النبي بيعة الهجرة - عقبة بن عامر الجهني - وعنده غنيمات يحرص عليها حرصاً بالغاً ، فكان يقول لأصحابه : اذهبوا أنتم إلى رسول الله ، ودعوني مع الغنمات ، يخاف عليها ، لأنّها كلها رأس ماله ، لكنه لم يلبث أنْ أجرى محاكمة مع نفسه ، أنا إلى متى أسمع عن النبي ولم أسمع منه مباشرةً ؟ فترك الغنيمات وذهب إلى النبي يسمع منه بنفسه وتصحبه سحابة يومه ، هذا الإنسان صار فاتح مصر ، وفاتح الشام ، وفاتح جزيرة رودس في البحر المتوسط ، وصار أكبر عالم من علماء الصحابة ، وأكبر قارئ قرآن ، لمَّا ترك الغنيمات ، وكان مجرد راعٍ ، فصار عالمًا جليلاً ، وصار واليَ مصر ، وفاتح الشام ، وفاتح رودس .

(( ما ترك عبدٌ شيئًا لله إلاّ عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه ))

[ الجامع الصغير عن ابن عمر ]

 أنا لن أقول لك : جرِّب الله ، ولا أقول لك : شارِط الله ، ولكن أنقلُ لك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، تركُ أمرٍ لله ، تركُ مبلغ لله ، إذا لم تأخذه أضعافًا مضاعفة بطريق حلال فإنّ الدين يكون باطلاً .

(( ما ترك عبدٌ شيئًا لله إلاّ عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه ))

[ الجامع الصغير عن ابن عمر ]

 دائماً كن مع الله ، دائماً كن مع الحق ، ضع مصلحتك تحت قدمك ، قل : يا ربِّ أنا أبتغي رضاك ، والله عز وجل لا ينساك .

تلخيص لما سبق :

 الخلاصة في الهجرة ثلاثة دروس : أول درس ، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولو كلفني ترك بلدي ، فإذا مُنِع المسلم من الصلاة ، مُنِع أن يقيم شعائر الله .

﴿ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾

[ سورة النساء : 97 ]

 فلا عذر لك أبداً ، لكن نحن والحمد لله نقيم شعائر الله بشكلٍ رائع ، وما من بلدةٍ في العالم كهذه البلدة الطيبة ، كما قال النبي :

(( إنِّي رَأَيْتُ عَمُودَ الْكِتَابِ قَدِ انْتُزِعَ مِنْ تَحْتِ وِسَادَتِي فَأَتْبَعْتُهُ بَصَرِي فَإِذَا هُوَ نُورٌ سَاطِعٌ، فَعُمِدَ بِهَ إِلَى الشَّامِ، أَلاَ وَإِنَّ الإِيمَانَ إِذَا وَقَعَتْ الْفِتنُ بِالشَّام ))

[ أحمد عن عمرو بن العاص ]

 هذه نعمة كبيرة ، وإن شاء الله في درس قادم نتحدث عن الهجرة المعاكسة ، كيف أنّ الإنسان عندما يترك بلدًا فيه مجالس علم ، وتقام فيه شعائر الله عز وجل ، من أجل الدرهم والدينار ، يضيع دينه ، وعرضه ، وأولاده ، هذه هجرة معاكسة ، في سبيل الشيطان .

تحميل النص

إخفاء الصور