وضع داكن
29-03-2024
Logo
الخطب الإذاعية - الخطبة : 58 - الجهاد في فلسطين - صورة مشرقة من ماضينا.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخــطــبـة الأولــى:

الحمد لله نحمده ونستعين به ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خصنا بخير كتاب أنزل، وأكرمنا بخير نبي أرسل، وأتم علينا النعمة بأعظم منهج شرع، منهج الإسلام اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً، وأشهد أن سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا ومعلمنا وقائدنا محمداً عبد الله ورسوله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهد في الله حق الجهاد، وهدى العباد إلى سبيل الرشاد، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فمن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً، اللهم صل وسلم وبارك على هذا الرسول الكريم وعلى آله وصحابته، اللهم أحينا على سنته، وأمتنا على ملته، واحشرنا في زمرته، مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
عباد الله، أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، وأحثكم على طاعته، وأستفتح بالذي هو خير.

بطولات ومواقف مشرفة لأمهات مسلمات:

الشهادة في سبيل الله شرف ووسام فخر
أيها الأخوة المؤمنون في دنيا العروبة والإسلام، هذه الخطبة موجهة إلى أخوتنا المجاهدين في الأراضي المحتلة.
أمٌّ من فلسطين تقول لولدها وهو في ريعان الشباب: يا بني الشهادة في سبيل الله شرف، الشهادة في سبيل الله وسام، وأنا اليوم مسرورة بك لأنني سأغدو أم شهيد، ثم تقول: أناشد أخواتي الفلسطينيات أن يقفن من وراء أبنائهن، وأزواجهن، وأخوانهن، وآبائهن يشاركنهم في الجهاد بالصبر والثبات وتربية الأبناء على موائد القرآن، ليس حفظاً فقط ولكن تطبيقاً وعملاً، وأن يزرعن الإيمان في قلوبهم، هذا الإيمان الذي سيدفعهم حتماً إلى مقارعة أعداء الله، فإذا غرسنا بذرة الخير في الطفل فسوف يعرف ما له وما عليه، وسيعرف كل معاني الخير ويتعلق بها، وليس لنا خير في هذه الدنيا سوى ديننا الذي هو عصمة أمرنا كله وبعد ذلك لا يصعب عليه شيء، وسيحمل سلاحه ويحمي هذا الدين.
اغرسوا بذور الخير في أطفالكم
أناشدكم يا أخواتي، يا نساء فلسطين الصابرات الصامدات ألا تبخلن على الله بفلذات أكبادكن، فو الذي نفسي بيده لهو أرحم منا بهم، فلا تبخلن على أبنائكن بالجنة التي وعدها الله للشهداء والمجاهدين، فهذه فرحتنا نحن وأبناؤنا وأخواننا وأزواجنا وآباؤنا أن نفوز بإحدى الحسنيين.
ذكرتنا هذه الأم بتلك المرأة التي دخلت أحداً وهي تقول: ما فُعل برسول الله ؟ فاستقبلها من يخبرها باستشهاد ولدها، وتبــقى تقول: ما فعل برسول الله ؟ هي ليست غير مكترثة بولدها، لكن هدفها وأملها وعيونها متعلقة بالهدف الأسمى، ويأتيها آخر ليقول لها: لقد استُشهد زوجك، فتقول: ما فعل برسول الله ؟ وثالث يقول لها: لقد استشهد أخوك، وتجيب ما فعل برسول الله ؟ وتأتي لتكحل عينها برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو حيٌ يرزق، فتنظر إليه وتدمع عيناها، إنها دموع الإيمان والوفاء لهذا الدين، ولصاحب هذه الرسالة، إنها دموع الحب والتضحية، تنظر إلى رسول الله وتقول: كل مصيبة بعدك جلل يا رسول الله، لا أبالي إذا سَلِمتَ بمن هلك.
ذكرتنا هذه المرأة بالخنساء التي استقبلت أربعةً من أولادها شهداء، فقالت كلمتها الرائعة الشهيرة: الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم جميعاً، وأرجو الله أن يجمعني معهم في مستقر رحمته.
ذكرتنا هذه المرأة بأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما حينما جاءها ولدها يقول لها: يا أماه ! لا أخاف من القتل، ولكنهم لؤماء، فإن قتلوني صلبوني، قالت: يا بني اذهب، فإن الشاة إذا ذبحت لا يضرها السلخ بعد الذبح.

مواقف عن بطولات خالدة:

بطولة أخرى ؛ زهرة ندِيَّة فوَّاحة، وغصن بانٍ غضّ، وقطرة ندى في فجر يوم ربيعي، تربط الحزام الناسف على الخاصرة الفتية، تغطيه بثوب الإباء ورفض الضيم، وتنسل من بين طوابير الجفاة أغلاظ الأكباد المدججين بالسلاح من مجرمي العدو، تنسل مودعة الأرض بأخمص قدمها، سائرة وبكل ثقة إلى حيث الموت والتمزيق، رافضة إتاحة الفرصة للعاطفة وللذكريات ولخفقات القلب أن تعبث بخطواتها المتروية، السائرة إلى النهاية التي تقطعها من كل صلة بهذا العيش، وأمانيه، وأحلامه، وأمها، وأبيها، وأخوتها، وأخواتها، وصديقاتها، والحديقة، واللعبة، ضاربة وفي آخر لحظة مثلاً يحتذى، وقدوة خالدة، قائلة لأمها: غداً يأتيك خُطّاب لي كثر.
فإلى أصحاب الزنود السمر والعضلات المفتولة، أليس عاراً وشناراً، وفضيحة وذبحاً للرجولة ؛ أن تنهض طفلة بريئة وادعة نظرت إلى الموقف بعين جردتها من كل أنانية وطمع فقدّرت أنه لا بد من عمل شيء لمجد هذه الأمة ودينها ؟! وكأنها تقول للكرام الأحرار العظماء من أبناء أمتها: هذا هو لحمي، وعظمي، وعصبي، ودمي، وخصلات شعري أجعله لثاماً يغطي وجه القاعدين عن البذل، المؤثرين للدعة والراحة. قال معاذ بن عفراء:

(( يا رسول الله، ما يضحك الربَّ من عبده ؟ قال: غمس يده في العدو حاسراً، قال: فألقى درعاً كانت عليه، فقاتل حتى قتل ))

[ابن أبي شيبة والبيهقي عن معاذ بن عفراء]

في أطفال فلسطين نقرأ الأمل في مستقبل مشرق
عن أبي إسحاق السبيعي قال: سمعت رجلاً سأل البراء بن عازب: أرأيت لو أن رجلاً حمل على الكتيبة، وهم ألف، ألقى بيده إلى التهلكة ؟ قال البراء: لا، ولكن التهلكة أن يصيب الرجل الذَّنْب فيلقي بيده إلى التهلكة، ويقول: لا توبة لي.

 

[ذكره ابن حزم في المحلى ]

ولم ينكر أبو أيوب الأنصاري ولا أبو موسى الأشعري أن يحمل الرجل وحده على العسكر الجرار، ويثبت حتى يقتل.
وقصة أبي أيوب في القسطنطينية معروفة مشهورة، وفيها أن رجلاً من المسلمين حمل على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس، وقالوا: سبحان الله ! يلقي بيديه إلى التهلكة ؟ فقام أبو أيوب، فقال: أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل، إنما نزلت فينا معشر الأنصار، لما أعز الله الإسلام، وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سراً: إن أموالنا ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام، وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم هذه الآية.

 

مواقف أخرى عن أبطال اشتروا الآخرة بالدنيا:

في بعض المصادر أن البراء بن مالك أمر أصحابه أن يحملوه على ترسٍ على أَسِنَّة رماحهم، ويلقوه في الحديقة، فاقتحم إليهم، وشد عليهم، وقاتل حتى فتح باب الحديقة، وجرح يومئذٍ بضعةً وثمانين جرحاً.
وقد جاء في صحيح مسلم من حديث صهيب المعروف، قول الغلام للملك الذي عجز عن قتله: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك، قال: وما هو ؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع، ثم خذ سهماً من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام، ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، وفيه أن الملك فعل ما أمره به، فمات الغلام، فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام.
هذا الغلام قد أرشد الملكَ إلى الطريقة التي يتحقق بها قتله، ثم نفذها الملكُ، وتحقق بها ما رمى إليه الغلام من المصلحة العظيمة العامة من إيمان الناس كُلِّهم بالله بعدما بلغهم خبره، وما أجرى الله له من الكرامة.
وفي حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

((الذين يلقون في الصف الأول فلا يلفتون وجوههم حتى يقتلوا، أولئك يتلبطون في الغرف العلى من الجنة، ويضحك إليهم ربك، إن ربك إذا ضحك إلى قومٍ فلا حساب عليهم))

[رواه ابن أبي شيبة و الطبراني، وابن المبارك في الجهاد عن أبي سعيد الخدري]

كما روى ابن أبي شيبة عن مدرك بن عوف الأحمسي قال: كنت عند عمر رضي الله عنه فقالوا: يا أمير المؤمنين، ورجل شرى نفسه، فقال مدرك بن عوف: ذاك والله خالي يا أمير المؤمنين، زعم الناس أنه ألقى بيده إلى التهلكة، فقال عمر: كذب أولئك، ولكنه ممن اشترى الآخرة بالدنيا.
وقال محمد بن الحسن الشيباني في السير: أما من حمل على العدو فهو يسعى في إعزاز الدين، ويتعرض للشهادة التي يستفيد بها الحياة الأبدية، فكيف يكون ملقياً نفسه إلى التهلكة ؟ ثم قال: لا بأس بأن يحمل الرجل وحده، وإن ظن أنه يقتل، إذا كان يرى أنه يصنع شيئاً، فيقتل أو يجرح أو يهزم، فقد فعل ذلك جماعة من الصحابة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، ومدحهم على ذلك.
قيل لأبي هريرة: ألم تر أن سعد بن هشام لما التقى الصفان حمل فقاتل حتى قتل وألقى بيده إلى التهلكة، فقال: كلا، ولكنه تأوّل آيةً في كتاب الله ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله.

البحث في كل مظنة ضعف عن سبب قوة كامنة فيه:

وقد ذكر الحافظ ابن حجر في مسألة " حمل الواحد على العدد الكثير من العدو أن الجمهور صرحوا بأنه إذا كان لفرط شجاعته، وظنه أنه يرهب العدو بذلك أو يجرئ المسلمين على أعدائهم أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة فهو حسن، ومتى كان مجرد تـهورٍ فممنوع، لا سـيما إن ترتب على ذلك إضعاف المسلمين ".
الدفاع عن الأوطان ليس إرهابا
ومن التضليل والتحيز في المصطلح أن يسمى هذا " إرهاباً " إذا كنا سنجاري الصيغة العالمية في إدانته، أما إذا صح لنا تقسيم الإرهاب إلى إرهاب مذموم، وإرهاب محمود، فهذا ممكن، وليكن الدفاع عن الأوطان، والأعراض، والأديان، من الإرهاب المحـمود " تُرْهِبُون به عدوَّ الله وعدوَّكم " والمسألة بكل حال هي مسألة مصطلح.
إن الحديث عن القوة النابعة من الضعف ليس دعوة إلى الرضى بالضعف، أو السكوت عليه، بل هو دعوة لاستشعار القوة حتى في حالة الضعف، إذاً يجب أن نبحث في كل مظنة ضعف عن سبب قوة كامنة فيه، ولو أخلص المسلمون في طلب ذلك لوجدوه، ولصار الضعف قوة، لأن الضعف ينطوي على قوة مستورة يؤيدها الله في حفظه ورعايته، فإذا قوة الضعف تهد الجبال وتدق الحصون:

أنـت قويّ وهذا سر ضعفك وأنا ضعيف وهذا سر قوتي
يا عابدَ الحرمينِ لَوْ أَبْصرتنا لعلمتَ أَنَّكَ بالعبــادة تلعبُ
مَنْ كان يَخْضُب خَدَّه بدموعه فنحورنا بدمائنــا تتخضب
* * *

سبل الجهاد المتاحة لنا دعماً لجهاد أخوتنا في الأراضي المحتلة:

والآن أتوجه إلى الأخوة المؤمنين في العالمين العربي والإسلامي: ما سبل الجهاد المتاحة لنا دعماً لجهاد أخوتنا في الأراضي المحتلة ؟

1ـ مقاطعة البضائع الأجنبية:

لابد من مقاطعة بضائع العدو
من موقع معلوماتي أنقل لكم الإحصاء التالي، وأضع بين أيديكم الحقيقة التالية: شركة واحدة من شركات الدخان في بلد يدعم العدو تربح من مبيعاتها للعالم الإسلامي ثمانين مليون دولار يومياً، يعود على الكيان الصهيوني منها تسعة ملايين دولار كل يوم بحسب اتفاق بينهما، فما القول بأرباح بقية شركات الدخان، وشركات المطاعم المنتشرة في شتى بقاع العالمين العربي والإسلامي، وشركات المشروبات الغازية التي تحقق أرباحاً فلكية، وشركات السيارات التي يتصدر الإعلان عنها معظم المحطات الفضائية في العالم العربي ؟!
أيها المسلم في شتى بقاع الأرض لو لم تتلق توجيهاً من قيادة بلدك بضرورة المقاطعة، والتمس لها العذر إذا شئت، ألا تستطيع أن تمتنع ذاتياً عن شراء بضاعة من صنع بلد يدعم العدو المجرم بأسلحة فتاكة يبيد بها الشعب الفلسطيني، تتساءل بعدها ماذا نفعل لنصرة أخوتنا في فلسطين ؟ وهل تظن أن أحداً يجبرك على شراء هذه البضائع، أو يسألك لمَ لمْ تشتر ؟ هذا نوع من الجهاد الداعم لجهاد أخوتك في الأراضي المحتلة وهو متاح لك.

 

2 ـ اقتطاع مبلغ من أموالنا وإرساله بطريقة نظيفة وآمنة إلى أخوتنا في فلسطين:

أيها المسلم في شتى بقاع الأرض يقول الرسول الكريم في الحديث الصحيح:

 

 

((مَنْ جَهّزَ غَازِياً في سَبِيلِ الله فقد غَزَا))

 

[متفق عليه عن زيد بن خالد الجهني]

اقتطع من مالك ما تساهم به في قضية فلسطين
ألا تستطيع أيها الأخ المسلم أن تقتطع من مالك مبلغاً ترسله في قناة نظيفة آمنة بعد البحث عنها إلى أخوتك في الأراضي المحتلة، وقد هدمت بيوتهم، ودمرت ممتلكاتهم، وجرفت مزارعهم، وأتلفت أدويتهم، وأعدم رجالهم رمياً بالرصاص، وسيق أبناؤهم إلى السجون والمعتقلات، وقطعت عنهم الكهرباء، فتلفت مدخراتهم الغذائية، وقطعت عنهم المياه فشربوا المياه المالحة، أتهنأ في حياتك، وأنت معافى في أهلك وولدك، آمناً في بيتك، عندك قوت يومك، وأخوتك في الأراضي المحتلة يعانون ما يعانون، تسمع بأذنك أخبارهم، وترى بعينيك أحوالهم، إنك إن لم تحمل همهم، ولم تتحرك نحوهم، فأنت أولاً لست من المسلمين بدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام:

 

((من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن لم يمسِ ويصبح ناصحاً لله ولرسوله ولكتابه ولإمامه ولعامة المسلمين فليس منهم))

 

[أخرج بعضه السيوطي في الجامع الصغير عن ابن مسعود، وأبو نعيم في الحلية عن أنس]

وإذا ظننت أن الذي أصابهم لن يصيبك فأنت واهم، لأن أطماع أعدائنا لا تقف عند حد، وكتب زعمائهم تصرح بأطماعهم من دون مواربة أو حياء، وتقول بعدها: ماذا أفعل ؟ ليتني أكون معهم فأفوز فوزاً عظيماً.
أيها المسلم في شتى بقاع الأرض يقول الرسول الكريم في الحديث الصحيح:

((مَنْ خَلَفَ غَازِياً في أهْلِهِ بخير فَقَدْ غَزَا))

[البخاري و مسلم عن زيد بن خالد الجهني]

ألا تعلم أن عدداً كبيراً من أبناء أخوتنا في الأراضي المحتلة يدرسون في جامعات عربية وأجنبية، وأنه قد قطعت عنهم الإمدادات من أهليهم بسبب سياسة الحصار والإفقار التي يمارسها العدو الصهيوني على أهلنا في فلسطين، فهل تعلم أنك إذا خلفت هؤلاء الأهل في أبنائهم بخير فلك مثل أجرهم، كما قال عليه الصلاة والسلام، وتقول بعدها: ماذا أفعل ؟ ليتني أكون معهم فأفوز فوزاً عظيماً.

3 ـ إلغاء كل أنواع الترف والبذخ ومشاركة أخوتنا في فلسطين مصابهم:

المال المبذول في الحفلات الفخمة فلسطين أولى به
أيها المسلم في شتى بقاع الأرض ألا يقتضي انتماؤك لهذه الأمة التي حينما استجابت لربها جعلها الله خير أمة أخرجت للناس، والتي حينما قصرت في أداء رسالتها تطبيقاً ودعوة ذاقت وبال أمرها، ولقيت الغي الذي توعدها الله به حيث أضاعت الصلاة، واتبعت الشهوات، ألا يقتضي انتماؤك لهذه الأمة التي لا يدرى أولها خير أم آخرها أن تشارك أخوانك في فلسطين مصابهم، فتلغي كل ألوان البذخ والترف، علماً بأن هذا السلوك يتنافى مع منهج المؤمن، والمسلمون في أحسن حال، فكيف إذا كان جيرانك المؤمنون في أسوأ حال، فهذه الحفلات التي تقام في ردهات الفنادق، وفي أبهاء المطاعم، وفي حدائق المزارع، والتي تبذل فيها الأموال الطائلة في مناسبات وفي غير مناسبات، فتحول هذه الأموال الطائلة لمن هدمت بيوتهم، وقتل رجالهم، وأسر شبابهم، وهم قابعون في العراء، لا يجدون من ينصفهم ولا من يرحمهم ألم يصلك قول رسول الله عليه الصلاة والسلام:

 

((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالسهر والحمى))

 

[مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عن النعمان بن بشير]

وتقول بعد هذا: ماذا أفعل ؟ ويا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً.
وقد جاء في حاشية الدسوقي أنَّ: " من كان يملك فضل طعام ورأى جائعاً وتركه حتى مات فإنْ كان صاحب الطعام متأولاً أي يظنه لا يموت فإنَّه يدفع ديته من عاقلته (أقاربه) وإن كان عامداً فقد جاءت روايتان في المذهب، إحداهما: أنه يدفع ديته من ماله الخاص، والرواية الثانية: أنَّه يقتص منه على أنه قاتل ".

4 ـ الالتجاء إلى الله والتضرع له والتذلل على أعتابه:

ادع الله بصدق وتضرع وإخلاص طالبا النصر
أيها المسلم في شتى بقاع الأرض بقي باب رابع من أبواب الجهاد المفتحة أمام كل واحد منا ؛ هو باب الالتجاء إلى الله، والتضرع له، والتذلل على أعتابه، وقد ورد في صحيح مسلم:

 

(( إذا كان ثلث الليل الأخير نزل ربكم إلي السماء الدنيا فيقول: هل من تائب فأتوب عليه ؟ هل من سائل فأعطيه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من طالب حاجة فأقضيها له ؟ حتى يطلع الفجر ))

 

[ أخرجه أحمد عن أبي هريرة]

ألا تملك أيها المسلم أن تتوب إلى الله توبة نصوحاً، ثم تدعو الله بصدق وتضرع وإخلاص لأخوانك في فلسطين أن ينصرهم على أعدائهم أعداء الله، وأعداء الحق، وأعداء الخير، وأعداء البشرية، أعداء الحياة الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، فاسأل الله في دعائك أن يصب عليهم سوط عذاب، إن ربك لبالمرصاد.

آيات تؤكد نصر الله تعالى لعباده المؤمنين:

قال تعالى:

 

﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً ﴾

( سورة الإسراء )

وقال:

 

﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾


( سورة إبراهيم )

وقال:

﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾

(سورة آل عمران)

ثم إنني لأسمح لنفسي أن أتكلم عن حقيقة مرة، لتصحو الرؤوس من وهم مريح: هؤلاء الأعداء الأقارب والأباعد، حققوا شروطاً صعبة جداً، بنوا بها قوتهم، خلال مئات من السنين، فأملوا بسبب قوتهم إرادتهم وثقافتهم على بقية الشعوب، فأفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة.

علينا أن نعد لأعدائنا ما نستطيع من قوة بمفهوم القوة الواسع:

تفوق طلابنا هو من الإعداد للعدو
نحن المسلمين ينبغي علينا من خلال الأمر القرآني لنا أن نعد لهم ما نستطيع من قوة بمفهوم القوة الواسع، فأسرنا ينبغي أن تتماسك، وأمهاتنا ينبغي لهن أن يتفرغن لتربية أولادهن، وطالبنا ينبغي أن يتفوق، ومعلمنا ينبغي له أن يحمل رسالة سامية يسعى لتحقيقها، وعاملنا ينبغي أن يتقن، وفلاحنا ينبغي أن يرتبط بأرضه ليزرعها، وموظفنا ينبغي أن نعطيه حقه، وينبغي له أن يتفانى في خدمة دافعي الضرائب، وقاضينا ينبغي أن يعدل، وعالمنا ينبغي أن يؤثر خدمة أمته على حظوظه من الدنيا، وداعيتنا ينبغي أن ينصح لا أن يمدح، وضابطنا ينبغي له أن يوقن أن المعركة مع العدو قادمة لا محالة، وأن حديث العدو عن السلام مراوغة وكذب وكسب للوقت ليس غير، وثرواتنا ينبغي أن تستخرج، ومصانعنا ينبغي أن تتطور، وأرضنا ينبغي أن تستصلح، ومياهنا ينبغي أن يرشد استهلاكها، وهذا لا يكون إلا بإيمان بالله يحملنا على طاعته، وإيمان باليوم الآخر يحملنا على ألا نظلم بعضنا بعضاً، وأن نطلب جزاء جهدنا وجهادنا في الجنة، وهذا نوع من الجهاد لا تقطف ثماره عاجلاً بل آجلاً.
وحين تقول لطالب: واصل دراستك وكن متفوقاً، وخطط لسنوات قادمة لتكون شيئاً مذكوراً في حياة الأمة ومستقبلها، لاستثقل هذا، وآثر سماع الأخبار، وأن يكون منفعلاً لا فاعلاً، إن بعض الاندفاع قد يضاعف المعاناة بدلاً من حلها. وهنا يبرز معنى " الجهاد " بمفهومه الواسع الذي هو بذل أقصى الوسع وغايته، واستفراغ الطاقة في تحصيل المراد. والغفلة عن المستقبل ستجعلنا مشغولين أبداً بإطفاء الحرائق هنا وهناك عن العمل الجاد الذي يخفف المعاناة عن أجيالنا اللاحقة. وأن علاج الجرح المفتوح على أهميته يجب ألا ينسينا التفكير في مستقبل أجيالنا التي سوف تتساءل: هل تركنا لها شيئاً آخر غير الجراح ؟!

النجاح يكمن في أن يستخدم المرء عقله قبل يده:

ينبغي أن يفكر الفرد الواحد في الموقع الذي يفرغ فيه طاقته، ويؤدي من خلاله دوره ورسالته، وبتحديد هدفه يـبدأ بالمسير إليه وبخطى ثابتة يقطع مراحل منه، فيكون قد رسم الهدف وحدد الطريق وبدأ السعي، وهذا يوصل وفق السنة الربانية إلى الهدف، ومن ثم تتزايد الأعداد الإيجابية التي تمارس دورها بشكل صحيح بدلاً من أن تتساءل هذه الأعداد فقط ماذا نعمل ؟ ثم لا تعمل شيئاً.
البداية تكون برسم الهدف وتحديد الطريق ثم السعي
ولا ينبغي ألا يكون تفكير الفرد الواحد دائماً هو أن يرفع المعاناة عن الأمة كلها، فالواحد القادر على رفع المعاناة كلها هو الله عز وجل. أما البشر فيكفي أن يستفرغ المرء جهده وطاقته ولا يدخر منها شيئاً في موقع معين، ثم لا يضيره أن تتحقق النتائج على يد غيره بعد وضع الأساس وبدء البناء.
إن رَفْع المعاناة عن الأمة يتطلب عدداً كبيراً من المؤمنين الواعين المخلصين المضحين في جميع الميادين، وهذا ما يجب السَّعْي إليه، ولأن ينجح فرد في إعداد مجموعة من المواطنين إعداداً إيمانياً وعلمياً وعقلياً وخلقياً ونفسياً واجتماعياً وجسدياً أحب وأنفع من أن يلقي بنفسه في أُتون نار تقول: هل من مزيد، إن النجاح يكمن في أن يستخدم المرء عقله قبل يده، كما يفعل أعداؤنا.
الأندلس فلسطين العرب الأولى، داهمها الخطب، وفعل بها الفرنجة ما يفعله الصهاينة اليوم بالشعب الفلسطيني، فقال أحد شعرائها يستصرخ المسلمين في المشرق، وكأن التاريخ يعيد نفسه:

يا راكبين عتاق الخيل ضامــرة كأنها في مجال السبق عقـبان
وحاملين سيوف الهند مرفهـــة كأنها في ظلام النقع نيــران
و راتعين وراء البحر في دعــة ٍ لهم بأوطانهم عز و سلطــان
أعندكم نبأ من أهــل أنــدلس فقد سرى بحديث القوم ركبـان
كم يستغيث بنا المستضعفون وهم قتلى و أسرى فما يهتز إنسـان
فلو تراهم حيارى لا دليل لهــم عليهم في ثياب الذل ألـــوان
يا رب أمٍ وطفلٍ حيل بينهمـــا كما تفرق أرواح و أبــــدان
وطفلة مثــل حسن الشمـس إذ طلعت كأنما هي ياقوت ومرجان
يقودها العلج للمكروه مكرهــةً والعين باكية والقلب حيـــران
لمثل هذا يبكي القلب من كمــد ٍ إن كان في القلب إسلام وإيمـان
* * *

علينا أن نتعرف إلى أفكار وتصورات عدونا وأهدافه القريبة والبعيدة:

 

من الإعداد لعدونا الذي أمرنا به أن نتعرف إلى أفكاره وتصوراته وأهدافه القريبة والبعيدة، فمن هذا المنطلق أن شارون قال لصحفي إسرائيلي في سنة 1982: إنه لن يكون أفضل من ترومان الذي قتل نصف مليون ياباني بقنبلتين جميلتين، قال: ربما سيكرهني العالم وسيخشاني بدلاً من أن أشتكي إليه، وربما يخاف من ضرباتي الجنونية بدلاً من أن يعجب بروحي الجميلة، وليرتجف مني وليعامل بلدي كبلد مجانين، وليقل: إننا متوحشون، وإننا نمثل خطر الموت لجميع الجيران، وإننا جميعنا غير أسوياء، ونستطيع أن نغرس أزمة فظيعة إذا قتل طفل واحد منا، وأن نفجر بسبب ذلك آبار البترول في جميع الشرق الأوسط"!
فلسفتهم قائمة على أن القوي يفرض ما يريد
وقد قال مندوب لصحيفة، وهي واحدة من أشهر ثلاث صحف في بلد يدعم أعداءنا: لا توجد قيم ولا أخلاق، وإنما هي القوة، والقوة وحدها، ومنذ خمسة آلاف سنة والقوي يفرض ما يريد، وكلما أمعن في القوة كسب أكثر، فنحن حينما استأصلنا الهنود الحمر، والإنكليز حين استأصلوا سكان استراليا الأصليين نجحنا في حسم المعركة. بينما البِيْض في جنوب أفريقيا لأنهم كانوا أرحم، ولم يستأصلوهم بالكلية انقلبوا عليهم، وانتصروا في النهاية !
أرأيتم إلى الفكر التي ينطلق منه أعداؤنا ومن يدعمهم ؟ ونحن نقول استناداً إلى الحق الذي هو وحي السماء: القوة لا تصنع الحق، ولكن الحق يصنع القوة، والقوة من دون حكمة تدمر صاحبها، قال تعالى:

﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾

(سورة الحشر)

نتائج الظلم:

 

إن نتائج الظلم لا يمكن ضبط حساباتها، ولا تقدير ردود أفعالها، وذلك أن ردود فعل المقهورين والمظلومين كشظايا القنابل تطيش في كل اتجاه، وتصيب من غير تصويب.
الظلم يشحن النفوس بالكراهية والمقت
إن ردود أفعال المظلومين والموتورين لا يمكن التحكم في مداها ولا اتجاهها، وإنها تطيش متجاوزة حدود المشروع والمعقول، مخترقة شرائع الأديان، وقوانين الأوطان، وتكفر أول ما تكفر بهذه القوانين التي لم توفر لها الحماية أولاً ؛ فلذا لن تقبلها حامية لأعدائها، فإن العلاج الأول والحقيقي هو نزع فتيل الظلم الذي يشحن النفوس بالكراهية والمقت، ويعمي البصائر والأبصار عن تدبر عواقب الأمور والنظر في مشروعيتها أو نتائجها.
حين ينتظر الناس طويلاً قبل أن ينالوا حقوقهم فمن المرجح أنهم سيتصرفون في فترة الانتظار بطريقة يصعب توقعها. والدليل على صدق هذا الكلام أنهم قالوا بلسان كبير مجرميهم: ليست مشكلتنا اليوم مشكلة أمن بل مشكلة بقاء لذلك جاءت ضربتهم ضربة من فقد صوابه.
يقول السيد الرئيس في كلمته القيمة في مؤتمر القمة المنعقد في بيروت: " من لا يمتلك الفكر المضاد للإرهاب لا يستطيع أن يكافح الإرهاب، ولا أن يتحدث عنه، ولا نستطيع أن نرى الإرهاب الأصغر ونتعامى عن الإرهاب الأكبر، وأي طرح للإرهاب في العالم ولا تكون إسرائيل هي محوره فهو طرح ناقص غير موضوعي ".
أيها الأخوة الأكارم، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.

***

الخــطــبـة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

صورة مشرقة من ماضينا:

أخوتي المؤمنين، أعزائي المستمعين، في غمرة الألم الساحق والاقتراب من اليأس القاتل، وفي غفلة عن ماضي هذه الأمة المشرق، ينبغي أن أضع بين يدي حضراتكم صورة مشرقة من ماضينا، لا أسوقها تغنياً بها فالاكتفاء بالتغني بالماضي من صفات الأغبياء بل لتكون باعثاً للأمل في النفوس، ودافعاً لعمل مثمر نستعيد به مجد أمتنا وألق حضارتنا.
يوم تمّ فتح مدينة القدس من قبل المسلمين وبقيادة البطل صلاح الدين، وتم تحريرها من أيدي الغزاة الطامعين، وها نحن أولاء نرى القلوب قد امتلأت بالفرح، والوجوه قد عمها البشر، ونسمع الألسنة وقد لهجت بالشكر، لقد علت الرايات، وعلقت القناديل، ورُفع الأذان، وتُلي القرآن، وصفت العبادات، وأُقيمت الصلوات، وأديمت الدعوات، وتجلت البركات، وانجلت الكربات، وزال العبوس، وطابت النفوس، وفرح المؤمنون بنصر الله.
وها نحن أولاء ندخل المسجد الأقصى، فإذا المسلمون وفيهم صلاح الدين وجنده يجلسون على الأرض، لا تتفاوت مقاعدهم، ولا يمتاز أميرهم عن أحد منهم، قد خشعت جوارحهم، وسكنت حركاتهم هؤلاء الذين كانوا فرساناً في أرض المعركة، استحالوا رهباناً خُشعاً كأن على رؤوسهم الطير في حرم المسجد، وها هو ذا خطيب المسجد محي الدين القرشي قاضي دمشق يصعد المنبر، ويلقي خطبته، ولو ألقيت على رمال البيد لتحركت وانقلبت فرساناً، ولو سمعتها الصخور الصم لانبثقت فيها الحياة، لقد افتتحها بقوله تعالى:

 

﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾

( سورة الأنعام )

وها نحن أولاء نستمع إلى فقرات من خطبته:
" أيها الناس ابشروا برضوان من الله الذي هو الغاية القصوى والدرجة العليا، لما يسّره الله على أيديكم، من استرداد هذه الضالة من الأمة الضالة، وردّها إلى مقرها من الإسلام، بعد ابتذالها في أيدي المعتدين الغاصبين قريباً من مئة عام، وتطهير هذا البيت الذي أذن الله أن يُرفع ويُذكر فيه اسمه، من رجس الشرك والعدوان.
ثم قال محذراً: إياكم عباد الله أن يستزلكم الشيطان، فيُخيل إليكم أن هذا النصر كان بسيوفكم الحداد، وخيولكم الجياد، لا والله وما النصر إلا من عند الله، فاحذروا عباد الله بعد أن شرَّفكم الله بهذا الفتح الجليل، أن تقترفوا كبيرة من مناهيه، انصروا الله ينصركم، خذوا في حسم الداء وقطع شأفة الأعداء ".

جرائم أعدائنا جعلتنا نصحو بعد غفلة:

وها نحن أولاء نخرج من المسجد الأقصى، ونلتقي بأحد الفرنجة الذين شهدوا فتح القدس، وها هو ذا يحدثنا فيقول: إن المسلمين لم يؤذوا أحداً، ولم ينهبوا مالاً، ولم يقتلوا مُسالماً ولا مُعاهداً، وإن من شاء منا خرج وحمل معه ما شاء، وإنا بعنا المسلمين ما فضُل من أمتعتنا فاشتروها منا بأثمانها، وإننا نغدو ونروح آمنين مطمئنين، لم نرَ منهم إلا الخير والمروءة، فهم أهل حضارة وتمدُّن، وصدق من قال: ما عرف التاريخ فاتحا أرحم منهم
" ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم منهم ". أخوتي المؤمنين، يقول الله عز وجل في محكم كتابه:

﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾

( سورة البقرة الآية: 216 )

من يدري أن هذه المحنة الشديدة التي يمر بها المسلمون، وراءها منحة ثمينة من رب العالمين، وأن هذه الشدة التي نزلت بالمؤمنين وراءها شدة إلى الله رب العالمين، وأن كبير مجرمي العدو سخره الله من دون أن يريد، ومن دون أن يشعر لتوحيد المسلمين، وشحذ هممهم، وبث روح البطولة والتضحية فيهم، وأن كبير مجرمي العدو سخره الله من دون أن يريد، ومن دون أن يشعر لنعود إلى ديننا، والى قرآننا، وإلى سنة نبينا، لنصحو بعد غفلة، ولنقوم بعد قعود، ولنتحرك بعد سكون، ولنتعاون بعد تنافس، ولنصطلح بعد خصام.
ولأن الإيمان بالله لا يكون إلا بعد أن نكفر بالطاغوت، لقد أعاننا أعداؤنا بجرائمهم التي يشيب لهولها الولدان، أن نكفر بهم، وبحضارتهم، وبمنجزاتهم، وأن نلتفت إلى ديننا وحضارتنا وأبناء جلدتنا.


عداتي لهم فضل علي ومنـة فلا أذهب الرحمن عني الأعاديا
هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها وهم نافسوني فاكتسبت المعالـيا
* * *

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور