وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 7 - سورة الأنعام - تفسير الآية 36 ، الإستجابة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .

الميت في القرآن الكريم هو الذي يسمع ولا يستجيب :

 وبعد ، في القرآن الكريم آية كريمة ، يقول الله تبارك وتعالى :

﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾

[سورة الأنعام : 36]

 في هذه الآية إيجازٌ بليغ ، السماع عند الله هو السماع التي تعقبه استجابة . لو أن إنساناً على وشك الموت عطشاً ، وقلت له بلسانٍ فصيح : في المكان الفلاني وهو قريبٌ منك ماءٌ عذبٌ فرات ، سمع هذا الكلام وتحركت طبلة أذنه باهتزازات الصوت ، وبقي قاعداً في مكانه ، وهو على وشك الموت عطشاً ، ولم يقم إلى مكان الماء ، هذا في القرآن الكريم لم يسمع ، لو أنه سمع لبادر إلى أن يشرب الماء .
 لو قلت لإنسان : على كتفك عقربٌ ، فبأعصابٍ باردة تبسم وقال لك : أشكرك على هذه الملاحظة ، وأنا ممتن منك لحرصك على سلامتي ، وبقي هادئاً مستقراً ، ولم ينفض ثوبه الذي على كتفه ، هذا في القرآن لم يسمع ، لأن السماع الذي لا تعقبه استجابة فورية لا يسميه الله سماعاً . الله عز وجل يقول :

﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ﴾

  فالذي يسمع حقيقةً هو الذي يستجيب .
 إذاً هذا الذي يسمع ولا يستجيب ماذا سماه الله عز وجل ؟ سماه ميتاً ، شيء خطير جداً أن الإنسان يستمع لخطبة ، لدرس ، لنصيحة ، لموعظة فيها دليل من القرآن والسنة ، فيها توجيه لصالحه ، لمستقبله ، يكتفي أن يجامل ويقول : والله شي جميل ، والله درس لطيف ، والله خطبة بليغة يا أخي ، لكن هو هو ، في بيته هو هو ، في عمله هو هو ، في دخله للمال هو هو، لا يتغير ولا يتبدل ، هذا عند الله ميت ، الآية على قصرها ، وعلى إيجازها خطيرةٌ جداً، أي المسلم إذا حضر خطبة جمعة ، أو درس علم ، أو درس تفسير ، واستمع إلى حكم الله عز وجل بلسانٍ فصيحٍ واضح ، آية قرآنية واضحة وضوح الشمس ، يقول لك :

﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾

[سورة النور : 30]

 قال : ماذا نفعل ؟ نحن عبيد إحسان ولسنا عبيد امتحان ، نرجو الله أن يتوب علينا، هذا عند الله ميت ، لأنه سمع الحكم الشرعي ولم يبادر إلى تطبيقه .

من علم الله فيه خيراً أسمعه الحق :

 أردت من هذه الآية أن يقف المسلم وقفةً متأنيةً ، متفحصةً متبصرة ، أي أن الإنسان أمامه فرصة لا تعوض ، الله عز وجل حينما يسمعك الحق هذه فرصة لا تعوض .
 بالمناسبة كل إنسان وصله الحق له بشارة من الله عز وجل ، ما هذه البشارة ؟ قوله تعالى :

﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ﴾

[سورة الأنفال : 23]

 لولا أن الله سبحانه وتعالى علم فيك الخير لما أسمعك ، لما أوصل لك هذا الكلام، فالإنسان إذا حضر مجلس علم ، خطبة جمعة ، درس تفسير ، نصيحة من أخ ، الدليل قوي ، الآية واضحة ، واضحة وضوح الشمس ، الحديث الشريف واضح ، واكتفى بالثناء على هل الكلمة ، وعلى فصاحة المتكلم ، وعلى دقة الكلام ، يا أخي الكلام جميل جداً ، ما غير ولا بدل ، هذا أخطر أنواع التكذيب ، هذا هو التكذيب العملي ، سماه الله ميتاً .

﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ﴾

 والذين لا يستجيبون إذا سمعوا موتى .

﴿وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ﴾

  فالإنسان حينما يحضر مجلس علم ، القضية أخطر بكثير من أن تستمع إلى كلام لطيف ، أو كلام منظم ، أو كلام فصيح ، أو فيه طرفة ، أو نكتة بلاغية ، أو فيه إشارة لطيفة إلى آية قرآنية القضية أخطر من ذلك ، القضية قضية مصير .
 سيدنا علي كرم الله وجهه قال : " يا بني العلم خير من المال لأن العلم يحرسك - انظر العلم يحرسك - وأنت تحرس المال ".

الجهل هو السبب الأول للمعاصي :

 مرة جاءني رجل - والله القصة من عشرين سنة - قال لي : زوجتي تخونني ، قلت: أعوذ بالله ، قال لي : والله من ثلاث سنوات ، قلت له : مع من ؟ قال : مع جارنا ، قلت : كيف تعرفت عليه ؟ قال : والله الحق عليّ ، مرةً جاء يزورنا ، قلت لها : يا بنت الحلال تعالي اجلسي معنا ، هذا مثل أخيكِ ، قلت له : لو أنت تحضر مجالس علم وعرفت حكم الله في الاختلاط لم تفعل ما فعلت ، وبالتالي لم تقع فيما وقعت .
 أخواننا الكرام ؛ دققوا في هذا الكلام ، ما من مصيبةٍ على وجه الأرض إلا وراءها معصية لله ، خروج عن منهج الله ، وما من خروج على وجه الأرض ومعصية إلا بسبب الجهل ، والجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع أعداؤه مجتمعون أن يفعلوه به .
 أي اعتبر أن أعدى أعدائك هو الجهل ، وأن الطريق إلى الله يبدأ بالعلم ، إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أرتهما معاً فعليك بالعلم ، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك ، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً .

حجم الإنسان عند ربه بحجم عمله الصالح :

 أحياناً الإنسان يستمع إلى مجلس علم بدقة بالغة ، وينصت ، ويصغي ، ويتأمل ، لكن لو أنه أراد الدنيا ، لو أن الدنيا هي أكبر همه ، ومبلغ علمه ، شأنه كشأن آلة تصوير ، غالية جداً ، دقيقة جداً ، فيها ميزات هائلة ، لكن لا يوجد فيلم ، فمهما كان المنظر جميلاً ، والألوان زاهيةً ، والخلفيةُ رائعةً ، هذه الآلة على أنها غالية جداً ، وثمينة جداً ، لكن لا يوجد فيلم، إذاً :

﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ﴾

 الذي لا يستجيب ميت ، وهذه فرصة لا تعوض ، أن الإنسان يستمع إلى حكم الله ، إلى أمرٍ ، إلى نهيٍ ، إلى توجيهٍ ، إلى حضٍ ، إلى دفعٍ ، ثم يقف موقف المعجب ، والله كلام لطيف ، والله درس جميل ، والله درس منظم ، والله فيه عمق ، الحمد لله ، كله كلام لا يغنيك عن تطبيق هذا الكلام شيئاً ، فحجمك عند الله بحجم التزامك وعملك الصالح ، لأنه قال تعالى :

﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾

[سورة فاطر : 10]

 إذا كان تكلمت كلاماً لطيفاً هذا الكلام يصعد إلى الله ، لكن ما الذي يرفعك عند الله؟ قال :

﴿وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾

  الذي يرفعك عملك الصالح ، لا ثناؤك ، ولا كلماتك .

العلم يرفع الإنسان إلى أعلى عليين :

 إذاً قال الإمام علي كرم الله وجهه : يا بني العلم خيرٌ من المال لأن العلم يحرسك ، وأنت تحرس المال . سائق تكسي في دمشق - هذه القصة من ثمانية أشهر - أشارت إليه امرأةٌ ، فصعدت إلى مركبته ، قال لها : إلى أين ؟ قالت له : إلى حيث تشاء ، فهم ، بعد أن قضى حاجته ، أعطته رسالةً ، وظرفاً فيه مبلغٌ من المال ، فعد نفسه فائزاً ، أي شيء لا يقدر بثمن ، قضى حاجته ، وقبض مبلغاً على هذا الشيء ، ورسالة ، فلما نزلت من مركبته ، فتح الرسالة وإذ هي مصابة بمرض الإيدز ، قالت له : مرحباً بك في نادي الإيدز ، ذهب ليصرف المبلغ بالعملة الصعبة كان المبلغ مزوراً وضعوه في السجن .
 ما الذي كان يمكن أن يحرسه ؟ العلم ، لماذا وقع في هذا الشرك ؟ لأنه جاهل .
 العلم يحرسك ، وأنت تحرس المال ، والمال تنقصه النفقة ، والعلم يزكو على الإنفاق .
 يا بني مات خزان المال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم في القلوب موجودة .
 إذا أردت أن تُخلد ، وهذا مستحيل ، لكن تخلد بعلمك . أنا مرة سألت طلابي سؤالاً ، قلت لهم : من يعطيني اسم تاجر عاش في الشام عام 1893 أعطيه علامة تامة ؟ تأملوا في بعضهم ولم يهتدوا إلى اسم تاجر ، قلت لهم : وأنا مثلكم لا أعلم ، لكن من منا لا يذكر سيدنا صلاح الدين الأيوبي ؟ سيدنا عمر بن الخطاب ؟ سيدنا الشافعي ؟ سيدنا أبو حنيفة ؟
 يا بني مات خزان المال وهم أحياء ، وهم في أوج حياتهم ، وهم في أوج نشاطهم ماتوا ، والعلماء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة . العلم يرفعك أيها الأخ الكريم ، يرفعك إلى أعلى عليين ، إنك إن عرفت الله طبقت أمره ، وإن طبقت أمره استحققت سعادة الدنيا وجنة الآخرة ، فالقضية خطيرة جداً .

تلخيص لما سبق :

 نعود للآية الكريمة :

﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ﴾

  الذي لا يستجيب لسماع الحق هو عند الله ميت .
 وقال تعالى في آية أخرى :

﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ﴾

  وبآية ثالثة :

﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾

[سورة فاطر : 22]

 مقبور بشهواته ، بأعماله ، بطموحاته ، فالإنسان حينما يصغي ، ويستمع ، ويغير ، ويبدل ، ويأخذ موقفاً يكون فيه حياة ، فيه نبض ، أما إذا استمع واكتفى بالثناء على المتكلم وقال لك : شي جميل ، هذا لا يرفعك عند الله عز وجل ، لأن حجمك عند الله بحجم عملك الصالح .
قال تعالى :

﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾

[سورة الأنعام : 132]

تحميل النص

إخفاء الصور