وضع داكن
25-04-2024
Logo
الإيمان هو الخلق - مقومات التكليف - الندوة : 47 - الاختيار - الاختيار ذاتي وليس قسراً ـ الرحمة والحنان عند الطيور
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الأستاذ علاء :

مقدمة وترحيب :

أيها السادة المشاهدون ، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من برنامجكم : الإيمان هو الخلق ، يسعدنا أن نكون بمعية فضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين بدمشق .
سيدي الأستاذ ، سلام الله عليك .
عليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته .
كنا قد بدأنا في الحلقة الماضية وقبلها موضوعاً ، وهو مقوّم من مقومات التكليف ، موضوع الاختيار ، عرفنا الاختيار ، وكيف أن الإنسان مخير في أفعاله ، وفي تصرفاته وفيما كلف به ، هو مخير في المهمة التي كلف بها هو مخير ، وكيف أن الإرادة له والمشيئة له في أن يمشي هذا الطريق ، أو يمتنع عنه ، ويمشي الآخر أو يمتنع عنه .
وتبينا بأن الاختيار يقتضي الحساب ، ويقتضي النتيجة ، مثوبة أو عقاباً ، وتبينا أن الاختيار يثمن العمل ، ويرفع من قيمة العمل ، وإلا لو فرض العمل على الإنسان بشكل جمعي لما كان له قيمة أو ثمن ، وإنما كان يؤدي هذا العمل بشكل تلقائي .
نصل إلى نقطة سيدي الكريم في مسألة الدين ، هل الإنسان يختار الدين ؟ هل الإنسان له الأحقية في أن يختار الهداية ؟ أو ألا يختار ؟ هل هناك إكراه في الدين ؟ أو إلزام وجذب إلى هذا الجانب أو إلى ذلك الجانب ؟ ماذا عن هذه المسألة سيدي .
الدكتور راتب :

الأصلُ أنّه : لا إكراه في الدين :


بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أستاذ علاء جزاك الله خيراً ، الأصل أن العقيدة نستقيها من كتاب الله ، وفي آية واضحة جليلة قطعية الدلالة يقول الله عز وجل :

﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾

( سورة البقرة الآية : 256 )

هذا الذي يقول وهو لا يفقه ما يقول : إن الدين انتشر بحد السيف ، قلب الإنسان كالصندوق الحديدي ، لا يمكن أن يفتح بسيف ، ولا ببندقية ، ولا بصاروخ ، ولا بقنبلة نووية ولا بطائرة ، لا يفتح إلا بالحق ، يفتح بالرحمة ، يفتح بالعدل ، يفتح بالحب ، فالإنسان مغلق بإمكانه أن ينافق ، بإمكانه أن يمثل ، بإمكانه أن يداري ، أما أن يؤمن ؟ لا يؤمن إلا بما هو قانع به ، لذلك في الأصل :

﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾

لأن الإنسان صندوق مقفل لا يفتح إلا وفق مبادئ فطرته ، ويحب العدل يفتح بالعدل ، يحب الرحمة يفتح بالرحمة .
لذلك العمل الذي فيه عدل يلفت نظر الناس جميعاً ، الذي فيه رحمة ، البطولات في التاريخ نقرأها مراراً وتكراراً لا نمل منها ، لأنها تتناغم مع فطرنا.
لذلك العصور السابقة مع أنها خشنة في معداتها ، وفي أساليب العيش فيها ، لكنها متفوقة في فضائلها ، والحياة المعاصرة فيها تقنية عالية جداً ، أدوات التحكم عن بُعد على الطاولة كثيرة ، لكن لا سعادة فيها ، ولا فضيلة ، ولا عمل صالح ، ولا تضحية ، ولا مبادئ ، ولا قيم ، ولا مادة ، لذلك قالوا : إن الله يعطي الصحة ، والذكاء ، والمال ، والجمال للكثيرين من خلقه ، ولكنه يعطي السكينة بقدر لأصفيائه المؤمنين .
حينما يشرد الإنسانُ عن الله عز وجل يضيع ، ومشاعر المؤمن أنه تعرف إلى الله ، واستقام على أمره ، واصطلح معه ، وهذا شيء لا يكاد يصدق ، لذلك لا يمكن أن يكون الدين إكراهاً ، هو اختيار ، هو اتخاذ قرار من أعماق الإنسان ، لو كان إكراهاً لفسدت الحياة ، الدليل بعض الآيات :

 

الأدلة القرآنية على الاختيار في الدين وعدم الإكراه :

الآية الأولى :

﴿ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾

( سورة يونس )

مستحيل ، وآية واضحة جداً

﴿ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾

كلهم توكيد وجميعاً .
أستاذ علاء ، لو أن رئيس جامعة وزع على الطلاب أوراق الإجابة ، وقد كتبت عليها الإجابة الكاملة ، وكتب عليها 100 على 100 ، وكلف الطالب أن يكتب اسمه فقط ، ما قيمة هذا النجاح ؟ هذا النجاح لا يسعد إطلاقاً ، لو أنه يسعد لفعله الله عز وجل ، لا يسعد إلا أن تأتيه طائعاً ، من مبادرة منك ، بمحبة .
لذلك الله عز وجل جعل العلاقة بينه وبين الخلق علاقة محبوبية ، الأصل في العلاقة الحب ، وإيمان بلا حب جسد بلا روح .
مرة وردة طبيعية فواحة ، ألوانها رائعة ، يهفو القلب إليها ، ووردة بلاستيك تملها .
الإسلام من دون حب لا معنى ، هو له طقوس ، وعادات ، وتقاليد ، أما الصلاة فهي صلة بالله .

(( أرحنا بها يا بلال ))

[ رواه أبو داود عن سالم بن أبي الجعد ]

الآية الثانية :

﴿ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاء ﴾

( سورة النحل الآية : 93 )

هو مخير ، يشاء تعود على الإنسان .
الأستاذ علاء :
نقف عندها سيدي لو سمحت ، الكثير من الناس في مفهومهم ، في تخيلهم ، في تصورهم أن متى شاء يشاء الله ، فالفاعل هو الله ، لكن نريد أن نتبين من هو الفاعل يشاء ؟
الدكتور راتب :

بين مشيئة العبد ومشيئة الله :

الإنسان يضل من يشاء الضلال ، إنسان آثر الشهوة ، آثر المادة ، آثر الدنيا فقط هذا اختياره ، فلما اختار هذا الاختيار أصبح بعيداً عن حقائق الدين .
أنت ذاهب إلى حلب ، وفي طريقين ، وأنت عند المفترق لا تعرف إلى أين الجهة في تقسيم من إدارة المرور ، واقف واحد ، قلت له : أين حلب ؟ قال لك : من هنا ، فقلت له : جزاك الله خيراً ، فقال لك : انتظر ، أمامك تحويلة ، أمامك مشكلة ، طريق ضيق ، جسر يصلح ، أعطاك معلومات كثيرة ، لمَ قبلت استشارته ؟ لو قال له أحدُهم : أنت كذاب ، هذا يضل .
إن الإنسان اختار الدنيا ، اختار شهوته ، اختار مصلحته ، اختار مالاً من طريق غير مشروع ، اختار التمتع بالنساء بطريق غير مشروع ، فهذا اختياره ، إذاً : هو حُجِب عن الدين ، حجِب عن كل ميزات الدين ، حجب عن السلامة والسعادة ، حجب عن الحكمة ، عن الطمأنينة ، عن الشعور بالأمن ، عن الراحة ، كل ثمار الدين بطاعة الله عز وجل ، فلما رفض طاعة الله خسر كل هذه الثمار هذا اسمه إضلال حكمي ، له في لقاءات قادمة بحث طويل جداً ، فحيثما عُزي الإضلال إلى الله فهو إضلال جزائي المبني على ضلال اختياري . 

﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾

( سورة الصف الآية : 5 )

حينما يُشم من الآية أن الإضلال عُزي إلى الله فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلال الاختياري ، على كلٍ :

﴿ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاء ﴾

الضلالة ، هذا اختيار .

 

﴿ وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ {93} ﴾

( سورة النحل )

أنتم أصحاب المشيئة .
آخر قسم في الآية يلقي الضوء على من يشاء ، لذلك القرآن مثاني ، تنثني الآية ، تفسر أختها ،

﴿ وَلَتُسْأَلُنَّ ﴾

لو كان المشيئة لله ، الآية ما لها معنى ، دقيقة جداً .

ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له : إياك إيّاك أن تبتل بالماء
***

الآية الثالثة :

﴿ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم ﴾ 

( سورة المائدة الآية : 48 )

أنتم مخيرون ، وكما قلت قبل قليل : الإنسان مخير فيما كلف ، والحقيقة أن الواقع كذلك ، جنابك تذهب لتصلي باختيارك ، وبإمكانك ألا تصلي ـ لا سمح الله ـ أحياناً يؤدي الإنسان شهادة صادقة ، وبإمكانه أن يكذب .
مرة جاء شاهد زور إلى المحكمة ، فاتفق مع الذي كلّفه بخمسة آلاف ليرة ، فلما وجد المصحف قال له : أريد عشرة آلاف ، هذا مصحف .

﴿ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَاآتَاكُم ﴾

﴿ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ ﴾

( سورة المائدة الآية : 48 )

أنتم مخيرون .

الآية الرابعة :

﴿ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾

( سورة الشورى )

ما الذي أدخله في رحمته ؟ الذي لم يظلم ، واضحة الآية ، معنى ذلك :

﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾

ومستحيل وألف ألف ألف مستحيل أن يجبر الله عباده على المعصية .

 

﴿ قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ {28} ﴾

( سورة الأعراف )

لأن الله عز وجل لا يجبر عباده على المعصية ، هذا مستحيل وألف ألف مستحيل ، بيده الخير ، بيده السعادة ، والأمن ، والسلامة . 

﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ﴾

( سورة النحل الآية : 90 )

معقول الله ينهى عن الفحشاء والمنكر ، ويجبر عبده على فعل الفحشاء والمنكر ؟! مستحيل ، كما قلت قبل قليل ، عقيدة الجبر عقيدة فاسدة شلت الدين الإسلامي ، وشاعت هذه الفكرة بين أوساط العوام ، هذا الفهم للدين المشوه أبعدهم عن العمل .
عن أَنَسِ بْن مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ ، وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ ))

[ أخرجه أحمد في مسنده]

الأستاذ علاء :
هذه تنفي وتدحض فكرة الجبرية ، وعقلية الجبرية .
الدكتور راتب :

 

عقيدةُ الجبرية باطلة نقلا وعقلا ومنطقا وواقعًا :

ما من إنسان على الأرض يستحق النصر كرسول الله ، ومع ذلك أخذ بالأسباب استأجر دليل ، رجح فيه الخبرة على الولاء ، هيأ من يأتيه بالأخبار ، هيأ من يمحو الآثار ، هيأ من يأتيه بالطعام ، ما من ثغرة ما سدها ، هذا هو الإسلام ، نحن حينما ألغي العمل أصبحنا في مؤخرة الأمم .
الأستاذ علاء :
سيدي ، إلغاء العمل ، أو هذا الفكر دخل إلينا من أعدائنا ؟ هل كان هذا الفكر بمخطط ليسري بيننا حتى نقعد عن العمل ؟ وحتى تستولي ، وتهيمن علينا القوى في الدنيا ؟ .
الدكتور راتب :

 

الوضع الاستسلامي والتقاعس غير مقبول :

مستحيل ، سيدنا عمر رأى رجل من الأعراب جمله مصاب بالجرب ، قال له : << يا أخا العرب ، ماذا تفعل بهذا الجمل ؟ قال : أدعو الله أن يشفيه ، قال له : هلا جعلت مع الدعاء قطرانا ؟ >> .
إنسان توقفت مركبته ، فيدعو قائلاً : يا رب أصلحها ، هذا كلام فارغٌ ! افتح الغطاء ، قد يكون خطأ ، ثم قل : يا رب ، ألهمني معرفة مكان الخطأ ، وأحيانا يلهم اللهُ الإنسانَ موضع الخطأ .
فالوضع السلبي الاستسلامي للكوارث هذا صفة غير لائقة بالإنسان .

(( إِنَّ اللَّهَ تَعالى يَلُومُ على العَجْزِ ))

[ رواه أبو داود عن عوف بن مالك رضي اللّه عنه ]

يستسلم للمصيبة ، ما عمل شيء ، ماذا نفعل ، انتهينا ، هذا قدرنا ، هكذا الله يريد هذا كله كلام غلط .

(( وَلَكِنْ عَلَيْكَ بالكَيْسِ ))

[ رواه أبي داود، عن عوف بن مالك رضي اللّه عنه ]

تحرك ، اسعَ ، اتفق مع أخوك ، حاول ، قدم استدعى ، اعترض ، حاول تنقذ نفسك ، الآن :

(( فإذَا غَلَبَكَ أمْرٌ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ ))

[ رواه أبي داود، عن عوف بن مالك رضي اللّه عنه ]

لا يجوز أن تقول : حسبي الله ونعم الوكيل ، إلا بعد استنفاذ الجهد ، غير معقول لطالب لا يدرس ويقول : هكذا الله يريد ، هو كتب لي ألا أنجح .
الأستاذ علاء :
لذلك مثلما تفضلت سيدي ، من بداية نزول الدعوة ، ونزول القرآن على النبي عليه الصلاة والسلام إلى انتقاله للرفيق الأعلى ، ثم إلى الصدر الأول من الإسلام ، إلى الخلافتين ، لن نشاهد هذا الفكر ، أو هذا المنهج له وجود ، وإنما كان العمل .
الدكتور راتب :

 

لابد من الحركة والعمل :

العالم الغربي يعمل ليلاً نهاراً في الظلام ، والمسلمون نائمون في ضوء الشمس ، وهناك إحصاءات مخيفة ، الإنسان في دولة متخلفة يعمل في النهار ثلاثين دقيقة فقط ، 27 دقيقة بالضبط ، وهذه إحصاءات رسمية ، يقسمون الدخل القومي على أفراد المجتمع فيصبح ثلاثين دقيقة ، وفي بعض البلاد يعمل الإنسانُ ثماني ساعات ، أمة تعمل لا يمكن أن تسوى عند الله بأمة لا تعمل ، فنحن العمل جزء من حياتنا .
سيدنا رسول الله أمسك بيد عبد الله بن مسعود ، وكانت خشنة قال :

(( إن هذه اليد يحبها الله ورسوله ))

[ ورد في الأثر ]

خشنة من العمل .
ورأى شابًا يعبد الله في وقت العمل ، فقال له : مَن يطعمك ؟ قال له : أخي ، قال له : أخوك أعبد منك .
هذا الدين دين عمل ، دين تفوق ، دين تجد فيه الصناعي الكبير ، والمزارع عنده مزارع ضخمة ، يقدم للأمة حاجاتها ، نستغني عن الاستيراد ، نريد مواطنين قمما في الصناعة ، في التجارة ، في الزراعة ، هيئوا فرص عمل للناس .
أنا بصراحة لي مقولة لعلها لا ترضي : نحن الآن في وقت إن لم تكن متفوقاً في دنياك لا يحترم دينك ، يجب أن تكون الطبيب الأول ، المهندس الأول ، المدرس الأول ، بالضبط والدقة والتفوق ، وأنت تصلي الآن تحترم صلاتك ، هذا من دون دليل ، لكن أنا هذا شعوري ، نحن في عصر إن لم تكن متفوقاً في اختصاصك ، تقدم للأمة شيئًا ثمين جداً ، تحل مشكلات أمة ، حاملا همّ المؤمنين ، حاملا همّ الناس ، وحياتُك مبنية على العطاء لا على الأخذ ، أنت بقلوب المئات من إحسانك ، إن فعلت هذا الآن فإنه يحترم إلى أعلى درجة تدينك وعبادتك .
الأستاذ علاء :
هذا يسوقني إلى المثال الذي نعرفه في التاريخ إندونيسيا ، وماليزيا وجنوب شرق آسيا التي فيها أكثر العالم الإسلامي هنالك ، لم يدخلها فاتح فارس ، أو جيش ، وإنما بعمل وأخلاق التجار الذين دخلوا .
الدكتور راتب :

 

الدعوة الصامتةُ :


نحن الآن بحاجة إلى ما يسمى بالدعوة الصامتة ، اسكت ، وليكن عملك دعوة ، وإتقان عملك دعوة ، الصدق دعوة ، الأمانة دعوة ، العفة دعوة ، حب الخير دعوة لله عز وجل ، الآن نحن لا نريد دعاة فصحاء ، نريد دعاة عاملين ، مطبقين لمنهج الله عز وجل كيف أن الكون قرآن صامت ، وكيف أن قرآن كون ناطق ، وكيف أن النبي عليه الصلاة والسلام قرآن يمشي ، نحن نريد مسلما يمشي ، مسلما ملء السمع والبصر ، المسلم شخصية فذة ، مرتبة علمية ، مرتبة أخلاقية ، مرتبة جمالية ، لما يكون المسلم متفوق باختصاصه منضبط بأخلاقه ، نير بأفكاره ، عنده قيم واضحة جداً ، يفترق عن غير المؤمن بشيء صارخ ، لا بالصلاة فقط يفترق ، إذا حدث فهو صادق ، إذا عومل فهو أمين ، إذا ائتمن فهو عفيف ، هذا المسلم يمكن أن يكون منار دعوة ، وهو صامت .

آيات الهداية :

هناك نقطة دقيقة ، حينما تحدثنا على من يعود فعل يشاء ، الآن عندنا آيات قطعية الدلالة ، يقول الله عز وجل :

﴿ ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ ﴾

( سورة الأنعام الآية : 88 )

واضح مثل الشمس .

 

﴿ ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾

( سورة الأنعام )

آية ثانية فيها ملمح لطيف :

 

﴿ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء ﴾

( سورة البقرة الآية : 105 )

تتمة الآية تنبئ أن( يشاء )تعود على العبد .

 

﴿ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾

( سورة البقرة )

لكل الخلق ، هذه الرحمة لكل الخلق ،

﴿ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾

الإنسان لا حجة له .
أنا أتمنى مرة ثانية على الإخوة المشاهدين أن ينتبهوا ، أنت مخير ، وأعمالك من كسبك ، وأنت محاسب عنها ، ولكنك ترتاح لما تعزو كل شيء للقضاء والقدر ، هذه واللهِ بضائع الحمقى ، بضائع الكسالى ، لأنه يقول : أنا هكذا قدّر الله علي ، تحرك .
مرة ذكرت قصة ، أن إنسانًا أرسل ابنه إلى الأزهر ، ورجع خطيب مسجد ، فأول خطبة يخطبها أمام أبيه بالقرية بكى الأب ، بكى بكاء شديدا ، توهم الناس أنه بكى فرحًا بابنه الخطيب العالم ، والحقيقة عكس ذلك ، بكى تأسفاً على نفسه ، كيف أمضى هذا العمر بالجهل ، عمره 55 سنة ، القصة من الممكن أن تصدق ، لأن الراوي صادق ، أما هي فصعب تصديقها ، ركب دابته من صعيد مصر إلى القاهرة شهرا حتى وصل ، سأل : أين الأزعر ؟ لم يعرف اسمه ، دُل على الأزهر ، وتعلم القراءة والكتابة ، وقرأ القرآن ، وما مات إلا وهو شيخ الأزهر في الـ96 .

الله تعالى لا يتعامل بالتمنيات :

إن القرار الذي يتخذه الإنسان في شأن مصيره قلّما تنقضه الأيام ، إذا كان صادراً حقاً عن إرادة وإيمان ، واللهُ عز وجل لا يتعامل مع التمنيات .

﴿ لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ﴾

( سورة النساء الآية : 123 )

الله يتعامل مع الصدق . 

﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ﴾

( سورة الأحزاب الآية : 23 )

فالإنسان إذا صدق ، أنا أرى أن علاقة العبد بربه مبنية أن العبد إذا شاء الخير الله يشاء له الخير .
الأستاذ علاء :
لذلك قال أهل العقيدة : إن مشيئة الله مقترنة بمشيئة عبده .
الدكتور راتب :
هذا الكلام رائع ، لكن له آية : 

﴿ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ ﴾

( سورة الإنسان الآية : 30 )

ما تشاءون إلا أن يشاء الله تنفيذاً لمشيئته .
الأستاذ علاء :
إذاً مشيئة الله لا تقف أمامنا .
الدكتور راتب :

مشيئة الله لا تقف عائقا أمام مشيئة العبد :

أبداً ، بالعكس ، الأب هدفه الأول أن يكون أولاده علماء كبار ، يمنهم من المدرسة ؟ مستحيل .
الأستاذ علاء :
سيدي الكريم الآن قلت ، ومررنا على ،

﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾

ومررنا على

﴿ يَهْدِي مَن يَشَاء ﴾

ومررت على ملمح أن الذين قالوا : إن الإسلام انتقل بالسيف ، انتقل بالقوة ، انتقل بالعنف ، انتقل بالقسوة ، بالقسر ، وكل فترة وفترة يخرج لنا من هنا وهناك إلى مقالات إلى محاضرات ـ ما ضر السحاب نبح الكلاب ـ لكن هنالك واقع نعيشه ، وهنالك منهج سار عليه أتباع هذا الدين ، وهذا المنهج فعلاً ،

﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾

والذين دخلوا في الإسلام دخلوا طواعية ، وحباً كما تفضلت من العمل الصالح دخلوا في الإسلام ، ومن العدل دخلوا في الإسلام ، ومن حالات تناسب الفطرة دخلوا في الإسلام ، أن البلاد التي فتها وجاءها المسلمون بقي بها الديانات الأخرى ، ولم يكرهوا على الدخول ، وإنما كانوا إتماماً للوحة الجميلة .
الدكتور راتب :

 

الإسلام دين وسطي يقبل بالطرف الآخر :

الحقيقة أن الإسلام دين العصر ، دين الوسطية ، دين قبول الآخر ، دين التسامح دين السلامة ، دين السعادة ، هذا الشيء بديهي عند المسلمين ، لكن نتمنى الطرف الآخر أن ينتبهوا لهذه الحقائق .
الأستاذ علاء :
سيدي الكريم ، الآن يبدو لي أنّ وقت الفقرة العلمية حان الآن ، كنا نود أن نتبين في هذه الحلقة مسألة هامة هي التخيير بين المغفرة ، والعقاب لكن في الحلقة القادمة إن شاء الله سنوسع لها وقتاً كافياً ، ماذا اخترت لنا ؟ .
الدكتور راتب :

الموضوع العلمي : الرحمة والحنان عند الطيور :

الفلم أيضاً الرحمة والحنان عند الطيور ، يعد الوالدان في الطيور الأكثر تضحية في عالم الأحياء ، الطائران الأب والأم يعملان دون توقف لأجل الصغير الخارج من البيضة ،بعض أنواع الطيور تحضر الطعام لصغارها باستمرار طوال 24 ساعة ،عمل الصغار الوحيد هو فتح أفواهها انتظاراً للطعام الذي سيحضره الأب والأم ،فالصغار بحاجة إلى رحمة الوالدين ، وإيثارها ليبقوا على قيد الحياة ، وإن ترك الفراخ تعيش وحدها يعد موتًا محققًا لها ،هذه الطيور الغواصة تضحي بنفسها لأجل صغارها ، فالعش الذي بنته خلف الشلال الصغير كما يرى على الشاشة أمين وبعيد عن الأعين ، يجمع الوالدان الطعام لصغارها من دون كلل ،وفي كل عشر دقائق يأتي الطعام إلى العش ، هذه الكائنات ليست بشراً ، بل هي طيور ، والمنتظر من كل حيوان الاهتمام بنفسه ، وإشباع بطنه وحسب ، ولكن الأمر هنا بالعكس تماماً ، فالأمهات تهتم بصغارها قبل نفيها ، بل تضحي بنفسها من أجلهم .
تقوم كائنات كثيرة بتضحيات أكبر وأجلّ لصغارها ، فأتان الوحشي تخاطر بحياتها لحماية صغارها ، هذه الأتان الوحشي تضع نفسها كالجدار الواقي بين المفترس وصغارها عند أي هجوم ،تتظاهر أنها بطيئة ، من أجل صغارها على الرغم أنها أسرع من هذه الصغار ، وهذا عند وصول الحيوانات المفترسة ستنجو الصغار ، وقد تموت الأم ،هذه مغامرة خطيرة ، وأحياناً تخسر الكائنات حياتها من أجل أولادها .
هنا في سواحل أوربا الشمالية أيضاً طبعاً الأتان الوحشي تخاطر بحياتها من أجل صغارها ، وأمهات كثيرات يحتجن إلى مثل هذا الدرس ، هنا سواحل أوربا الشمالية ، طيور البحر المسماة الكلموس تبني أعشاشها في الصخور العاليةعلى طول هذه السواحل ، عند مجيء شهر آب تقوم صغار الطيور بأول تجربة طيران لها ، وتحاول الطيران باتجاه البحر وهذه تجربة شاقة بالنسبة لها ، فالبحر بعيد عن الصخور ما يقارب كم واحد ، والعش عالٍ جداً .
وأخيراً يُلقي أول الصغار من العش إلى الجو باتجاه الأسفل ، يحلق نحو البحر بإشراف الطيور الكبيرة ،وبهذا تتم أول تجربة للطيران بنجاح ، ثم تليه بقية الصغار ، ومع إن هذا الطيران خطير جداً في البحر ، ولكن لا بد لها من التدرب على طيران فيه لتأمين حياة الصغار ، فالثعالب المتربصة بها موجودة في الساحل .
في إحدى تجارب التدريب على الطيران لم يصل هذا الصغير إلى البحر ، واضطر إلى النزول الإجباري بالساحل ، لكن أمه لم تتركه وحده كما ترون ، فهي تحاول الأم بكل قوتها توجه الصغير بسرعة نحو البحر ،لأن الثعالب قد رأتها ، تدفع الأم الصغير إلى البحر باستمرار ، ومن جهة أخرى ترفرف بجناحيها لتشد انتباه الثعالب إليها ، من أجل أن تصرفهم عن صغيرها ، توشك الثعالب أن تصل إلى الصغير ، تقوم الأم بتضحية مثالية نادرة لا شبيه لها لتكسب الصغير المزيد من الوقت وتنقذه ، فتلقي بنفسها أمام الثعالب ، لتفتدي صغيرها بحياتها ، علّها تستطيع إنقاذه ، الصغير الذي لا علم له بما جرى من الحوادث خلفه ينجح بالوصول إلى البحر ، الطائر الصغير ينادي أمه ، فبقاءه في الحياة وحده مستحيل ، وتجيب لندائه الطيور الأخرى ، وتقبله بين صغارها ،هناك تفسير واحد فقط لقيام هذا الحيوان بتصرف عاطفي ، وإثاره بهذا الشكل ، بل وتضحية بحياته لأجل صغاره ، الله تعالى خلق هذا الكائن ،وألهمه التضحية ، التي قام بها لحماية صغاره دروس نتعلمها من هذه الكائنات .

الأستاذ علاء :

الكونُ مجموعة من دروسٍ :

والكون عبارة عن مجموعة دروس ، لا نجد فيه فطوراً وشقوقًا .

﴿ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ {3} ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ {4} ﴾

( سورة الملك )

خاتمة وتوديع :

لا يسعني إلا أن أشكر فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين بدمشق .

شكراً سيدي الأستاذ ، نكمل الموضوع إن شاء الله في الحلقة القادمة إن شاء الله .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور