وضع داكن
16-04-2024
Logo
الخطبة : 0665 - حقيقة الاحتفال بالمولد2 - النبي الكريم سيد البشر - الأصل العلمي في تحريم النسب.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنـا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر. اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين. اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرِنا الحــق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

مديحنا للنبي الكريم للاستفادة من شمائله و سنته و سيرته :

أيها الأخوة الكرام: نحن في مناسبة مولد النبي صلى الله عليه وسلم.
 الحقيقة الأولى في هذه الخطبة أن النبي عليه الصلاة والسلام له عند الله مقام كبير، هو سيد الخلق، هو سيد ولد آدم، هو خاتم الأنبياء والمرسلين، هو الذي بلغ سدرة المنتهى، هو الذي رأى من آيات ربه الكبرى، هو الذي أقسم الله بعمره الثمين، فمديحنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزيد من مقامه شعرة، وعدم مديحنا لا يهز هذا المقام إطلاقاً، وكل إنسان له عند الله مقام، لا يرفعه مدح المادحين، ولا يخفضه ذم الذامين، هذه الحقيقة مُسَلَّمٌ بها.
 إننا حينما نذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم كي نستفيد نحن من شمائله، من أخلاقه، من سيرته، من سنته، من مواقفه، من محبته لله عز وجل.

حبّ الإنسان للكمال و الجمال و النّوال :

 الحقيقة الثانية - وهي دقيقة جداً - الإنسان في فطرته يحب الكمال والجمال والنوال، لنأخذ الكمال: فإذا قرأ سيرة سيد الأنام، إذا رأى تواضعه، إذا رأى رحمته، إذا رأى عدله:

(( ... والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ))

[متفق عليه عن عائشة أم المؤمنين ]

 إذا رأى رحمته؛ كان يصلي بالناس صلاة الفجر، ومن عادته أنه يطيل في صلاة الفجر، لأنها ركعتان... والإنسان نشيط يصلي بعد نوم مديد، فسمع بكاء طفل، فاختصر صلاته وسلم رحمةً بأمه، وكأن ابنها يناديها ببكائه. رحمته، عدله، تواضعه، إخلاصه، وفاؤه..
 الأنصار - أيها الأخوة - وجدوا عليه في أنفسهم، من أجل غنائم وزَّعها باجتهاده صلى الله عليه وسلم واعتمد على إيمان الأنصار فوجدوا عليه في أنفسهم، وقد نقلوا له هذا عن طريق زعيمهم، فقال يا سعد: أين أنت منهم؟ قال: ما أنا إلا من قومي، فقال: اجمع لي قومك، فجمعهم ثم قال: يا معشر الأنصار.. مقالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها عليّ في أنفسكم، من أجل لعاعة تألفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم. يا معشر الأنصار - الآن دققوا، كان عليه الصلاة والسلام في قمة نجاحه، دانت له الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها- قال: يا معشر الأنصار، لو أنكم قلتم فلصَدقتم ولصُدقتم؛ أتيتنا مكذباً فصدقناك، وطريداً فآويناك، ومخذولاً فنصرناك، يا معشر الأنصار ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي؟ ألم تكونوا عالة فأغناكم الله؟ ألم تكونوا أعداء فألف بين قلوبكم؟ أوجدتم عليّ يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم، أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتعودون أنتم برسول الله إلى رحالكم؟ اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار، فبكوا حتى أخضلوا لحاهم. كان عليه الصلاة والسلام بإمكانه أن يلغي وجودهم، وكان بإمكانه أن يهدر كرامتهم، وكان بإمكانه أن يتهمهم بالنفاق، وكان بإمكانه أن يهملهم، وكان بإمكانه أن يعاتبهم لمصلحته، ولكنه ذكرِّهم بفضلهم عليه، ذكَّرهم وهو في أوج قوته بفضلهم عليه..
 هذه القصة أين مكانها مع وفائه أم مع إخلاصه لمن حوله؟ أم مع رحمته؟ أم مع حنكته؟ أم مع حسن سياسته؟! الإنسان يحب الكمال، فإذا قرأ سيرة سيد الكاملين يطرب، لكن دققوا يطرب لكن لا يرقى، تطرب بحكم فطرتك، لكنك لا ترقى إلا إذا اتبعته، إلا إذا اقتفيت أثره، إلا إذا طبقت سنته، في بيتك، في عملك، في شؤونك، في أفراحك، في أتراحك، في تجارتك، في سفرك، لا ترقى إذا مدحته، تطرب ولا ترقى، تطرب بحكم فطرتك، لكنك لا ترقى إلا إذا اتبعته. فرق كبير بين أن نمضي وقتاً طويلاً في المديح وبين أن نشمر ونأخذ سنته فنجعلها منهجاً لحياتنا، فرق كبير أن نطرب حينما نتحدث عن شمائله، وأن تكون سنته مطبقةً في بيوتنا، مطبقةً في عباداتنا، مطبقةً في عقائدنا، مطبقةً في حركتنا في الحياة.
 فالعبرة لا في المديح، ولكن العبرة في التطبيق، العبرة في المتابعة، وقد ذكرت لكم في خطبة سابقة أن الله جل جلاله لن يقبل من المؤمن أن يدعي محبته إلا بالدليل، والدليل؛ اتباع سنة النبي عليه الصلاة والسلام، قال تعالى:

﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾

[ سورة آل عمران: 31]

مديحنا للنبي لا يرقى بنا إلا إذا جعلنا من منهجه القويم منهجاً في حياتنا :

 نحن في مناسبة مولد النبي عليه الصلاة والسلام، مديحنا له شيء جيد وشيء مسعد، لكن لا يرقى بنا.
 مثلاً: لو أن شاباً لا يقرأ ولا يكتب، أميّ لسبب أو لآخر، وله أب من أعلم علماء الأرض، مهما أثنى الشاب على أبيه، الشاب هو هو في مرتبة الجهل، والأب هو هو في مرتبة العلم، أثن على أبيك ما شئت، تحدث عنه في كل مكان، املأ المجلس مديحاً له، الشاب هو هو في جهله، والأب هو هو في علمه، ولكن متى يرقى هذا الشاب؟ إذا سلك طريق أبيه، إذا أخذ الشهادة الإعدادية، إذا نال الشهادة الثانوية صار درجة ثانية، إذا نال اللسانس صار درجة ثالثة، هذه النقطة مهمة جداً- أيها الأخوة - مديحنا له مع أنه يسعدنا، مع أننا نطرب له، بحكم فطرتنا، وفطرتنا ليست كسبية، إنما هي وهبية، نحن فطرنا على حبّ الكمال، حبّ الكمال والجمال والنوال، مفطورون على حبّ الكمال، فإذا قرأنا سيرة سيد الكاملين نطرب، وقد نبكي، ولكنْ لا نرقى عند الله إلا إذا اتبعناه، ولا تنسوا مثال الابن الجاهل والأب العالم، مهما تحدث الابن عن أبيه، هو هو، ومهما أراد أحد أن ينتقص من أبيه أبوه هو هو هكذا، هذه سنة الله في خلقه، فمديحنا له في مناسبة مولده صلى الله عليه وسلم، شيء رائع جداً، ولكنْ لا يرقى بنا، إلا إذا جعلنا من منهجه القويم منهجاً في حياتنا.
 ليس الإسلام أن تصلي، وأن تصوم، وأن تؤدي هذه العبادات فحسب إلا أن الإسلام منهج كامل، منهج يزيد عن مئة ألف بند، يغطِّي كل شؤون حياتك، فحينما تعتمد منهج الله في كسب المال، وفي إنفاق المال، وفي قضاء الإجازة، وفي احتفال العرس، وفي احتفال عقد القران، وفي المناسبات الحزينة، حينما تعتمد منهج الله عز وجل، فأنت متبع لسنة رسوله.

التبرك بالنبي لا يرقى بنا إذا كان مجرداً من التطبيق :

 شيء آخر ؛ أنه جلّ جلاله خلق الخلق ليكونوا على شاكلة محمد، ولم يخلق الخلق من أجل محمد، خلقهم وجعل لهم أسوةً حسنة، أسوة يرقون بها، أما أن الخلق خلقوا من أجل محمد فهذا شطح وتجاوزٌ لما في الكتاب والسنة، إننا أمرنا أن نقتدي بمحمد صلى الله عليه وسلم وأن نتأسى به، وأن يكون عليه الصلاة والسلام قدوةً لنا.
 مثلٌ آخر أضعه بين أيديكم، والمثل يوضح بعض الحقائق؛ عالم كبير، له مئتا مؤلف، ويحمل عدداً من الشهادات العليا، وله سمعة متألقة في سماء العلم، وعند هذا العالم الكبير مستخدم في مكتبه لو أن هذا المستخدم في غيبة هذا العالم الكبير جلس في مقعده وراء مكتبه هل يرقى درجة؟
 أول نقطة: مديحنا له يطربنا ولكن لا يرقى بنا، أن نصلي مكان صلاته في الحرم النبوي، شيء رائع، وقد يبكي الإنسان؛ هنا صلى النبي، هنا سجد النبي، هنا وقف النبي، هنا قاتل النبي، هنا وقف في بدر، شيء رائع، ولكنْ لا يرقى بنا، هذا المستخدم، هذا الحاجب الذي عند هذا العالم الكبير، لو قفز وجلس على مقعده في غيبته لا يرقى درجة، ولا شعرة، أما إذا أخذ الشهادة الأولى، الإعدادية فيرقى، حينما يسلك طريق أستاذه يرقى.
 نقطتان أساسيتان في هذه الخطبة: لا يرقى بنا المديح المجرد عن التطبيق، كما لا يرقى بنا التبرك المجرد عن التطبيق، لا هذا يرقى بنا، ولا هذا يرقى بنا، قد نطرب للأول، وقد نتأثر بالثاني، ولكنَّ الذي يرقى بنا، وينهض بنا، أن نأخذ هذا المنهج الإلهي، الذي جعله الله وحياً غير متلو، وأن نطبقه في حياتنا كلها.

النبي الكريم سيد البشر :

 يقول الله عز وجل:

﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾

[ سورة التوبة: 128]

 يجب أن تعلم علم اليقين أن النبي بشر، ولأنه تجري عليه كل خصائص البشر، كان سيد البشر، لأنه تجري عليه كل خصائص البشر وانتصر على بشريته كان سيد البشر.
 أما أن تتوهم أن له خصوصيات تلغي شهواته، له خصوصيات تلغي كل المتاعب التي لاقاها فعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ ))

[الترمذي عن أنس بن مالك]

 لأنه بشر، وتجري عليه كل خصائص البشر كان سيد البشر:

﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾

[ سورة التوبة: 128]

 ولولا أنه بشر لما أقيمت الحجة علينا، ولو أنه مَلَك لقلنا: يا رب إنه ملك، ونحن بشر، لو أن له خصوصيات تلغي شهواته، تلغي بشريته، لقلنا: يا رب إن له حالات خاصة..

﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾

[ سورة الأنعام: 188]

﴿ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾

[ سورة الأنعام:15 ]

 لقد جاءكم رسول من أنفسكم؛ من جنسكم، من جبلتكم، من طبيعتكم، يشعر بما تشعرون، ويؤلمه ما يؤلمكم، ويفرحه ما يفرحكم، بشر، ولكنه انتصر على بشريته فكان سيد البشر..

﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾

[ سورة التوبة: 128]

 هل تحمل هموم المسلمين؟ هكذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يحمل هموم المسلمين، هل تفكر كيف أحُلُّ مشكلةً من مشكلات المسلمين؟ كيف أُسهِم في حلّ مشكلة؟ كيف أرعى المسلمين؟ كيف أنْشُر الحق بين المسلمين؟
 عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم، يؤلمه أشدّ الألم عنادكم وانصرافكم عن الحق وتفلتكم من المنهج، عزيز عليه ما عنتم؛ العلماء يقولون: إن أرحم الخلق بالخلق قاطبة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرحم الخلق بالخلق، حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم، ألا ينبغي أن نقتفي أثر النبي عليه الصلاة والسلام:

((والله ما آمن، والله ما آمن، والله ما آمن، من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم))

[ الطبراني عن أنس ]

 ألا ينبغي أن تحمل همّ المسلمين؟ ألا ينبغي أن يتفطر قلبك لما يصيبهم؟ ألا تسهم بشكل أو بآخر بتزويج شاب؟ بتبني داعية؟ بخدمة مسجد؟ بطبع كتاب؟ بنشر حق؟ برعاية ميتم؟ بتأسيس ثانوية شرعية؟ ألا تحمل همّ المسلمين؟ ألا تتمنى أن يكونوا بخير؟
 من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، هو يعيش وحده، انسحب من المجتمع، يتقوقع في برج عاجي، بعيد عن حالات المسلمين.
 الأنبياء العظام، صفوة الله من خلقه، قمم المجتمعات البشرية، كانوا مع الناس، يمشون في الأسواق، يرون مشكلاتهم، هم معهم في مشكلاتهم لا في سقوطهم، هم في برج عاجي أخلاقي، لا في برج عاجي فكري، كانوا مع البشر، وفي الوقت نفسه كانوا بعيدين عن انحطاط البشر، هكذا ينبغي أن يكون المؤمن، مع الناس وبعيداً عن الناس في وقت واحد، معهم في مشكلاتهم، معهم بأمراضهم، معهم بتفلتهم، يبحث عن أسباب تفلتهم، بعيداً عن سقوطهم أو انحرافهم.

 

تزويد النبي بقدرات عالية لتكون عوناً له على الدعوة :

 نقطة مهمة جداً أضعها بين أيديكم، النبي عليه الصلاة والسلام أعطي قدرات عالية جداً، لتكون له هذه القدرات عوناً له على الدعوة:

﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ﴾

[سورة الأعلى: 6]

 أوتي ذاكرةً عجيبة، يُتلى عليه القرآن مرةً واحدة فيحفظه، هذه خصوصية، خصّ الله بها النبي، كان عليه الصلاة والسلام قد أوتي الحكمة، حكمة ما بعدها حكمة، ذكرت لكم نموذجاً منها في مطلع الخطبة، حينما امتص نقمة الأنصار، هذه حكمة بالغة.
 أوتي جوامع الكلم، مكنه الله من أعلى بيان يملكه إنسان، أفصح نص بعد القرآن كلام النبي العدنان. نصر بالرعب مسيرة شهر، جعل الله له هيبةً عظيمة، أوتي قوةً جسدية، صرع أبا ركانة عدة مرات، أوتي بهاء المنظر.

وأجمل منك لم تر قط عيني  وأكمل منك لم تلد النساء
خُلقت مبرأ من كل عيــــــــــب  كأنك قد خُلقت كما تشاء
***

 كان قائداً فذاً، كان قاضياً فهماً، كان مجتهداً نجيباً، كان قائداً عسكرياً، كان زعيم أمة، كان أباً كاملاً، زوجاً وفياً، جاراً رحيماً، ولكن الله حينما مدحه بماذا مدحه؟ أوضح لكم هذه: أنت أب ميسور الحال، أعطيت ابنك سيارة، جلست في مجلس عام وقلت: ابني متفوق لأن عنده سيارة، كلام مضحك، هذه من عندك لا من عنده.
 أعطيته بيتاً، لا يمدح ابنك بهذا البيت، لأنه من عندك، أما حينما تقول: نجح ابني في مرتبة عالية في الامتحان، فهذه من عنده.

 

الخلق العظيم من كسب النبي أما الخصائص التي أوتيها فهي من فضل الله :

 ربنا عز وجل ما أثنى على النبي بما خصّه من خصائص، أثنى عليه بما كان كسباً له شخصياً، قال:

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾

[ سورة القلم: 4 ]

 الخلق العظيم من كسب النبي، أما الخصائص التي أوتيها النبي فهي من فضل الله عز وجل. قال ابن عباس: " إنك لعلى خلق عظيم، إنك لعلى دين عظيم " الدين هو الخلق ومن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين.

((عن سعيد بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبِرِينِي بِخُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ...))

[متفق عليه عن سعيد بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ]

 وتأدب بأدب القرآن، خلقه العظيم أنه ائتمر بما أمر، وانتهى عما نهي عنه، عند الحلال والحرام، خلقه عظيم، طبعه كريم، يألف ويؤلف، محب للآخرين، يقبل أعذارهم، يتجاوز عن مسيئهم، سُئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: هذه أخلاقه، اقرؤوا:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾

[ سورة المؤمنون : 1-11]

 تقول السيدة عائشة أيضاً: " ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد إلا قال: لبيك " لولا التشهد كانت لاؤه نعم... لم يُذكر خُلُقٌ محمود إلا وكان للنبي عليه الصلاة والسلام الحظ الأوفر، سُمي خلقه عظيماً لأنه لم تكن له همة سوى الله.

 

اجتماع مكارم الأخلاق كلّها برسول الله صلى الله عليه وسلم :

 سُمي خلقه عظيماً لاجتماع مكارم الأخلاق فيه؛ هذا شجاع، وهذا كريم، وهذا جريء، وهذا صادق، لكنَّ مكارم الأخلاق كلَّها مجتمعة برسول الله صلى الله عليه وسلم.
 يقول عن نفسه صلى الله عليه وسلم:

(( إنما بُعِثتُ لأُتَمِّمَ حُسْنَ الأخلاقِ ))

[أخرجه مالك عن بلاغ مالك ]

 فحوى رسالته، أن يتخلق المسلمون بالخلق الرفيع الذي هو ثمن الجنة. سُمي بهذا الخلق العظيم لأنه امتثل أمر الله عز وجل، وأدب الله عز وجل حينما قال له:

﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾

[سورة الأعراف: 199]

 و :

(( عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ ))

[الترمذي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ]

 إن صاحب الخلق الحسن ليبلغ به صاحب الصلاة والصوم.

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ: تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ - تقوى الله، طاعة الله، وحسن الخلق- وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ فَقَالَ: الْفَمُ وَالْفَرْج ))

[الترمذي عَنْ أَبِي هريرة]

 شهوتا المال والنساء، هما نقطتا الضعف عند عامة الناس، من هاتين الشهوتين يؤخذ الناس ويهلك الناس.

 

تواضع النبي الكريم و خلقه الحسن :

 سئل عن الخلق الحسن، قال:

(( بسط الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى ))

[أخرجه أبو يعلى وابن أبي شيبة عن أبي هريرة ]

 كان عليه الصلاة والسلام متواضعاً، وأدبه الله على هذا الخلق، قال تعالى:

﴿أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً ﴾

[ سورة الإسراء: 93]

(( إنما أنا ابن امرأةٍ من قريش كانت تأكل القديد بمكة ))

[ ابن ماجه عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ]

﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾

[ سورة طه: 131]

 لا تقل لو أن لي هذا البيت، ولو أن لي هذه المركبة، هي للدنيا:

(( اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة..))

[ البخاري عن أنس بن مالك ]

 هكذا كان يقول عليه الصلاة والسلام إذا رأى شيئاً من زينة الدنيا. ولا تحزن عليهم، حينما مدَّ الناس عيونهم إلى الدنيا، وباعوا آخرتهم من أجلها، حينما تنافسوها، حينما نشبت بينهم العداوات من أجلها لا تكن في هذا الوحل، كنْ في السماء، ولا تكن في وحل الأرض. أتحبون قانوناً يؤلف بين الناس؟ قال تعالى:

﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾

[ سورة آل عمران: 159]

 الباء: باء السببية ؛ بسبب رحمة استقرت في قلبك يا محمد، من خلال اتصالك بنا، كنت ليناً لهم، فاللين سلوك مبعثه الرحمة، والرحمة سببها الاتصال بالله، قال تعالى:

﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾

[ سورة آل عمران: 159]

 فالتفوا حولك، ولو لم تكن متصلاً بنا لامتلأ قلبك قسوةً، وكان انعكاس هذه القسوة غلظة وفظاظة، عندها ينفض الناس من حولك:

﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾

[ سورة آل عمران: 159]

 قانون: تعرف الله، فتتصل به، فيمتلئ قلبك رحمة، فتلين للناس، فيحبك الناس، فيلتفون حولك. تغفل عنه، تنقطع عنه، فيمتلئ القلب قسوةً، فينعكس غلظة وفظاظة، فينفض الناس من حولك.

﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾

[ سورة آل عمران: 159]

 بعد أن عفوت عنهم، فاستغفر لهم، فلما استغفرت لهم شاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله.

 

من أدب النبي خدمة أصحابه و الحرص على مصالحهم :

 من أدب النبي عليه الصلاة والسلام:

﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾

[ سورة الشعراء: 215]

 كان عليه الصلاة والسلام يخدم أصحابه، كان يحبهم، كان يحرص على مصالحهم، كان يحرص على آخرتهم، كان معهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. إن رأيت مجتمع المسلمين مفككاً، فمن فعل الشيطان، لأن الشيطان أحد أكبر مهماته التحريش بين المؤمنين، وتفريق جمعهم، وتشتيت وحدتهم، وإيقاع العداوة والبغضاء بينهم، وأن يطعن بعضهم ببعض، وأن يكفِّر بعضهم بعضاً، وأن يسخر بعضهم من بعض، فإذا هم فرادى لا تقوم لهم قائمة، قال تعالى:

﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾

[ سورة الأنفال: 46]

أخلاق النبي في كلام مختصر مفيد :

 جمع بعض كتاب السيرة في كلام مختصر مفيد أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام فقال:" لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمَّ التواضع، وافر الأدب، يبدأ الناس بالسلام، وينصرف بكله إلى محدثه، صغيراً كان أو كبيراً، ويكون آخر من يسحب يده إذا صافح، وإذا تصدق وضع الصدقة بيده في يد المسكين، وإذا جلس جلس حيث ينتهي به المجلس، لم يُرَ ماداً رجليه قط، ولم يكن يأنف من عمل لقضاء حاجته، أو حاجة صاحب، أو جار، فكان يذهب إلى السوق، ويحمل حاجته بيده ويقول: أنا أولى بحملها، وكان يجيب دعوة الحرِّ، والعبد والمسكين، ويقبل عذر المعتذر، وكان يرفو ثوبه، ويخصف نعله، ويكنُس داره، ويخدم نفسه، وكان في مَهنة أهله، وكان يأكل مع الخادم، ويقضي حاجة الضعيف والبائس، وكان يمشي هوناً، خافض الطرف، متواصل الأحزان، دائم الفكرة، لا ينطق من غير حاجة، طويل السكوت، إذا تكلم تكلم بجوامع الكلم، كان دمثاً ليس بالجافي، ولا المهين، يعظم النِّعم وإن دقَّت، ولا يذمُّ منها شيئاً، ولا يذمُّ مذاقاً، ولا يمدحه، ولا تُغضبه الدنيا، ولا ما كان منها، ولا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها، إذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، كان يؤلِّف ولا يُفرق، ويُقرب ولا يُنفر، ويكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، يتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، يُحسَّن الحسن ويصوبه ويُقبِّح القبيح ويوهِّنه، لا يُقصِّر عن حق، ولا يتجاوزه، ولا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه، من سأله حاجة لم يرده إلا بها، أو ما يَسرُّه من القول، كان دائم البشر، سهل الخُلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخَّاب ولا فحّاش، ولا عيّاب ولا مزّاح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يُخيِّب فيه مؤمله، وكان لا يذم أحداً، ولا يعيِّره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يُرجى ثوابه، يضحك مما يضحك منه أصحابه، ويتعجب مما يتعجبون، ويصبر على الغريب وجفوته في مسألته ومنطقه، لا يقطع على أحدٍ حديثه حتى يجوزه".
 والحديث عن شمائله لا تتسع له المجلدات ولا خطب في سنوات ولكن الله جل في علاه لخَّصها في كلمات فقال:

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾

[ سورة القلم: 4 ]

 أيها الأخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأصل العلمي في تحريم النّسب :

 يقول الله جل جلاله في كتابه العزيز:

﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً﴾

[ سورة النساء: 23]

 وفي النهاية وأخواتكم من الرضاعة، وقال عليه الصلاة والسلام:

((عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهم عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ جَاءَ عَمِّي مِنَ الرَّضَاعَةِ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيَّ فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّهُ عَمُّكِ فَأْذَنِي لَهُ قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ؟ قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ عَمُّكِ فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ ضُرِبَ عَلَيْنَا الْحِجَابُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلَادَةِ ))

[ متفق عليه عن عائشة]

 إن هذين النصين الآية والحديث يدلان على أمرين، الأول أن الرضاعة بشروطها المعروفة تجعل الابن الرضيع ابناً للمرضع، وأخاً لمن يشاركه في الرضاعة، من خلال هذين النصين، الآية والحديث، وإن القرابة من الرضاعة تثبت وتنتقل في النسل، في ضوء المعلومات الحديثة التي جاءت بها الهندسة الوراثية، وهي أحدث بحوث الطب، الهندسة الوراثية تؤكد أن الرضاعة تنقل بعض الجينات من المرضعة إلى الرضيع، وهذه القرابة التي جعلها النبي في السنة كقرابة النسب، وجعلها القرآن أيضاً كذلك، هذه القرابة سببها علمي انتقال الجينات من حليب الأم المرضع إلى الرضيع، هذه الجينات تخترق خلايا الرضيع، وتندمج معها في سلسلة الجينات التي عند الرضيع، أي حليب الأم الذي يشربه الرضيع تصل خصائصه إلى جيناته إلى مورثاته، وقال العلماء: لأن الحليب يحتوي على أكثر من نوع من الخلايا، ولأن الجهاز الوراثي في الرضيع ينقل الجينات الغريبة ويقبلها لأنه غير ناضج، فالطفل الرضيع جهازه الوراثي يتقبل جينات غريبة، فإذا أرضعت امرأة طفلاً، الجينات التي في حليبها تخترق خلاياه وتستقر في جينات خلاياه، وتصل إلى جهازه الوراثي، فلذلك قال عليه الصلاة والسلام:

((.. يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلَادَةِ ))

[مسلم عن عائشة]

 النبي عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، فكل شيء في القرآن والسنة الصحيحة له أصل علمي، الآن عرف علماء الوراثة أن هذا الحليب المؤلف من مجموع خلايا يخترق نسج الجنين إلى جيناته الأساسية، ويندمج بها، وأن جهازه الوراثي يتقبل كل شيء غريب حتى يصبح كأنه منه، فالنبي عليه الصلاة والسلام، حينما قال:

((.. يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلَادَةِ ))

[مسلم عن عائشة]

 كان عليه الصلاة والسلام ينطق عن وحي أوحاه الله إليه.

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، لك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين. اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك. اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين.
 اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور