وضع داكن
28-03-2024
Logo
موضوعات في التربية - الدرس : 140 - الجمال من منظور إسلامي .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا بما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الأخوة الكرام: ليس من المألوف أن يعالج موضوع كالذي سأعالجه في درس من دروس الدين، ولكن هذا الموضوع ألصق شيء في حياة الإنسان وهو موضوع الجمال، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ..... إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ..... * ))

(صحيح مسلم)

 الإنسان يسعى إلى بيت جميل، وإلى امرأة جميلة، ومركبة جميلة، وإلى حديقة جميلة، وإلى لباس جميل، بل إن الجمال هو ثمرة الإيمان، أليست العبادة طاعة طوعية ممزوجة بمحبة قلبية أساسها معرفة يقينية تفضي إلى سعادة أبدية، السعادة هي أن تعيش في كنف الجمال، بل إن الله عز وجل حينما يقول:

 

﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾

 

(سورة هود)

 خلقهم ليرحمهم أي خلقهم ليسعدهم أي خلقهم ليتمتعوا بجماله جل جلاله، بل إن المؤمن يوم القيامة ينظر إلى ذات الله جل جلاله كما تروي بعض الأحاديث نظرة يغيب من نشوة النظرة خمسين سنة ! وفي الآية الكريمة:

 

﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)﴾

 

(سورة القيامة)

 الجمال ثمرة الإيمان، لكن أن تتمتع بالجمال الأبدي العلوي، هؤلاء الذين يذهبون إلى الملاهي لماذا يذهبون ؟ ليتمتعوا بجمال عرضي، بجمال بني على مخالفة لمنهج الله عز وجل، هم يبحثون عن الجمال، ما منا واحد على وجه الأرض إلا ويتوق إلى الجمال، الجنة فيها كل الجمال، مع أن هذا الموضوع كما قلت في بداية هذا الدرس ليس مألوفاً أن يعالج في درس ديني، ولكنه ألصق موضوع في حياة الإنسان أن تصل إلى الجمال المطلق، أن تصل إلى الله عز وجل.
 أيها الأخوة الكرام: الموضوع واسع جداً: هناك فعل جميل وهناك كلام جميل، وموقف جميل، حينما تصغي إلى قول النبي عليه الصلاة السلام عندما تمكن من أهل مكة، وكان بإمكانه أن يقضي عليهم قضاءً مبرماً، وقد تمكن منهم، فلما سألهم: ما تظنوني أني فاعل بكم قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.

 

(ورد في الأثر)

 قد ترددوا هذا القول مئات ألوف المرات ولا تشبعوا من هذا الموقف الجميل: حينما كان عليه الصلاة والسلام في الطائف قال:

 

 

(( إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي....))

 

(للإمام القرطبي)

 إن لم تكن هذه المحنة التي أنا فيها تعبير عن غضبك علي فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي أنت لماذا تتصل بالله عز وجل ؟ من أجل أن تتصل بجماله، ما هي السكينة التي يلقيها الله على قلب المؤمن ؟

 

﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ﴾

 

(سورة التوبة)

هو الجمال الذي يملأ قلبك، لكن يوجد جمال مادي حسي طارئ تعقبه كآبة، ويوجد جمال متنامي تعقبه سعادة.
فلذلك موضوع هذا الدرس: الجمال من منظور إسلامي.
 جرت العادة على أن المعارف البشرية تصنف في أصناف ثلاثة علم وفلسفة وفن، فالعلم ما هو كائن، والفلسفة ما ينبغي أن يكون، والفن ما هو ممتع، كل شيء ممتع ينتمي إلى دائرة الفن، لكن ننطلق من قول النبي عليه الصلاة والسلام:

(( إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ..... ))

 فالمؤمن جميل في أفعاله وأقواله وحركاته وجلسته وبيته ومظهره وعلاقاته كلكم يعلم أنك قد تلتقي بإنسان فتؤخذ بهيئته ! فإذا نطق تنسى هيأته لهبوط كلامه، أما إذا حدثك بكلام طيب إذا عاملك بعد الكلام تنسى كلامه لسوء فعاله، معنى ذلك عندنا مظهر ومنطق ومعاملة، لا يثبت الجمال إلا في المرحلة الثالثة، ينبغي أن تكون هيأته حسنة وكلامه طيب وفعاله جميلة.
أيها الأخوة: كل شيء كما قال العلماء جماله وحسنه كامن في الكمال اللائق به، أما إذا كان فيه بعض الكمال اللائق به ففيه بعض الحسن والجمال، وليس فيه كل الجمال.
الفرس الجميل جمع كل الصفات التي تليق بالفرس، الخط الجميل جمع كل الصفات التي تتوافر في الخط الجميل، لكن النقطة الدقيقة أن كل شيء لا يجمل بصفات غيره بل يجمل بصفاته اللائقة به.
قال:

 

﴿قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)﴾

 

(سورة طه)

 أعطاه الصفات الكاملة اللائقة به، انظر إلى الطير والغزال والوردة....

 

﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ﴾

 أعطاه صفاته الكاملة اللائقة به.

 

 

﴿ثُمَّ هَدَى (50)﴾

 أيها الأخوة الكرام: لا يغيب عن أذهانكم أن الجمال سمة واضحة في الصنعة الإلهية، ألا ترى إلى أنواع من السمك تحير العقول بجمالها ؟ ! ألا ترى إلا أنواع من الطير تحير العقول بجمالها ؟ ! ألا ترى إلى أنواع من الزهور والورود والنباتات تأخذ بالألباب بجمالها ؟! تجلى الله عليها باسم الجميل، ألا ترى إلى وجه طفل جميل لا ينسى من نظر إليه روعة جماله ؟! إن الله جميل هو الذي أبدع الجمال ووعدنا بجنة عرضها السماوات والأرض، وهو الذي وعدنا بنظرة إلى وجهه الكريم، فهدف العبادة أن تستمتع بالجمال، لكن أهل الدنيا استبقوا الأمور وأرادوا الجمال المادي الطارئ الفاني، وهذا الذي يستمتع بالجمال، ويخالف في استمتاعه منهج الله عز وجل لابد من أن يتحمل الكآبة التي تعقب هذا الاستمتاع.
أيها الأخوة: أول فكرة الجمال سمة واضحة في الصنعة الإلهية.
الآية الكريمة:

 

 

﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)﴾

 

(سورة الأنعام)

 الآن يوجد لوحات فنية راقية جداً فيها صور فواكه، الفاكهة فضلاً عن مذاقها لها منظر جميل، كل فاكهة على حدى شكلها ولونها وحجمها قوامها ورائحتها وطعمها، كلها عناصر جمالية في هذه الفاكهة، فالله عز وجل يقول:

 

﴿انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)﴾

 أيها الأخوة الكرام: لعل أبرز حقيقة أقولها في هذا الدرس أن يشتق من قول النبي عليه الصلاة والسلام حينما نظر إلى هلال قال:

 

 

(( حَدَّثَنَا قَتَادَةُ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ آمَنْتُ بِالَّذِي خَلَقَكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ذَهَبَ بِشَهْرِ كَذَا وَجَاءَ بِشَهْرِ كَذَا * ))

 

(سنن أبي داوود)

 أي أنا أنتفع به في الدنيا ويرشدني إلى الله، بناء على كلام النبي عليه الصلاة والسلام يستنبط أن كل شيء خلقه الله له وظيفتان كبيرتان، الوظيفة الأولى الكبيرة أن تتعرف إلى الله من خلاله، والوظيفة الثانية أن تنتفع به في الدنيا، لو قرأت كتاباً عن النحل وخررت لله ساجداً ماالذي حصل ؟ ازددت معرفة بالله من خلال هذا المخلوق الذي يعطي العسل، سواء أكلت العسل أو لم تأكله أنت الآن بالهدف الثاني أن تنتفع بهذه المادة التي تنتجها هذه الحشرة، أما حينما تتعرف إلى الله من خلال النحلة حققت الهدف من خلق هذا المخلوق، الهدف الأول أن تتعرف إلى الله سبحانه وتعالى من خلال خلقه.
 عندي موسوعات علمية مترجمة من أرقى مستوى فإحدى هذه الموسوعات عن الطير، في المقدمة إن أعظم طائرة صنعها الإنسان لا ترتقي إلى مستوى الطير ! هو يطير يحتاج إلى وزن خفيف عظامه مفرغة، يحتاج إلى تبريد حينما يستنشق الهواء، الهواء يصل إلى كل جسم الطير ليبرد عضلات الطير لأن بعض أنواع الطيور تطير ستاً وثمانين ساعة من دون توقف !
موسوعة واسعة جداً إن أعظم طائرة صنعها الإنسان لا ترتقي إلى مستوى الطير ! يوجد موسوعة أخرى عن النباتات إن أعظم معمل صنعه الإنسان لا يرقى إلى مستوى الورقة ! الورقة معمل لذلك قال تعالى:

 

﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾

 

(سورة فاطر)

َ قَالَ هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْد. أي شيء تقع عينك عليه ينبغي أن تنتفع من وظيفته الأولى، وظيفته الأولى أن تتعرف إلى الله من خلاله، وظيفته الثانية أن تنتفع به.
 معظم الناس لا يسمح لهم دخلهم بشراء الزهور باستمرار فقط بالمناسبات، لو وقفت أمام بائع زهور وتأملت هذه الألوان التي أبدعها الله، لو تأملت في ألوان الفراشات والطيور وسبحت الله عز وجل، لو أنك لا تشتري كل يوم الزهور إنك حققت الهدف من خلق الزهور، أي إنك تعرفت إلى اسم الجميل من خلال الزهور، كبار مهندسو التزيين يشتقون الألوان من الزهور والفراشات.
آية ثانية:

﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)﴾

(سورة النحل)

 الخيل جميلة حتى أن بعض أنواع الخيل يباع بمائة ضعف عن ثمن السيارة كائن يتعاطف معك بل إن بعض الأخوة الكرام الذين كانوا في أمريكا أخبروني أن بحوثاً علمية جادة تؤكد أن ركوب الخيل يدفع الإنسان أمراض القلب والكليتين والكبد، بينما إدمان ركوب السيارة يجلب للإنسان أمراض القلب والكبد والكليتين.
 في القرآن آيات كثيرة تلفت نظر الإنسان المؤمن إلى جمال الكون، الإنسان يعمل عملاً شاقاً لماذا ؟ كي يرتاح في بيته ويجلس جلسة ترتاح بها أعصابه مع زوجته وأولاده، قد يذهب إلى مكان جميل ومكان فيه حقل أخضر أو ماء نمير يسمع خريره وإلى أشجار باسقة جميلة، فجزء من حياة الإنسان لابد من أن يقطف ثمار تعبه بأن يستمتع بما خلق الله عز وجل، فالجمال ألصق شيء في حياة الإنسان، تبحث عن بيت جميل ولون ثياب جميلة وعن فواكه جميلة، أنت تختار الفاكهة واحدة واحدة، تبحث عن وجود الكمال اللائق بها.
الحقيقة علماء التفسير حينما فسروا قوله تعالى:

 

﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)﴾

 

(سورة ق)

 الفروج شقوق، لا يوجد شقوق، نحن في المدينة بعيدون جداً عن جمال السماء، لكن مرة ذهبت لمكان ريفي واستمتعت بمنظر السماء في الليل، منظر يأخذ بالألباب، نحن في غمرة المدن والشوارع والكهرباء بعيدون عن جمال السماء. قال:

 

سلامة الشيء من العيوب أحد مقومات جماله، انظ

﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)﴾

ر إلى خلق الله عز وجل خلق كامل تام.
 أيها الأخوة: من سمات الجمال أيضاً هو التنسيق والضبط والإحكام، الإنسان له شكل عظم الفخذ له عنق، لماذا ؟ الإنسان له حوض وفي الحوض مكانان لمشاشتي عظم الفخذ، لكن عظم الفخذ عظم متميز أنه مستقيم وفي نهايته عنق زاوية قائمة هنا المشاشة، لو أن عظم الفخذ كان مستقيماً فقط وينتهي بالمشاشة، والمشاشة في الحوض لكان شكل الإنسان من دون وسط متسع، فقد معظم جماله، أما حينما ينزل الجذع نحو الضيق ثم يتسع وسط الإنسان هذا منظر جمالي بسبب عنق الفخذ، فعنق الفخذ هو الذي يتحمل كل الثقل، يتحمل ما يزيد عن مائتي وخمسين كيلو غرام كل واحد، الإنسان الشديد القوي يتحمل نصف طن ! يتحمله عنق الفخذ، وعنق الفخذ من أجل القوام الجميل، فالتناسق لاحظ هذا المفصل داخلي في أي مكان ؟ مفصل الركبة خارجي، لو دققت في المفاصل رأيت الحكمة والجمال، الجمال في المقوم الثاني هو التناسق.

﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)﴾

(سورة البلد)

 لاحظ الرأس وما حوى، انظر إلى الشعر والجبهة والعينين والحواجب، هذا كله من خلق الله عز وجل.

 

﴿َخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2)﴾

 

(سورة الفرقان)

 ففي أجزاء الإنسان محسوبة بدقة بالغة، الآية الكريمة:

 

﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)﴾

 

(سورة الانفطار)

 الإنسان أحياناً تجرح أصبعه، فإذا تناول طعاماً بيده المصابة وفيه حمض يشعر بحرقة، يعني أن الأعصاب في الجلد موضوعة بحكمة بالغة، لو أن هذه الأعصاب كانت بقدر أكبر حياتنا لا تحتمل، لأن الأصبع جرح قليلاً ومس هذا الأصبع بعض الحموض حتى في الطعام تتألم، أحياناً تضع يدك على أذنك فتستمع إلى دوي وهو دوي الأجهزة الداخلية، لأن الأجسام الصلبة أكثر ناقلية للأصوات من الغازات، فهذا الدوي حركة الأمعاء والقلب والرئتين، فلذلك لو أن الإنسان يسمع صوت أحشائه بشكل مكبر حياته لا تحتمل.
 أخ توفي رحمه الله كنت في عيادته قال: ركبت صمام للقلب معدني فيه خردقة قال: لا أنام الليل، بالنهار لا أشعر بها من الضجيج، أما في سكون الليل مع كل نبضة للقلب يوجد صوت لهذا الصمام المعدني الذي ركب في قلبه، كمال الإنسان الذي يليق به أن لا تسمع صوت الأحشاء، مثلاً: الأصوات في الأرض أمواجها الصوتية تتخامد، والله هذه النعمة أيها الأخوة لو لم تكن لأصبحت حياة الناس جحيماً لا تطاق، لو أن الأمواج الصوتية لا تتخامد كالأمواج الكهرطيسية.....
 مركبة ذهبت إلى المشتري وبقيت تسير بأعلى سرعة صنعها الإنسان أربعين ألف مايل بالساعة، هذه المركبة استمرت في سيرها إلى المشتري كم ست سنوات حتى وصلت، من هناك أرسلت صوراً وإشارات عبر الأمواج الكهرطيسية، لو أن هذه الأمواج تتخامد لاتصل إلينا، أما لأنها أمواج لا تتخامد وصلت إلينا، لو أن الأمواج الصوتية لا تتخامد كل ما يجري في العالم من حروب وقنابل ومتفجرات وأصوات أمواج وفيضانات وأصوات معامل نسمعه جميعاً.
 من منكم دخل لسوق النحاسيين ؟ هل يحتمل أن يبقى فيه ساعة لو أن الأمواج الصوتية لا تتخامد لكانت أصوات هذا السوق عندنا في المسجد ! فلذلك هذا جمال، أن الموجة الصوتية تتخامد، النسيان جمال أن تنسى موقف محرج جداً، تنساه لو كنت تذكره دائماً تذوب من الألم، فالله عز وجل أفعاله جميلة وخلقك كامل.
أحياناً يسد شريان يغذي القلب الشريان التاجي هم خمس شرايين، يسد أحدهم قال لي أحد الأخوة الكرام: أن الجسم بشكل ذاتي يصنع شريانات مجموع أقطارها يساوي الشريان المسدود دون أن تشعر !

 

﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)﴾

 

 تخيل لولا هذا المفصل كيف نعيش ؟ كيف نأكل ؟ لا يوجد طريقة ! ينبغي أن يأكل الإنسان كالقطة أن ينبطح ويلعق الصحن بلسانه ! عنده عزيمة الجميع منبطح وكل مدعو أمامه صحنه يلعق منه ! هذا المفصل هذا جمال تأكل، الأصابع كلما تأملت في خلق الله عز وجل وعظمت الله كمال مطلق.

﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)﴾

إدراك كمال الصنعة من الإيمان.

﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾

(سورة يونس)

 في الربيع ترون أن الأرض جنة، الأرض خضراء الأزهار الرياحين الأشجار مثمرة المياه غزيرة، هذا كله جمال ليلفت الله نظرك إلى صنعته الجميلة وأنه أعد لك جنات تجري من تحتها الأنهار.
أول مقوم من مقومات الجمال أن يخلو من العيوب.
 أخ كريم قال: أتمنى عليك أن تلقي على إخوانك هذه الحقيقة: لو أن إنساناً أنجب طفلاً كاملاً يجب أن يخر لله ساجداً لأن ابني أنجب بنتاً في خطأ في الشريان والوريد في قلبها، فهي زرقاء اللون، بحثنا عن طبيب في سوريا ليجري لها عملية خلال ساعات من ولادتها في تبديل الشريان والوريد في القلب لم نجد في كل سوريا طبيب جراح قلب متخصص بحديثي الولادة في لبنان طبيب طلب أربعمائة ألف ! والمشفى ثلاثمائة ألف والسيارة خمسة وعشرين ألف حاضنة بالسيارة، قال: خلال ساعات دفعت سبعمائة وخمسة وعرشين ألف حتى أنقذت حياة هذه الطفلة، فأن يأتي الطفل كامل في خلقه هذا شيء يلفت النظر.
من يومين سمعت قصة من أخ رجاني أن أنقلها إليكم: شاب متزوج أرعن زوجته حامل يقول لها دائماً: إن أنجبت بنتاً سوف أقطع يدها ! أنجبت بنتاً بلا يد ! هو يقولها مازحاً أو مهدداً لكن الله أدبه بهذا، ووهبه بنتاً مقطوعة اليد اليمنى.
أيها الأخوة الكرام: الإنسان ينبغي أن يلتفت إلى الله، كل شيء في الكون يدلك على الله.
 طبعاً نتحدث عن الجمال المادي، لكن يوجد جمال معنوي، الجمال الحسي ذكرته لكم، أما الجمال الآخر جمال معنوي أوله جمال الأقوال أحياناً تستمتع بحديث محكم موجز عميق مؤصل فيه شواهد وتطبيقات ونطق واضح وفصاحة، الجمال كما قالوا: جمال الرجل فصاحته، والعرب كانوا يؤخذون بفصاحة الرجل، الأدب فن من أعظم الفنون جاء في تعريفه التعبير المثير عن حقائق الحياة.
واحد يقول: باللغة البسيطة تكاثرت علي المصائب، عبارة عادية لا يوجد فيها جمال، أما بعض الشعراء قال:

 

بلاني الدهر بالأرزاء حت ى فؤادي في غشاء من نبالِ
فكنت إذا أصابتني سهام  تكسرت النصال على النصالِ

كلام رائع جداً، يقول عليه الصلاة والسلام:

 

 

((عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً ))

 

(سنن ابن ماجة)

شعر آخر له مشاهد رائعة، وصف شاعر مغني قال:

عواء كلب على أوتار مندفة  في قبح قرد وفي استكبار هامانِ
وتحسب العين فكيه إذا اختلفا  عند التنغم فكـي بـغل طـحانِ

 ففي الكلام أحياناً صور رائعة جداً، كان عليه الصلاة والسلام أفصح العرب قال: أنا أفصح العرب بيد أني من قريش، وقريش أفصح قبائل العرب.
هذا نوع من البلاغة اسمه تأكيد المديح بما يشبه الذم، فالكلام له جمال.
 لفت نظري أن بعض البلاد الغربية تعلم جميع طلابها في كل فروع الجامعة فن الخطابة دهشت، فن الخطابة في ذهني متعلقة بكليات شرعية فقط حتى عندنا في كلية الشريعة ليس هناك مادة خطابة أبداً، في جامعات الغرب أي فرع بالجامعة لابد من أن يتعلم فن الخطابة، سألت ما السبب ؟ قال: هذا العالم كيف ينقل علمه ؟ لابد من أن يصوغ الكلام صياغة جيدة مرة إنسان صاغ خبراً قال: يسمح باستيراد العلف للمواطنين، هي ما صوابها؟ يسمح للمواطنين باستيراد العلف، فهذه عبارة قبيحة جداً، لو كان يتقن اللغة لما قال: يسمح باستيراد العلف للمواطنين، أحياناً كلمة قال ولست أبالي حينما أُقتل مسلماً على أي جنب ألقى في الله مصرعي
هذا قول أحد الصحابة وهو في الجنة، فواحد ضعيف باللغة متفاصح قال:

 

ولست أبالي حينما أقتل مسلماً  على أي جنب ألقى في الله مصرعي

 هذا لجهنم ! حركة واحدة ينتقل بها الإنسان من الجنة إلى جهنم، اللغة لغة القرآن الكريم، اللغة الجميلة لها تأثير كبير.
دقق: لذلك قال تعالى:

 

 

﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)﴾

 

(سورة فصلت)

 اجلس في جلسة كلام سخيف.

 

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ إِلَّا قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ وَكَانَ لَهُمْ حَسْرَةً ))

 

(سنن أبي داوود)

 لاحظ هذه اللقاءات في البيوت موضوع الحديث غيبة ونميمة افتخار وتباهي تأكيد للذات لعب ولهو وزينة وتفاخر بالأموال والأولاد لا يوجد جمال، أما ّإذا عرفت الناس بالله عز وجل هذا كلام جميل، انتقلنا من جمال الأشكال إلى جمال الكلام ثم إلى جمال الأفعال.

 

﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً﴾

أحياناً تجلس في جلسة تسمع قصص عن مواقف بطولية تقول: والله سررنا تشعر بأن قلبك انتشى، وقد قال بعضهم بذكر الصالحين تتعطر المجالس.
 ذكرت لكم كثيراً إنسان فقير جداً من شهر ورث قطعة أرض في أطراف دمشق، ورجل محسن كبير أراد إنشاء مسجد في هذه المنطقة فالأرض مناسبة جداً، المهندس الذي كلفه بالبحث عن أرض وجها مناسبة مساحة وسعراً، فجاء بالمحسن ليرى الأرض وليدفع دفعة من ثمنها، فسأل صاحبها عن ثمنها اتفقوا على السعر وحرر له شيك باثنان مليون ثمنها ثلاثة ونصف مليون ليرة، قال الفقير: الذي يعمل حاجب في مدرسة معاشه أربعة آلاف عنده خمس أولاد لا يكفيه أيام من الشهر قال: أين بقية المبلغ ؟ قال: عند التنازل، قال: أي تنازل ؟ قال: في الأوقاف، قال: لماذا ؟ قال: لأن هذه سوف تغدو مسجداً قال: مسجد! أخذ الشيك الموقع بمليونين ومزقه قال: أنا أولى منك أن أقدمها إلى الله، يقول هذا الغني المحسن ما صغرت في حياتي كما صغرت أمام هذا الفقير الذي لقنني درساً لا أنساه، قال: أنا أولى منك أن أقدمها لله، أنا أبيع أرضاً تغدو مسجداً ؟ دليل سياحي كريم تعرف إلى الله وسعد بمعرفته قال: كنت في مدينة في الشمال ومعه فوج سياحي، فأحد السواح أراد أن يشتري شيء من بائع متجول قال: كم ثمن هذا الشيء ؟ قال: أربعين ليرة، قال: قل له مائة فهذا سائح قال: سعري لا يتغير ! سائح أو غير سائح لا يتغير السعر، قال: هذا البائع المتجول لقنني درس في الصدق لا أنساه.
فأحياناً يكون هناك موقف جميل، لاحظ إذا جلست جلسة واستمعت لكلام طيب ومواقف أخلاقية فيها شهامة ومروءة ونجدة.....
 حدثني أخ: رجل أعطي أرض بحسب القوانين الأخيرة أخذ عشرين دونم، كان فلاح فقير معذّب لا يجد قوت يومه، فإذا به يملك عشرين دونم، كاد يرقص من الفرح، ذهب لشيخ له في الشام وحدثه عن هذه الأرض الذي أصبح بها مزارعاً قال له شيخه ببساطة: حرام أن تأخذها يا بني هذه الأرض ليست لك، ولم تؤخذ عن صاحبها عن رضا، يقول هذا الإنسان كأن كأس ماء صب على جمرة فأطفأها، كل آماله وسعادته تلاشت بفتوى شيخه، قال: ماذا أفعل ؟ قال: اذهب لصاحب الأرض لعله يبيعك إياها تقسيطاً بع حلي زوجتك فذهب إليه قال: يا سيدي أعطوني من أرضك عشرين دونم وقد سألت شيخي فأخبرني أنها أرض مغتصبة لا ينبغي علي أخذها، فهل تبيعني إياها ؟ قال له صاحب الأراضي: أنا ذهب مني أربعمائة دونم ! لم يأت ممن أ خذها ولا واحد إلا أنت وهي هدية لك !
تملكها وازرعها وبارك الله لك بها، لاحظ هذا الموقف ! موقف الفلاح الورع، وموقف صاحب الأرض الذي أكبر فيه هذا الورع فوهبه إياها.
أيها الأخوة الكرام: ملخص الدرس أنك مخلوق للعبادة.

 

 

﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾

 

(سورة الذاريات)

 وأن العبادة طاعة طوعية أساسها معرفة يقينية تفضي إلى سعادة أبدية أن تستمتع بجمال الله عز وجل إلى أبد الآبدين، فالجمال يطلبه المؤمن أضعاف مضاعفة عن ما يطلبه غير المؤمن، لكن المؤمن يطلب جمالاً أبدية وسعادة أبدية، يطلب جمالاً لا يعقبه قبح، فالجمال ألصق شيء في حياة الإنسان، بل إن الإنسان المؤمن حينما يتقي الله يصبغ الله عليه من متع الحياة النظيفة ما لا سبيل إلى وصفه، حتى إن بعضهم حينما قرأ قوله تعالى:

 

﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)﴾

 

(سورة الرحمن)

 قيل جنة في الدنيا وجنة في الآخرة، وبعض العلماء يقول: من لم يدخل جنة الدنيا لم يدخل جنة الآخرة، جنة الدنيا هي جنة القرب من الله، والله عز وجل طريق جنة الدنيا في متناول يديك، أطع أمرنا نرفع لأجلك حجبنا فإن منحنا بالرضا من أحبنا، ولذ بحمانا واحتمي بجنابنا لنحميك مما فيه أشرار خلقنا، وعن ذكرنا لا يشغلنك شاغل وأخلص لنا تلقى المسرة والهنا فلو شاهدت عيناك من حسننا الذي رأوه لما وليت عنا لغيرنا ولو سمعت أذنك حسن خطابنا خلعت عنك ثياب العجب وجئتنا ولو ذقت من طعم المحبة ذرة عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنا، ولو نسمت من قربنا لك نسمة لمت غريباً واشتياقاً لقربنا.
لا يوجد إنسان على وجه الأرض كالمؤمن يسعى للجمال، لكن يسعى لجمال مقدس ودائم وأبدي.
 قصة عن مؤمن شهم كريم متواضع تعطر المجلس، وقصة عن إنسان لئيم منحرف ذاتي الاتجاه تعكر المجلس، فيوجد جمال أساسه نفي العيوب وجمال أساسه دقة التكوين والتناسق وجمال الكلام وجمال الأفعال، وحياة المؤمن كلها جمال في جمال وهو في أشد حالاته السلبية يذوق طعم الجمال
 ماذا يفعل أعدائي بي ؟ إن أبعدوني فإبعادي سياحة وإن حبسوني فحبسي خلوة وإن قتلوني فقتلي شهادة فماذا يفعل أعدائي بي ؟ الكافر وهو في وج النعيم في جحيم وشقاء والمؤمن ولو كان في أصعب حالاته هو في نعيم القرب، هذا معنى قول النبي:

 

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ وَاصَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَهَاهُمْ وَقَالَ إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أَظَلُّ عِنْدَ رَبِّي فَيُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي * ))

 

(مسند الإمام أحمد)

 فأنت إذا كشفت أن في الاتصال بالله جمال لا يدانيه جمال لكنت في حال غير هذا الحال، والحمد لله رب العالمين.

 

إخفاء الصور