وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 38 - سورة البقرة - تفسير الآيات 101 - 102، السحر والدّجل
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
 أيها الأخوة المؤمنون مع الدرس الثامن والثلاثين من سورة البقرة .

الحق صِرف والباطل متنوِّعٌ:

 مع الآية الثانية بعد المئة، وقد سبق هذه الآية قوله تعالى:

﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) ﴾

 نبذوا واتبعوا، وأي إنسان لا بد من أن يدرك وأن يتَّبع، فالمؤمن ترك الباطل واتبع الحق، والكافر ترك الحق واتبع الباطل، والويل ثمَّ الويل ثم الويل لمن أعرض عن الحق واتجه إلى الباطل، لمن نبذ كتاب الله المُنَزَّلَ من عند الله، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ حبل الله المتين، صراطه المستقيم، طريق سعادة الإنسان، منهجه القويم ـ واتبع أهواء الناس .
 أنت أيها الأخ الكريم لا بد من أن تدع شيئاً وأن تأخذ بشيء، فالمؤمن ـ كما قلت قبل قليل ـ نبذ أقوال البشر، وأهواء البشر، وخرافات البشر، وتخرُّصات البشر واتبع ما أنزل إلى النبي عليه الصلاة والسلام من عند الله، هناك حقٌ صِرف، وباطلٌ متنوِّعٌ .

 

﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾

( سورة الأنعام الآية: 153 )

 الحق لا يتعدَّد:

 

﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ ﴾

( سورة يونس الآية: 32 )

 لا يرسم بين نقطتين إلا مستقيمٌ واحد، وأي خطٍ مستقيم يأتي فوق الخط المستقيم، الحق لا يتعدَّد، وحينما تستقيم على أمر الله تلتقي مع أخيك حتماً، لقاء حتمي مادمت أنت على صراطٍ مستقيم وأخوك على صراط مستقيم فالخطان المستقيمان يتطابقان، أية تفرقةٍ بين مؤمنين هذا يعني أن أحدهما على حق والثاني على باطل .
 مثل بسيط: لو أن هناك طريقاً مستقيماً ينتهي بهدف وله بداية، وانطلق اثنان على هذا الطريق بسرعةٍ واحدة، وباتجاه هدفٍ واحد، لقاؤهما حتمي، إلا في حالةٍ واحدة هي أن يسلك الأول هذا الطريق باتجاه هذا الهدف، وأن يدَّعي الثاني أنه على هذا الطريق وهو ليس كذلك، إذاً لا يلتقيان .

الحق لا يتعدد:

 المعركة بين حقين لا تكون، مستحيل، لأن الحق لا يتعدَّد، وبين حقٍ وباطل لا تطول لأن الله مع الحق، وبين باطلين لا تنتهي لأن الله تخلَّى عنهما معاً، فالأقوى ينتصر، والأكثر حيلةً ينتصر، والأذكى ينتصر .
 لذلك: هم نبذوا واتبعوا، تركت ملَّة آبائي واتبعت الحق، فأنت لا بد من أن تسأل هذا السؤال: ما الذي تركته في سبيل الله ؟ وما الذي أقبلت عليه في سبيل الله ؟ الإنسان قد يدع حرفةً فيها معصيةٌ لله، هل تركت شيئاً في سبيل الله ؟ هل أعرضت عن نظريَّةٍ باطلة؟ عن تفسيرٍ سخيف ؟ عن اتجاهٍ استحوذ على الناس، هل أعرضت عن بلوى عامَّة عمَّت الناس جميعاً ولم تعبأ بها ؟ هل أنت مع المجموع ؟ قال عليه الصلاة والسلام:

(( لا تكونوا إمَّعة ))

[الترمذي عن حذيفة]

 من هو الإمعَة ؟ أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت . سؤال وجيه وخطير: ما الذي تركته في سبيل الله وما الذي اتبعت ؟

﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) ﴾

( سورة الكهف)

 وقال:

﴿ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ﴾/p>

( سورة لقمان الآية: 15 )

الولاء والبراء من خصائص المؤمن:

 هل عندك ما يسمَّى بالبراء والولاء ؟ هل توالي المؤمنين ولو كانوا ضعافاً، ولو كانوا فقراء ؟ وهل تتبرَّأ من الكفار والمنحرفين ولو كانوا أقوياء وأغنياء ؟ الولاء والبراء من خصائص المؤمن، لا بد من أن تتبرَّأ وأن تتولَّى، ولا تكن كالذي يتولَّى أهل الكفر لما عندهم من دنيا، لما عندهم من مكاسب، لما عندهم من عطاء، ويعرض عن أهل الإيمان لضعفهم، النبي عليه الصلاة والسلام حينما قال لعدي بن حاتم وكان ملكاً، قال له: " لعلَّه إنما يمنعك من دخولٍ في هذا الدين ما ترى من حاجتهم " . كان الصحابة فقراء جداً، أما الصناديد والأقوياء، وأصحاب الوجاهة، والبأس، والقوة، والأمر، والنهي، كانوا كفاراً:

 

﴿ وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ (27) ﴾

(سورة هود )

 إنك حينما تدع أهل الكفر ولو كانوا أقوياء، وتؤوي إلى أهل الإيمان ولو كانوا ضعفاء فقد واليت وتبرَّأت .

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ِ(13)﴾

( سورة الممتحنة)

 وقال:

 

﴿ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ (51) ﴾

( سورة المائدة )

 لكن ضعاف الإيمان يوالون من حادَّ الله ورسوله، لما عندهم من دنيا، لما عندهم من مكاسب، يقول لك: شركة رابحة جداً تبيع الخمر، فيقول: أنا مضطر ماذا أفعل ؟ قد يوظِّف ماله في شركة ترتكب المعاصي، وقد يعمل في مهنة تقوم على معصية الله ابتغاء دُنيا يصيبها، أو امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه .

 

المؤمن يعتزُّ بدينه وبإسلامه وبسنة نبيِّه عليه الصلاة والسلام:

 أول شيء بالدرس أنه لا بد من تركٍ ولا بد من تمسُّك، لا بد من إعراضٍ ولا بد من إقبال، ما الذي تركته في سبيل الله ؟ وما الذي أقبلت عليه في سبيل الله ؟ هل انتقلت من خندقٍ إلى خندق ؟ هل انتقلت من موقعٍ إلى موقع ؟ هل انتقلت من نمط معيشةٍ إلى نمطٍ آخر؟ هل انتقلت من طريقةٍ يألفها الناس وفيها بلوى عامَّة إلى طريقةٍ يحبها النبي عليه الصلاة والسلام وهي نادرةٌ .

(( إن الدين بدأ غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء ))

[الترمذي عن أبي ملحة رضي الله عنه ]

((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طوبى للغرباء" . قيل: ومَن الغرباء؟ قال: "قوم صالحون قليل في قوم سوء كثير مَن يعصيهم أكثر مِمَّن يطيعهم ))

[رواه الطّبراني من حديث عبد الله بن عمر]

 قال تعالى:

 

﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) ﴾

 نبذوا واتبعوا، المؤمن ينبذ طريقة أهل الكفر، قيَمَ أهل الكفر، مبادئ أهل الكفر، الأنماط المعيشيَّة لأهل الكفر، المؤمن لا يرضى أن يقلِّد أهل الكفر في بيته، هناك بيوتات المسلمين ـ مع الأسف الشديد ـ يقلّدون أهل الكفر في أكثر احتفالاتهم، ونشاطاتهم، وسفرهم، وإقامتهم، بل إن نصف كلماتهم ليست عربيَّة، المؤمن يعتزُّ بدينه ويعتزُّ بإسلامه، ويعتزُّ بسنة نبيِّه عليه الصلاة والسلام .

 

قُدِّم شيطان الإنس على شيطان الجن لأن خطره أشد:

 أيها الأخوة:

﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ (102) ﴾

 الشياطين هم عصاة الجن، والجنُّ فيهم المؤمنون وفيهم الكافرون:

 

﴿ وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً(11) ﴾/p>

(سورة الجن )

 الشياطين هم العصاة من الجن الذين عصوا الله عزَّ وجل، فالجن منهم كفار ومؤمنون، والمؤمنون منهم طائعون وعصاة، وكل من عصى الله عزَّ وجل وخرج عن منهجه فهو شيطان ولو كان إنساناً، والدليل:

﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ ﴾

(سورة الأنعام)

 قُدِّم شيطان الإنس على شيطان الجن لأن خطره أشد، إنسان يسكن إلى جوارك، زميلك في عملك، رفيقك في دراستك، جارك في بيتك، يحمل شهادة كما تحمل، يعيش كما تعيش لكنَّه شيطان يدعوك إلى المعصية، يدعوك إلى العَصْرَنَة، يدعوك إلى التحلُّل من كل منهجٍ سماوي، يدعوك إلى كسب المال الحرام، يتَّهمك بالجنون إن لم تكسب مالاً حراماً، إن قنعت بالحلال ولو كان قليلاً ولم تطمع بالحرام ولو كان كثيراً يتَّهمك بالجنون، هذا شيطان الإنس، وقُدِّم شيطان الإنس على شيطان الجن لأن شياطين الجن يحتاجون إلى دروسٍ من شياطين الإنس .

 

المعركة بين الحق والباطل مستمرَّة:

 قال تعالى:

 

﴿ وَاتَّبَعُوا (102) ﴾

 قد يقول قائل: لقد كان سياق الآية أن يقول الله عزَّ وجل: واتبعوا ما تلت الشياطين على مُلك سليمان ـ ما تلت الشياطين، لكن الله عزَّ وجل يقول:

 

 

﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو (102) ﴾

 معنى هذا أن المعركة بين الحق والباطل مستمرَّة إلى يوم القيامة، ليست هذه قصَّةٌ وقعت وانتهت، شياطين الإنس والجن يتلون الباطل، يلقون الباطل:

 

﴿ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) ﴾

(سورة إبراهيم)

 الكلمة الباطلة تطير في الآفاق، وقد يدين مئاتُ الملايين بدينٍ باطل، وقد يعبدُ خمسمئة مليون البقرة، يعبدونها من دون الله، وقد يعتقد مئات الملايين أن إلههُم هو المال:

 

﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ﴾

( سورة الجاثية الآية: 23 )

 المعركة بين الحق والباطل مستمرَّة:

 

﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ (102) ﴾

 

بعد أن بُعث النبي الكريم أي شيطانٍ أراد أن يسترِقَ السمع أتبعه شهابٌ ثاقبٌ فأحرقه:

 أيها الأخوة، فيما مضى كان للشياطين مقاعد للسَمع، يستمعون إلى الأوامر التي تحملها الملائكة إلى الأرض، وكانوا يلقون إلى أوليائهم الكفار بعض هذه الأوامر، هذا ورد في القرآن الكريم:

﴿ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ﴾

( سورة الجن الآية: 9 )

 لكن بعد بعثة النبي عليه الصلاة والسلام:

﴿ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً(8) ﴾

( سورة الجن )

 أي شيطانٍ أراد أن يسترِقَ السمع أتبعه شهابٌ ثاقبٌ فأحرقه، فلذلك لجأ الشياطين إلى السِحر، ومن سحر فقد كفر، السحر مأخوذ من السَحَر، والسَحَر قُبَيْلَ الفجر، أي بين الظُلمة والضوء الصور تختلط، الساحر مهمَّته أن يُخَيِّل للمسحور شيئاً لا علاقة له بالواقع، أن يرى شيئاً لا وجود له:

 

﴿ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى(66) ﴾

( سورة طه )

 إنها لا تسعى ولكنهم سُحروا:

 

﴿ سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ(116)﴾

( سورة الأعراف)

 من خلال هذه الآيات يتضح أن السحر هو أن تسيطر على المسحور فتجعله يرى شيئاً لا وجود له .

السحر أن تسيطر على المسحور بحيث تجعله يرى ما لم يُرَ:

 حدَّثني صديق ذهب إلى الهند، رواها لي مباشرةً: أنه رأى ساحراً أمسك بحبلٍ وقذفه إلى الأعلى، فعلِقَ في الأعلى، أمر غلامه أن يصعد على هذا الحبل، فصعد على هذا الحبل حتى غاب عن الأنظار، أمره أن يرجع فلم يرجع فتبعه، فإذا برأسه يقع مقطوعاً وبيديه، لقد غضب الساحر من غلامه الذي لم يرجع، كان هناك سائح يصوِّر، صوَّر هذا المشهد بكل تفاصيله، فلمَّا أراد أن يظهر هذا الفيلم لم يجد شيئاً

﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ(116)﴾

 السحر أن تسيطر على المسحور بحيث تجعله يرى ما لم يُرَ، إذا مشى الإنسان في الظلام وكان خائفاً يرى أشباحاً تتحرَّك، ليس في البيت شيء، لكن الظلام الدامس، والخوف الشديد، وضعف النفس جعلا الإنسان يرى أشخاصاً يتحرَّكون، علماء النفس يضعون بقعة حبر فيراها كل إنسان بشكل، القضيَّة نفسيَّة، يُعبَّر عنه في علم النفس بالتنويم المغناطيسي، أي يستطيع المنوِّم أن يُري المنَوَّمين أشياء لا وجود لها إطلاقاً والآية واضحة:

 

﴿ سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ(116)﴾

( سورة الأعراف)

 وقال:

﴿ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى(66) ﴾

(سورة طه )

 هي لا تسعى، الساحر يستطيع أن يسحر عيون المسحورين ولكن أحداً لا يستطيع أن يسحر عينيه .

 

الدعاء والاستعاذة بالله هما ما يبطل السحر وليس الدجل:

 سحرة فرعون حينما رأوا العصا أصبحت ثعباناً مبيناً هم سحروا لكنهم لم يُسْحَروا:

 

﴿ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ(46)قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ(47)رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ(48)قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ(49) ﴾

(سورة الشعراء)

 إلى آخر الآيات حتى قالوا:

﴿ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(72)إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى(73) ﴾

( سورة طه )

 أخواننا الكرام، شائعٌ جداً في العالم الإسلامي أن هناك شيوخاً، لهم عمائم خضراء، يتعاونون مع الجن ليفكوا السحر، ليحبِّبوا الزوجة إلى زوجها، هذا كلُّه دجلٌ ما بعده دجل، ليس إلا الله، وليس إلا الدعاء، وليس إلا أن تستعيذ بالله عزَّ وجل، هؤلاء السحرة يُدَجِّلون وقد يكون لهم مظهر ديني، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام قال:

(( من سحر فقد كفر ))

[مجمع الزوائد عن عمران بن حصين ]

أدلة من القرآن الكريم عن أهمية الاستعاذة بالله:

 قال تعالى:

 

﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً(6)﴾

( سورة الجن )

 الساحر يعيش فقيراً ويموت فقيراً، ويقنع الناس أنه يفعل ما يريد، قرأت كتاباً فيه بعض الجرائم المُعَلَّلة، رجل يعمل في حقل مكافحة الجريمة، من خلال خبراته ألَّف كتاباً فيه بعض القصص عن بعض الجرائم الواقعيَّة ؛ إحدى المسجونات امرأةٌ تعمل في السحر، اعترفت أنها ترشد المرأة إلى أن تطيع زوجها، طبعاً تدخلها أولاً إلى غرفة مظلمة، والبخور، وترتدي هذه المرأة السواد، وشعرها مُضَّطرب، تحيطها بجو كهنوتي، ثم تأمرها أن تطيع زوجها، وأن تتزيَّن له، وأن تخدمه، الذي أمرتها به هو سببٌ علمي لمحبَّة زوجها لها، لكن هذه المرأة الغبيَّة تتوهَّم أن الساحرة استطاعت أن توفِّق بينها وبين زوجها، علماً أن الأوامر الجزئية التي أعطتها إيَّاها هي كافيةٌ كي تحبِّب المرأة بزوجها والعكس، فيجب أن نتحرَّر من هذه الأوهام أيها الأخوة، ليس القضاء على الشيطان إلا:

 

﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ(36) ﴾

( سورة فصلت)

 وقال:

 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ(201) ﴾

( سورة الأعراف)

 وقال:

 

﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ(1)مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ(2) ﴾

( سورة الفلق)

 وقال:

 

﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ(1)مَلِكِ النَّاسِ(2)إِلَهِ النَّاسِ(3)مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ(4) ﴾

( سورة الناس)

 الذي يخنُس، يرتدُّ سريعاً، معك سلاح خطير، يكفي أن تستعيذ بالله بقلبٍ حاضر فينتهي عمل الشياطين جميعاً .

قدرة الشيطان على الحركة السريعة و التشكّل:

 قال العلماء: الشيطان له قدرة على الحركة السريعة، وعلى التشكُّل، فقد يتشكَّل بشكل إنسان، أو بشكل حيوان، أو جماد، أو نبات، على كلٍ حينما يتشكَّل بهذه الصورة تحكمه قوانين الصورة . ورد في بعض الأحاديث أن النبي رأى شيطاناً فأراد أن يربطه بسارية المسجد ليطلع عليه الصحابة، لكنه اختفى سريعاً . أي إذا تشكَّل الشيطان بشكل تحكمه قوانين هذا الشكل، قال العلماء: لو تشكَّل الشيطان إنساناً وأطلقت عليه النار لمات فوراً، تحكمه قوانين هذه الصورة، فلذلك بصورة سريعاً ما يظهر ويختفي، أما هو حقيقته:

﴿ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ ﴾

( سورة الأعراف الآية: 27)

 على كلٍ معك سلاح فتَّاك:

 

﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ(1)مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ(2) ﴾

( سورة الفلق)

 الآن قلَّما تجد من يشكو من الشياطين، لأن شياطين الجن تتعلَّم من شياطين الإنس، الآية معكوسة الآن، لعلَّ شياطين الجن يستعيذون من شياطين الإنس .

 

كل علاقةٍ بين الإنس والجن هي علاقة إضلال وتزوير :

 قال تعالى:

﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ (102) ﴾

 كان ذلك على عهد المَلِكِ سليمان النبي، قالوا في كتب بني إسرائيل: أن سليمان أنشأ ملكه على السحرة والشياطين، سليمان ارتدَّ عابد وثن، وسمح للوثنين أن ينشئوا معابدهم، كلامٌ ترويه كتب بني إسرائيل لا أساس له من الصحَّة خرافاتٌ وأضاليل وأكاذيب:

 

﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ (102) ﴾

 قالوا: أن سليمان مُلكه في خاتم، استطاع إنسان أن يأخذ هذا الخاتم ففقد ملكه، قصص لا يحسن بنا أن نعيدها وأن نذكرها لأنها لا وجود لها، أنبياء يرتدون إلى عُبَّاد صنم، أنبياء ينشؤون معابد للأوثان، أنبياء يزنون ببناتهم، هكذا في التلمود، إن ما جاء في التلمود وما جاء في كتب بني إسرائيل عن الأنبياء شيء لا يقبل إطلاقاً .

 

﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ (102) ﴾

 سليمان ما كفر:

 

 

﴿ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ (102) ﴾

 الشياطين يعلِّمون الناس السحر، يتعاونون مع الإنس لإبطال الحق وإظهار الباطل، يتعاونون مع الإنس لشيوع المعصية، فكل علاقةٍ بين الإنس والجن هي علاقة إضلال، كل علاقةٍ بين الإنس والجن هي علاقة تزوير، هي علاقة صرف الناس عن الله عزَّ وجل، وعن دين الله، وعن كتاب الله .

 

كل شيء لم يرد في السنَّة ينبغي ألا نفعله لأنه لا نفع منه:

 بالمناسبة: حقيقة دقيقة جداً، ما من شيءٍ يقرِّبنا إلى الله عزَّ وجل إلا أمرنا النبي به، وما من شيءٍ يبعدنا عن الله عزَّ وجل إلا نهانا النبي عنه، فإذا كان التعاون مع الجن نافعاً، وينفعنا، ويفيدنا، ويقرِّبنا لكان الأولى أن يأمرنا النبي به، والنبي عليه الصلاة والسلام في قول العلماء: لا يؤخِّر بيان الشيء عن وقته ". لأنه معصوم، نبيٌ مرسل، فهل من الممكن أن يكون هناك نفع مع الجن بالتعاون معهم، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يأمرنا بذلك ؟! هو أمين على وحي السماء، أمين على هذه الرسالة، إذاً كل شيء لم يرد في السنَّة ينبغي أن لا نفعله لأنه لا نفع منه:

 

﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ (102) ﴾

 أنا أقول لكم: السحر منتشر في بلاد المسلمين، وقد ذكر لي أخ ـ جزاه الله خيراً ـ أنه شاهد مناظرة في بعض بلاد الخليج، بين علماء مسلمين وبين سحرة، فظهر دجلهم، وكذبهم، وجهلهم بشكلٍ فاضح . الساحر ليس على شيء أما المؤمن معه كتاب الله، معه منهج الله، معه سُنة رسول الله .
 وأنا أحذِّر أيها الأخوة، بيوت فيها ساحرة، فيها امرأة آخَتِ الجنَّ، ترغِّب الناس في أشياء مقابل أجور باهظة، مقابل دجل . سمعت أنه إذا فتاة فاتها قطار الزواج تلجأ إلى بعض المُنَجِّمات، تأخذ منها مبلغاً ضخماً، عندها بعض الشباب، تأمر شاب أن يخطبها، فتتقوَّى عقيدة هذه المرأة بهذه الساحرة المدجِّلة، ثم لسببٍ يفتعله الشاب يبتعد عنها ويطلِّقها .
 الجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به، هؤلاء الذين يتعاونون مع الجن لا يصلون، ولا يصومون، ومعظمهم يرتكب الزنا، فتجد إنسان يسمح لزوجته تذهب إلى منجِّمة أو منجِّم، أو إلى كاهن ليختليا، هناك فضائح وقصص يندى لها الجبين . ليس إلا هذا القرآن، وليس إلا هذه الآيات، وكل إنسان معه سلاح فتَّاك ضد الشيطان ؛ استعذ بالله .

 

 

للآية التالية تفسير وجيه ودقيق:

 قال تعالى:

 

﴿ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ (102) ﴾

 هذه الآية لها تفسيرٌ وجيه دقيق لا بد من أن أقرأه لكم دقيقاً .
 أيها الأخوة، الذي ذهب إليه المحقِّقون أن هاروت وماروت كانا رجلين متظاهرين بالصلاح والتقوى في بابل، وهي مدينةٌ بالعراق على نهر الفرات، وكانا يعلِّمان الناس السحر، وبلغ حُسن اعتقاد الناس بهما أن ظنوا أنهما ملكان من السماء، حتى المُبطل له وجه إيجابي، والتمثيل سهل جداً، فهذان الرجلان كانا يبدوان للناس على أنهما رجلان صالحان، حتى أن الناس اعتقدوا أنهما ملكان من السماء، وما يعلِّمانه للناس هو بوحيٍ من الله، هكذا يوهمون الناس، أن ما يعلِّمانه للناس هو بوحي من الله، وبلغ مكر هذين الرجلين ومحافظتهما على اعتقاد الناس الحسن فيهما أنهما صارا يقولان لكل من أراد أن يتعلَّم منهما السحر:

 

 

﴿ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ (102) ﴾

 إيَّاك أن تكفُر، هذا فتنة، أي إنما نحن أولو فتنة نبلوك ونختبرك أتكفر أم تشكر، وننصح لك أن لا تكفر . فكل إنسان دجَّال يجب أن يظهر بمظهر المنطق والصلاح، وهذا فرعون نفسه قال :

 

 

﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ(29) ﴾

( سورة غافر)

 كل إنسان لا بد أن يكون الكلام الذي يقوله مقبولاً، يقولان هاروت وماروت ذلك ليوهما الناس أن علومهما إلهية، وصناعتهما روحانيَّة، وأنهما لا يقصدان إلا الخير، وقد سمعت آلاف المرَّات: يا أخي هذا إنسان آخى الجن المؤمنين، هدفه طيِّب، هدفه خير ؛ هدفه التوفيق بين الأزواج، هدفه اتساع الرزق، دائماً يغطي الساحر والرجل المتعامل مع الجن نفسه بقرآن، بحديث، بصلاح، بلفَّة خضراء مثلاً، بيته فيه مظاهر كهنوتيَّة، أوراد معيَّنة، تمتمات معيَّنة ـ قال: وأنهما يوهمان الناس أن علومهما إلهية وصناعتهما روحانية، وأنهما لا يقصدان إلا الخير كما يفعل ذلك الدجالون كل زمان ـ هذا شيء متكرِّرـ والله هذه القصَّة التي وردت في القرآن الكريم قبل ألف وخمسمئة عام تتكرَّر كل يوم، إنسان اتخذ مهنة الدجل، ومهنة ابتزاز أموال الآخرين، ويستغل عقول البُسطاء والجهلة، ويوهمهم أوهاماً كثيرة، وأن معه جن، والجن يفك السحر .

 

هاروت وماروت يوهمان الناس أن السحر نزل عليهما من الله فجاء القرآن مكذِّباً لهما:

 امرأة قُتِل زوجها فجاء من يقول لها: ادفعي مئة ألف ونجمعكِ مع زوجكِ ليقول لكِ من قتله . يستغلون حاجة الناس أحياناً، إذاً كما يفعل ذلك دجاجلة كل زمان قائلين لمن يعلمهم الكتابة للمحبَّة والبغض على زعمهم: نوصيك أن لا تكتب لجلب امرأةٍ متزوجة إلى رجل غير زوجها، نحن نستطيع أن نجعل كل امرأة تميل إلى أي رجل ولكن ننصحك لا تكفر، لا تجعل امرأةً متزوِّجة تميل إلى غير زوجها، إلى غير ذلك من الأوهام والافتراءات ولليهود في ذلك خرافاتٌ كثيرة، حتى أنهم يعتقدون أن السحر نزل عليهما من الله، هاروت وماروت يوهمان الناس أن السحر نزل عليهما من الله وأنهما ملكان جاءا لتعليمه للناس، فجاء القرآن مكذِّباً لهم في دعواهم نزوله من السماء، وفي ذم السحر ومن يتعلَّمه أو يُعلِّمه، فكل الآية مفتاحها حرفين:

 

﴿ وَمَا أُنْزِلَ (102) ﴾

 نافية:

 

 

﴿ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ (102) ﴾

 اللذان يدَّعيان أنهما ملكان .

 

لا يستطيع أحد على وجه الأرض أن ينالك بسوء إلا أن يأذن الله وهذا اطمئنان إلهي:

 قال تعالى:

﴿ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ (102) ﴾

 وكانا يقولان للناس:

﴿ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ (102) ﴾

 تعقيبٌ إلهي:

 

﴿ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ (102) ﴾

 هذا الاطمئنان الإلهي، لا يستطيع كائنٌ من كان على وجه الأرض أن ينالك بسوء إلا أن يأذن الله عزَّ وجل، فكلمة

 

﴿ ما ﴾/p>هنا نافية، طبعاً هذا تفسير محترم جداً:

﴿ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ (102) ﴾

 على أصح الأقوال، ولفظ الملكين واردٌ حسب العُرف الجاري . الآن مثلاً قد يأتي أستاذ للأدب في الجامعة يقول: آلهة اليونان، فهل هناك آلهة في اليونان ؟ هذا اسمه تعبير العُرف، أحياناً ينتحل إنسان صفة فيحاكم، يأتي في التقرير الصفة التي انتحلها، ادَّعى أنه طبيب، فهل هو طبيب ؟!!

كل نشاطات شياطين الجن التفريق بين الزوجين وكل أعمال الخير التوفيق بين الزوجين :

 كلمة :

﴿ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ (102) ﴾

 هذا في رأي المفسِّر أنه جرى على مجرى استخدام التسمية العرفيَّة . ولفظ ﴿الْمَلَكَيْنِ﴾نا واردٌ بحسب العرف الجاري بين الناس في ذلك الوقت، كما يردُ ذكر آلهة الخير والشر في كتابات المؤلِّفين عن تاريخ اليونان والمصريين وغيرهم، وكما يرد في كلام المسلم في الرَّد على الفرق الضالَّة:

 

﴿ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ (102) ﴾

 من قبيل التمثيل وإظهار الأمر في أقبح صورة، أي بلغ من أمر ما يتعلَّمون من ضروب الحيل وطرق الإفساد أن يتمكَّنوا به من التفريق بين أعظم مجتمعٌ في الأرض مجتمع الزوجين .
 بالمناسبة: كل نشاطات شياطين الجن التفريق بين الزوجين، وكل أعمال الخير التوفيق بين الزوجين . وأنا أقول دائماً في عقود القران: إذا بني الزواج على طاعة الله تولَّى الله في عليائه التوفيق بين الزوجين، وإذا بني على معصية الله تولَّى الشيطان التفريق بينهما.

 

ما ورد في كتب بني إسرائيل عن هاروت وماروت نفاها الله عز وجل في القرآن من أصلها:

 أما ما ورد في كتب بني إسرائيل عن هاروت وماروت، هناك أحاديث عجيبة، زعموا أنهما كانا ملكين من الملائكة، الآن القصَّة الكاذبة، القصَّة المزوَّرة، ما ورد في كتب بني إسرائيل، ما أشاع بنو إسرائيل، الأولى هي الصحيحة، فهذه القصَّة نفاها الله عزَّ وجل من أصلها:

﴿ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ (102) ﴾

 هذان الرجلان هاروت وماروت اللذان زعما أنهما ملكين يعلمون الناس السحر بوحيٍ من السماء، ويفرِّقون بين المرء وزوجه، ويقولون للناس: لا تكفروا إنما نحن فتنةٌ، هذه القصَّة بقضِّها وقضيضها لا أصل لها، أما كيف وردت في كتب بني إسرائيل، قال:
 زعم اليهود أن هاروت وماروت كانا ملكين من الملائكة، وأنهما لمَّا نظرا إلى ما يصنع أهل الأرض من المعاصي أنكرا ذلك، وأكبراه ودعوا على أهل الأرض، فأوحى الله إليهما: إني لو ابتليتكما كما ابتليت به بني آدم من الشهوات لعصيتموني ـ معنى هذا أنه عندما ابتلى الله تعالى الإنسان بالشهوات الإنسان معه حق أن يعصيه . انظر إلى هذا الكلام المخيف !! ـ فقالا: يا رب لو ابتليتنا لم نفعل، هل يمكن لمخلوق أن يردَّ على الخالق بعكس ما يريد ؟ الإله يقول: لو ابتليتكما كما ابتليت بني آدم لعصيتماني . فيردان على الله: لا يا رب لا نعصيك، فأهبطهما إلى الأرض، وابتلاهم الله بشهوات بني آدم فمكثا في بلدةٍ كانت فيها فاجرة تسمَّى الزُهرة ـ امرأة فاجرة ـ فدعواها إلى الفاحشة وواقعاها بعد أن شربا الخمر، وقتلا النفس، وسجدا للصنم ـ هكذا وردت القصَّة في كتب بني إسرائيل ـ وعلَّماها اسم الله الأعظم ـ لهذه الفاجرة، الزانية، المومس ـ الذي كانا به يعرُجان إلى السماء، فتكلَّمت المرأة بهذا الاسم وعرجت إلى السماء، فمسخها الله تعالى وصيرها نجم الزُهرة . هذه القصَّة التي نفاها الله عزَّ وجل:

 

﴿ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ (102) ﴾

 

﴿ ما ﴾

 نافية . ثم إن الله تعالى عرَّف هاروت وماروت ـ سنتابع القصة حسب ما وردت في رواية بني إسرائيل ـ قبيح ما فيه وقعا، ثم خيَّرهما بين عذاب الآخرة آجلاً، وبين عذاب الدنيا عاجلاً، فاختارا عذاب الدنيا، فجعلهما في بابل منكوسين في بئرٍ إلى يوم القيامة، وهما يعلِّمان الناس السحر وهما في البئر، ويدعوان إليه، ولا يراهما أحدٌ إلا من ذهب إلى ذلك الموضع لتعلُّم السحر خاصَّةً . وهذه القصَّة من اختلاق اليهود وتقوُّلاتهم، ولم يقل بها القرآن قط وإنما ذكرها التلمود، في الإصحاح الثالث والثلاثين، وجاراه جهلة القُصَّاص من المسلمين فأخذوها عنهم، وقد وردت هذه القصَّة الباطلة في بعض كتب التفسير، في بعض الكتب طبعاً .

 

بنود تفنيد قصة هاروت وماروت عند الإمام الرازي:

 الإمام الرازي رحمه الله تعالى فنَّد هذه القصَّة الباطلة، التي لا تستقيم من وجوهٍ كثيرة فقال:
 ذكروا في القصَّة أن الله جلَّ جلاله قال لهما ـ لهاروت وماروت ـ: لو ابتليتكما بما ابتليت به بنو آدم لعصيتماني . فقالا: لو فعلت ذلك بنا يا رب لما عصيناك، وهذا منهم تكذيبٌ لله تعالى وتجهيلٌ له، وهذا من صريح الكفر، هذا أول بند .
 ثانياً: أنهما خُيِّرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة وذلك فاسد، بل كان الأَولى أن يُخيَّرا بين التوبة وبين العذاب .
 ثالثاً: إنهما يعلِّمان الناس السحر في حال كونهما معذَّبين في بئر في بابل، ويدعوان إليه، وهما يعاقبان، هذا شيء غير مقبول عقلياً .
 رابعاً: أن السحر لو كان نازلٌ عليهما لكان مُنَزِّله هو الله، وهذا غير جائز في حق الله عزَّ وجل لأن السحر كفر وعبث ولا يليق بالله تعالى إنزال ذلك:

 

﴿ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ (102) ﴾

 يدلُّ على أن تعليم السحر كفر، فهل يعقل أن الله يعلمهما السحر كي يعلِّمانه للناس ؟ فلو ثبت في الملائكة أنهم يعلمون السحر لزمهم الكفر وهذا باطل، ثم إنه لا يجوز في الأنبياء أن يُبعثوا لتعليم السحر، فكذلك في الملائكة من باب أولى . مستحيل لملك أن يعلِّم السحر، من سحر فقد كفر، ثم إن السحر لا يضاف إلا إلى الكفرة والفسقة والشياطين المردة فكيف يضاف إلى الله تعالى وينهى عنه، ويتوعَّد عليه بالعقاب ؟ وهل السحر إلا الباطل المموَّه، وقد جرت عادة الله إبطاله كما قال في قصة موسى عليه السلام:

 

 

﴿ مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ ﴾

( سورة يونس الآية: 81 )

 إذاً عندنا قصَّة مكتوبة في التلمود باطلة لا أصل لها، افتراء من اليهود على الله عزَّ وجل، فجاء القرآن الكريم ونفى هذه القصَّة من أصلها، نفاها بحرفٍ واحد فقال :

 

﴿ وَمَا أُنْزِلَ (102) ﴾

 على ما توهَّمهم الناس أنهما ملكين، نفى الله عزَّ وجل هذه القصَّة من أصلها .

 

 

أمثلة عن بعض ما يتلوه القصَّاصون من حكاياتٍ باطلة ودَجَل وكرامات وقصص سخيفة:

 نعيد الآيات :

 

﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) ﴾

 نبذوا كتاب الله واتبعوا هذه الخرافات:

 

 

﴿ مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا (102) ﴾

 كم مسلم الآن ينبذ كلام الله وسُنَّة رسوله ويتَّبع ما يتلوه القصَّاصون من حكاياتٍ باطلة، وخرافاتٍ سخيفة، ودَجَل، وكرامات، ومنامات، شيء غير معقول . واحد تفقَّد أخاه وكان في مجلس عند شيخ، وجد ماء مسفوحاً على الأرض فقال له: هذا أخوك صار كالماء من شدة حبه لنا، ذاب . فهذه كلمات غير مقبولة، غير معقولة .
 واحد دُفِن فلمَّا جاء الملكان رُفِسا رفسةً أطاحت بهما خارج القبر، لأن شيخه عندما جاء الملكان قال لهما: أمثل هذا يُسأل ؟ هذا من أخواننا .
 تجده يترك كلام الله وكلام النبي المعصوم، وكل حياته قصص، وخرافات، وأوهام، ومنامات، وكرامات، هذا وقع فيه مسلمون كثيرون .

 

ملخص سريع لما ورد في الدرس :

 قال تعالى:

﴿ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ (102) ﴾

 الشياطين هم الذين كفروا، هم الذين يعلِّمون الناس السحر:

 

﴿ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ (102) ﴾

 هذا تعقيبٌ إلهي، أي اطمئنوا لا يستطيع السحرة أن يفعلوا شيئاً، لا يستطيع مخلوقٌ كائناً من كان أن يَمَسَّك بأذىً إلا بإذن الله:

 

 

﴿ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ (102) ﴾

 من سحر فقد كفر:

 

 

﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً(6)﴾

( سورة الجن )

 وقال:

 

﴿ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) ﴾

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور