وضع داكن
16-04-2024
Logo
موضوعات فقهية متفرقة - الدرس : 16 - تتمة صفات المتعلم .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهمّ لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنَّك أنت العليم الحكيم ، اللهمّ علِّمنا ما ينفعنا ، وانْفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علمًا ، وأرِنا الحقّ حقًا وارزقنا اتِّباعه ، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجْتِنابه ، واجْعلنا مِمَّن يستمعون القَوْل فيتَّبِعون أحْسَنَهُ ، وأدْخِلنا بِرَحمتِكَ في عبادك الصالحين .

من صفات طالب العلم أيضاً :

14 ـ أن يكون قصْد المتعلّم في الحال تَحْلِيَة باطنِهِ وتَجليَتِهِ بالفضيلة :

 أيها الأخوة الكرام : تحدَّثنا من قبل عن فضل العلم ، وعن فضْل التّعلّم ، وعن فضل التعليم ، ثمَّ بدأنا بِصِفات المتعلِّم ، ونحن في الصِّفة التاسعة فيقول الإمام أبو حامد الغزالي رضي الله عنه : أن يكون قصْد المتعلّم في الحال تَحْلِيَة باطنِهِ ، وتَجليَتِهِ بالفضيلة ، هذا هو القصد ، قال تعالى : بل الإنسان على نفسه بصيرة ، أي كلّ واحدٍ من بني البشر يعرف بالضَّبط ماذا يقصِد ؟ وما هدفه ؟ وما هي نيّتهُ ؟ يستطيعُ أن يغشّ الناس إلى وقتٍ قصير ، وقد يستطيعُ أن يغشّ بعضهم إلى وقتٍ طويل ، ولكنَّه لن يستطيع أن يغشّ نفسه أبدًا ، فالذي يحضر مجلس العلم ليَسْأل نفسهُ هذا السؤال لماذا أحضر ؟ هل هناك مَطلبٌ دُنْيَوي ؟ هل هناك حبّ للوَجاهَة أو الاستعلاء ؟ أو كسْب الدّنيا بالدِّين ؟ إن كان هذا هو الهدف فَتَعْسًا لهذا المتعلّم، أما الصِّفة التي تليق بطَالب العلم الشريف أن يكون قصْدهُ تَحليَة باطنه وتَجميلهُ بالفضيلة ، وفي المآلي - أي المستقبل - القُرْب من الله تعالى ، والتَّرَقِّي إلى جِوار الملأ الأعلى، أي أنت مخلوق لِتَسْعد بالقُرب من الله عز وجل ، إنّ الله طيّبٌ ولا يقبلُ إلا طيِّبًا ، لا يُعقل أن يجلس ممرِّضٌ مع كبار الأطبّاء في اجتماع على مستوى رفيع يخجل ، ليس من المعقول أن يجلس حاجبٌ مع رؤساء أركان الجيش في اجتماعٍ خطير ، وليس من المعقول أن يجلسَ بائعٌ مُتجَوِّل مع كبار تُجَّار البلد في اجتماع خطير ؛ لأنّ لكلّ مقامٍ أشخاص ، كذلك ليس من المعقول أن يكون للسفيه ، ومُحِبّ الدنيا ، والحقود ، وصاحب الغِلّ والمتكبّر ، والمتجَنِّي ، والمتطاوِل ، والغضوب ، والضَّجور عند الله عز وجل مكان ، إنّ الله طيّبٌ ولا يقبلُ إلا طيِّبًا ، أي ملخَّص الملخَّص إذا أردتَ أن تسْعد إلى أبد الآبدين في مقعد صدْق عند مليك مقتدر فعليك أن تُكَمِّل نفسَكَ ، النبي عليه الصلاة والسلام بماذا أثنى الله عليه ؟ هل أثنى على بيته الفخْم ؟ هل أثنى على أرصدَتِهِ في البنوك ؟ أثنى على خلقه العظيم ، قال تعالى :

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾

[ سورة القلم ]

 فالإمام أبو حامد رضي الله عنه يقول : أن يكون قصْدهُ تَحليَة باطنه ، وتَجميلهُ بالفضيلة ، قال تعالى :

﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ﴾

[ سورة الشعراء:88]

أمراض الجسد و أمراض النفس :

 فكرةٌ قلتها سابقًا كثيرًا ، أمراض الجسم مهما كانت وبيلة ، مهما كانت خطيرة ، الموت يضعُ حدًّا لها ، أما أمراض النفس فتبدأ خطورتها بعد الموت ، قد يكون صاحبها مخدَّرًا ، النّاس نِيام إذا ماتوا انتبهوا ، قد يكون خسيسًا ، قد يكون لئيمًا ، قد يكون معْتدِيًا على أعراض الناس ، قد يبني مجْدهُ على أنقاضهم ، قد يبني غناه على فقرهم ، قد يبني أمنهُ على خوفهم، ولكن إذا جاء الموت بدأَت عذاباته النفسيّة ، فالموت يضعُ حدًّا لأمراض الجسد ، ولكنّ عند الموت تبدأ أمراض النفس ، فالذَّكاء لا أن تعتني بِبَيْتك بل تعتني بقلبك ، لا أن يكثر مالُك ولكن أنْ يكثر عملك الصالح ، لا تحبّ أحدًا مبدئيًّا ؛ أحِبَّ نفسكَ فقط ، كُنْ أنانيًّا في هذا الموضوع ، إن أحببْتَ نفسك ، وأردْت أن تسْعدَ في الداريْن فطَهِّر قلبك ، وأكْثِرْ عملك ، إنَّ الله أعطى المال لِمَن لا يحبّ ، أعطاهُ لقارون ، وأعطى المُلْك لِمَن لا يحبّ ، ولكنّ الله عز وجل لا يحبّ إلا من آمن ، واستقام على أمره وعملَ صالحًا تقرُّبًا إليه .

 

15-على طالب العلم ألا يقصد الرياسة و المال و الجاه من علمه :

 

 وعليه ألا يقصد من طلب العلم الرِّياسة ، والمال ، والجاه ، ومماراة السفهاء، ومباهاة الأقران ، وإذا كان هذا مقصدهُ من طلب العلم فبِئسما قصدَ ، لكنْ لمَّا الإنسان يطلب معرفة الله عز وجل لا ينبغي عليه أن يحتقر أصحاب العلوم الأخرى ، الإمام الغزالي ضربَ مثلاً جميلاً جدًّا ؛ المعركة قامَتْ وهناك قائد لهذه المعركة ، وقوّاد فِرَق ، وجنود ، وممرِّضون يُسعفون الجرحى ، هناك أناسٌ يصلحون الخيل ، وأناسٌ يمدّون هذا الجيش بالتمويل هؤلاء الذين يعملون على توفير خدمات الجيش لهم أجْر في النَّصْر لأنَّهم أسهموا بشكلٍ أو بآخر ، وكذلك من اشتغل بالفقه والفتوى ، والعربيّة وعلم الفرائض والتجويد ، هؤلاء لهم عند الله أجرهم إن كان عملهم متكاملاً مع بقيّة العلماء ، ففي العصور السالفة أُناسٌ دَعَوا إلى الله ، أُناسٌ اشتغلوا بالفقه، وأُناسٌ اشتغلوا بعِلْم المواريث ، وأناسٌ اشتغلوا بعلم التجويد وأناسٌ اشتغلوا بعِلم التوحيد ، ألَّفوا الكتب ، وصنَّفوا ، وبوَّبوا ، وبحثوا ، واستقصوا ، هؤلاء جميعًا لهم عند الله أجر لأنَّ عملهم متكامل ، لكنّ الذي تبحَّر في علْم العربيّة كان هناك أناسٌ كثيرون يكفونه تعريف الناس بالله عز وجل ، أما إذا ضاع العلم الأساسيّ فينبغي أن نبدأ بالأهمّ ثمَّ نُتْبعُهُ بالمُهِمّ .

16 ـ أن يعلمَ طالب العلم نسبة العلوم إلى المقصد :

 الصفة العاشرة ، وهذه صفة لها أهمّيتها الكبرى ، قال : أن يعلمَ طالب العلم نسبة العلوم إلى المقصد كما يؤثر الرفيع القريب على البعيد ، الفكرة دقيقة ، مثلاً طالبٌ أرسل بِبِعْثة دراسيَّة إلى فرنسا ، وهو في باريس نظر فإذا بِمَتحف اللّغة ، فدخل إليه وأمضى فيه ساعاتٍ طويلة ، وتابع دُخولهُ يومًا بعد يوم حتى استقصى كلّ لوحاته ، حينما دخل إلى هذا المتحَف نَسِيَ المهمَّة الأساسيَّة التي جاء من خلالها إلى باريس ، أما الطالب الذكي فكلّ شيء يُشاهدهُ في هذه المدينة يقيسُهُ بِمُهِمَّته الأساسيَّة من مجيئه لهذه المدينة ، فإذا كان في خدمة هدفه دخل إلى هذا المكان ، رأى مكتبة فدخل إليها ليَشْتري كتابًا في قواعد اللّغة الفرنسيَّة هو بِحَاجة إليه ، الإنسان العاقل له في الحياة هدفٌ واضِح ، فكلّ شيءٍ يخْدمُ هدفهُ يسْعى إليه ، دائمًا هدفُهُ واضِح ، وكلّ شيءٍ يُقيِّمُهُ طبْقًا لِهَدفه ، والإنسان الذي ضاع عنه هدفهُ في الحياة ، كلّ شيءٍ يستهويه ، وكلّ شيءٍ ينغمِسُ فيه ، كلّ شيءٍ ينصرف إليه ، يُعَبِّرُ عنه العلماء بالضَّياع ، فلان ضائع ، ينصرفُ إلى شيءٍ تافهٍ لا يخدمُ آخرتهُ ، يقرأ كتبًا لا تجْديه ، ويُمارس هوايات لا تسمو بنفسه ، فالإنسان عندما ينسى هدفهُ الكبير ، تضيعُ عليه الوسائل ، أما لمّا الطالب كما ضربتُ مثلاً قبل قليل كلّما نظر إلى واجهة محلّ ، إلى مكان ، إلى بناء الهدف الوحيد أن يرجع إلى بلده ويحمل الدكتوراه إذًا المكتبات قد تفيده وشراء الكتاب قد يفيده ، وصُحبة هذا الطالب المتفوّق في اللّغة الفرنسيَّة قد يفيدهُ ، فيقدِّر كلّ شيء في ضوء الهدف الكبير الذي من أجله جاء ، هذا المثل لو طبَّقناهُ على المؤمن ، يمكن كتاب قصَّة لا يشتريه لأنّه لا فائدة منه ، أما كتاب في الحديث يشتريه بِسُرعة ، يمكن إنسان تافه لا يُصاحبهُ أما إنسان سبقهُ بالإيمان فيُصاحبه ، ويرافقهُ ويقتبس منه ، فالإنسان يقيِّم الأصدقاء ، ويقيِّم الأهل ، ويقيِّم الزملاء ، ويقيّم الجيران ، ويقيّم الحاجات قد ينفق مالاً لِحاجةٍ تافهة فيها كِبْر واستعلاء ، وليس فيها أداء لوظيفة أساسيَّة في الحياة ، هذا المال الذي معه مُحاسبٌ عليه ؛ كيف اكتسبهُ ؟ وفيم أنفقهُ ؟ أي لا نستطيع أن نبلغَ المُراد إلا إذا أمْكَنَ أن ننْسب كلّ شيءٍ في حياتنا دائمًا إلى الهدف الكبير الذي من أجله خلقْنا ، هذا هو الهدى أن تعرف لماذا خلقْتَ ؟ وما هو الضَّلال ؟ ألا تعرف لماذا خلقْتَ ، يقول لك أحدهم : سبحان الله ؛ الله عز وجل خلق الناس ليعذِّبهم ! لا أحد مرتاح !! هذا ويقول : سبحان الله !!!! كلام فيه جهل ، لكن أنت إذا عرفتَ أنّ الله عز وجل خلقكَ لِسَعادة أبديَّة ، وجاء بك إلى الدنيا لِتُؤهِّلَ نفسَكَ لهذه لسعادة ، صار عندك الجامع مقدَّس ، وطلب العلم فريضة.

طريق الإيمان بالله العظيم هو التفكّر بآياته :

 أنا أمتحن الإنسان من الكلمة الأولى ، تقول له : لم نرك البارحة ، يقول : والله انْشَغَلْتُ، أيّ ضيف ، وأيّ زبون ، وأيّ عارض ، أو أيّ شيء قد يحول بينك وبين مجلس العلم، ولكن المؤمن الصادق يركّز كلّ أموره ، وكلّ مواعيده ، وينظّم حياته على أساس مجالس العلم ، لأنّه في هذا المجلس يتعرّف إلى الله عز وجل ، وطلب العلم فريضة ، فالله عز وجل لا يُرَى بالعين ، ولكن اجْلس في مجلسٍ من مجالس العلم تجد فيه كلامه مفسَّرًا ، هكذا يريد الله عز وجل ، قال تعالى :

﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ *وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ *لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ﴾

[ سورة الغاشية : 1-16]

 نعوذ بالله من أحوال أهل النار ، ونرجو الله أن نكون من أهل الجنَّة ، فما الطريق؟ قال تعالى :

﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴾

[ سورة الغاشية : 17-20]

 هؤلاء أهل النار وهذه عذاباتهم ، وهؤلاء أهل الجنّة وهذه عذاباتهم والطريق هو هذا الطريق الإيمان بالله ، وطريق الإيمان بالله التفكّر بآياته ، وانتهى الأمر ، فَمَجْلس العلم أفضل من صلاة ألف ركعة والطريق صار واضحًا ، من أجل أن تستقيم يجب أن تؤمن بالله العظيم ، من أجل تعمل صالحًا يجب أن تؤمن بالله العظيم ، ومن أجل أن تبتغي الدار الآخرة يجب أن تؤمن بالله العظيم ، طريق الإيمان بالله العظيم هو أن تفكّر بالله العظيم ، فمَجلس العلم ضروري ، مجلسُ علْمٍ آخر عن الأحاديث الشريفة ، افْعَل كذا ولا تفعل كذا ، أرقى أنواع الفهْم هو فهْم النبي عليه الصلاة والسلام ، فأنت بِمَجلس العلم الذي من نوع الفقه والأحاديث تأخذ أعلى فهْمٍ لِكِتاب الله ، وأعلى كمالٍ إنساني ، فهذا هو الهدف ، لمَّا تعرف أنّ الهدف فيه حياة أبدِيَّة لا تنقضي .

العاقل من أعدّ لساعة الموت عدتها :

 الشيء المؤلم الذي يحزّ في القلب أنّ ساحة النفوس مشغولة بالدنيا ، ولا يحسب للموت أحدٌ حسابًا ، والمشكلة أنّ الأخطاء التي يقع فيها الإنسان في الحياة الدنيا لا تُصحّح بالموت ؟ أيْ غلْطة أبدِيَّة فإذا جاء ملك الموت لا ينفع النَّدَم ، ولا يجدي البكاء ، ولا ينفع التَّوَسّل ، ولو أنّ الإنسان يملك ملء الأرض ذهبًا ، وبذلهُ عن نفْسٍ طيِّبةٍ لا يُقْبَلُ منه ، قال تعالى :

﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً﴾

[ سورة الأنعام: 158]

 الذي أراه بفضل الله عز وجل المؤمن الصادق كلّ يوم وكلّ ساعة وكلّ دقيقة ساعة اللِّقاء أمامه ، وهذه واقعيَّة ، لو جئتَ بإنسان نجا من الموت ، ساعة اللِّقاء إذا كان أبلى فيه والله هذا هو العُرْس الحقيقي ، من قبل ثلاثين سنة يفكّر بهذه الساعة ، ساعة انتهاء العمر ، واللّقاء مع الله عز وجل ، غضَّ بصرهُ ، دافعٌ صدقات ، عادَ المرضى المؤمنين ، عاوَنَ إخوانهُ المساكين ، دعا إلى الله ، أمَرَ بالمعروف ، نهى عن المنكر ، عمل الصالحات ، وتواضع ، قدَّم خدمات للمؤمنين ، عنده رصيد كبير ، فإذا جاءهُ ملك الموت يُقال له : هنيئًا لك ، قال تعالى :

﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً ﴾

[ سورة الأحزاب : 44]

 أي هناك أناس يقولون لك : الموت دعنا منه الآن ، هذا كلام فارغ !! الموت واقع وما منَّا واحد إلا وسيموت ، سيّدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عيَّنَ مستشارًا رفيع المستوى اسمه عمرو بن مزاحم قال له : وظيفتك أن ترافقني فإذا رأيْتني ضللْتُ أمْسكني من تلابيبي وهزَّني هزًّا عنيفًا وقلْ لي : اتَّق الله يا عمر فإنَّك ستموت ، لو أنّ الإنسان حاسب نفسه كلّ يوم وقال : إنَّني سأموت ، وسأُحاسب عن كلّ كلمة قلتها ، وعن كلّ درهمٍ اكتسبتهُ ، تجد الناس يفتخرون بِكَسْب المال الحرام ، ويفتخر بإنفاقه لِوَجه من الحرام ، ويفتخر بِزَوْجته التي تبدو فتنةً للناظرين ، ويفتخر بِتَحلّل أهل بيته من قواعد أخلاق الشرع ، يقول لك : أنا حرّ ، هذه قناعاتي الجديدة ، ويفتخر بإيقاع الأذى بالناس ، لو يعرف الحقيقة لذابَ خجلاً من الله عز وجل ، عليك أن تفتخر بِطَاعةٍ وبِخَدماتٍ للناس ، افتخر أن ترشد الناس إلى طريق الحقّ ، هذا هو الفخْر ، قال تعالى :

﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾

[ سورة الصافات : 61]

 قال تعالى :

﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾

[ سورة المطففين: 26]

مراتب العلوم :

 الإمام الغزالي رضي الله عنه يُقسِّم العلوم إلى ثلاث مراتب ، مثلاً إنسان يريد الذهاب إلى الحج ، فإعداد الراحلة والزاد هذه مرحلة من مراحل الحجّ ، سلوك طريق الحجّ ، وتحمّل المشاق ، والصعود والهبوط والسَّفر هذه مرحلة ثانيَة ، والوُصول إلى الحرم المكيّ والطَّواف والسَّعي هذه مرحلة ثالثة ، فقال : هناك علوم تُشبهُ الإعداد للزاد والراحلة ، وما شاكل ذلك ، وهذه علوم المقدّمات ، تعلّم اللّغة - نحو ، صرف ، تجويد - وتعلّم كيف يعتني بصحَّته ، العلوم الماديّة لها علاقة بهذا الموضوع ، وأما إذا سلكَ إلى الحجّ أيْ بدأ يتعرّف إلى الله عز وجل فإذا جاء ملك الموت وصلَ إلى السعادة الكبرى ، أي العلوم على ثلاث مراتب ؛ علوم إعداد ، وعلوم سلوك ، وعلوم وصول ، معرفة الله عز وجل تقعُ في قمَّة هذه العلوم ، وقد تتعرّف إلى بعض القوانين في هذه الحياة عن طريق القوانين المادّيَّة ، وقد تتعرَّف إلى قواعد السلوك إلى الله عن طريق العلوم الدِّينيَّة ، فإذا عرفْت الله عز وجل ، وأقْبلْت عليه وصلْت إلى قمَّة السعادة ، على كلٍّ لا يعرف الشوق إلا من يكابده ، ولا الصَّبابة إلا من يُعانيها ، إذا سافر إنسان إلى مدينة بعيدة بِسَيَّارته ، تواجههُ عقبات ، ومشكلات ، ومناظر جميلة ، طرق خطرة ، وأماكن وعِرَة ، طرق ضيّقة وأخرى واسعة ، فأنت إذا سألت واحدًا قد سلك تلك الطريق ، تجد عنده أشياء كثيرة جدًّا ، وخبرات ، يفصِّلها لك بكلّ تفصيل ، أما إذا الإنسان غير سالك كيف الطريق من دمشق إلى بيروت ؟ يقول لك : لا يوجد شيء رأسًا إلى بيروت ، كيف رأسًا إلى بيروت ؟ ألا يوجد وقوف ؟ يقول لك : لا يوجد وقوف ، معنى هذا هو لم يسلك الطريق ، لأنَّه لو سلكهُ لقال لك عن الطريق أشياء كثيرة ، وقفات على الحدود ، وبطاقة حمراء وبطاقة بيضاء ، ونقاط مراقبة ، ونقاط تفتيش ، أشياء كثيرة ، وطريق صاعد ، وطريق هابط مكان سهل ، فالذي سلك يصف لك كلّ شيء ، إذا الواحد ما سلك يقول لك : رأسًا تكون ببيْروت ، فكذلك إذا كان للإنسان خبرة في طريق الإيمان الحقيقي تجد عنده تفصيلات كثيرة ، وخبرات ، وعقبات ، ووسائل معينة، ويحذرك من أشياء ، ويأمرك بأشياء ، فالإنسان كما قال سيّدنا عمر يخاطب ابن عمر : " دينَكَ دينَكَ إنَّهُ لحْمكَ ودمك ، خُذْ عن الذين استقاموا ، ولا تأخذ عن الذين مالوا "
أحدهم أراد أن ينصح تلاميذه فقال : قلِّلوا من المعاصي قدْر الإمكان ، هذا كلام كلّه جهل ، إذا كان هناك معاص يقيم عليها الإنسان فالطريق مسدود إلى الله تعالى ، هنا لا يوجد حلّ وسَط ، ممكن بالأوامر الأعمال الصالحة بقدْر الإمكان ، ادفَع عشرة ، ادْفع مئة ، حسب إمكانيَّاتك ، اخْدم هذا الإنسان ، أعِنْهُ ، كلّ هذا بِحَسب الإمكانيَّات ، دلّ هذا المريض بِحَسب إمكانيَّاتك ، أما إذا كنت داخل كليّة الطب فتعينهُ أكثر ، أما المعاصي فيجب أن تدعها كلِّيَةً وإلا الطريق مسدود .
 الناس يقولون : الدِّينُ ، سبحان الله سهل ! إذا قال هذا فهو لمْ يسْلك الطريق إطلاقًا، إذا كان مقيمًا على معاصي ، تقف هذه المعاصي بينه وبين الله حجابًا ، فالطريق مسدود لا يحسّ بِسَعادة ، قام للصلاة فإذا به يملّ لأنَّه مقطوع عن الله تعالى ، يقول لك : أنا أصلي الفرض فقط ، وإذا صلَّى الفرْض تجده سريعًا بِصَلاته ، وإذا صام لا يهمّه إلا الأكل ، همّه الأوَّل الإفطار ، أما إذا الإنسان صلى و توجه إلى الله عز وجل يرى لذائذ لا يعلمها إلا من ذاقها ، هل يعقل من النبي الكريم سيّد العالمين يكون بيته متواضعاً جدًّا وحياته خشنة ؟ معناه عندهُ سعادة تفوق حدّ التَّصوّر ، لو كانت سعادته فقط فيما يتوهّمه الناس ؛ أشياء مادِّيّة ، رسول الله ما أعطاه الله شيئًا ، فليْنظر ناظرٌ بعقله أنَّ الله أكرم محمّدًا أم أهانهُ حينما زوى عنه الدنيا؟ فإن قال أهانه فقد كذب ، وإن قال أكرمه فلقد أهان غيره حينما أعطاه الدنيا .

17 ـ الإخلاص و معرفة الهدف الكبير :

 لازلْنا في صفات طالب العلم ؛ الإخلاص ، معرفة الهدف الكبير ، ممكن أن يُدعى إنسان لِشَراء حاجة ، يقول : هذه ليس لها لزوم عندي ، أنا حياتي مستقيمة من دونها ، هذه تتناقض مع هدفي في الحياة ، يجوز للإنسان أن يُدْعى إلى حفلة ، وهذه الحفلة تتناقض مع هدفه بالحياة ، فالمؤمن عنده مجموعة قِيَم ، ومنظومة قِيَم ، ليس كلّ من يدعوه يُلبِّي ، دعوة تُلبَّى وأخرى لا تُلبَّى ، شيء يجوز وشيء لا يجوز ، شيء حرام وشيء حلال ، شيء مباح وشيء محضور ، فهو عندهُ أُسس ينطلق منها ووسائل أما غير المؤمن فكالناقة عقلها أهلها فلا تدري لم عُقلَتْ ؟ ولا لمَ أُطلقَت ؟

* * *

باب التوبة مفتوح دائماً :

 والآن إلى بعض الأحاديث الشريفة ، يقول عليه الصلاة والسلام :

(( التائب من الذنب كمن لا ذنب له ))

[ ابن ماجة عن ابن مسعود]

 هذا كلام لا يعرفهُ إلا من ذاقهُ ، إذا انْعقدَت بنَفسِكَ توبةً نصوحة ، من بعض الذنوب ، أو من ذنب ما ، يجب أن تحسّ أنّ الله تاب عليه ، إحساس ملموس ، ما هو هذا الإحساس ؟ كأنّك لمْ تُذنب ، وهو أنَّ الله تعالى قَبِلَ توبتَكَ وتاب عليك ، إذا قال العبد : يا ربّ وهو راكع ، قال الله له : لبَّيْك يا عبدي ، وإذا قال العبد : يا ربّ وهو ساجد ، قال الله عز وجل: لبَّيْك يا عبدي ، وإذا قال العبد : يا ربّ وهو عاصٍ قال الله عز وجل : لبَّيْك ثمَّ لبَّيك ثمَّ لبَّيك ، نحن الآن بعيدون عن الصَّحراء وملابساتها ، ولكن لو تصوَّرتم بدويًّا على ناقة ، وعلى هذه الناقة طعامه وشرابه ، وجلس يستريح من وعثاء السفر في ظلّ نخلة ، واستيقظ فلم يجد الناقة ! أيْقنَ بالهلاك ، والموت محقق مئة بالمئة ، إذا كان الواحد راكبًا طائرة ، وانفجرتْ بالجوّ ، بالمئة كم حتى تصل إلى الأرض سالمًا ؟ لو أنّ واحدًا نزل بِمِظلّة ، وقالوا له : اكبس الزرّ تنفتح المظلّة ، إذا ما انفتحت اكبس الثاني كي تفتحَ أكيدًا ، وفي حالة قاهرة نادرة لا تنفتح ، وتحت هناك سيارة تنتظرك كي تأخذك ، كبس أوّل زرّ ما انفتحَت ، الثاني ما انفتحت ، وكذا الثالث ، يقول : حتى السيارة لم نجدها !! هذا البدوي لمَّا جلس استيقظ فلم يرَ ناقته ، فأيْقن بالهلاء ، فتسجّى للموت ، أدخل رأسه بِعَباءته ، ونام لِيَموت ؛ انتهى أمرهُ ، وبعد حين فتَحَ عينيه ، ورأى ناقته أمامه ، وعليها طعامه وشرابه ، من شدَّة الفرح انْعقَدَ لسانهُ ، قال له : يا ربّ أنت عبدي وأنا ربّك !! قال الله عز وجل : " للَّه أفرح من توبة عبده من ذلك البدويّ بِنَاقتِهِ " و قال أيضاً :

(( لله افرح بتوبة عبده من الضال الواجد، والعقيم الوالد، والظمآن الوارد ))

[ أخرجه ابن عساكر في أماليه عن أبي هريرة ]

 فلمَّا يتوب الإنسان من توبةٍ نصوحةٍ ، من ذنب ، إذا ما شعرَ أنَّ الله عز وجل قَبِلَ هذه التوبة وعفا عنه فتَوْبتهُ غير صحيحة، تحسّ أنّ الله تعالى قبِلَ على قدْر ما يوجد من عزْمٍ أكيد على الإقلاع عن هذا الذَّنب ، الله عز وجل يتجلَّى على قلب المؤمن بقدر نيَّته العالِيَة ، فهل يُعقل أن يكون هناك همّ بالحياة مادام الله تعالى توَّاباً رحيماً ؟ أيّ ذنبٍ تخاف منه ، تُبْ إلى الله منه ، تجد الله توَّابًا رحيمًا ، فلذلك أنا أعْجَب أنّ الإنسان يخاف ذنبه وباب التوبة مفتوح ، إلا أنّ الإنسان عندما يتوب وينقض توبتهُ ، هذا كالمُستهزىء بربِّهِ ، وهذا يحسّ أنَّ التوبة لم تقبل .

(( التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ ))

[ابن ماجه عن عبد الله بن مسعود ]

 إذا تاب العبد توبةً نصوحة أنسى الله تعالى حافظَيْه ، أنسى الله جوارحه ، وبقاع الأرض كلّها خطاياه وذنوبه ، كأنَّه لا ذَنْب له ، ولكن انتبِه أنت تعامل إله ، هو قال لك : الباب مفتوحٌ على مِصْراعَيه وإيَّاك والغلط معه ، إذا أنت تبْتَ توبةً نصوحة أنا قبلتها ، وتحسّ بهذا :

(( التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ ))

[ابن ماجه عن عبد الله بن مسعود ]

 و :

((المستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه))

[ ابن عساكر عن ابن عباس]

 يفعل المعصِيَة ثمَّ يقول : لعن الله الشيطان ، ويسبّ الدِّين ثمّ يقول : أستغفر الله العظيم !!

 

التُّؤدة في كلّ شيء خير إلا في عمل الآخرة :

 ويقول عليه الصلاة والسلام :

(( التُّؤدة في كلّ شيء خير))

[المستدرك على الصحيحين عن مصعب بن سعد ]

 حديث صحيح ، التُّؤَدَة في كلّ شيءٍ خير إلا في عمل الآخرة ، لا خير في الإسراف ، ولا إسراف في الخير ، إذا الواحد صلَّى ركعتي الضحى فوجَدَ نفسهُ مسرورًا ؛ يصلي ركعتين أيضاً ، نوَيْتَ أن تقرأ خمس صفحات للقرآن ، انطلقْت ورأيْت صوتكَ عذبًا بالقرآن ، اقْرَأ كذلك ولو ساعة ، وماذا عليك ؟ لماذا خلقك الله ؟ من أجل أن تعرفهُ ، إذا الواحد فتح محلّاً فجاء أوَّل زبون وباعه ، ثمّ جاء الثاني ، وكذا الثالث ، فأنت لماذا فتحت ؟ أنت فتحتَ من أجل هذا ، لذا لا تقل لماذا جاء هذا الزبون ؟ ثمّ إذا كان هناك بيع شديد على التاجر يصل به الحال إلى أنَّه ينسى أنه أكل أم لا ؟! لماذا بالبيع والشراء تنسى أكلك كلّه ؟ لأنَّه يوجد قبض عُملة لو عرفت الخير بِمعرفة الله ، وبالصلاة ، وبالقرآن تحتقر التِّجارة كلّها ، وهذه التجارة التي لن تبور؟ قال تعالى :

﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾

[ سورة الصف: 10]

 اتَّجِرْ مع الله تعالى ، يمكن أن تتاجِر بشيء لا تربح شيئًا ، أو تربح بالمئة خمسة ، أما إذا اتَّجَرْت مع الله تعالى فالقرش بمليون ، اِتَّجِر مع الله ، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول :

(( التُّؤدة في كلّ شيء خير إلا في عمل الآخرة ))

[المستدرك على الصحيحين عن مصعب بن سعد ]

 بالآخرة لا توجد تُؤَدة ، صلِّ الصبح حاضراً ، صلّ قيام الليل ، إذا خدمْتَ إنسانًا ، وبعد أن انتهيْت من خدمته رأيت آخر اخْدمْهُ كذلك ، أنت في حياة محدودة ، يقول لك : فلان يقتل الوقت ، والحقيقة أنّ الوقت يقتلهُ ، الوقت هو الذي يقتل الإنسان ، كلّما انقضى يوم منه انقضى بِضْع منك ، فلان الفلاني له عند الله سبعة وسِتُّون عامًا ، وثمانيَة أشهر ، وسبعة عشر يومًا ، وسبع عشرة ساعة ، وأربع دقائق وثماني ثواني ، فكلَّما قرب يوم قرب أجلهُ ، الآن بالخامسة والثمانين ، وبالسادسة والثمانين قرَّبنا للموت ، وكذا بالسابعة والثمانين ، ولا أحدَ يعرف متى ينتهي أجلهُ ، لذا التُّؤدة في كلّ شيء خير إلا في عمل الآخرة ، بعمل الآخرة لا يوجد تُؤدَة.
 وفي حديث آخر عن النبي عليه الصلاة والسلام :

((التُّؤدة والاقتصاد والسَّمْت الحسَن جزءٌ من أربعة وعشرين جزءاً من النُّبوَّة))

[الترمذي عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه]

 هناك شَخص طائش ، الرِّفْق لا يكون في شيءٍ إلا زانَهُ ، ولا يُنْزعُ من شيءٍ إلا شانه ، إذا صلَّيْتَ بِتُؤدَة ، وإذا حدَّثْتَ إنساناً بِتُؤدَة ، إذا أردت أن تحاسب إنسانًا تحقَّق ، تريَّث ، بلغكَ خبرٌ تحقَّق منه ، وإذا أردْت تصليح آلة تشدّ ؛ لا تشدّ إذا ما انفتحت مباشرةً معنى هذا يوجد شيء ، لأنَّك تكسرها إذا شددتها ، هناك شخص عنيف ، يده قاسية على الآلات ؛ كلامه قاس ، ويده قاسيَة ، وحركته ، وكذا نظرته ، النبي الكريم كان خبيرًا في قلْب أعدائه إلى أصدقاء ، التُّؤَدَة .

الاقتصاد و السمت الحسن :

 الاقتصاد فضيلة ، وليس له علاقة بالدَّخل ، غنيّ أم فقير ، تأخذ ورقة كبيرة تكتب فيها كلمتين ثمّ ترميها ‍! اِجْعل ورقةً صغيرةً لذلك ، ورقة تكلّف ثمانية قروش مكتوب عليها ترويسة ، تمسح بها يدك إذا خرجت من التواليت !! هكذا يفعل الموظِّفون ، أو يضعها تحت كأس الشاي ، لذا استهلاك المواد الثمينة لأشياء غير ثمينة هذا شيءٌ يتنافى مع المؤمن ، المؤمن مقتصد ، من غير بُخل أو حِرْص ، التُّؤدة والاقتصاد والسَّمْت الحسَن .
 السَّمْت الحسَن أي يوجد وقار ، فكثرة الضَّحِك تذهب الهَيبَة ، وكثرة المزاح تُسبِّب الاستخفاف ، كثرة الأناقة ، كثرة البذاذة ، والسَّمت الحسن جزءٌ من أربعة وعشرين جزءاً من النّبوَّة، التَّأني من الله ، والعَجَلَة من الشيطان ، لو أخذت الحوادث المفْجِعَة ، إنسان حدث معه كسْر بالعمود الفقَرِي ، شَلل دائم !! لأنّه مستعجل ، لمَ العَجَلَة ؟ يتسابق ثمَّ يقفون عند الإشارة الحمراء كلّهم ، يتطاحنون فيما بينهم ليقفوا بعدها دقائق أمام الإشارة ، لذا العجلة من الشيطان والتَّأني من الله ، فالإنسان المتأنِّي قلَّما يُصاب بِحَادِث .

التاجر الأمين الصدوق :

(( التَّاجِرُ الأمينُ الصَّدُوقُ مع النَّبيِّينَ والصِّدِّيقين والشُّهداء ))

[ أخرجه الترمذي عن أبي سعيد الخدري]

 هذا لأنَّه داعِيَة من نوعٍ معيَّن ، داعِيَة بِعَمَلِهِ ، بعض التجار حلَّلوا كلمة تاجر فقالوا: التاء تعني تقوى ، والألف أمين ، والجيم جسور ، والراء رحيم ، تقيّ أمين جسور رحيم ، فالنبي الكريم قال : التاجر الأمين ، الصَّدوق المسلم يمكن أن يكون غير مسلم ، وهدفه من ترخيص الأسعار ، ومن معاملته الطّيّبة كسْب زبائن أكثر ، هدفه مادّي بحت ، وليس له هدف إظهار الإسلام على حقيقته ، فإندونيسيا بلد فيه مئات الملايين ، اهْتدَى عن طريق التُّجار ، إذا باعك التاجر بضاعة ممتازة ، مع لُطف ، ومودَّة ثمّ ندمْت عليها فأرْجعها لك ، دون أي مشاكل ، تحسّ أنَّك مدين له بالفضل ، وتحسُّه إنساناً عظيماً ، فالتاجر الصدوق مع النَّبيِّين يوم القيامة ، التاجر الأمين الصدوق المسلم ، أقول لكم هذه الكلمة وأنا أعْني ما أقول : إذا أنت ابْتغَيْت من تجارتك إرْضاء الله عز وجل ، وكانت عندك ضوابط شَخصيَّة ، أنَّ هذه غالِيَة ، وأنا إذا بعت هذا المشتري بهذا السِّعر كان هذا نوعًا من أنواع الغدْر ، إذا كنت تخاف الله في تجارتك ، فلن يُخيفَكَ أحد من خلقه ، أي هناك مصادر الخوف والقلق بالتجارة كبيرة جدًّا ، أدنى غلطة فيها سِجْن ، إن كنت تخاف الله في تجارتك فالله سبحانه وتعالى أكرمُ من أن يُخيفك أحد من خلقه ، مَنْ أصْلحَ فيما بينه وبين الله أصْلحَ الله فيما بينه وبين الناس ، من أصْلحَ سريرتهُ أصْلح الله علانِيَّتَهُ ، إنّ أطْيَب الكسْب كسْب التُّجار الذين إذا حدَّثوا لم يكذبوا ، وإذا وعدُوا لمْ يخلِفوا ، وإذا ائْتمِنُوا لمْ يخونوا ، وإذا باعوا لمْ يطروا ، وإذا اشْتروا لمْ يذمُّوا ، وإذا كان عليهم لم يمطلوا ، وإذا كان لهم لم يُعسِّروا ، إذا ابْتغَيْتَ رضاء الله في تجارتك فلن يُخيفك من أحد ، لأنّ الأمر كلّه لله ، قال تعالى :

﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾

[ سورة هود: 123 ]

 أما إذا رأيتَ زبونًا غشيمًا وخنتهُ ، تقول : عرفْت كيف أبيعه ! ألْبسته البضاعة !! قال عليه الصلاة والسلام :

(( غَبن المسترسل ربا))

[ الجامع الصغير عن جابر وعلي]

 هذا أخذت منه ثماني عشرة ليرة ، وذاك باثنتي عشرة ليرة أخرى ، تدفعهم خمسمئة حتى لا تذهب السِّجن ! أما الإنسان الذي يتَّقي الله عز وجل فلن يقع في مشاكل أبداً ، لا إله إلا الله ، هذا هو التوحيد ، هذا الشخص الذي أخاف منه بيَدِ الله تعالى ، فالإنسان الذي يغسل يديه جيِّدًا لا يدور الذباب أمامه ! الإنسان عليه أن يُحسنَ صلته بالله عز وجل ، والله عز وجل لن يُسْلمَهُ إلى أحد من خلقه ، ولن يجعل أحدًا من خلقه يتحكَّم به ، القرآن الكريم لا يوجد فيه حلّ وسط ؛ إما أن تصدِّقهُ ، أو لا تُسمّ نفسك مؤمنًا ، قال تعالى :

﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ﴾

[ سورة النساء: 141 ]

 المؤمن لا يوجد لأحد عليه سبيل أبدًا ، علاقته مع الله تعالى مباشرةً ، أحيانًا شخص علاقته مباشرة مع رئيس الوزراء ، لا يستطيع الوزير أن يكلّمه ولا كلمة ، أما المؤمن فَمُرتبِطٌ مباشرةً بالله عز وجل ، ولا يستطيع أحدٌ من خلقه أن يوقِع به أذًى إلا بإذن الله ، قال تعالى :

﴿وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً﴾

[ سورة الأنعام: 80]

 قال تعالى :

﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾

[ سورة الأنعام: 81-82]

 لا تشتك ، يقول لك : ما دريْتُ ! التسعيرة انقلبَت هكذا وألزموني ضبطًا !! ولكن كم من زبون أخذت منهم زيادة وشعرت أنّهم بحاجة لبِضاعتك فرفعْت السِّعر ؟ قلتُ لكم مرَّةً قصّة وهي طرفة : شوحةٌ سألَت سيّدنا سليمان : سلْ لنا ربّك عجول أم مهول ؟ فقال له : يا رب سألتني أعَجول أنت أم مهول ؟ قال له : قلْ لها إنّي مهول ، فاطمأنَّتْ ، فوجَدَت أناسًا يشترون لحمًا فخَطَفتْ اللَّحْم ، وهربَت ، علقت باللحمات نار ، وضعتهم بعشّ أولادها فاحترق العشّ كلّه ! اسْتَغربَت ألم يقل إنَّه مهول ؟ إنَّه بهذا عجول ! فعادَت إلى سيّدنا سليمان : ألم تقل إنّه مهول لقد كان عجولاً ! فسأل سليمان ربّه : قال له الله تعالى : هذا حسابٌ قديم !! فالله تعالى عندهُ حسابات قديمة ، والله الحساب عنده جارٍ ، يمكن أن يكون هذا الإنسان تضايَق ظلمًا ، لكن أنت لك مخالفة بالبيت ، بالسهرة ، فالله تعالى الحساب عنده مشترك ، ما تفعلهُ من آثام في البيت تحاسب عليه في محلّك التّجاري غدًا ، فهذه تدفعها هنا ، من دون ارتكاب لخطأ ، وعند الله كلّ شيء مسجَّل ، فالإنسان لا يقلْ أنا لم أفعَل شيئًا ، الله سبحانه وتعالى أصْدق :

(( لو أنّ أوَّلكم وآخركم وإنسكم ))

[مسلم والترمذي عن أبي ذر الغفاري ]

 والله هذه الكلمات تكتب بماء الذَّهَب ، اتركها في بالك ؛ ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه ، لا تقل ما هذا الظُّلْم ؟ الله عز جل لا يحتاج إلى أحد لأنَّه عظيم وقويّ وقدير وغنيّ .

(( التَّاجِرُ الأمينُ الصَّدُوقُ مع النَّبيِّينَ والصِّدِّيقين والشُّهداء ))

[ أخرجه الترمذي عن أبي سعيد الخدري]

 و :

((التاجر الصدوق لا يُحْجَب من أبواب الجنَّة ))

[ ابن النجار عن ابن عباس]

 و :

(( التاجر الصدوق تحت ظلّ العرش يوم القيامة ))

[ الديلمي عن أنس]

 هذه كلّها أحاديث تؤكِّد أنَّك إن ابْتَغَيْت بِتِجارتِكَ قضاء حوائج المسلمين ، هم ماذا يفعلون ؟ لمَّا يجد البضاعة موفورة يبيعها بسِعْرها المعقول ، لمّا تنفقد حينها يضرب ضربته ، أما هذا الشاري فمسكين أو غير مسكين ، معه أو ليس معه ، أخذه من قوت أولاده أم لا ، إذا لم يعجبْك لا تشتري !! انظر السوق وسترى ! فإذا به يرجع إليه لأنَّ تلك البضاعة غير موجودة بالسوق ، فلمَّا يكون التَّجبّر على الزبائن ، حينها يبعث الله تعالى زبائنه كذلك ، وهم زبائن الدنيا وليس الآخرة ، هنا زبائن الدنيا وهم كُثُر ، يبعث لك أحدهم حينها تصبح تترجَّى .

 

الحق و الباطل :

 التَّذَلُّل بالحق أقرب إلى العزّ من التَّعزّز بالباطل ، لأنّ الباطل زاهق ، وإذا كان الباطل زاهقاً سيَزْهق معه من اعْتزَّ به ، ومن كان مُبْطلاً ، ومن أحب أهل الباطل ، ومن عاون أهل الباطل ، ومن كان معهم ، ومن كان منهم ، ومن كان فيهم ، قال تعالى:

﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ﴾

[ سورة الإسراء : 81]

 فإذا الإنسان خضع للحقّ وما استعلى فهو في طريق العِزّ ، وإذا اعْتزّ بالباطل فهو في طريق الذلّ ، وهذا من المفارقات ، إذا تذلَّل لأهل الحق صار في طريق العزّ ، وإذا استعلى عليهم ، واعْتزَّ بأهل الباطل صار في طريق الذلّ ، ولا ينفعُهُ عملهُ شيئًا ، فهذا العقل الكبير ، أنت تكون متواضعًا لله ، ولرسوله ، ولعباده المؤمنين ، وتكون عزيز النفس على عباده غير المؤمنين ، فإذا اعْتززْت بغير المؤمنين واسْتعليْتَ على المؤمنين فأنت في طريق الذلّ ، لأنَّ الدعاء النبويّ الشريف يقول : " سبحانه إنّه لا يذلّ إلا من عاديت ، ولا يعز إلا من واليْت " قال تعالى :

﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ﴾

[سورة فاطر : 10]

 لا يوجد إنسان يكره العزَّة قال تعالى :

﴿وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً ﴾

[سورة الفتح : 3]

 النَّصر العزيز الذي لا ذُلَّ معه ، وكلّ مؤمن له من الآية نصيب ، إذا أنت كنت مع الله عز وجل بدائرتك ، وبعملك ، وبوظيفتك ، وبتجارتك ، ولك مكانة وشأن ، لا أحد ينال جانبك لأنَّك معه ، وإذا أنت اعْتززْت بأهل الباطل الله عز وجل يلهمهم أن يتخلَّوا عنك بأحرَج وقت ، من أعان ظالمًا سلَّطَه الله عليه ، تقع بخَيبَة أمل فظيعة ، وأنت الذي بذلْت كلّ هذه الجهود لِتُعين أهل الباطل ، إذا هم ينقلبون ضدَّك ، ويجعلونك عِبرةً للناس ، الإنسان يكون مع الحق ، فعبد الحق حرّ ولا يكون عبدًا للباطل ، فكلّ من كان مع الباطل كان زاهقًا معه .

 

تحميل النص

إخفاء الصور