وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 9 - سورة النساء - تفسير الآية 28 ، طبيعة الإنسان
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
 أيها الإخوة الكرام ؛ في القرآن الكريم عدة آياتٍ، تشير إلى طبيعة الإنسان.
 قال تعالى:

﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً (28)﴾

( سورة النساء: 28 )

﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)﴾

( سورة الأنبياء: 37 )

﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)﴾

( سورة المعارج: 19 إلى 23 )

 عدة آيات لا تزيد عن أربع آيات، تتحدث عن طبيعة الإنسان، فهذه خصائصُ في خلقه، ليست ذنباً يعزى إليه، لكن الله هكذا خلقه.
 أولاً... الله سبحانه وتعالى قال:

 

﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً (28)﴾

 

 لماذا خلقه ضعيفاً ؟
 لو أن الله عز وجل خلق الإنسان قوياً، لاستغنى بقوته عن الله، وحينما يستغني بقوته عن الله يشقى باستغنائه.
 لماذا خلقه من عجل ؟

﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾

 قال العلماء: لأنه لو خلقه يحب الآجلة، واختار الآخرة وفق طبيعته لما ارتقى عند الله، لكن ما الذي يحصل ؟ لو أن الإنسان خلق يحب الآجلة، والدنيا بين يديه، فالشهوات يقظة، الفتن مستعرة، الملذات أمامه، لوجدته يعرض عنها كلها، ويختار ما عند الله في الآخرة، فخالف طبيعته، والإنسان لما يخالف طبيعته يرقى عند الله، ولما يستجيب إلى طبيعته الأرضية فإنّه لا يرقى.
 شاءت حكمة الله أن يكون الإنسان عجولا، وجعل الله الدار الآخرة بعيدة المدى، لو كان عرضاً قريباً، أو سفراً قاصداً لاتبعوك، ولكن بعدت عليهم الشقة، يقول بعضهم: يفرجها الله.
 فالناس يندفعون إلى إرواء شهواتهم، إلى اقتناص الأموال الحرام، إلى الاستمتاع بما حرم الله، لأن هذه الشهوات بين أيديهم، وفي متناولهم، والإنسان عجول، أما إذا اختار الآجلة فالأمر على عكس العاجلة.

 

﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)﴾

 

( سورة القيامة: 20 ـ 21 )

﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27)﴾

( سورة الإنسان: 27 )

 فالإنسان إذا استجاب إلى طبعه، وإلى عجلته، عندئذٍ يعصي ويرتكب الموبقات، ويعيش كما يقول الوجوديون: ليعِشْ لحظته، فهو الآن قوي ليستمتع بقوته، غني ليستمتع بماله.
 أما الإنسان إذا أحكم عقله، فإني أضرب لكم مثلاً بسيطاً، لكن له دلالة كبيرة ؛ قبل سنين، حافلة حي المهاجرين، كانت تقف بساحة المرجة أمام مركز التسويق العراقي، في أيام الصيف الحارة، صعد للحافلة راكبٌ، فوجد على اليمين شمسًا، وعلى اليسار ظلاً، بحكم طبيعته قعد في الظل على اليسار، فلما انطلقت الحافلة، ودارت بساحة المرجة، فخلال دقيقة واحدة، انعكست الجهة لآخر الخط، وبقي طيلة الوقت في الشمس، فأنا لما أركب الحافلة كنت ألاحظ الركاب، فالذي يشغِّل فكره يقعد بالشمس، والذي يستجيب لطبيعة جسمه يقعد في الظل، لكن بعد دقيقة واحدة عندما تدور الحافلة تنعكس الجهة، فمَن اختار الظل تمتع به دقيقة، ومَن اختار مقعده تحت الشمس تحملها دقيقة، ثم راح يتمتع بالظل عشرين دقيقة، ومَن اختار الظل راح يتنعم دقيقة، ويتحمل أشعة الشمس الحارة عشرين دقيقة، فالفرق بين الراكبَيْن، واحد أعمل عقله، والآخر عطل عقله، وهذا المثل لو أنه مثل بسيط، لكن له دلالة كبيرة.
 فأيّ إنسان بحكم عقله، ويفكر فإنه يختار الآجلة إلى الأبد، وأي إنسان يعطل عقله، فبين يديه الكثيرُ مِن في شهوات، أموال حرام، نساء كاسيات عاريات، طعام، احتفالات، اختلاط، مكاسب، يا نصيب تارةً، واختلاط تارةً، ورحلة سياحية تارةً، فإنه يختار العاجلة، والله عز وجل قال:

 

﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)﴾

 

﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ﴾

 فلما يحكِّم الإنسان عقله فإنه يختار الآخرة، مع أنها بعيدة المدى، ويرفض الدنيا مع أنها في متناول يديه.
 أما إذا عطل عقله، فإنه عيش لحظته كالوجوديين، فما دام يعيش إذاً هو يأكل ويشرب، ويتمتع بدون ضوابط، بدون قيم، دون مبادئ، دون افعل ولا تفعل، دون منهج، دون دستور، كالدابة السائمة، كالدابة الطليقة، تفعل ما تشاء بدون قيد أو شرط.
 إذاً لما فطَرَ ربنا عز وجل الإنسانَ على حبِّ العاجلة مِن أجل أن يرقى، إذا جاهدها، لأنه لو اختار الآجلة لعاكس طبيعة نفسه.
 وبالمناسبة إخواننا الكرام ؛ الإنسان له طبع، وله فطرة، ولديه تكليف، والطبع يتناقض مع التكليف غالباً، التكليف أن تصلي الفجر في وقته، وجسم الإنسان يميل إلى النوم والاسترخاء، ولا سيما في أيام الشتاء الباردة، والفراش وثير، ودافئ، نام الساعة الواحدة متأخرًا، وهو مرتاح، فطبعك يدعوك إلى النوم، والتكليف يدعوك إلى الصلاة، والمؤذن يقول الصلاة خير من النوم، وطبعك يدعوك إلى إطلاق البصر في النساء، كي تستمتع بحسنهن، لكن التكليف يدعوك أن تغض البصر عن محارم الله، طبعك يدعوك أن تقبض المال، والتكليف يأمرك أن تنفق المال، طبعك يدعوك أن تتحدث عن عورات الناس، عن قصصهم، عن فضائحهم، عن سقطاتهم، عن مشكلاتهم، عن خصوماتهم، لماذا طلق فلان فلانة ؟ ولماذا تزوج فلانة ؟ وما خلفية الموضوع ؟
طبعك يدفعك إلى تقصي أخبار الناس، لكن التكليف يقول لك:

﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً﴾

( سورة الحجرات: 12 )

((من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه))

 الملاحظ إذاً أن الطبع يختلف مع التكليف، لماذا يختلف مع التكليف ؟ من أجل أن ترقى، لو توافق الطبع مع التكليف لارتقى أبداً، والتغت العبادة، والتغت الجنة، ولم يعُد هناك ثواب ولا عقاب، إذا توافق الطبع مع التكليف، لكن التكليف يتناسب مع الفطرة، أنا قلت الطبع، والطبع أقرب إلى الجسد، والفطرة أقرب إلى النفس.
 فلما يتعرف الإنسان إلى الله، ويستقيم على أمره، تهدأ نفسه، ويطمئن قلبه، ويشعر بسعادة لا توصف، لأنه توافق مع فطرته.
 إذاً من ينشد السعادة الحقيقية، فعليه بتطبيق أمر الله عز وجل، ولو كان أمر الله في ظاهره فيه تكليف، وكلفة، وجهد، لولا هذا الجهد لما ارتقى إطلاقاً.
 لو فرضنا أنّ جامعة وزعت على الطلاب أوراق الإجابة، مطبوع عليها الجواب التام، فما عليك إلا أن تكتب اسمك ورقمك، كله طالبٍ يحصل على مئة درجة، ومنحت تلك الجامعة الشهادات العليا، الليسانس، والدكتوراه هذه الشهادات هل لها قيمة عند الناس؟ هل لها قيمة عند الطلاب ؟ لا قيمة لها، صفر في الحقيقة، لأن هذه الشهادات لم يكن لصاحبها جهد مبذول.
 أما لما تكون المواد صعبة، ولا بد لها مِن دراسة شاقة، ودخول امتحان صعب، وأسئلة معقدة، وسُلَّم دقيق، وتصحيح دقيق، فعندئذٍ لما ينجح الطالب يتيه على أقرانه بهذا النجاح الذي مقابله في جهد مُضنٍ.
 فالإنسان لا يطمع أن يكون التكليف موافقًا للطبع، يطمع أن يجد الدين مثل ما يريد تمامًا، يريد من الدين أن يُسمَح فيه بكذا، وكذا، وكذا، يأخذ ما فيه راحته، ويتصيد الرخص.
 لذلك فقد أردت من هذا الدرس، أن أشير إلى ناحية واحدة، أن الإنسان خلق عجولا، يحب الشيء الذي بين يديه، ولا يحب الشيء البعيد، فالمؤمن إذا اختار الآخرة، وما عند الله، فقد خالف طبعه، و لما خالف طبعه ارتقى عند الله.
 وغالباً الطبع أقرب إلى الجسد، والفطرة أقرب إلى النفس، وتكاليف الشرع لا تتوافق مع الطبع، لقوله تعالى:

﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)﴾

( سورة النازعات: 40 ـ 41 )

 لكن الإنسان إذا طبق أمر الله عز وجل وعاكس هواه، في النهاية ترتاح نفسه، لأن هذا الكمال الذي حصله، وتلك الطمأنينة التي اكتسبها، هذه غذاء الفطرة.
 لذلك قال تعالى:

 

﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)﴾

 

( سورة الروم: 30 )

 إخوانا الكرام ؛ أقول لكم هذه الكلمات وهي دقيقة، في النفس فراغ لا يملؤه المال، قد تملك مئات الملايين، وفي النفس فراغ لا تملؤه القوة، وقد تكون أقوى الأقوياء، في النفس فراغ لا تملؤه الشهادات العليا، والدرجات العلمية العالية، في النفس فراغ لا تملؤه الأسرة الناجحة، في بالنفس فراغ لا يملؤه إلا الإيمان، من دون إيمان يعيش الإنسان في قلق، والدليل:

 

﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)﴾

 

( سورة طه: 124 )

 أما لو أنّ الإنسان استقام على أمر الله فالحياة الطيبة هانئة، قال تعالى:

 

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾

 

( سورة النحل: 97 )

 فنحن موعودون بالحياة الطيبة، من قبل الله عز وجل.
 والله أيها الإخوة ؛ لزوال الكون أهونُ على الله من ألاّ تتحقق وعوده ووعيده بأي عصر ومصر، وبأي وقت، من أي منبت طبقي أنت ؟ من أي أم وأب ؟ من أي بلدة ؟ من أي مكان ؟ من أي زمان ؟ من أي إمكانيات كنت ؟ حينما تستقيم على أمر الله، فلك من الله حياة طيبة، وأي إنسان مهما كان قوياً، مهما كان غنياً، مهما كان جباراً، إذا أعرض عن الله عز وجل فإن له معيشة ضنكا.
 والله أيها الإخوة ؛ لو لم يكن في القرآن الكريم إلا هاتان الآيتان لكفتانا.

 

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾

 

( سورة النحل: 97 )

﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)﴾

( سورة طه: 124 )

 أمّا الآية الثالثة، فدققوا فيها، والله لو أنني أتلو هذه الآية آلاف المرات، لا أرتوي منها.

 

﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾

 

( سورة الجاثية: 21 )

 أَيُعامَل المؤمن من الله كما يعامل الكافر ؟ في بيته، في عمله، في صحته، في زوجته، في أولاده، في طمأنينته، في سعادته، في إقباله، في إشراق نفسه، في تفاؤله في المستقبل، تجد شخصًا غنيًا لو أنفق كل يوم مئة ألف لبقي لديه ما يفيض على حياته، ولو عاش مئة سنة، ومع ذلك فهو متضايق، وقلق، ويقول: السوق مسموم، ولا نربح، وما هذه الحياة، ولا يُعاش في هذا البلد، ومعه أموال واللهِ لا تأكلها النيران، ويقابلك مؤمن لا يملك إلا قوت يومه، ويقول: الحمد لله من أعماقه، راضيًا بعيشه.
 هذه السعادة لها سّر، السعادة أيها الإخوة لا تأتي من الخارج، لا تأتي من بيت واسع، ولا من زوجة جميلة، ولا من أموال طائلة، ولا من بيت بالمصيف، ولا من مركبة فاخرة.
 السعادة تنبع من الداخل، لما يتجلى ربنا على المؤمن يشعر بالسرور والسعادة، إذ قال لك: أنا أسعد الناس فصدِّقْه، ذات مرة قال لي شخصٌ كلمة، أقسَمَ بالله ليس في الأرض - "أقسم بالله" - مَن هو أسعد مني، فقلت: هذا الكلام ليس معقولاً، ثم استدرك قائلاً: إلا أن يكون أتقى مني، ليس في الأرض من هو أسعد مني إلا أن يكون أتقى مني.
 فلما يتعامل الإنسان مع خالق الكون، ويمشي على منهج الله، يجعل بيته إسلاميًا، وعمله إسلاميًا، يقرأ القرآن، يذكر الله، ويترك هذه الأجهزة التي تسمم حياتنا، وتجعل حياتنا كلها حياة جنس، حيث المصيبة الكبرى، والخسارة المردية، فنعوذ بالله مِن ذلك.

تحميل النص

إخفاء الصور