وضع داكن
24-04-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة البقرة - تفسير الآية 129 ، أركان الدعوة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

  الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .

من أهمل معرفة الله لم تصح عبادته :

 أيها الأخوة الكرام ؛ أُثِرَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة أخي عيسى ".
 فماذا دعا سيدنا إبراهيم ؟ ورد في سورة البقرة في الآية التاسعة والعشرين بعد المئة قوله تعالى :

﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾

[سورة البقرة : 129]

 إنّ دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لها أربعة أركان :

﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾

  أية آيات يا ترى ؟ إذا توهمنا أنها آيات القرآن الكريم ، بعد قليل يقول الله عز وجل :

﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾

  لذلك يرجح أن تكون الآيات التي وردت في هذه الآية تشير إلى الآيات الكونية .

﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ ﴾

  وإذا أردنا أن نجمع بين المعنيين فلنا أن نقول :

﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ ﴾

 القرآنية الدالة على الآيات الكونية .
 أليس في القرآن آيات كونية قرآنية تتحدث عن الكون والقصد من ذلك أنك من خلال الكون تعرفه ؟

﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾

  الكتاب هو المنهج ، فأنت محتاج إلى شيئين ؛ إلى أن تعرفه أولاً ، وإلى أن تطيعه ثانياً ، فبالكون تعرفه ، وبالقرآن تعبده ، فأنت محتاج إلى أن تعرفه و إلى أن تعبده ، فلو أننا أهملنا معرفته لم تصح العبادة .
 وأغلب الظن أنّ الإنسان يلجأ إلى أساليب كثيرة يحتال بها على الشرع ، فمن الذي يحتال على الشرع ؟ هو الذي لا يعرف المشرع .
 لذلك أية دعوة إلى الله لا تبدأ بالتعريف بالله ، وتسمي بالتعريف من أجله لا تنجح، والنبي صلى الله عليه وسلم بقي بمكة المكرمة ثلاثة عشر عاماً يُعرِّف أصحابه بالله ، فلما تَرسَّخ الإيمان في قلوبهم ، وعرفوا الله معرفة صحيحة ، وقدروه حق قدره ، عندئذ نزل التشريع وطبَّقوه نصاً وروحاً .
 أمّا إذا كانت معرفة المرء بالله قليلة فعندئذٍ لو جاءَهُ التشريعُ فإنّه يطبِّقه نصاً لا روحاً.
 إنّ كل الحيل الشرعية أساسها ضعف في معرفة الله عز وجل . فأركان الدعوة إلى الله :

﴿وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ ﴾

 الآيات الكونية الدالة على عظمة الله .
 أخواننا الكرام ؛ لا بد من مثل موضِّحٍ ، وهأنذا أسوقه : هناك في أمعاء الإنسان غشاء شفاف ، هذا الغشاء الشفاف اسمه الغشاء البريتوني ، له دورٌ خطيرٌ في الدم ، وفيه عقد بلغمية ونهايات عصبية ، وهو يحمل الأمعاء بشكل مرن ، ولو أنه حملها بشكل غير مرن لاضطرب عملها ، فالأمعاء أساسها أنّ لها حركة ميكانيكية من أجل الهضم ، فلا بد من أن تُحمل .
 وفي المركبة هذا العازل حامل الغاز اسمه المحول ، وهو محول بحلقات مطاطية ، يحث يتحرك مع المحرك ، دون أن يُزعج السيارة ، فهذا معلق ، لكن تعليق حركي . والأمعاء معلقة في البطن بتعليق حركي ، معلقة بغشاء يسمح لها بالحركة عن علم ، فهذا الغشاء
 أولاً : يحمل الأمعاء حملاً مرناً . ثانياً : فيه نهايات عصبية . ثالثاً : فيه عقد بلغمية ، أما هذه العقد البلغمية فشيء لا يصدق ؛ إنها مركز دفاع ، فيه قسم على شكل جنود استطلاع ، وقسم على شكل جنود تصنيع أسلحة ، وقسم آخر على شكل جنود مقاتلين ، فإذا حصل انثقاب بالأمعاء من التهاب حاد فيها ، وخرج من الأمعاء بعض الإنتانات ، فهذه العقد البلغمية في الغشاء البريتوني تنطلق منها جنود لتكشف نوع الجرثوم ، تصنع المصل مرة ثانية ، ترسل هذا السلاح مع جنود مقاتلين ، كل هذا يتم بالتعبير الحديث "التطويق" ، يطوق هذا الجرثوم لئلا ينتشر ، ويفشو ضرره في الجسم .
لكن الشيء الغريب أن هذه الأمعاء ليس فيها أعصاب حس ، فلو فتحنا أمعاء إنسان وسكبنا فيها ماء ساخنًا لم يشعر صاحبُها بشيء ، لا أعصاب حس فيها ، أما إذا انثقبت هذه الأمعاء ‍‍‍فالنهايات العصبية في الغشاء البريتوني تنقل الألم الشديد للإنسان ، فالنهايات العصبية جهاز إنذار مبكر ، والعقد البلغمية جيش دفاع . وفي الوقت نفسه هذا الغشاء يحمل الأمعاء حملاً مرنًا ، حيث إنها تتحرك حركة معوية دون أن يتأثر الحمل .
 إذاً : حمل ، وتثبيت مرن ، وجهاز دفاع معقد ، ونهايات عصبية ، وهذا كلُّه تدبيرُ مَنْ؟

مكارم الأخلاق أساس حياة المؤمن :

 الآن دققوا في قوله تعالى :

﴿وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ﴾

[سورة محمد : 15]

 فليس هناك أعصاب حس ، فلو أن هذا الماء قطع الأمعاء فعندئذٍ يبدأ الألم ، وآلام الإنسان لا تبدأ إلا إذا ثُقِبَتْ الأمعاء ، ثم بعدها تتأثر النهايات العصبية . هل تسمح المعطيات العلمية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا التفسير ؟ إذاً هذا كلام خالق الكون ، وهذا معنى:

﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾

[سورة آل عمران : 164]

 الكتاب هو القرآن وما فيه ، والحكمة هي السنة ، القرآن الكريم فيه كليات ، والنبي صلى الله عليه وسلم في سنته القولية والعملية يبيِّن ، والكتاب هو المنهج ، والآيات الكونية هي المعرِّف ، فالآيات الكونية مع المنهج القرآني مع السنة التفصيلية القولية والعملية ثلاثة أركان للدعوة ، وأما الركن الرابع فقد قال تعالى :

﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾

 فإذا حذفنا مكارم الأخلاق من حياة المؤمن فقد حذفنا منه كل شيء ، وبعدها ليس له عند الله شيء ، وإن الإيمان حسن الخلق ، وتصفو نفوس المؤمنين باتصالهم بربهم :

﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾

.

أركان الدعوة :

 أربعة أركان للدعوة ؛ تلاوة الآيات الكونية كي نعرفه ، ودراسة الآيات القرآنية كي نعبده ، والاتصال بالله عز وجل كي تزكوَ نفوسنا بقربه ، فإذا عرفناه بالكون ، وأطعناه بالقرآن والسنة ، واتصلنا به فقد زكت نفوسنا ، وعندئذ نكون قد حققنا المنهج الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، وأية دعوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لا تتلمس خصائص دعوة النبي صلى الله عليه وسلم دعوة لا تنجح .
 فلو علَّمنا الناس الفقه وحده ولم نعرفهم بالله عز وجل لن تنجح دعوتنا ، وإذا قدّمنا الأمر على الآمر لا ننجح في دعوتنا ، وإذا أهملنا التزكية يصبح الإسلام ثقافة رفيعة ، لكن المعاملة سيئة ، فإذا ألغينا التزكية ألغينا الإسلام ، وإذا ألغينا المنهج ألغينا الإسلام ، وإذا ألغينا تلاوة الآيات ألغينا الإسلام . إنَّ الإسلام كل متكامل ، لابد من آيات تتلى كي نعرف الله ، ولابد من منهج يطبق كي نتقرب منه ، ولابد من نفوس تتزكى كي نكون أهلاً لدخول الجنة ، هذا معنى الآية الكريمة :

﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾

.

من أعرض عن الدين فقد احتقر نفسه :

 أخواننا الكرام ؛ قد يُعرِض إنسانٌ عن شيخه احتقاراً له ، أما إذا أعرض عن الدين فهو يحتقر نفسه ، فإذا أعطاك أحدٌ جوهرة تُقدَّر بثلاثين ألفًا ، وأعطاك قطعة بلور تقدَّر بليرة ، ثم فكرت وفكرت وفكرت وأخذت قطعة البلور فأنت عندئذ لا تفهم شيئًا إطلاقاً .
 عُرضت عليك هديتان ؛ قطعة ألماس أصلي ، و قطعة بلور تشبه قطعة الماس ، فحينما تُعرِض عن الألماس الصحيح ، وتقبل هذه القطعة البلورية فأنت حقَّرْتَ نفسك ، إذ برهنت أنك لا تعرف حقائق الأشياء فربنا عز وجل يقول :

﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾

  فإذا لم يلتفت الإنسان إلى الدين ، ولم يقبل على هذا الدين الحنيف ، وما اتصل بالله عز وجل ، وما قرأ القرآن ، وما تدبر آياته ، وما صدق تعاليم الله عز وجل ، فهذا لا يحتقر الدين لكنه يحتقر نفسه ، وهذه الآية :

﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾

  فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول :

((أنا دعوة أخي إبراهيم ، و بشارة أخي عيسى ))

على الإنسان أن يريح نفسه والآخرين من كل قضية تاريخية سابقة :

 آخر آية في السياق تريحكم من كل قضية سابقة ، ومن أي خلاف ديني سابق ، ومن أي خلاف بين مذاهب المسلمين ، ومن أي خلاف بين الصحابة الكرام ، ومن أي خلاف بين فرق الإسلام ، فهذا الخلاف كله مغطى بآية واحدة ، وانتهى الأمر ، فقد قال الله تعالى :

﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾

[سورة البقرة : 134]

 وفر وقتك ، واكسب حياتك ‍ ، فالهدف واضح ، والمنهج واضح ، فعليك ألا تدخل في متاهات قديمة ، وعليك ألا تجترَّ حوادث تاريخية عفا عليها الزمان ، فلا ترجع وتعمل على إحيائها بعد موتها ، فهذه متاهات لا تنفع المسلمين اليوم .

﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾

[سورة البقرة : 134]

 مثلاً شخص في طريقه إلى حلب وهنالك مليون ليرة ليقبضها ، وجرت وراءه مشادَّة ، فليس له مصلحة في أنْ يرجع إلى الوراء ، وليس عليه أنْ يتعرف على صاحب الحق في هذه المشادة ، ليكن من كان :

﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ﴾

  والآن هناك محاولات استعادة التاريخ القديم ، والدخول في دوامة أنّ الحق مع فلان ، والحق على فلان ، وهذا أحق بالخلافة ، لا ، بل هذا أحق منه بها ، لقد مضى كلٌّ مِن هذا وذاك .
 يا أخي تلك قضية قديمة ، ولدينا الآن هدف واضح ، وعندنا منهج ، فهذه الآية تغطي التاريخ كله .

﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾

[سورة البقرة : 134]

 إنَّ كل إنسان له عند الله مكانة ، لمعرفته وإخلاصه وعلمه واستقامته ، فلا يرفعه مدحنا ، ولا يخفضه ذمنا ، فلا مدحنا ينفعه ، ولا ذمنا يضره بعد أنْ غدا إلى ربه ، وأصبح في ذمته ، إذاً نحن نريح أنفسنا ، ونريح الآخرين من كل قضية تاريخية سابقة ، فلم تعُد تقدم ولا تؤخر .

﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾

[سورة البقرة : 134]

تحميل النص

إخفاء الصور