وضع داكن
27-04-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة ص - تفسير الآيات 21 - 25 العبادة والعمل شيئان متلازمان.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة الكرام، في سورة ص قِصَّتان، وهاتان القِصَّتان تُصَوِّران حالَتَين قد تُصيبَا المؤمن، فالحالة الأولى هو طُغيان عَمَلِهِ الصالِح على إقْبالهِ، والحالة الثانِيَة طُغيانُ إقْبالِهِ على العَمَل الصالِح، والحالة الكاملة أن يُوازِن بين اتِّصالِهِ بالله، وبين أعمالهِ الصالحَة، فلو أنَّ الإنسان أمْضى وَقْتَهُ في ذِكْر الله، وعِبادَتِهِ، ولم يعْمَل عملاً صالحًا، فهذا لا يرْقى عند الله تعالى، ولو أنَّ إنسانًا أمضى وقْتَهُ كلَّهُ في الأعمال الصالحة، ولم يعتني بِعِبادَتِهِ وذِكْرهِ، واتِّصالهِ بالله عز وجل، فهذا كذلك لا يرْقى عند الله تعالى، ففي الحالة الأولى نَقصُ العَمَل الصالِح يُضْعِفُ إقْبالَهُ على الله، وفي الحالة الثانِيَة نقْصُ عِبادَتِهِ يَحْجُبُه عن الله تعالى.
القِصَّة الأولى في هذه السورة، قوله تعالى:

﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21)﴾

[سورة ص]

أرْسَلَ الله مَلَكَين إلى سيِّدنا داود، قال تعالى:"

﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)﴾

[سورة ص]

وبالمناسبة يقول الله عز وجل:

﴿ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (23)﴾

[سورة ص]

اسْتَنْبَطَ العلماء أنَّ الذي يَبْغي على شَريكِهِ، أو على زوْجَتِه، أو على جارِهِ، أو على زميلِهِ، أنَّه ليس مؤمنًا، فَمِن لوازِمِ الإيمان الأنصاف والآية دقيقة جدًّا، قال تعالى

﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ﴾

[سورة ص]

ورثَة أم زوْجة أو خِلَّة، أو مسافران في الطريق أحدهم يأخذ المحلّ المريح، والآخر يُبْقي له المحلّ غير المُريح، قال تعالى:

﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ﴾

قال تعالى:

﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)﴾

[سورة ص]

نعْجة وليس امرأة كما في الإسرائيليات، كلّ ما قيل في كُتب التَّفسير أخْذًا عن بني إسرائيل باطل لا أساس له، فهؤلاء يقولون عن هذا النبي الكريم كانت له تسْعٌ وتِسعون امرأة، وأحبَّ زوْجة قائِدِهِ فأرْسَلهُ إلى ساحات القِتال وقال: قدِّموه لِيأخذَ زوْجته مِن بعْدِهِ ‍‍‍!! هذا ليس مِن أخلاق النبي، وهذه قِصَّة لا أصْل لها، وباطلة.
قال تعالى:

﴿إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)﴾

[سورة ص]

أي كانت له تسْعٌ وتسْعون نعْجة، وقد أخذ نعْجَتي، فالمفروض لِسَيِّدنا داود أن يسْتَمِع للطَّرَف الآخر، فالطَّرف الآخر يقول: لي تسْعٌ وتسعون نعْجة أرْعاها، وأخي له نعْجة واحِدَة، فقلْتُ لأخي: أعْطِني هذه النَّعْجة لأرْعاها وأُريحك من رعْيِها ! فهو ما اسْتَمَع للطَّرف الثاني، قال تعالى:

﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ﴾

[سورة ص]

ثمَّ بيَّن الله له أنَّ هذين ملَكَين جاءَا لِيَمْتَحِناكَ في الحُكْم، قال تعالى:

﴿وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (23) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (24) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾

[سورة ص]

أيُّ هَوى ؟ كان يُحِبُّك أن يأكل، أو يلْتقي مع امرأة، فما هو الذي نهاهُ عنه الله ؟ هواهُ لِرَبِّهِ، فهو ظلَّ مُعْتَكفًا في مِحْرابِهِ يُصَلِّي وكان مُتَّصِلاً بالله، ويُناجي ربَّه، ومع ذلك حينما لم يحْكُم بين اثْنَين بالعَدْل عاتَبَهُ ربُّه عز جل لأنَّ عَدْل ساعة خير مِن عِبادة ! فهواه كان في حبِّهِ لله، وإقْبالِهِ على الله، والاتِّصال به، أرأيْتُم إلى هذا الخُلق الرفيع الذي أمرهم به ؟ قال تعالى:

﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾

[سورة ص]

فالله تعالى لا يُرْضيهِ أن تُهْمِلَ عِبادَهُ، فهل يُعْقل مِن عالمٍ خرجَ نُزْهة مع إخوانِهِ، أن يظلَّ مُعْتَكِفًا يذْكر الله تعالى ويَدع إخوانَهُ ؟! عليه أن يُرْشِدَهم وأن يعتني بهم، لذا هناك شيء هو اتِّصال بالله، وآخر عمل صالح، فإذا غلَبَ اتِّصالُكَ بالله كسيِّدِنا داود على عَمَلِكَ الصالِحَ تكون قد ترَكْتَ الأولى، عكْس سيِّدنا سليمان الذي أحبَّ فِعْل الخير عن ذِكْر الله عز وجل، فَغَلَبَ عليه العمل الصالح عن إتْقان عِبادَتِهِ، فهذان سُلوكان الأوْلَى أن يُوازِن بينهما الإنسان، الأوَّل يُمَثِّل غلبَة الاتِّصال بالله على الأعمال الصالِحَة، فهناك مَن يعتني بِقَلْبِهِ وأذكارِهِ والأوراد، ويُهمل خِدْمة الخلْق، وآخر مُهِمَّتُهُ خِدْمة الناس، صلواته غير مُتْقنة، وتلاوته للقرآن قليلة، فهذا ترك الأولى، لذا موضوع الدَّرْس اليوم هو: عليكَ أن تُوازِن بين الاتِّصال بالله عز وجل، والإحْسان إلى الخَلْق، ولا ينبغي أن يطْغى شيءٌ على حِساب شيءٍ آخر، وإنَّ لله عملاً بالليل لا يقْبلُهُ بالنَّهار، وإنَّ لله عملاً بالنَّهار لا يقْبلُهُ بالليل، جاءَ رسول مِن أذْربيجان ليلْتقي عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه، فَوَصَل المدينة في منْتَصَف الليل فَكَرِهَ أن يُزْعِجَهُ في هذا الوقْت، فتَوَجَّه إلى المسْجِد، ولم تكن الإضاءة ! فإذا بِهِ يسْمَعُ من في المسْجِد يقول: ربِّي هل قَبِلْتَ توْبتي فأهنئ نفْسي، أم رَدَدْتها فَأُعَزِّيَها، فقال: من أنتَ يرْحَمُكَ الله ؟ فقال: عمر ! فقال: ألا تنام الليل ؟! فقال: إن نِمْتُ الليل كلَّه أضَعْتُ نفسي أمام ربِّي، وإن نمْتُ نهاري أضَعتُ رَعِيَّتي !! فأنت في المْجِسْد حينما تدْخل تقول: اللَّهمّ افْتَح لي أبواب رحْمتِك ؛ ففي المسْجِد تحتاج إلى رحْمة، ولما تخْرج من المسْجد تقول: اللَّهم افْتح لي أبواب فضلِك فالآن تحتاج إلى عملٍ صالِحٍ ؛ تكْسب رزْقك بِشَرفٍ وإتْقان ومنْهَجِيَّة، فأنت بين رحْمة الله تعالى وفضْلِهِ، فرَحْمة الله في الاتِّصال به، وفضْلُهُ في الخَيرات التي يُجْريها على يديْه، وأنت بالمسْجِد افتَح لي أبواب رحْمتِك وأنت خارِجَ المسْجِد افْتَح لي أبواب فضْلِك، فسيِّدُنا داود آثرَ رحمة الله على فضْله، وسيِّدُنا سليمان آثر فضل الله على رحْمته، وكلاهما ترَكَ الأولى ونحن نقْتَدي بالنبي عليه الصلاة والسلام، ونسْتفيد من هذه القِصَّة بأن نُوازِن بين الاتِّصال بالله، وبين خِدمة الخلق، فلا ينبغي أن تشْغَلَنا خِدْمة الخَلْق عن عِبادة الله عز وجل، وينبغي أن لا تشْغلَنا عبادة الله عن خِدْمة الخَلْق، ففي وقْت العمل رأى النبي عليه الصلاة والسلام شابًّا يقرأ القرآن فقال: مَن يُطْعِمُكَ ؟ فقال: أخي، فقال: أخوك أعْبَدُ مِنْك ! وإنَّ لله عملاً بالليل لا يقْبلُهُ بالنَّهار، وإنَّ لله عملاً بالنَّهار لا يقْبلُهُ بالليل وكان أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فُرْسانًا بالنَّهار، رُهبانًا بالليل قال تعالى:

﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا(6)﴾

[سورة المزمل]

وقال تعالى:

﴿أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا(78)﴾

[سورة الإسراء]

وفي النَّهار، قال تعالى:

﴿ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا(80)﴾

[سورة الإسراء]

ومن صلَّى الفجْر في جماعة فهو في ذِمَّة الله حتَّى يمْسي..." ومن صلَّى الفجر والعشاء فكأنَّما قام الليل.." احْرصوا على صلاة الفجْر في المسجِد، وعلى صلاة العِشاء في المسْجِد، فإن فعَلْتَ هذا فكأنَّما قُمْتَ الليل.
طبيبة نِسائِيَّة تتولَّى الإشراف على توليد النِّساء، أخْبروها أنَّ لكِ وِلادة فصلَّت سنَّة العصر، والفرض، وجاءت بالأذكار، ولمَّا ذَهَبَت إلى المستشفى وجدَت المرأة قد ولَدَت، فتقاضَت أُجْرَتها !! فهذه آثرَت عبادتها على واجِبها، وأحيانًا تقوم امرأة وتقوم الليل، وتُصلِّي الفجْ ولمَّا تأتي الساعة الثامنة تكون نائِمَة فيَذْهب أولادها من دون طعام، ويلْبسوا ثيابهم لِوَحدهم !! فهذا الموضوع دقيق، فهناك نِساء يُهْمِلنَ حُقوق أزْواجِهِنّ، وحقوقهنّ، ويحْفظْن كِتاب الله كلِّه، كلّ هذا على حِساب الزَّوج والأولاد، وهناك نِساء لِشِدَّة خِدْمَتِها لأولادها وزوْجِها تنْسى أن تُصَلِّي ! فلا ينبغي أن تطْغى العبادة على العمل، ولا العمل على العِبادة ولا بدّ مِن الموازَنة بينهما.
موضوع الدَّرس في الغد إن شاء الله، قوله تعالى:

﴿فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (31)﴾

[سورة ص]

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور