وضع داكن
24-04-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة ص - تفسير الآيات 30 - 35 من هو المؤمن الأواب؟
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة الكرام، تَحَدَّثت في الدرس الماضي البارحة عن حالتَين الأولى أن تغْلِبَ العِبادة عن العمل الصالح، والحالة الثانِيَة ؛ أن يغْلِبَ العَمَل الصالح عن العِبادة، والأكْمَل أن يُوازِن المؤمن بينهما، فلا تنْمو عِبادته على حِساب أعماله، ولا تنْمو أعمالهُ على حِساب عِبادَتِهِ، والنَّموذج الأوَّل سيِّدنا داود عليه وعلى نبيِّنا أفْضل الصلاة والسلام حينما تسوَّرا عليه ملكَان، وذَكَرا له قَضِيَّة فاسْتَمَع للأوَّل، فقال كما قال تعالى

﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ﴾

[سوة ص]

ثمَّ شرَعَ أنَّه تسرَّع في الحُكْمِ وكان عليه أن يسْتَمِعَ للطَّرَف الآخر.
واليوم سيِّدُنا سلَيْمان، وعملهُ الصالِح، وحُبُّه للخَيْر غلَبَ على عِبادَتِهِ قال تعالى:

﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (29)﴾

[سورة ص]

أوَّاب على وَزْن فعَّال أي كثير الأوْب، فكُلَّما شَعَر بِحِجاب يخْرِق الحِجاب، ويعود إلى الله تعالى وكلَّما شَعَرَ أنَّه ارْتَكَب ذَنْبًا تاب مِن هذا الذَّنْب من توِّه، وعاد إلى الله والمؤمن الصادِق كثير الأوْبَةِ إلى الله وقد قال عليه الصلاة والسلام: إنِّي لأسْتغفر الله وأتوب إليه مائة مرة..." والمنافق يبْقى على حالٍ واحِدٍ أربعين عامًّا، والمؤمن يتقلَّب في اليوم بأربعينَ حالاً، حالة الرِّضى والخوف، والإشْفاق، والتَّمنِّي الاسْتِعْطاف، والاسْتِغفار، فَمِن شِدَّة حِرْصِهِ على طاعة الله، وعلى محبَّةِ الله تعالى يتنقَّل في اليوم الواحِد مِن حال إلى حال.
قال تعالى:

﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (29)﴾

 

[سورة ص]

كان يُدَرِّب الخَيل على الجِهاد عُرضَت عليه الخَيْل الصافِنات، وهي مِن نوْع الخَيل، فالإنسان أحيانًا تكون له نظْرة ثابِتَة، فالخَيل الأصيلة لها وَضْع يُسَمَّى أنَّها صافِنات قال تعالى:

﴿فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (31)﴾

[سورة ص]

الحِجاب الشَّمس ؛ أيْ فاتَتْهُ صلاة العَصْر، قال تعالى:

﴿رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (32)﴾

[سورة ص]

الخَيْل حينما تَجْهَد يأتي صاحِبُها الرَّحيم فيَمْسَحُ لها رقَبَتَها، وسوقَها وجاء في بعْض التَّفاسير، ولا سيَما الإسرائيلِيَّات أنَّه أراد أن يُكََفِّر ذَنْبهُ فقَطَع رأسَها وسوقَها ‍‍!! فهل يُتَقَرَّبُ إلى الله تعالى بِقَتْل حَيَوانٍ بريء ؟! كلامٌ غير مَعْقول !! قال تعالى:

﴿رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (32) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ (33)﴾

[سورة ص]

كيف شَعَرَ أنَّهُ فُتِنَ ؟ قال تعالى:

﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ (33)﴾

[سورة ص]

الكرسيُّ في القرآن الكريم هو العِلم، قال تعالى:

﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)﴾

[سورة ص]

وسِعَ كرْسِيُّه السماوات والأرض أيْ عِلْمُهُ، فالشيء لا يسْتَقِرّ إلا على أُسُسٍ عِلْمِيَّة، فلو كانت لك أرْضٌ مُخَلْخلة، وغير صلْبَة، وبنَيْتَ عليها بناءً خِلاف قواعِد العِلْم فهذا البناء ينْهار، وأيُّ شيءٍ يُبْنى على غير أُسُسٍ عِلْمِية ينْهار، فَشُبِّهَ العِلْم بالكُرْسِيّ لأنَّه يثْبت على أربعة أرْجُل لذا قال تعالى:

﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ (33)﴾

[سورة ص]

قد ينسى المرءُ بعض العِلم بالمَعْصِيَة

شَكَوْتُ إلى وكيعٍ سوء حفظي فأرْشَدَني إلى ترْك المعاصي
وأنبأني بأنَّ العلم نــــور ونور الله لا يُهْدى لِعاصي

لا تعْصِهِ في النهار يُوقِظْكَ في الليل، قال تعالى:

﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا(6)﴾

[سورة المزمل]

أما أن يأتِيَ بالخَيْل فيَقْطَعَ رؤوسها، ويقْطَعَ أرْجُلَها تقرُّبًا إلى الله عز وجل فما ذَنْبُها، وهذا كلام مرْفوض لا يقِفُ على قَدَمَين، وردَنا من بني إسرائيل وقد أخطأ بعض المُفَسِّرين حينما وضَعوا في تفاسيرهم تفاسير عن بني إسرائيل ما أنزل الله بها مِن سلطان ؛ هذه رِواية ثانيَة والرِّوايَة الأولى أنَّ كان له تسع وتسعون امرأة وأحبَّ زوْجة قائِدِهِ، فدَفعَهُ إلى القِتال ليأخذ امرأته !! فهذه غير صحيحة، والصحيح أنَّ هذا النَّبي الكريم تقرَّب إلى الله بالتَّلَطُّف مع الخيل التي أجْهَدها ولكنْ غلبَهُ العَمَل الصالِحُ عن ذِكْر ربِّه.
تطبيق هذه القِصّة اليوم، قد تجد إنسان مِن مسْجِد لآخر، وتأمين المأوى لِطَلبَةِ العِلم، هذا شيءٌ جميل جدًّا ، ولكنَّ عِباداتِهِ وسَط، وأخلاقه وسَط قال تعالى:

((أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ))

[سورة التوبة]

ممكن أن تقول: هذا المسْجِد أنا أتولَّى بِناءهُ، وقد يكون معكَ ألْف مليون غضّ البصر أصْعَب مِن هذه، فهذه المبالِغ التي تدْفعها أنت أهْوَنُ عليك مِن غضِّ البصَر، قال تعالى

((أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ))

[سورة التوبة]

فقد تَجِد أحيانًا من هو غارق في خِدْمة الخلْق، ولكن كلُّها توقيعات، واجْتِماعات، إلا أنّك إذا دَخَلْتَ بيْتَهُ لن تَجِد من الاسْتِقامة شيئًا، نقول له هذه الآية ؛ قال تعالى:

((أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ))

[سورة التوبة]

المسْجِد الحرام وُسِّع بثلاثمائة وثمانين مليار !! مكتوب بِلَوْحة، فالعبرة أن يُطَبِّق الإنسان منْهَج الله عز وجل، أنا لا أُقَلِّلُ مِن قيمة هذه الأعمال ولكنَّ هذه الأعمال لا تكون كامِلةً إلا إذا كان أصْحابُها ملْتَزِمين منْهَجَ الله عز وجل ؛ فهذه أعمال عظيمة جدًّا، فالذين يبْنون المساجِدَ ويَعْتنون بها ويُؤَسِّسون المساجِد، مِن ماء وإضاءة وتكْييف، فهؤلاء لهم فضْل كبير أما أن يتوهَّموا أنَّهم إن فعلوا هذه الأشياء المادِيَّة، فهم في حِلٍّ في تَطبيق منْهَجِ ربِّهم ‍! هذا هو الذي أريد أن لا يفْهمه الناس، قال تعالى

((أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ))

[سورة التوبة]

لذلك الله عز وجل لن يُعْطِيَكَ الجنَّة إلا إذا بذَلْتَ مِن أجْلِها ما تُحِبّ، فإذا ضَبطْت شَهواتِكَ، وعلاقاتِكَ، وأدَّيْتَ صلواتِكَ وطَلَبْتَ العِلْم، فالآن إن عمَّرْتَ مسْجِدًا أو عمَّرْتَهُ، فهذا تاجٌ يوضَعُ على رأسِك، أما التاج يحتاج للرأس ! أعرفُ ناسًا يدْفعون خمسمائة ألف ليرة وأولاد إخْوتِهِم يموتون جوعًا !! لأنَّ هناك لا توجَد لوْحة، أما هنا في المسْجِد توجَد لَوْحة، فلذلك اللَّهُمَّ اجْعَل أعمالنا كلَّها خالصةً لِوَجْهِكَ الكريم، وكلّ واحِدٍ مِنَّا إذا غلبَتْ عِبادته عن عمله الصالح يكون ترَكَ الصالِحَ، واخْتلَّ توازنَهُ، وإذا غلبَ عملهُ الصالِح على عِبادِتِه يكون ترَكَ الصالِحَ واخْتلَّ توازنَهُ، ولا بدّ أن نجْمع بين الشَّيْئين.
قال تعالى:

﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ (33)﴾

[سورة ص]

ما معنى فتنَّا ؟ الفتنة ليس معناها فسَدَ ولكن معناها كشْف الحقيقة، فأنت تقول: هذا ذَهَب، آخر يقول: لا هذا معْدن مَطْليٌّ ذهبًا، والدليل أنَّه تصدَّد، فالله تعالى مُتَكَفِّل أن يُحَجِّمَ كلّ إنسانٍ، وأن يُعْطِيَهُ حجْمَهُ الحقيقيّ، ويضَعُ له مشْكلة من خِلال تصرُّف يُكْشَف أمْره، لذا الموضوع دقيق جدًّا، لا تقل: يا أُمِّي أنا إن تزوَّجْت لن أعْصي لَكِ أمْرًا، ثمّ تجدُهُ بعد الزَّوَاج يقول لأمِّه: كلّ البلاء مِنك !! قال تعالى:

﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(2)﴾

[سورة العنكبوت]

وهذا يقول لك: أنا لا آكل ولا قِرْش حرام، لو عرضوا عليك ألف ليرة لا تأخذها، أما لو عرضوا عليك مليون ليرة تدْرسُ الموضوع، وتقول: لي أولاد ! وكذا الطبيب الشَّرْعي أحيانًا يُفْتتن بِملايين مِن أجْل أن يشْهد أنَّ هذا الموت طبيعي وليس بالسَّم !! أين قسَمُكَ عند التَّخَرُّج: أقْسِم بالله أن أكون مُخْلصًا لِمِهْنَتي، قال تعالى:

﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(2)﴾

[سورة العنكبوت]

سُئِل الإمام الشافعي: أنَدْعو الله بالابْتِلاء أم بالتَّمكين ؟ فقا ل: لن تُمَكَّن قبل أن تُبتَلَى قال تعالى:

﴿وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ(124)﴾

[سورة البقرة]

ما جعَلَه إمامًا إلا بعدما ابْتَلاهُ ونَجَح في الامْتِحان، فالإنسان يفْضح المُتَسَتِّر الذي يدَّعي أنَّه صالِح.
مُلَخَّص الدَّرس كالتالي ؛ أنت مَعَك كلغ مِن معْدن، وبِذَكاءٍ بارع أوْهَمْتَ الناس أنَّه ذَهَب ! مَن الخاسِر ؟ أنت الخاسِر، أو كان معَكَ كلغ ذَهَب حقيقيّ، والناس يقولون: فلان معه كلغ تنَك ! من الرابِح ؟ أنت فنَظْرة الناس إليك لا تُقَدِّم ولا تؤخِّر، فَمَن عرف نفْسَهُ ما ضرَّتْهُ مقالة الناس به
قال تعالى:

﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ (33) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (34)﴾

[سورة ص]

فالله عز وجل آتاهُ الله المُلْك ولكنَّ هذا النبي ما طلبَ المُلْك للمُلْكِ وإنَّما لِيَكون وسيلةً لِتَعريف الناس بالله عز وجل.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور