وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 48 - سورة البقرة - تفسير الآيات 142 - 147 ، الدين الإسلامي هو دين الوسطية
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
 أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس الثامن والأربعين من دروس سورة البقرة .

الله سبحانه وتعالى حينما كلَّف الإنسان حمل الأمانة جعله مخيراً:

 مع الآية الثانية والأربعين بعد المئة وهي قوله تعالى :

﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) ﴾

 أيها الأخوة الكرام، في هذه الآية نقاطٌ كثيرة، من أبرز هذه النقاط أن الله سبحانه وتعالى حينما كلَّف الإنسان حمل الأمانة جعله مخيراً:

﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾

( سورة البقرة الآية: 148 )

 وقال:

﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ (29) ﴾

( سورة الكهف)

 وقال:

﴿ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ ﴾

( سورة الأنعام)

 تؤكد هذه الآيات كلها أن الإنسان مخيَّر، وإذا سعد الإنسان بهذا الاختيار فلأن الله شاء له أن يختار، إذا اختار طاعة الله عز وجل والتقرب منه استحق دخول الجنة .

 

الإنسان مخير في حدود ما كُلِّف:

 لولا أن الله سمح له أو أذن له أن يكون مختاراً لما اختار، وهذا معنى قوله تعالى :

﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ﴾

( سورة التكوير )

 لولا أن الله شاء الله لكم أن تكونوا أصحاب مشيئةً حرة لما شئتم، إذاً لأن الإنسان حمل الأمانة، وكلف طاعة الله عز وجل، كان مخيراً من أجل أن يثمن عمله، ولكن الله طليق الإرادة، أي شيءٍ يعطيك إيَّاه يأخذه منك في أية لحظةٍ، فالإنسان في الأساس مسير حينما يولد، مسير في أمه وأبيه، وعصره وزمانه، ومكانه وقدراته، وما إلى ذلك مما ليس له اختيارٌ فيه، وهذه الأشياء التي سُيِّرت فيها هي أكمل شيءٍ إليك، ليس في إمكانك أبدعُ مما أعطاك، ثم أنت مخيَّر في حدود ما كُلِّفت .
 أنت مخير في دائرة التكليف افعل ولا تفعل، أمرك أن تصلي، بإمكانك أن تصلي وأن لا تصلي، أمرك أن تكون صادقاً، بإمكانك أن تصدق أو أن تكذب، أمرك أن تغض البصر، بإمكانك أن تغض وأن تطلق، أنت مخير في حدود ما كلفت، ولكن ولأن الله رب العالمين، من أجل أن يربيك تربيةً تقيك دخول النار، لو أنك اخترت اختياراً غير صحيح لأدبك الله عز وجل .

مع التأديب يُسْلَب الإنسان اختياره ليؤدَّب أو ليكافأ :

 كيف يؤدبك الله ؟ يأخذ من كل ذي لبٍ لبَّه، ثم يسوقه إلى مصيبة، أنت الآن مسيرٌ، مسيرٌ بدفع ثمن اختيارك، فكنت مسيراً حينما ولدت، من قبل أمك وأبيك، فكونك ابن فلانة وابن فلان، أنت فيهما مسيراً، وولدت في دمشق مثلاً، وفي عام كذا، أنت فيه مسير، وقدراتك كذا وكذا أنت فيه مسير، ثم حُمِّلْتَ الأمانة، وحملت أن تكون مخيراً فيما كلفت، حينما تستخدم هذا الاختيار بشكلٍ غير صحيح يأتي التأديب رحمةً بك، مع التأديب يُسْلَب الإنسان اختياره ليؤدَّب أو ليكافأ، وهذا هو معنى قول النبي الكريم:

(( إن الله تعالى إذا أحب إنفاذ أمر سلب كل ذي لب لبه ))

[الجامع الصغير عن ابن عباس]

 لماذا حولت القبلة الآن من مكة المكرمة إلى بيت المقدس ؟ لأن قريش قالت: هذه الكعبة ليست بيت الله إنها بيتنا وبيت آبائنا وأجدادنا . والأصنام من حول الكعبة، فلحكمةٍ أرادها الله عز وجل أمر بتحول القبلة من مكة المكرمة إلى بيت المقدس .
 وقال اليهود: يعارض ديننا ويتَّجه إلى قبلتنا . أراد الله عز وجل أن يكون الإسلام شاملاً لكل الأديان، فتوجه إلى بيت الله الحرام:

﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ﴾

( سورة آل عمران )

 ثم أمر بالتوجه إلى بيت المقدس، المكان الذي جاءت فيه نبَّوات سيدنا موسى وعيسى، ثم حولت القبلة إلى مكة المكرمة ثانيةً، فهؤلاء الذين رأوا أن القبلة حولت من مكان إلى مكان، هم عند الله سُفَهاء، علم الله عز وجل أنهم سيقولون، قال:

﴿ سَيَقُولُ (142) ﴾

 حينما نزلت هذه الآية هل قالوا ؟ لم يقولوا، السين للاستقبال:

﴿ سَيَقُولُ (142) ﴾

 هؤلاء الذين سيقولون وصفهم الله عز وجل بأنهم سفهاء .

 

تعريف السفيه :

 من هو السفيه ؟ السفيه هو الذي يبدد ماله أو قدراته بلا جدوى . أوضح مثل لو أن إنساناً أمسك ألف ليرة وأحرقها أمامك بلا سبب، وبلا هدف هو سفيه، وأنا مضطر أن أسوق الموضوع إلى فرع ثم أعود إلى أصل الموضوع، مُرَكَّب في الإنسان أن الوقت أثمن من المال، بدليل أن الذي ـ لا سمح الله ولا قدَّر ـ يصاب بمرضٍ عضال، وهناك عملية جراحيةٌ في بلدٍ بعيد، ربما أمدت في عمره بحسب قول الأطباء سنواتٍ معدودات، يبيع بيته وكل ما يملك ليجري هذه العملية التي يأمل أن يعيش من خلالها سنواتٍ معدودات، ما معنى ذلك ؟ أن الوقت أثمن من المال، فالذي يُبدد المال يُتَّهم بالسفه، والذي يبدد الوقت هو أشد سفاهةً .
 هذا الذي يجلس يُمضي ساعاتٍ وساعات وراء المسلسلات التي لا طائل منها، هذا الذي يمضي ساعاتٍ وساعات في حديثٍ فارغٍ لا جدوى منه، هذا الذي يمضي ساعاتٍ وساعات في لعب النَرد، هذا يُعَدُّ أشد سفهاً من الذي يبدد المال لأنه يبدد الوقت الذي هو أثمن من المال، السفيه إنسان غير عاقل، إنسان يتلف الجوهر ويبحث عن الفحم، يُهمل اللؤلؤ ويأخذ الأصداف، السفيه لا يلتفت إلى النفيس ويتَّجه إلى الخسيس، هذا هو السفيه .
 ثم إن الإنسان حينما يرفض شيئاً يعبِّر عن احتقاره له، إن رفض بيتاً فلأنه صغير، أو لأنه في منطقةٍ ليست مناسبة، أو لأن اتجاهه نحو الشمال، إن رفضت عملاً فلأن دخله قليل، إن رفضت فتاةً لأن أخلاقها لا تُعجبك، إنك حينما ترفض تحتقر هذا المرفوض، إلا في شيءٍ واحد حينما ترفض الدين فإنك تحتقر نفسك:

﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ (130) ﴾

( سورة البقرة)

 السفيه هو الذي يردُّ النفيس ليأخذ الخسيس، هو الذي يرد الثمين ليأخذ الرخيص، هو الذي يزهد في الآخرة ليأخذ الدنيا الفانية هذا سفيه، وكل إنسانٍ ما عرف الله سفيه ولو كان أذكى الأذكياء ولو حمل أعلى الدرجات، السفاهةُ أن تعرض عن النفيس وتتبع الخسيس .

 

إذا كان الإنسان مع الشيطان فهمُّه الانتقاد:

 هؤلاء الذي أشركوا، والذين ابتعدوا عن الله، والذين شردوا عنه، والذين غرقوا في المعاصي والآثام، هؤلاء عند الله سفهاء، والسفيه دائماً يعترض، وينتقد، ويطعن . اجلس في أي مجلس تجد أن همّ الناس الوحيد أن يطعنوا في الدعاة إلى الله، أن يطعنوا بالمؤمنين، ليس له هم إلا الطعن، لأنه حينما يطعن يتوهم أنه يستعيد توازنه، هو حينما خرج عن منهج الله، وحينما عصى الله عز وجل، وخالف قوانين فطرته اختل توازنه الداخلي، فحينما يتَّهم المؤمنين الصادقين باتهاماتٍ باطلةٍ لا أصل لها هو يستعيد توازنه، فهؤلاء السفهاء رأوا أن القبلة تحوَّلت من مكة المكرمة إلى بيت المقدس ثم إلى مكة المكرمة:

﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا (142) ﴾

 لماذا رجعوا إلى مكة المكرَّمة ؟ بربكم لو أن هؤلاء الناس الذين وصفوا بأنهم سفهاء، وأنهم سيقولون كذا وكذا، لو أنهم سكتوا ماذا فعلوا ؟ لو سكتوا لأبطلوا القرآن، من أجل أن تعلم أن إرادة الله طليقة، يفعل ما يشاء، وصفهم الله مُسبقاً بأنهم سفهاء، وأنهم سوف يقولون كذا وكذا، وبالفعل هكذا قالوا:

﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا (142) ﴾

 إذا كان الإنسان مع الشيطان يكون همُّه الانتقاد، لسانه لا يفتر، ينتقد دائماً، يجد متعةً في النقد، عمل تخريبي، عمل شيطاني، عمل فيه أذى، ليس له همٌّ ثان إلا أن ينتقد زيداً وعبيداً وفلاناً وعلاناً، هو لا يقدم شيئاً ولا يفعل شيئاً، هذا النموذج قذر، مُنحط، نموذج يكرهه الله عز وجل، ماذا قدَّمت ؟ لا يقدِّم شيئاً، ينتقد كل شيء، من هذا القبيل :

﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ (142) ﴾

ليس هناك مكان مقدس لذاته إلا أن يقدَّسه الله عز وجل :

 ليس هناك مكان مقدَّس لذاته ـ هذه نقطة مهمة جداً ـ ليس هناك مكان مقدس لذاته إلا أن يقدَّسه الله عز وجل، فالله عز وجل أمر الإنسان وهو سيِّد المخلوقات أن يقبِّل الحجر الأسود، والتسلسل كما تعلمون ؛ جماد، نبات، حيوان، إنسان . أمر الله أشرف مخلوق أن يقبل أقل مخلوقٍ رتبةً، وفي منسكٍ آخر أمره أن يرجم حجراً في الجمرات التي هي رمزٌ لإبليس، لا يوجد مكان مقدس، الله عز وجل يقدس الشيء أو يهدر كرامة الشيء، ولذلك سواء توجَّه المسلمون إلى بيت المقدس، أم إلى مكة المكرمة، هم يتوجَّهون إلى الله عز وجل، وليس هناك مكان مقدس في ذاته .

﴿ قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) ﴾

 يهديه الله عز وجل إلى طريقٍ مختصر، المستقيم هو أقصر طريق بين نقطتين، يهدي من يشاء مرضاة الله عز وجل، من يشاء رحمة الله، من يشاء محبة الله، من يشاء الفوز بالجنة والنجاة من النار .

﴿ مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) ﴾

 أيها الأخوة، لو أن الله عز وجل قال: تحوَّلوا عن مكة المكرمة للعلة الفلانية، وتوجهوا إلى بيت المقدس للعلة الفلانية، هذا الأمر فقد قيمته التعبُّدية، حينما أعطيك أمراً لمصلحتك الواضحة الصارخة أقول لك: افعل كذا من أجل كذا . أنت تقبل على تنفيذ هذا الأمر، لا حباً بالآمر، ولكن حباً بذاتك، فقد الأمر قيمته المعنوية، وقيمته التعبُّدية . يقول لك أحدهم: أنا أصلي لأنني قرأت مقالة أن الصلاة فيها رياضة . ليس له أجر فيها، ولا قيمة لهذه الصلاة إطلاقاً، أو أن يقول: أنا أصوم لأنني شعرت أن الصيام أريح لجسمي، أحس براحة، أحس بخفة، وأجد أمعائي تحسنت، ونشاطي ازداد، فأنا أصوم والحمد لله . هذا ليس صيام تعبُّد، هذا صيام رجيم، هذا صيام مصلحة .
 لو أن الأمر الإلهي جاء معللاً لفقد قيمته التعبُّدية، توجَّهوا إلى بيت المقدس للعلة الفلانية، توجهوا إلى مكة المكرمة للعلة الفلانية، إلهٌ عظيم يحب أن يرى انصياعنا لأمره، لذلك قال علماء الأصول: علة كل أمرٍ أنه أمر .

أمر الله هو المقدس :

 لا أنسى هذا الموقف الذي وقفه إنسان غربي أسلم بعمق، حين التقى بعالمٍ من علماء دمشق، وطرح موضوع لحم الخنزير، وهذا العالم أفَاض وأفاضَ، وشرح وأطال وأطنب في مضار لحم الخنزير، فابتسم هذا الإنسان الغربي المسلم وقال: كان يكفيك يا أستاذ أن تقول لي إن الله حرمه . يكفي، كلام الله، إلهٌ عظيم هو العلم، والخبرة، والرحمة، والحكمة، هو الخالق، يقول لك: لا تفعل هذا . انتهى الأمر .

﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) ﴾

 ليس للأمكنة قداسةٌ بذاتها، إلا أن يأمرك الله أن تشد الرحال إليها، أمرنا النبي عليه الصلاة والسلام وهو لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يوحى، أن نشُدَّ الرحال إلى مكة المكرمة ، وإلى بيت المقدس، وإلى المدينة المنورة:

(( لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلا إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسْجِدِ الأَقْصَى ))

[البخاري عن أبي هريرة]

 نرجو الله سبحانه وتعالى أن يتاح لنا في القريب العاجل أن نزور المسجد الأقصى. لا يوجد مكان مقدس في ذاته أمرنا الله عز وجل أن نشُد الرحال إليه، فالتقديس هو لأمر الله، أمر الله هو المقدس، قال الله عز وجل: دعوا مكة لأن قريشاً يقولون إنها بيتنا وليست بيت الله، إنه بيتنا وبيت آبائنا وأجدادنا . وفيها ما لا يحصى من الأصنام، لذلك قال الله عزَّ وجل: دعوا مكة المكرمة واتجهوا إلى بيت المقدس، ولعل في هذا الاتجاه الجديد حكمةً بالغة ذلك أن الإسلام هو خاتم الأديان، أو خاتم الشرائع إن صح التعبير، وأن هذا الدين يستوعب كل الشرائع السابقة، فلذلك نحن نقدس بيت الله الحرام، ونقدس بيت المقدس الذي هو مهبط الرسالات السماوية، ومسرى نبينا عليه الصلاة والسلام .
 لكن هذه الآية فيها إعجاز، أي أن الله عز وجل طليق الإرادة، وفي أية لحظةٍ يسلب ما أعطاك إياه، فلو فكر هؤلاء الناس السفهاء لحظةٍ، هم وصفوا بأنهم سفهاء، وسوف يقولون كذا وكذا، لو سكتوا لأبطلوا القرآن، ولكنهم لا يستطيعون .

مخاطبة الله عز وجل الأمة العربية :

 قال تعالى:

﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً (143)﴾

 يخاطب الله الأمة العربية :

﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً (143)﴾

 هذا الموضوع يحتاج إلى بعض التفصيل، أمةً وسطاً أي وسطاء بين الله وخلقه، وهذا تكريمٌ عظيم:

﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(104) ﴾

( سورة آل عمران: 104)

 وقال:

﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾

( سورة آل عمران الآية: 110 )

 من أدق معاني كلمة

﴿ كُنْتُمْ ﴾

 في هذه الآية، أي أن كلمة " كنتم " في هذه الآية تعني أصبحتم، أي عندما جاءتكم هذه الرسالة على رسول منكم من هذه الأمة العربية .

 

علة الخيرية:

 قال تعالى:

﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾

( سورة آل عمران الآية: 110 )

 عِلَّة الخيرية أنكم:

﴿ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾

( سورة آل عمران الآية: 110 )

 لو أن هذه الأمة تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعادت بشراً ممن خلق الله عز وجل :

﴿ وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ﴾

(سورة المائدة: من آية " 18 " )

أشرف مرتبة تنالها الأمة العربية أنها أمة وسط :

 حينما نعصي، وحينما يهون أمر الله علينا، نهون على الله، وهذا ما ترونه وكأن الله تخلَّى عنا، لأن أمر الله هان علينا فهنا على الله:

﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ﴾

( سورة مريم )

 وقال:

﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً (143)﴾

 أي أنتم وسطاء بين الله وبين خلقه:

﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ(151)فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ (152) ﴾

( سورة البقرة )

 فَاذْكُرُونِي أي أنتم وسطاء، أي كما هديتكم كونوا هداةً للخلق، وهذه أشرف مرتبة تنالها الأمة العربية، أن الله سبحانه وتعالى أنزل كتابه بلسانٍ عربيٍ مبين، وجعل هذه الأمة وسطاً، أو وسطاء بين الله وبين خلقه، لـذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا سلمان الفارسي:

(( يَا سَلْمَانُ لا تَبْغَضْنِي فَتُفَارِقَ دِينَكَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَبْغَضُكَ وَبِكَ هَدَانَا اللَّهُ ؟ قَالَ: تَبْغَضُ الْعَرَبَ فَتَبْغَضُنِي ))

[الترمذي عن سلمان]

ديننا يأمرنا أن نعيش الواقع بقيَمٍ مثالية:

 يجب أن لا يسترسل الإنسان في تعداد مثالب هذه الأمة، ليس هذا مقبولاً عند الله نرجو الله أن يصلح الناس جميعاً، وأن نكون وسطاء لله بين الله وبين خلقه، وأن نعيد لهذه الأمة مجدها، لأن النبي عليه الصلاة والسلام جاء في الجاهلية إلى أمة كانت تأكل الميتة، وتعبد الأصنام، وتسيء الجوار، وتقطع الرحم، وتكذب، وهي غارقة في الخمور والربا، وغارقة في الزنا، كانت عشر أنواع من الانحرافات في الزواج متفشية فيها، كما قال سيدنا جعفر: " كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الرحم، ونسيء الجوار، حتى بعث الله فينا رجلاً نعرف أمانته وصدقه وعفافه ونسبه، فدعانا إلى الله لنعبده ونوحِّده، ونخلع ما كان يعبد آباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء " .
 إذاً أمةً وسطاً، أي وسطاء بين الله وببن خلقه . تحدثت في خطبةٍ قديمة عن الوسطية في الإسلام، وهو موضوع دقيق جديد جدَّاً، ومفصَّل، ومبوَّب، أرجو أن تعودوا إليه الوسطية في الإسلام .

﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً (143)﴾

 هناك أممٌ آمنت بآلهةٍ متعددة، وهناك أممٌ أنكرت وجود الله، ونحن المسلمون آمنا بلا إله إلا الله:

﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً (143)﴾

 هناك أممٌ غرِقت في المادة إلى قمة رأسها، وهناك أممٌ عاشت مثاليةً خياليةً غير واقعية، هؤلاء تطرَّفوا، وهؤلاء تطرَّفوا، أما نحن والحمد لله فديننا دين الواقع، ودين الفطرة، بل إن ديننا يأمرنا أن نعيش الواقع بقيَمٍ مثالية، قال عليه الصلاة والسلام:

(( أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ))

[البخاري عن أنس بن مالك]

ديننا دين الفطرة والوسطية:

 نحن ديننا دين الفطرة، دين الوسطية، الإنسان مأمور أن يعبد الله وأن يسعى لرزق يومه، ما من شهوةٍ أودعها الله فينا إلا فتح لها قناةً نظيفة تسري خلالها، دين وسطي، الأمة التي تطرفت عادت الآن إلى وسطية الإسلام بضغط من الواقع، عادت شعوب الإسلام الآن مُكرهةً . الأمةٌ التي تطرفت عادت الآن إلى وسطية الإسلام بضغطٍ من الواقع السيئ الذي نتج عن هذا التطرُّف، لا عن تعبُّدٍ ولكن عن رجوعٍ إلى مصالحها .
 مثلاً الاتحاد السوفيتي حرم الخمر قبل أن ينهار، كثير من القوانين الآن تصدر مطابقة لتعليمات الشرع، مثلاً منعت بعض الجامعات في أمريكا الاختلاط، لأنهم وجدوا أن عدد اللقطاء في الحدائق أصبح لا حدود له، فحرمت الاختلاط، سمعت أن بعض البلاد في أوروبا حرَّمت الخمر، الخمر مثلاً محرم في السويد، لا يستطيع الإنسان هناك أن يشرب الخمر إطلاقاً إلى أن يذهب إلى الدنمارك، فالآن الشعوب المتطرفة يميناً أو يساراً عادت إلى الإسلام لا عن تعبُّدٍ، ولا عن طاعةٍ لله، ولكن عن مصلحةٍ، فديننا دين وسطي بين تعدد الآلهة وبين إنكار الآلهة، بين إنكار النبوة أو بين أن يتهم الأنبياء كما في العهد القديم بالفسق والفجور والزنا وما إلى ذلك، أنبياؤنا عبادٌ مكرَّمون:

﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ(33)﴾

( سورة آل عمران )

بعض معاني الوسطية:

 هناك من لا يعمل وهو زاهدٌ في الدنيا، وهناك من يعمل وينسى كل شيء، نحن أُمرنا أن نعمل وأن نعبد الله وأن نصلي خمس صلواتٍ كل يوم، في أي موضوع وصفه الإسلام كان وسطياً، إذا ضربك إنسان على خدك الأيمن، في بعض الأديان يجب أن تدير له خدك الأيسر ليضربك عليه صفعةً ثانية، ولكن الله عز وجل قال:

﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ(39)وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(40) ﴾

( سورة الشورى )

 هناك وسطية، لو عدتم إلى هذه الخطبة الوسطية في الإسلام لوجدتم فيها كل شيء، بحث مطوَّل جداً:

﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً (143)﴾

 وسطاء من جهة، والوسط دائماً مركز الدائرة، المركز في الوسط والمحيط يساوي الأطراف، فالإسلام في الوسط، مكان تقاطع الأفكار، لا يوجد تقاطع في التطرف، أما الوسط فيه تقاطع، هذا المعنى رياضي أيضاً، الشمس لا تكون في أشد سطوعٍ إلا وهي في وسط النهار، فالوسط اعتدال، والوسط قوة، والوسط عَدْل، والوسط توسط بين شيئين متطرفين، هذه كلها من معاني الوسطية:

﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً (143)﴾

ديننا دين متوازن:

 ديننا متوازن، بين عدم الزواج كلياً، وبين الزنا من دون قيد أو شرط، لدينا زواج، وفي حالات خاصة مسموح بثانية وثالثة ورابعة:

﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً (143)﴾

 ترك العمل تطرُّف، والانغماس بالعمل تطرف:

﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً (143)﴾

 وقال:

﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ (37) ﴾

(سورة النور)

 وقال:

﴿ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ (143)﴾

 تشهدون لهم الحق:

﴿ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً (143)﴾

أعظم داعية هو الذي يتكلم من خبرات يعيشها :

 أرسل الله عز وجل هذا النبي الكريم الذي هو سيِّد الأنبياء والمرسلين لهذه الأمة المباركة، وكلَّف هذه الأمة كما أن النبي شهد لها بالحق أن تشهد للناس بالحق . الذي يرى ويتكلم عما رأته عينه يكون كلامه بليغاً جداً، أما إذا سمع فقط !! إذا شخص لم يذهب إلى بيروت إطلاقاً، وقلنا له: صف لنا بيروت، يقول: والله قرأت عنها أنها على الساحل، قرأت عنها أنها محاطة بجبال خضراء، ما أدري مبلغ هذا الكلام من الصحة . أما لو عاش إنسان في بيروت وقلت له: صف لنا بيروت . يتكلم بطلاقة وبوضوح، وبقوة تأثير عجيبة، ينقل لك خبراته، فلذلك إذا أراد الإنسان أن يدعو إلى الله، يجب أن لا تتكلم بشيءٍ لست قانعاً به، لا تتكلم بشيءٍ لست واثقاً منه، لا تتكلم بشيءٍ لا تراه رأي العين، حينما تشهد اشهد للناس، لذلك أعظم داعية هو الذي يتكلم من خبرات يعيشها، من حقائق يلمَسها، من أفكار هو قانعٍ بها، هذه هي الدعوة .

﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً (143)﴾

 هذه الأمة العربية التي شرفها الله وكرَّمها، ونقلها من رعاة الغنم إلى قادة الأمم، وأمرها أن تكون وسطاً بين الله وبين خَلقه، ماذا حل بها ؟
 مرة كنت في أمريكا، وسمعت خطبة لإنسانٍ باكستاني، قال في هذه الخطبة شيئاً لطيفاً، وهو يخاطب المصلين وأكثرهم من الأمة العربية ـ توجد جالية عربية كبيرة جداً في مدينة هناك ـ قال: أنتم سادتنا نحن بكم هدانا الله عز وجل، لولاكم لكنا عباداً للأصنام، عُباداً للنيران ـ ذكر من فضل هذه الأمة على بقية الشعوب ما يشعر الإنسان بأن هذه الأمة أعلى الأمم ـ قال: ما لكم نسيتم هذه المُهمة، ما لكم نسيتم هذا الشرف العظيم الذي منحكم الله إياه، أنتم في بلاد تبيعون الخمر، أهكذا كان آباؤكم وأجدادكم ؟! بعد أن أثنى على هذه الأمة الثناء العطر، ذكر مثالبهم في بلاد الغرب، فأنت يجب أن تفتخر أنك تنتمي إلى أعظم أمة، إلى أمةٍ أنزل الله القرآن الكريم بلسانها .

واقع الأمة المؤلم:

 قال تعالى:

﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(3) ﴾

(سورة الزخرف)

 وقال:

﴿ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ(195) ﴾

(سورة الشعراء)

 تنتمي إلى أمةٍ هي الوسيطة بين الله وبين خلقه، وسيطة، ومتوسطة، ومعتدلة، وقوية، ونيِّرة، وعادلة، هذه معاني الوسطية كلَّها .

﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً (143)﴾

 إنك حين ترى واقع الأمة المؤلم، لماذا تتألم ؟ أين كنا وأين أصبحنا ؟ فبعض المسلمين أو أكثرهم فتنوا بالغرب، فعاشوا حياة الغرب، ونسوا دينهم، والأمانة التي حملهم الله إيَّاها، وعاشوا في انفصامٍ في شخصيتهم، يعتزون بدينهم وبماضيهم، ويضربون في هذه الحضارة المتوهِّجة التي نسوا فيها أوامر ربهم، هذه حالة صراع، وحالة انفصام شخصية، تصيب كل إنسان لم يقو إيمانه بحيث يتجاوز كل هذه العقبات والصوارف، بل جعله إيماناً وسطاً، إيماناً ضعيفاً جذبته هذه القوى من يمينٍ أو من شمال .

﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ (143) ﴾

التحول للقبلة امتحان عبودية:

 التحول للقبلة امتحان عبودية، إذا كان الأب جالساً على المائدة، والطعام نفيس، وابنه جائع، ولهذا الأب يدٌ طويلة في تربية ابنه وفي إكرامه، قال له: يا بني لا تأكل . فإذا كان هذا الابن يعرف قدر أبيه، وحكمة أبيه، ومحبة أبيه، ورحمة أبيه ينصاع للأمر ولو لم يفهم الحكمة . بطولتك أن تنصاع للأمر ولو لم تفهم الحكمة، لماذا ؟ لأن الحكمة إذا توضَّحت تماماً فقد الأمر قيمته التعبُّدية، وأقبلت عليه طمعاً بمصلحتك الشخصية، لكن الله يُريدك عبداً له، لذلك من حين لآخر تأتي أوامر قد لا تفهمها أنت:

﴿ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ (143)﴾

 الإنسان غير المهتدي، المتعلق بالتقاليد والعادات لا يحتمل، فيقول لك مثلاً: هذه الكعبة بيت الله، لماذا انصرف عنها المسلمون إلى قبلة اليهود ؟!

﴿ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)﴾

زوال الكون أهون عند الله من أن تدع شيئاً لله دون أن تأخذ شـيئاً أثمن منه:

 الله عز وجل خلقنا ليسعدنا، وخلقنا لنصل إليه، وخلقنا كي نعرفه، فهل يعقل أن يكون من أفعال الله ما يبعدنا عنه ؟ مستحيل، أب همه الأول أن يكون ابنه متعلماً، فهل من المعقول أن يمنعه يوم الامتحان من تقديم الامتحان ؟ هذا يتناقض مع هدف الأب كلياً .

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ (143)﴾

والله أيها الأخوة، والله الذي لا إله إلا هو، هذه عبارة أستخدمها كثيراً: زوال الكون أهون على الله من أن تتودد إلى الله ثم يضيّعك، من أن تؤثر جانب الله على مصالحك ثم يضيعك، زوال الكون أهون عند الله من أن تدع شيئاً لله دون أن تأخذ شـيئاً أثمن منه:

(( ما ترك عبد لله أمراً لا يتركه إلا لله إلا عوضه الله منه ما هو خير له منه في دينه ودنياه ))

[الجامع الصغير عن ابن عمر]

 هذا كلام مستحيل، مستحيل أن تخاف من الله وأن يخيفك من أحد، مستحيل وألف مستحيل أن تقلق على مصيرك في الآخرة وأن تضيّع الآخرة:

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ (143)﴾

 هذه

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ ﴾

 أيها الأخوة أشد أنواع النفي في القرآن، أنا مثلاً أسأل إنساناً: هل سرقت هذا المبلغ ؟ إذا قال لك: لا . هو قد يكون سارقاً، ولكنه لم يسرق هذا المبلغ، أما إذا قال لك: ما كان لي أن أسرق . إذ قلت له: هل أنت جائع ؟ يقول لك: لا . الجوع ليس عاراً، أما إذا قلت له: هل أنت سارق ؟ يقول لك: كلا . أداة ردعٍ ونفي، أو ما كان لي أن أسرق، أي هذا ليس من شأني، ولا من طبيعتي، ولا من مكانتي، ولا من رغبتي، ولا أرضاه، ولا أفعله، ولا أفكر فيه، ولا أقر عليه، هناك تقريباً عشر أفعال منطوية في كلمة: ومـا كان الله .

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ (143)﴾

مستحيل أن تستوي حياة المؤمن مع حياة الشارد عن الله لأن هذا يتناقض مع وجود الله :

 لا تخف، ما دمت تطلب الحقيقة، ما دمت تخطب ود الله عز وجل لن يضيعك الله عز وجل، وهناك آلاف القصص التي لا تنتهي عن إنسان آثر جانب الله فكسب الدنيا والآخرة، ولا تنسوا هذه العبارة أرددها كثيراً: من آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً، ومن آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً .

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ (143)﴾

 تقبل عليه، تخطب وده، تصطلح معه، تطيعه، تخدم له عباده، تخاف من سخطه، تخاف أن تعصيه، ويعاملك مثل الناس ؟!! والله هذا يتناقض مع وجود الله:

﴿ أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ ﴾

( سورة الجاثية الآية: 21 )

 أتكون حياتك كحياة الشارد عن الله ؟! مستحيل، حياتك، عملك، صحتك، زواجك، سمعتك، مستقبلك، مكانتك، مستحيل أن يستوي هؤلاء مع هؤلاء هذا يتناقض مع وجود الله:

﴿ أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾

( سورة الجاثية الآية: 21 )

مستحيل أن يعامَل المؤمن كالكافر :

 قد يقول قائل: المعاملة بالآخرة فقط، لا، لا، بالدنيا أيضاً، والدليل :

 

﴿ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ ﴾

( سورة الجاثية الآية: 21 )

 هذه الآية وحدها أيها الأخوة والله تملأ قلبكم أمناً وطمأنينة، تملأ قلبكم ثقةً بالله عز وجل، من سابع المستحيلات، مستحيل وألف مستحيل أن يعامَل المؤمن كالكافر، المستقيم كالمنحرف، الصادق كالكاذب، الأمين كالخائن، المحسن كالمسيء، مستحيل .

﴿ أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ ﴾

( سورة الجاثية الآية: 21 )

 أيها الأخوة الكرام:

﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ (18) ﴾

( سورة السجدة)

 وقال:

﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ﴾

( سورة القلم ) .

 وقال:

﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾

( سورة القصص )

لا يستوي المحسن مع المسيء:

 قال تعالى:

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ (143)﴾

 شخص يسكن بأطراف المدينة، ركب أول سيارة، وثاني سيارة، وأمضى ساعة على الطريق، وبقي ساعة جالساً على ركبتيه في المسجد، لا يوجد كأس من الشاي، ولا يوجد ضيافة، ولا أي شيء، ثم يعود إلى البيت، استهلك من وقته ثلاث ساعات، هل يستوي مع إنسان يجلس وراء جهاز اللهو يتابع المسلسلات، أهذا كهذا ؟! هل يستوي من يأتي مجلس علم مع لاعب النرد حتى الساعة الثانية مساءً معقول ؟ إنسان يجلس في بيت الله يستوي مع إنسان في جلسة مختلطة ؛ نساء كاسيات عاريات وغمز ولمز هذا مع هذا ؟ إنسان يخشى المال الحرام، يركل بقدمه مئات الألوف لشبهة فيها، وهناك إنسان يأخذ المال من أي طريق وبأي طريقة ! هذا كهذا مستحيل، والله لو استويا لكان الدين كله باطلاً، مستحيل وألف مستحيل أن يستوي المحسن مع المسيء، الورع مع المتساهل، كل شيء بحساب دقيق.

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ (143)﴾

 أإنسان يغض بصره عن محارم الله كالذي يملأ عينيه من الحرام ؟ أهذا كهذا عند الله عز وجل ؟ إن توهَّمت أنهما متساويان أنت بهذا تشكك في عدل الله، وفي رحمة الله، وفي حكمة الله، مستحيل، كن بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك .

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ (143) ﴾

النبي عليه الصلاة والسلام منصاع لأمر الله لكنه يتمنى أن تكون القبلة في مكة المكرمة:

 امرأة تخشى الله، تحجبت محبةً لله، يقول الغافلون عنها: لا أحد يخطبها ؛ أما المتفلِّتة والفاسقة والفاجرة والتي تعرض مفاتنها على الناس هذه التي تخطب . هل هذا كلام ؟ هذا كلام إبليس، امرأةٌ طائعةٌ لله ترجو الله واليوم الآخر لها عند الله مكانة كبيرة جداً، هذه يهيِّئ الله لها من يكرمها، ومن يحفظها، ومن يقودها إلى الجنة . هناك كلام شيطاني، إذا لم نعمل معصية نخسر، هذا كلام الشيطان بعينه، إذا لم يكن هناك اختلاط لا تُخْطَبُ البنت، هكذا عند الناس، مثلاً إذا لم تظهر مفاتنها لا أحد يعرفها .

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ (143)﴾

 إذا لم نكذب لا نعيش وعندنا أولاد، هكذا كلام الناس، إذا لم نغش لا نعيش، يجب أن نكون مثل الناس ماذا نفعل ؟ الناس كلها تغش ونحن مع الناس، هذا كلام الشيطان:

﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ (18) ﴾

( سورة السجدة)

 وقال:

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)﴾

 النبي عليه الصلاة والسلام منصاع لأمر الله، لكن عواطفه كانت أن تكون القبلة في مكة المكرمة:

﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ (144) ﴾

النبي عليه الصلاة والسلام كان يقلِّب وجهه في السماء منتظراً الوحي:

 أي ينتظر الوحي من السماء، يا رب أنت حوَّلت القبلة إلى بيت المقدس هل من عودةٍ إلى بيت الله الحرام ؟ كان عليه الصلاة والسلام يقلِّب وجهه في السماء منتظراً الوحي:

﴿ قَدْ نَرَى (144) ﴾

 نرى فعل مضارع، أي الآن:

﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا (144) ﴾

 تتفق مع عواطفك، لما خرج من مكة المكرمة، قال عليه الصلاة والسلام:

(( اللّهُمَّ إِنَّكَ أخْرَجْتَني مِنْ أَحَبَّ الْبِقَاعِ إِلَيَّ فَأَسْكِنِّي في أَحَبِّ الْبِلاَدِ إلَيْك ))

[الجامع الصغير عن ابن عبد البر]

 فسكن في المدينة المنورة، فمكة المكرمة من أحب البلاد إلى رسول الله .

﴿ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (144) ﴾

 هذه القبلة تجمع المسلمين في اتجاهٍ واحد، أينما ذهبت ؛ إلى بلاد أمريكا، إلى أوروبا، إلى آسيا، إلى اليابان، يجب أن تتوجه نحو بيت الله الحرام .

 

مكة المكرمة هي الوسط الهندسي لليابسة :

 بالمناسبة مكة المكرمة وسط هندسي لليابسة، لو أخذنا العالم القديم ورسمناه على الخارطة وأخذنا أبعد مُدن هذا العالم وجعلناها نقاطاً على محيط العالم، ووصلنا بين هذه المدن فكانت أقطاراً، أقطار العالم القديم تتقاطع في مكة المكرمة، أي أن مكة تبعد عن أقصى مدينة في آسيا، وأستراليا، وأوروبا، وإفريقيا ثمانية آلاف كيلو متر، ولو ضمن العالم الجديد أمريكا الشمالية والجنوبية، فجعلنها خارطة مسطحة، وأخذنا أقطار العالم الجديد مع القديم، لتقاطعت هذه الأقطار في مكة المكرمة، فمكة تبعد عن أطراف العالم القديم مع الجديد ثلاثة عشر ألف كيلو متر بالضبط، هذا في بحث قُدِّم للجامعة حول أن مكة المكرمة هي الوسط الهندسي لليابسة .

 

﴿ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (144) ﴾

 لكن ليست القبلة هي الكعبة بالذات، وإنما هي جهة الكعبة، بالجهة تحل مليون مشكلة، أما لو أن القبلة هي الكعبة بالذات لاحتجنا في كل مسجد إلى قياس دقيق جداً، وقد تختل القبلة زاوية درجة أو درجتين، أما القبلة هي خط، خط مكة المكرمة، فهي نحو الجنوب .

﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) ﴾

 ورد في التوراة أنه سيأتي نبيٌ للمسلمين هو محمدٌ بن عبد الله، وسوف تتحول القبلة عن مكة المكرمة إلى بيت المقدس، وتعود إلى مكة المكرمة .

﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)﴾

إن أراد الإنسان أن يؤمن فأي شيءٍ يدلُّه على الله :

 أيها الأخوة، هؤلاء الذين أوتوا الكتاب، والذين عرفوا من خلال كتابهم المقدَّس أن القبلة سوف تتحول إلى بيت المقدس، ومع ذلك أنكروا على النبي الكريم أن يتجه إلى قبلتهم، فقالوا: تُعارض ديننا وتتجه إلى قبلتنا . ومشركو مكة المكرمة أنكروا على النبي ذلك لأن هذه الكعبة بيت آبائهم وأجدادهم .

﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)﴾

 الإنسان الذي يعلم الحقيقة ويتكلم خلافها هذا مجرم، الذي تكلم بلا علم آثم، أما الذي يتكلم بخلاف ما يعلم فهذا مجرم .

﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾

 لمن الآيات ؟ لمن يريد أن يؤمن، أما حينما لا يريد الإنسان أن يؤمن، لو التقى بالأنبياء جميعاً واحداً وَاحداً، وشاهد كل معجزاتهم واحداً وَاحداً لا يؤمن، الإنسان يؤمن إذا أراد أن يؤمن، إن أراد أن يؤمن أي شيءٍ يدلُّه على الله، وإن رفض أن يؤمن لو جلس في أكبر قاعدة في الفضاء الخارجي، ورأى المجرَّات المئة ألف مليون مجرة بشكل مدهش لا يؤمن، لو رأى الخلايا في جسم الإنسان تحت مجهر إلكتروني لا يؤمن، لو رأى الآيات التي لا تعد ولا تحصى لا يؤمن، لأنه كآلة بالغة التعقيد ـ آلة تصوير ـ ولكن لا يوجد فيها فيلم، فمهما لقطت هذه العدسة من مناظر رائعة، هو لم يرد الحقيقة وقلنا لا يوجد عنده فيلم، لا يصور شيئاً، وأصغر آلة تصوير، وأرخص آلة تصوير مع الفيلم تلتقط صورة، فالقضية قضية أن تريد الحقيقة أو لا تريدها، إن أردتها وجدتها في كل شيء، وإن عزفت عنها لن تجدها في أكبر شيء .

 

الكون بحدّ ذاته معجزة فإن لم تؤمن به في وضعه الراهن الطبيعي فلن تؤمن إذا خُرقت نواميسه:

 قال تعالى:

﴿ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ (145) ﴾

 أي أن الذين شاهدوا البحر صار طريقاً يبساً، هل هناك من آيةٍ أعظم من ذلك . فلما خرجوا من اليم قالوا:

﴿ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ(138) ﴾

( سورة الأعراف )

 الذين رأوا الناقة تخرج من الجبل، الذين رأوا إبراهيم في النار لم يحترق، رأوا المعجزات ومع ذلك لم يؤمنوا، فالكون بحد ذاته معجزة، فإن لم تؤمن به في وضعه الراهن الطبيعي لن تؤمن إذا خُرقت نواميسه .

﴿ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ (145) ﴾

 هناك أشياء متناقضة كيف نجمعها ؟ يقول لك: وحدة الأديان . لا يمكن، أشياء كلها متناقضة:

﴿ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ (145) ﴾

الآيات التالية تخاطب أمة محمد عليه الصلاة والسلام:

 هذا كلام الله عز وجل:

﴿ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) ﴾

 طبعاً مستحيلٌ أن يتبع النبي أهواءهم، ولكن هذه الآية لأمته من بعده، أي يا أمة محمد، ولئن اتبعت أهواءهم، هوى الكافر أن تكون على شاكلته، هوى الكافر أن تكسب المال الحرام، هوى الكافر أن تكون المرأة مُتعةً للجميع، هوى الكافر أن تعيش الدنيا فقط، هوى الكافر أن تتكتل تكتُّلات مصلحة، ليست على حق .

﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور