وضع داكن
28-03-2024
Logo
الخطب الإذاعية - الخطبة : 62 - ذكرى مولد الرسول عليه الصلاة والسلام وتزكية الذبيحة - الحكمة الربانية من الأحداث الأخيرة .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الخــطــبـة الأولــى:

 الحمد لله رب العالمين، يا رب اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، واقبل توبتنا، وأصلح قلوبنا، وارحم ضعفنا، وتولَّ أمرنا، استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، آمنا في أوطاننا، انصرنا على أعدائك وأعدائنا، بلغنا مما يرضيك آمالنا، واختم بالصالحات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له غنى كل فقير، وعز كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، فحاشا يا رب أن نفتقر في غناك، وأن نضل في هداك، وأن نذل في عزك، وأن نضام في سلطانك، فما من مخلوق يعتصم بك من دون خلقك فتكيده أهل السماوات والأرض إلا جعلت له من بين ذلك مخرجاً، وما من مخلوق يعتصم بمخلوق دونك إلا جعلت الأرض هوياً تحت قدميه، وقطعت أسباب السماء بين يديه، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهد في الله حق الجهاد، وهدى العباد إلى سبيل الرشاد. اللهم صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارض عنا وعنهم يا رب العالمين.
 عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله وأحثكم على طاعته وأستفتح بالذي هو خير.

موقف أحد خصوم النبي محمد صلى الله عليه و سلم منه قديماً:

 أيها الأخوة المؤمنون في دنيا العروبة والإسلام، في ذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبغي أن نعرفه، أو أن نزداد معرفة به، لأن معرفته جزء من الدين، فقد قال الله تعالى:

﴿ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ(69) ﴾

( سورة المؤمنون )

 أيها الأخوة الكرام، سيكون محور هذه الخطبة الأولى ما قاله فيه خصومه قديماً وحديثاً، وقد قيل: " والفضل ما شهدت به الأعداء "، فهذا النضر بن الحارث، وقد كان من سادة قريش، وكان من أكبر المعارضين للنبي صلى الله عليه وسلم، ألقى يوماً خطاباً في جمع من قريش، وقال: " يا معشر قريش، إنه واللهِ قد نزل بكم أمر ما أتيتم به بحيلة بعد، كان محمد فيكم غلاماً حدثاً، أرضاكم خلقاً، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، وجاء بما جاءكم به قلتم: ساحر، لا، واللهِ ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة وعقدهم، وقلتم: كاهن، لا، واللهِ ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهنة وتخالجهم، وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر، لا، واللهِ ما هو بشاعر، لقد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلها، هزجه ورجزه، وقلتم: مجنون، لا، واللهِ ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقة، ولا وسوسة، ولا تخليطة، يا معشر قريش، فانظروا في شأنكم، فإنه واللهِ قد نزل بكم أمر عظيم.

موقف هرقل من النبي محمد صلى الله عليه وسلم:

 ولنسمع أيها الأخوة إلى حوار جرى بين هرقل ملك الروم وبعض زعماء قريش من المعارضين للنبي عليه الصلاة والسلام، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ:

((أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تِجَاراً بِالشَّأْمِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ، فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ، وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ، وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَباً بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَباً، فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي، وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ، فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ: إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ، فَوَ اللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِباً لَكَذَبْتُ عَنْهُ، ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ ؟ قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ، قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ ؟ فَقُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ، قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لَا، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا، قَالَ: وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئاً غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ ؟ قُلْتُ: الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ، يَنَالُ مِنَّا، وَنَنَالُ مِنْهُ، قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ ؟ قُلْتُ: يَقُولُ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّدْقِ، وَالْعَفَافِ، وَالصِّلَةِ، فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ: سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ: رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، قُلْتُ: فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ، وَسَأَلْتُكَ: أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَسَأَلْتُكَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الْإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ، وَسَأَلْتُكَ: أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَغْدِرُ ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ، وَسَأَلْتُكَ: بِمَ يَأْمُرُكُمْ ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ، وَالصِّدْقِ، وَالْعَفَافِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقّاً فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ، ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ فَقَرَأَهُ، فَإِذَا فِيهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ، }وَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لَا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ{، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ، وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ، وَارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ، وَأُخْرِجْنَا، فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ، فَمَا زِلْتُ مُوقِناً أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ، وَكَانَ ابْنُ النَّاظُورِ صَاحِبُ إِيلِيَاءَ، وَهِرَقْلَ سُقُفّاً عَلَى نَصَارَى الشَّأْمِ، يُحَدِّثُ أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ أَصْبَحَ يَوْماً خَبِيثَ النَّفْسِ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ: قَدْ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ، قَالَ ابْنُ النَّاظُورِ: وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً، يَنْظُرُ فِي النُّجُومِ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ: إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِي النُّجُومِ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ، فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ ؟ قَالُوا: لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلَّا الْيَهُودُ، فَلَا يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ، وَاكْتُبْ إِلَى مَدَايِنِ مُلْكِكَ فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنْ الْيَهُودِ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ أُتِيَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ: اذْهَبُوا، فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لَا، فَنَظَرُوا إِلَيْهِ فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ، وَسَأَلَهُ عَنْ الْعَرَبِ فَقَالَ: هُمْ يَخْتَتِنُونَ، فَقَالَ هِرَقْلُ: هَذَا مُلْكُ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ، ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ، وَكَانَ نَظِيرَهُ فِي الْعِلْمِ، وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْيَ هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ نَبِيٌّ، فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِي دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا، فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ هَلْ لَكُمْ فِي الْفَلَاحِ وَالرُّشْدِ، وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ، فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ، فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الْأَبْوَابِ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ، وَأَيِسَ مِنْ الْإِيمَانِ، قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ، وَقَالَ: إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفاً أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ، فَسَجَدُوا لَهُ، وَرَضُوا عَنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ))

[البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ]

 أيها الأخوة الأحباب، كلمة أقولها: لو أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهموا الإسلام كما يفهمه عامة المسلمين اليوم ما خرج الإسلام من مكة:

 

((فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقّاً فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ))

 

[البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ]

أقوال في النبي محمد لكُتَّاب وباحثين غربيين:

 أيها الأخوة الكرام، يقول أحد كتاب السيرة الغربيين: كان محمد عابداً متحنثاً، وقائداً فذاً، شيد أمة من الفتات المتناثر، وكان رجل حرب يضع الخطط، ويقود الجيوش، وكان أباً عطوفاً، وزوجاً تحققت فيه المودة والرحمة والسكن، وكان صديقاً حميماً، وقريباً كريماً، وجاراً تشغله هموم جيرانه، وحاكماً تملأ نفسه مشاعر محكوميه، يمنحهم من مودته وعطفه ما يجعلهم يفتدونه بأنفسهم، ومع هذا كله فهو قائم على أعظم دعوة شهدتها الأرض، الدعوة التي حققت للإنسان وجوده الكامل، وتغلغلت في كيانه كله، ورأى الناس الرسول الكريم تتمثل فيه هذه الصفات الكريمة فصدقوا تلك المبادئ التي جاء بها كلها، ورأوها متمثلة فيه، ولم يقرؤوها في كتاب جامد، بل رأوها في بشر متحرك، فتحركت لها نفوسهم، وهفت لها مشاعرهم، وحاولوا أن يقتبسوا قبسات من الرسول الكريم كل بقدر ما يطيق، فكان أكبر قدوة للبشرية في تاريخها الطويل، وكان هادياً ومربياً بسلوكه الشخصي، قبل أن يكون بالكلم الطيب الذي ينطق به.
 يقول الباحث البريطاني كارييل: إن التشكيك في صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ودينه يعد اليوم عاراً كبيراً، وإن علينا الرد على مثل هذه الآراء غير الصحيحة، والأقوال التي لا معنى لها، فعلى الرغم من مرور القرون على بعثة هذا النبي ما يزال مئات الملايين من المسلمين في العالم يستضيؤون بنور الرسالة.
 ويقول أستاذ جامعي أميركي: لقد أدرك محمد صلى الله عليه و سلم ـ نصلي عليه طبعاً ـ أهمية الاتحاد وعلو منزلة المجتمع الموحد في بعثته الإسلامية، وبذلك زرع بيديه بذور الاتحاد والمودة في نفوس المسلمين، وسقاها وتعهدها بالرعاية حتى أعطت ثماراً حلوة المذاق.
ويقول ميلر الكاتب البريطاني المعروف: إن بعض الشرائع تهتم بالجوانب الروحية من حياة البشر، وليس لديها في تعاليمها أي اهتمام بالأمور السياسية والقانونية والاجتماعية، ولكن محمداً ببعثته وأمانته الإلهية كان نبياً، وكان رجل دولة، ومقنناً، أي واضعاً للقوانين، وقد اشتملت شريعته على أحكام وقوانين مدنية وسياسية واجتماعية.
 ويقول الكاتب والباحث الغربي ريتين: منذ بزوغ بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وسطوع شمس الإسلام أثبت هذا النبي أن دعوته موجهة للعالمين، وإن هذا الدين المقدس يناسب كل عصر، وكل عنصر، وكل قومية، وأن أبناء البشر في كل مكان، وفي ظل أيّ حضارة لا غنى لهم عن هذا الدين الذي تنسجم تعاليمه مع الفكر الإنساني.
 ويقول المسيو جان الكاتب والعالم السويسري المعاصر: لو أمعنا النظر في أسلوب حياة محمد صلى الله عليه وسلم وأخلاقه على الرغم من مرور أربعة عشر قرناً على بعثته لتمكنا من فهم كنه العلاقة التي تشد ملايين الناس في العالم لهذا الرجل العظيم، والتي جعلتهم وتجعلهم يضحون من أجله، ومن أجل مبادئه الإسلامية السامية بالغالي والرخيص.

سيدنا محمد كما يراه المفكرون في الغرب:

 أما الفيلسوف الروسي تولستوي الذي أعجب بالإسلام وتعاليمه في الزهد والأخلاق والتصوف فقد انبهر بشخصية النبي صلى الله عليه وسلم، وظهر ذلك واضحاً على أعماله فيقول في مقالة له بعنوان: "مَن هو محمد ؟": إن محمداً e هو مؤسس ورسول، وكان من عظماء الرجال الذين خدموا المجتمع الإنساني خدمة جليلة، ويكفيه فخراً أنه هدى أمة برمتها إلى نور الحق، وجعلها تجنح إلى السكينة والسلام، وتؤثر عيشة الزهد، ومنعها من سفك الدماء، وتقديم الضحايا البشرية، وفتح لها طريق الرقي والمدنية، وهو عمل عظيم لا يقدم عليه إلا شخص أوتي قوة، ورجل مثله جدير بالاحترام والإجلال.
 ويقول عنه أيضاً: ليس هناك من شك في أن محمداً صلى الله عليه وسلم قدم ببعثته خدمة كبيرة للبشرية فهي فخر وهدى للناس، وهي التي أرست دعائم الصلح والاستقرار والرخاء، وفتحت طريق الحضارة والرقي للأجيال، وبديهي أن ما فعله محمد صلى الله عليه وسلم عمل عظيم لا يفعله إلا شخص مقتدر ذو عزم رصين، ومثل هذا الشخص وبلا شك يستحق كل إكرام وتقدير واحترام.
 ويقول مفكر آخر رفع لواء أنه لا إله يقول: الحقيقة أن محمداً قد جاء برسالة لا يمكن إنكارها، وهي خلاصة الرسالات السابقة، بل وتعلو عليها، بناء على هذا فإن رسالته للعالم دستور ثابت، وما جاء به محمد وأقواله تنسجم وذوق البشر، وإدراك بني الإنسان في هذا العصر.
 وكم هو جميل ما قاله العالم الإيطالي واكستون قال: لو سألني أحدهم فقال: من هو محمد الذي تمدحه كل هذا المديح ؟ لقلت له بكل أدب واحترام: إن هذا الرجل المشهور، وإن هذا القائد الذي لا نظير له وعلاوة على كونه مبعوثاً من الله هو رئيس حكومة إسلامية كانت ملجأ وملاذاً لكل المستضعفين والمسلمين، وحامية لمصالحهم الاجتماعية، فإن محمداً الذي يعد باني ومؤسس تلك الحكومة كان قائداً سياسياً بكل ما لهذه الكلمة من معنى.

سيدنا محمد كأعظم شخصية عرفها التاريخ بشهادة مؤرخين وكُتّاب غربيين:

 ويقول الكاتب الفرنسي كورسيه: عندما نهض محمد بدعوته، وقبل وبعد انطلاق بعثته كان شاباً شجاعاً شهماً، يحمل أفكاراً تسمو على ما كان سائداً من أفكار في مجتمعه، وقد تمكن محمد صلى الله عيه وسلم بسمو أخلاقه من هداية عرب الجاهلية المتعصبين الذين كانوا يعبدون الأصنام إلى عبادة الله الواحد الأحد، وفي ظل حكومته الديمقراطية الموحدة تمكن من القضاء على كل أشكال الفوضى والاختلاف والاقتتال التي كانت شائعة في جزيرة العرب، وأرسى بدل ذلك أسس الأخلاق الحميدة محولاً المجتمع العربي الجاهلي المتوحش إلى مجتمع راق ومتحضر.
 وهذا المؤرخ الأوربي جيمس يقول في مقال تحت عنوان " الشخصية الخارقة " عن النبي صلى الله عليه وسلم: وقد أحدث محمد عليه السلام بشخصيته الخارقة للعادة ثورة في الجزيرة العربية، وفي الشرق كله، فقد حطم الأصنام بيده، وأقام ديناً خالداً يدعو إلى الإيمان بالله وحده.
 ويقول الفيلسوف الفرنسي كارديفو: إن محمداً e كان هو النبي الملهم والمؤمن، ولم يستطع أحد أن ينازعه المكانة العالية التي كان عليها، إن شعور المساواة والإخاء الذي أسسه محمد e بين أعضاء الكتلة الإسلامية كان يطبق عملياً حتى على النبي e نفسه.
ويقول الفيلسوف البريطاني توماس كاريل، وقد خصص من كتابه فصلاً لنبي الإسلام بعنوان: " البطل في صورة رسول "، عدّ فيه النبي صلى الله عليه وسلم واحداً من العظماء السبعة الذين أنجبهم التاريخ، وقد ردّ هذا المؤلف مزاعم المتعصبين فقال: يزعم المتعصبون أن محمداً لم يكن يريد بقيامه إلا الشهرة الشخصية ومفاخر الجاه والسلطان، كلا والله، لقد كان في فؤاد ذلك الرجل الكبير ابن القفار والفلوات، المتورد المقلتين، العظيم النفس، المملوء رحمة وخيراً وحناناً وبراً وحكمة وحجىً وإربة ونهياً وأفكاراً غير الطمع الدنيوي ونوايا خلاف طلب السلطة والجاه، كيف لا، وتلك نفس صامتة، ورجل من الذين لا يمكنهم إلا أن يكونوا مخلصين جادين.
 ويقول مؤلف كتاب المئة الأوائل في تاريخ البشرية، وقد وضع محمد بن عبد الله على رأس المئة الأوائل في التاريخ البشري: هو الإنسان الأول من بين المئة الأوائل في تاريخ البشرية كلها من حيث قوة التأثير، ومن حيث نوع التأثير، ومن حيث امتداد أمد التأثير، ومن حيث اتساع رقعة التأثير.

جانب من شخصية النبي العظيم كما وصفه كتَّاب السيرة من المسلمين:

 ويقول كتاب السيرة من المسلمين يصفون شخصية النبي e التعاملية، أي يصفون جانباً من شخصيته: " لقد كان صلى الله عليه وسلم جمّ التواضع، وافر الأدب، يبدأ الناس بالسلام، ينصرف بكله إلى محدثه صغيراً كان أو كبيراً، يكون آخر من يسحب يده إذا صافح، وإذا تصدق وضع الصدقة بيده في يد المسكين، وإذا جلس جَلس حيث ينتهي به المجلس، لم يُرَ ماداً رجليه قط، ولم يكن يأنف من عمل لقضاء حاجته أو حاجة صاحب أو جار، وكان يذهب إلى السوق، ويحمل بضاعته، ويقول: أنا أولى بحملها، وكان يجيب دعوة الحر والعبد والمسكين، ويقبل عذر المعتذر، وكان يرفو ثوبه، ويخسف نعله، ويخدم نفسه، ويعقل بعيره، ويكنس داره، وكان في مهنة أهله، وكان يأكل مع الخادم، ويقضي حاجة الضعيف والبائس، يمشي هوناً، خافض الطرف، متواصل الأحزان، دائم الفكر، لا ينطق من غير حاجة، طويل السكوت، إذا تكلم تَكلم بجوامع الكلم، وكان دمثاً، ليس بالجاحد ولا المهين، يعظم النعم وإن دقت، ولا يذم منها شيئاً، ولا يذم مذاقاً، ولا يمدحه، ولا تغضبه الدنيا، ولا ما كان لها، ولا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها، إذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض بصره، وكان يؤلف ولا يفرق، يقرِّب ولا ينفر، يكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم، يتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، يحسن الحسن ويصوبه، ويقبح القبيح ويوهنه، ولا يقصر عن حق ولا يجاوزه، ولا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه، من سأله حاجة لم يرده إلا بها، أو ما يسره من القول، كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب ولا فحاش، ولا عياب ولا مزاح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يخيب فيه مؤمله، كان لا يذم أحداً، ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجى ثوابه، يضحك مما يضحك منه أصحابه، ويتعجب مما يتعجبون، ويصبر على الغريب وعلى جفوته في مسألته ومنطقه، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوزه"، والحديث عن شمائله صلى الله عليه وسلم حديث يطول لا تتسع له المجلدات ولا خطب في سنوات، ولكن الله جل في علاه لخصها بكلمات فقال:

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾

( سورة القلم )

وأجـمل منك لم ترَ قط عين  و أكمل منك لم تلد النساء
خلقت مبرءاً من كل عـيب  كأنـك قد خلقت كما تشاء
* * *
و أسـدت للبرية بنت وهب  يداً بيضاء طوقت الرقاب
لقد وضــعته وهاجاً منيراً  كما تلد السماوات الشهاب
* * *

تذكية الذبيحة:

 الموضوع العلمي: تذكية الذبيحة.
 أيها الأخوة الأحباب، من دلائل نبوة النبي هذا الموضوع العلمي: تذكية الذبيحة، وبحسب توجيه النبي صلى الله عليه وسلم هي الذبح بطريقة معينة، ويتم ذلك بقطع الوريد الرئيسي فقط، وأن يمتنع الذابح عن قطع الرأس بالكامل، ولم يكن في محيط النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في الجزيرة العربية، ولا في مراكز الحضارات شرقاً وغرباً من معطيات علمية تسمح بتعليل ذلك التوجيه، بل ولا في العصور التي تلت عصره صلى الله عليه وسلم، إلى أن اكتُشِف أخيراً قبل بضعة عقود من الزمن أن القلب ـ قلب الإنسان وقلب الذبيحة ـ ينبض بتنبيه ذاتي يأتيه من مركز كهربائي في القلب، ومع هذا المركز الأول مركزان كهربائيان احتياطيان لهذا المركز، يعمل الثاني عند تعطل الأول، ويعمل الثالث عند تعطل الثاني، ولكن هذا التنبيه الذاتي الذي يأتي من القلب يعطي النبض الطبيعي ثمانين نبضة مثلاً ليس غير، أما حينما يواجه الكائن خطراً، ويحتاج إلى مئة وثمانين نبضة في الدقيقة لتسرع الدم في الأوعية، وليرتفع الجهد العضلي بزيادة إمداده بالدم فلا بد عندئذ من أن يأتي أمر استثنائي كهربائي هرموني من الغدة النخامية في الدماغ إلى الكظر، ثم إلى القلب، وهذا يقتضي أن يبقى رأس الدابة متصلاً بجسمها حتى يُفَعل الأمر الاستثنائي برفع النبض.

تذكية الذبيحة بخروج الدم منها ولا يتم ذلك إلا إذا بقي الرأس متصلاً بالذبيحة:

 أيها الأخوة الأحباب، إن نبضات القلب الاستثنائية بعد الذبح من خلال وجود علاقة بين المخ والقلب تدفع الدم كله إلى خارج الجسم فيصير الحيوان المذبوح طاهراً وردي اللون، ومعلوم أن مهمة القلب عند ذبح الحيوان هي إخراج الدم كله من جسم الدابة، والنبض الطبيعي لا يكفي لإخراج الدم كله من جسم الذبيحة، فإذا قطع رأس الذبيحة بالكامل حرم القلب من التنبيه الاستثنائي الكهربائي الهرموني الذي يسهم في إخراج الدم كله من الذبيحة، عندئذ يبقى دم الدابة فيها، ولا يخفى ما في ذلك من أذى يصيب آكلي هذه الذبيحة، فإذا بقي دم الدابة فيها كان خطراً على صحة الإنسان، لأن الدم في أثناء حياة الدابة يصفى عن طريق الرئتين والكليتين والتعرق، أما بعد الذبح فيصبح الدم بيئة صالحة لنمو الجراثيم الفتاكة حيث تسري الحموض السامة التي تؤذي الإنسان بسبب وجودها في جسم الحيوان، وبهذا يتسمم اللحم كله، وبوجود حمض البول في الدم، وبوجود الدم في اللحم يسري هذا كله إلى آكل هذه الذبيحة، فإذا أكل الإنسان هذا اللحم يعاني من آلام في المفاصل، لأن حمض البول يترسب في تلك المفاصل، لذلك فتذكية الذبيحة تطهيرها بخروج الدم منها، ولا يخرج الدم كله من الذبيحة إلا إذا بقي الرأس متصلاً بالذبيحة.
 أيها الأخوة، من أنبأ النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الحقائق التي اكتشفت قبل حين حيث أمر أصحابه بقطع أوداج الدابة دون قطع رأسها كما تفعل معظم المسالخ في العالم غير الإسلامي ؟ إن هذا الحديث الشريف من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم.
أيها الأخوة الكرام، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.

***

الخــطــبـة الثانية:

 الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحكمة الربانية في الأحداث الأخيرة:

 أخوتي المؤمنين، أعزائي المستمعين، إلى الموضوع الساخن والضاغط، من السهل جداً أيها الأخوة أن نعاين السلبيات، وما أكثرها في الأحداث الأخيرة، ولكن ليس من السهل ولا متاحاً لكل إنسان أن يكتشف الإيجابيات فيها، لأنها تحتاج إلى بعد نظر، وإلى قوة بصيرة، وهذا ليس متاحاً لمعظم الناس، يضاف إلى ذلك أنه من منطلق العقيدة الإسلامية الصحيحة أن كل شيء وقع أراده الله، بمعنى أنه سمح به فقط، فلا يقبل، ولا يعقل أن يقع في ملك الله ما لا يريد، وأن كل شيء أراده الله وقع، فهو فعال لما يريد، وأن إرادته متعلقة بالحكمة المطلقة، لأن كمال الله مطلق، وحكمته المطلقة متعلقة بالخير المطلق، قال تعالى:

﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ﴾

( سورة آل عمران الآية: 26 )

 يضاف إلى ذلك أن لكل واقع حكمة، ولو كان الموقع غير حكيم، لأن الله جلت حكمته يوظف الشر الذي تنضح به نفوس المعرضين بالخير المطلق، ولأن الشر المطلق لا وجود له في الكون، بل هو يتناقض مع وجود الله، قال تعالى:

﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِف طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾

( سورة القصص )

 دققوا:

﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) ﴾

( سورة القصص )

 يوظف الشر الذي تنضح به نفوس المعرضين للخير المطلق، وبناء على هذا سنحاول تلمس الحكمة الربانية في الأحداث الأخيرة منطلقين من قوله تعالى:

﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً(19) ﴾

( سورة النساء)

في الأحداث الأخيرة سقطت مبادئ القوم وسقطت شعاراتهم:

 أيها الأخوة الأحباب، من الحقائق المرة التي هي أفضل ألف مرة من الوهم المريح أن هناك خسائر لحقت وتلحق بالمسلمين من خلال الأحداث الأخيرة، وثمة مكاسب للطرف الآخر حققها، وقد يحقق غيرها، ولكن السؤال المطروح: كيف نتلمس المكاسب تحت ركام الخسائر ؟ وما من شك أن لكل معركة خسائر ظاهرة ومكاسب خفية، والمتأمل في التاريخ يرى صوراً للنصر انبثقت من حطام المأساة، إذاً تفاءلوا، وكان عليه الصلاة والسلام يحب التفاؤل.
 أيها الأخوة الكرام، في الأحداث الأخيرة سقطت مبادئ القوم وسقطت شعاراتهم، وأخفقت مؤسساتهم وهيئاتهم، فالحرية والديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان وما شابهها باتت مصطلحات محنطة من مخلفات الماضي، وكادت هذه القيم الغربية البراقة تصرف النفوس عن قيم الدين الأصيلة، وتخطف الأبصار عن مضامين وحي السماء، فلما سقطت مبادئ القوم وقيمهم لم يبق في ساحة القيم إلا قيم الدين، ولم يبق من خلق إلا خلق أهل الإيمان، كما أن الأحداث الأخيرة وسعت دائرة المقت للغرب البعيد ولمبادئه ولحضارته، وكثرت من سواد الرافضين لأفكاره ومبادراته، وأن كثيراً من المفاهيم والأنماط والسلوكيات الاجتماعية سيعاد النظر فيها، أعني تلك التي صُدِّرت لنا من الغرب على مستوى الرجل والمرأة، وعلى مستوى الأسرة والعلاقات والنشاطات، فالمقت للغرب البعيد سيسري على مقت صادراتهم الفكرية وأنماط حياتهم الاجتماعية، ولا مجال اليوم ولا غداً لمن كانوا ينظرون للغرب عامة على أنه قبلة الفكر ونموذج القيم، فقد كشفت حقيقة القوم، وآن الأوان للمسلمين أن يعتزوا بقيمهم الإسلامية وأنماط حياتهم الاجتماعية.
 وأما الآلة العسكرية فليست كما يقولون لحفظ العدل والسلام، بل للتدمير والاحتلال، ولا تفرق بين مدني وعسكري، وأن الآلة الإعلامية تلبست بالكذب والتزوير والاستخفاف بالعقول.

أنواع الجهاد:

 اتضح للمسلمين من خلال الأحداث الأخيرة أن الجهاد بمضامينه الشمولية والعميقة لا يمكن أن يكون ردّ فعل مرتجل على خطر طارئ، إنما هو سلوك مستمر لكل أفراد الأمة بصرف النظر عن الظروف المحيطة.

1ـ جهاد النفس والهوى:

 الجهاد الأساسي هو جهاد النفس والهوى ذلك أن المهزوم أمام شهواته وأمام حظوظه لا يمكن أن يقاوم عدواً، أخذاً بقوله تعالى:

﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾

( سورة الرعد الآية: 11 )

 ما لم تكن مشاريع التغيير منطلقة من داخل النفس فإنها لا تنجح إطلاقاً.

 

2ـ الجهاد الدعوي:

 الجهاد الثاني الجهاد الدعوي، ذلك أن الإنسان الذي لا يعلم من هو، ولا يعلم سر وجوده، ولا غاية وجوده، ولا يعرف ربه، ولا يعلم مراده منه، ولا يعلم حقيقة الحياة الدنيا الفانية، ولا عظم الآخرة الباقية، مثل هذا الإنسان لا يمكن أن يقاوم عدواً، أخذاً بقوله تعالى:

 

﴿ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً ﴾

( سورة الفرقان )

 قال ابن عباس رضي الله عنهما: " وجاهدهم به أي بالقرآن "، فالجهاد الكبير إنما هو الدعوة، والبيان بالحجة والبرهان، وأعظم حجة وبيان هو هذا القرآن، إنه حجة الله على خلقه، ومعه تفسيره وبيانه الذي هو السنة.

 

3ـ الجهاد البنائي:

 الجهاد الثالث: هو الجهاد البنائي، وهو أن كل مسلم في موقعه عليه أن يطور علمه وخبرته، وأن يتقن عمله ويحسنه، وأن يضع إنجازه هذا في خدمة المسلمين، فإذا كانت الأمة الإسلامية بحاجة إلى واحد يموت من أجلها هي في أمسّ الحاجة إلى ألف إنسان يعيش من أجلها، أخذاً بقوله تعالى:

 

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾

( سورة الأنفال الآية: 60 )

 فالمؤمنون بمجموعهم مأمورون بإعداد العدة ليواجهوا بها قوى البغي والعدوان، فكلمة ما استطعتم تعني استنفاذ الجهد، لا بذل بعض الجهد، والقوة التي ينبغي أن يعدّها المؤمنون جاءت منكرة تنكير شمول، ليكون الإعداد شاملاً لكل القوى التي يحتاجها المؤمنون في مواجهة أعدائهم من قوة في العَدد، وقوة في العُدد، وقوة في التدريب، وقوة في التخطيط، وقوة في الإمداد، وقوة في التموين، وقوة في الاتصالات، وقوة في المعلومات، وقوة في تحديد الأهداف، وقوة في دقة الرمي، وقوة في الإعلام، بل إن كلمة من التي سبقت القوة جاءت لاستغراق أنواع القوة واحدة إثر واحدة.

 

4ـ الجهاد القتالي:

 لقد أفادت استقصاء أنواع القوى لا اصطفاء بعضها، وكلمة من رباط الخيل جاءت عطفاً للخاص المألوف وقت نزول القرآن على العام الذي يستغرق كل الأزمان والبيئات والتطورات والتحديات، وهذا الإعداد يحقق أهم أهدافه، ولو لم تقع المواجهة مع العدو، إنها رهبة القوي تقذف في قلوب أعدائه، لقوله تعالى:

 

﴿ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾

 . هذا فضلاً عن البناء العلمي والاقتصادي والاجتماعي، وهذا كله مما يعنيه الجهاد البنائي، إذا تحقق جهاد النفس والهوى، وتحقق الجهاد الدعوي، وتحقق الجهاد البنائي، وكان جهداً يومياً مستمراً، وجهداً واعياً مخلصاً، عندئذ وبعد تحقق هذه الشروط الثلاثة ينتظر أن ينجح الجهاد القتالي.

التعاون والمشاورة الجماعية من سمات المسلمين ومن خصائص دينهم:

 أيها الأخوة الكرام، من المكاسب الخفية في الأحداث الأخيرة تقاربنا ووحدتنا، ولاشك أن المسلمين يعيشون حالة من الفرقة لا يحسدون عليها، ولكن الأحداث إذا ما استثمرت توحد كلمتهم، وتجمع شملهم، فالخطر يحيط بهم جميعاً، والمخطط يستهدفهم جميعاً، وفرقتهم وتناقضهم أمضى سلاح يلعب به أعداؤها الصهاينة، وحينما تجتمع أو تتقارب تبدأ في السير على الطريق الصحيح لمقارعة أعدائها، ولاشك أن عاطفة المسلم في المشرق حينما تلتقي مع عاطفة المسلم في المغرب شيء عظيم، وهذا ما بدأنا نلمسه في هذه الأحداث الأخيرة، والمؤمل أن تتنامى هذه المشاعر وأن تستثمر.
 ومن المكاسب الخفية للأحداث الأخيرة التفكير الجماعي والمشورة، والتفكير للخروج من الأزمة غانمين، وليس مجرد سالمين، هذه إيجابية طالما غفل عنها المسلمون، إذ اعتادوا على التفكير الأحادي والمشاريع الفردية، وهذه مع أهميتها لا بد من أن تكون جماعية، فقد قال الله عز وجل:

﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾

( سورة المائدة الآية: 2 )

 والتعاون والمشاورة الجماعية من سمات المسلمين ومن خصائص دينهم.
 أيها الأخوة الكرام، لقد كان لهذه الأزمات أثر في تحريكها وتقريب وجهات النظر، والمأمول أن تزيد هذه الإيجابية، وأن تستثمر، وأن يتم التعاون على الخير والمشورة لصالح الإسلام وقضايا المسلمين.

من مكاسب المسلمين:

 ومن مكاسب المسلمين من خلال هذه الأحداث الأخيرة أنها أحيت في نفوسهم مشاعر العزة بالإسلام، فقد كانت الضربة من القسوة بحيث أيقظت نيام المسلمين، وأذكت مشاعر الغافلين، وبات المسلمون في شتى أقطارهم يشعرون بأنهم وحدهم الهدف الحاضر والمستقبل، وتجددت مفاهيم الولاء والبراء عند المسلمين، وأحسَّ المفرطون من المسلمين بحاجتهم إلى التوبة والعودة إلى الدين، ولقد كان صلف القوم سبباً في إشعال هذا الفتيل.
 ومن مكاسب المسلمين في الأحداث الأخيرة أن الفرصة مواتية للدعوة إلى الدين الحق، وكشف محاولة الأعداء لتشويه صورة الإسلام، ونبي الإسلام، وبلاد المسلمين، والفرصة مناسبة لدعوة المسلمين للتمسك بدينهم، فقد باتت الآذان مهيأة لسماع هذا أكثر من أي وقت مضى، فهل يستثمر المسلمون عامة والدعاة والعلماء والمفكرون خاصة هذه الفرصة المواتية للدعوة ؟
 إن الدعوة إلى الدين الحق دعوة إلى الثوابت، وقد أشار إلى هذا السيد الرئيس في مؤتمر القمة الذي عقد مؤخراً في بيروت فقال: طالب بعضهم بالتنازل عن بعض الحقوق بحجة استيعاب العاصفة، وكان البعض يعتقد بأنه بذلك ينحني للعاصفة، لكنهم لم يفرقوا بين الانحناء للعاصفة واقتلاع الجذور من الأرض، حتى قبل أن تأتي العاصفة، عندما تقتلع الأمة من جذورها، فأي ريح خفيفة سوف تأخذها إلى المجهول ؟ عندما تكون هناك عواصف نحن بحاجة أكثر إلى التمسك بالثوابت والمبادئ التي هي جذورنا، فالعاصفة مهما استمرت سوف تنتهي، وعندما نحاول الوقوف بعد غياب العاصفة، ولن نستطيع الوقوف إن لم تكن لنا جذور، وبالتالي عندما تكون هناك عواصف فيجب أن نتمسك أكثر بالثوابت، فالعواصف تأتي وتذهب أما الثوابت إذا ذهبت فلن تعود، عدا عن أن هذه العواصف متبدلة بتبدل المصالح "، انتهى قول كلام السيد الرئيس.

جزئية النظر ومحدودية الفهم للدين من أشد آفات المسلمين فتكاً بهم:

 إن من أشد آفات المسلمين فتكاً بهم جزئية النظر ومحدودية الفهم للدين، كل أخذ جانباً واستغرق فيه حتى صار لا يرى غيره، وأصيب بالعمى عن رؤية غير ما هو فيه، وقد يستفحل هذا الداء فلا يرى هؤلاء في الميدان أحداً غيرهم، يتصرفون حينئذ على أنهم الذين يمثلون وحدهم المسلمين، وأنهم وحدهم الذين يحملون الراية، وعلى الآخرين أن يتبعوهم، وينقادوا إليهم، ومن أسباب هذا الداء الانغلاق على النفس والجهل بواقع المجتمع، وبواقع المسلمين، والجهل بما عند الآخرين، وعدم التواصل، والتحاور معهم.
 أيها الأخوة الكرام، أوجِّه الخطاب لكل مسلم: أنت أيها المسلم مدعو للمساهمة في استثمار هذه الأزمة، فماذا قدمت ؟ هل ساهمت بكلمة طيبة ؟ هل تقدمت بمقترح مفيد ؟ هل فكرت في مشروع نافع للأمة ؟ هل أعنت ملهوفاً ؟ هل دعوت من قلب مخلص لمكروب؟ أي نوع من المساهمة قدمت لنفسك ولأمتك ؟ هل تصدق أو يصح أن تقول: لا أستطيع عمل شيء، هل ترضى أن تكون رقماً هامشياً في أمتك ؟ هل يكفيك أن تدير موجات المذياع بحثاً عن آخر الأخبار، ثم ماذا ؟ أو تنظر بسلبية إلى المشاهد الدامية عن أخوانك المؤمنين، وهم يقتلون، وتحتل أرضهم ؟ إنها دعوة إلى المساهمة:

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا (46) ﴾

( سورة فصلت)

 والإسلام مسؤوليتنا جميعاً، وكيد الأعداء يستهدفنا جميعاً، وحقوق المسلمين علينا جميعاً.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور