وضع داكن
19-04-2024
Logo
الخطبة : 0214 - رمضان5 - الزكاة - ليلة القدر.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:

 الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر . وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر . اللهمَّ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

فرضية زكاة المال :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ تحدّثت في الجمعة الماضية عن " زكاة الفطر " ، أما زكاة المال فلها موضوعٌ آخر .
 لقد روي عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلَّم لمَّا بعث معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن قال :

((إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حِجَابٌ ))

[ أحمد عن ابن عباس ]

 أيها الأخوة الأكارم ؛ هذا الحديث أصلٌ في فرضية زكاة المال .
 والنبي عليه الصلاة والسلام خاطب الإمام علياً كرَّم الله وجهه ، فقال له :

(( إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بالقدر الذي يسع فقراءهم ، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا إلا بما يصنع أغنياؤهم ، ألا وإن الله يحاسبهم حساباً شديداً ، ويعذبهم عذاباً أليماً ))

[ من الدر المنثور عن علي ]

 أيّ أن الأغنياء الذين يكنزون الذهب والفضة ، ولا ينفقونها في سبيل الله ؛ يسببون أزماتٍ حادة ، يسببون فقراً مُدقعاً ، وحاجةً مُلِحّةً ، ومآسي لا يعلمها إلا الله ، هؤلاء ينبئنا النبي عليه الصلاة والسلام أن الله سيحاسبهم حساباً شديداً ، ويعذبهم عذاباً أليماً ، يؤكد ذلك ما جاء في الحديث القدسي أن الأغنياء أوصيائي ، والفقراء عيالي ، فمن منع مالي عيالي أذقته عذابي ولا أبالي .

 

فضل الزكاة :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ لازلنا في فضل الزكاة ، لقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلَّم أنه قال :

((ثلاثةٌ أقسم عليهن ، وأحدثكم حديثاً فاحفظوه : ما نقص مالٌ من صدقة . . ))

[ الدر المنثور عن أبي كبشة الأنماري ]

 النبي عليه الصلاة والسلام يطمئن المؤمنين ، يطمئن أغنياء المؤمنين ، يطمئن الباذلين ، يطمئن المُتَصَدّقين ، يطمئنهم عن طريق القَسَم . .

((ثلاثةٌ أقسم عليهن ، وأحدثكم حديثاً فاحفظوه : ما نقص مالٌ من صدقة . . ))

[ الدر المنثور عن أبي كبشة الأنماري ]

 وقد روى ابن ماجه والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلَّم قال :

(( يا معشر المهاجرين خصالٌ خَمْس إن ابتليتم بهن ونزلن بكم أعوذ بالله أن تدركوهن ...))

[ سنن ابن ماجه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ]

 يستعيذ النبي عليه الصلاة والسلام بالله أن يدرك هذه الأحوال الخمسة ، ما هي ؟

((لم تظهر الفاحشة في قومٍ قطُّ حتى يعلنوا بها - أي يظهروها ، يتباهوا بها ، يفتخروا بها ، لا يستحيون بها- إلا فشت فيهم الأوجاع - أيْ الأمراض - التي لم تكن في أسلافهم))

 ألم تتحقق نبوة النبي عليه الصلاة والسلام ؟ إن هذا المرض المخيف الذي أكل قلوب المجتمعات الكبرى ، الذي يهدد المجتمعات بالفناء ، إن شبح هذا المرض سبّبَ عقدةً نفسية - مرض الإيدز - يؤكد العلماء أن تسعةً وتسعين بالمئة مِن المصابين بسبب انحرافهم الجنسي ، وانغماسهم في الرذيلة ، وتعاطيهم المخدرات . خمسةٌ أقسم عليهن :

(( خصالٌ خمس إن ابتليتم بهن ونزلن بكم أعوذ بالله أن تدركوهن ؛ لم تظهر الفاحشة - أي الزنا وما يتبعه - في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأوجاع - أي الأمراض - التي لم تكن في أسلافهم ، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخِذوا بالسنين - أي بالفقر - وشدة المُؤْنة ، وجَوْر السلطان ، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمْطَروا ، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سُلِّط عليهم عدوٌ من غيرهم يأخذ بعض ما في أيديهم ، وما لم تحكم أئمّتهم بكتاب الله إلا جَعَل الله بأسهم بينهم ))

[ سنن ابن ماجه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ]

 الله سبحانه وتعالى يقول :

﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾

[ سورة الجن : 26-27]

 وقد أنبأنا النبي عليه الصلاة والسلام قبل أربعة عشر قرناً أن الانحراف ، ومنع الزكاة ، وانهيار القيَم ، وترك الصلاة سيسبب ويلاتٍ ما بعدها ويلات .

 

الزكاة تشريعٌ ربّاني يحل مشكلات الفقراء :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ الزكاة تشريعٌ ربّاني ، خالق السموات والأرض هو الذي فرض الزكاة ، الله سبحانه وتعالى يقول :

﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾

[ سورة التوبة : 103 ]

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ لو أردنا أن نعرف ما مقدار الزكاة التي يمكن أن تجبى من بلدٍ نامٍ ، لا يزيد سكانه عن عشرة ملايين . إن مثل هذا البلد في تقدير الخبراء يزيد دخله عن أربعين ألف مليون مِن العُملة المتداولة ، وأن زكاة هذا المبلغ الكبير ، هذا اسمه الدخل القومي ؛ أي الإنتاج الزراعي ، مع الإنتاج الصناعي ، مع النَقل ، مع المواصلات ، مع التجارة العامة ، مع الإيجارات ، مع الخدمات العامة ، مع الثروات الحيوانية ، مجموع دخول المجتمع ، مجموع دخل الأمة ، هذا يعبَّر عنه بالدخل القومي ، إن بلداً نامياً لا يزيد سكانه عن عشرة ملايين يُقَدِّر الخبراء أن دخله القومي يزيد عن أربعين ألف مليون وأن زكاة هذا المال تزيد عن ألفين وخمسمئة مليون من العُملة المتداولة ، هذا المبلغ ماذا نفعل به ؟ يحل مشكلات الفقراء ، تنشأ به المصحات ، تنشأ به دور الأيتام ، دور العَجَزة ، تنشأ به الوحدات الإرشادية ، تنشأ به الورشات الفنيّة لتجهيز الأيدي العاملة ، إن مثل هذا المبلغ - ألفان وخمسمئة مليون مِن العملات المتداولة - يكفي لحلّ مشكلة الفقر في أي بلدٍ تدفع فيه زكاة أموالها .

 

دفع زكاة المال تحصينٌ للمال :

 فيا أيها الأخوة المؤمنون ؛ دفع الزكاة بحقيقتها وبحجمها يمسح جراح الفقراء ، ويواسي الضعفاء ، ويملأ بطون الجياع ، إن دفع الزكاة يجعل المجتمع متماسكاً ، يجعله متعاوناً، لا تنشأ الأحقاد بين أفراده ، لا تنشأ هذه الفروق الحادّة التي تزرع الحِقد في نفوس المحرومين .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ إن دفع زكاة المال تحصينٌ للمال ، هذا كلامٌ نظري قد يقوله أحدكم ، ولكن هل طبِّق تطبيقاً عملياً ؟ يروي التاريخ أن سيدنا عمر بن الخطاب تلقى من معاذ بن جبل - أميره على اليمن - ثلث الزكاة ، فأنكر عمر ذلك ، وقال له : يا معاذ ، لم أبعثك جابياً إنما بعثتك هادياً ، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس فتردّها على فقرائهم ، فلماذا أتيتني بثلث الزكاة ؟ لماذا جئتني به ؟ إن الأموال التي جبيت من أغنياء أهل اليمن ينبغي أن تردَّ على فقراء أهل اليمن ، فلماذا جئتني بهذا المال ؟ فما كان من سيدنا معاذ إلا أن قال له : والله يا أمير المؤمنين ما بعثت إليك بشيءٍ وأنا أجد أحداً هناك يأخذه .
 فلما كان العام الثاني بعث إليه بنصف الزكاة ، فتراجعا ، أي تحاورا ، وكأن سيدنا عمر لام سيدنا معاذ بن جبل ، أتبعث إليّ بنصف الزكاة ؟ ألم أُنْبِئْكَ أن هذه الزكاة تؤخذ من أغنياء أهل بلدك وترد على فقرائهم ؟ فلما كان العام الثالث بعث إليه معاذ بالزكاة كلها ، فراجعه عمر بمثل ما راجعه ، فقال معاذ : والذي بعث محمداً بالحق ما وجدُّت أحداً في هذه البلاد يأخذ مني شيئاً. هذه روايةٌ تاريخيةٌ صحيحة ، تؤكّد أن الزكاة حينما تدفع بحجمها الصحيح ، ونسبتها التي شَرَعها الله عزَّ وجل ، إن هذه النسبة تسع فقراء المسلمين ، تؤخذ مِن أغنيائهم وتردُّ إلى فقرائهم.
 ولما ولِيَ عمر بن عبد العزيز الخلافة ، وليها ثلاثين شهراً ، وواللهِ ما مات - كما يروي المؤرخون - حتى جعل الرجل يأتي بالمال العظيم فلا يجد مَن يأخذه ، وقالوا : لقد أغنى عمرُ الناس ، عندئذٍ توجّه هذا الخليفة العظيم لصرف أموال الزكاة في قضاء الديون ، فكل مسلمٍ عليه دينٌ ، دُفِعَ عنه هذا الدين .
 لكن هذا العصر ؛ تطالعنا الأخبار مِن حينٍ إلى آخر بفيضاناتٍ أتلفت المحاصيل ، وزلازل وأعاصير ، وجفافاً وقَحْطاً ، وهذه الحشرة أتلفت محصول الزيتون ، وهذه الدودة أتلفت محصول القطن ، وهذه القوارض أتلفت بذور النباتات ، هذه الأخبار التي نطالعها بين الفَيْنَة والفينة ما مغزاها ؟ الله سبحانه وتعالى توعَّد الذين يمنعون تأدية زكاة أموالهم بإتلاف مالهم .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ قال عليه الصلاة والسلام :

((ما تلف مالٌ في برٍ ولا بحرٍ إلا بحبس الزكاة))

[ من الجامع الصغير عن عمر ]

 وقال أيضاً :

(( ما منع قومٌ الزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين - أي بالفقر- ))

[ كنز العمال عن بريدة ]

 فهذا المشروع الإنتاجي كان مِن الممكن أن يعطي مئتي ألف ليرة ، جاءه صقيعٌ بدقائق معدودات فأتلف المحصول كله . .

﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ﴾

[ سورة القلم : 19-20]

 الآفات الزراعية ، والحشرات ، والأوبئة ، والصَقيع ، وبعض أنواع الرياح العاتية ، وبعض أنواع البَرَدِ المُدَمِّر ، وكثرة المياه أحياناً ، وقلتها أحياناً أخرى ، أي أن هناك آلاف الطرائق التي بموجبها يُتْلَف المحصول ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول :

(( ما تلف مالٌ في برٍ ولا بحرٍ إلا بحبس الزكاة ))

[ من الجامع الصغير عن عمر ]

 الله سبحانه وتعالى يقول :

﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾

[ سورة الأعراف : 96 ]

 والله سبحانه وتعالى يقول :

﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيه﴾

[ سورة الجن :16-17]

أحكام الزكاة :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ الزكاة أحد أركان الإسلام الخمسة ، وقد قُرِنَت في الصلاة في اثنتين وثمانين آية ، وسُمِّيَت زكاةً لما يكون فيها مِن تزكية النفس ، وتطهيرها ، وترقيتها ، قال تعالى :

﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾

[ سورة التوبة : 103]

 والزكاة يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ تجب على المسلم الحرّ ، المالك للنصاب ، من أي نوعٍ من أنواع الأموال ؛ البضاعة مال ، عروض التجارة كلها أموال ، الأرض التي تشتريها بُغْيَة أن يزداد سعرها هذه مال ، البيت الذي تشتريه غيرَ البيت الذي تسكنه ، تشتريه لتنتفع بفارق الثمن ، هذا مال يجب أن تؤدَّى زكاته ، الحاجَة التي تشتريها لا لتستعملها ، ولكن لتحفظ بها مالك ، هذه الحاجة ولو أنها شيءٌ يستعمل في البيت ، إنك اشتريت هذه الحاجة لا لنية الاستعمال ولكن لنيّة تنمية المال ، هذا مالٌ نامٍ عليه زكاة .
 لكن النقود الورقية ، والذهب ، والفضة ، هذه ليست بضاعةً ، وهذه ليست عروضاً للتجارة ، إنها قيَم ، المال قيمة ، فهل على المال زكاة ؟ الشرع أوجب على المال الزكاة ، لماذا ؟ لأنك إذا حبسته ، ومنعته عن أن ينتفع به الناس ؛ استثماراً ، وتجارةً ، وصناعةً ، وزراعةً ، فلابدَّ مِن أن تدفع زكاته ، فإن لم تستثمره فإن الزكاة وحدها تأكُلُه ، أيْ أن فرضية الزكاة على الأموال مِن أجل أن تتحرك هذه الأموال لينتفع بها الناس ؛ في مشاريع زراعية ، أو صناعية ، أو تجارية ، أو استثمارية .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ تجب الزكاة على المسلم الحر المالك للنصاب من أي نوعٍ من أنواع المال ، على أن يحول عليه الحول الهِجْرِيّ ، ومعنى النصاب ؛ أن يملك المرء مالاً فائضاً عن حاجاته الضرورية ؛ كالمطعم ، والملبس ، والمسكن ، والمركب ، وآلات الحرفة.
 مقدار النصاب عشرون ديناراً ذهبياً ، أو مئتا درهمٍ فضَّة ، وقد قدّره الفقهاء اليوم بحدِّه الأدنى عشرة آلاف ليرة سورية ، أي مئتي درهم فضة تساوي بالضبط عشرة آلاف ليرة سورية .
 وقيمة زكاة الأموال تتجه إلى أرخص النَقْدَين الفضة والذهب ، ربما كان مقدار عشرين ديناراً ذهبياً يزيد على أربعين ألف ليرة ، لكن علماء الفقه وجَّهوا زكاة المال الوَرَقي إلى أرخص النقدين الفضة والذهب لمصلحة الفقير ، ولمصلحة الزكاة .
 وتجب الزكاة أيها الأخوة في أموال التجارة ، وفي الزروع والثمار والأنْعام ، وهذه الأموال كلها من طبيعتها النماء والزيادة ، أما التي من طبيعتها الجمود والثبات فلا زكاة عليها ، كالمستهلكات كما قلنا قبل قليل .
 لكن زكاة الذهب والفضة والأموال الورقية والأنعام بنسبة واحد بالأربعين ، أو اثنين ونصف في المئة ، أما زكاة الزروع والثمار فهي عشرة بالمئة للمزروعات البَعْلِيَّة ، وخمسة بالمئة للزروع والثمار المسقية ، أيْ أن الشرع الحكيم خفَّض نسبة الزكاة لمن يدفع نفقات الأرض، أو السُقيا ، أو ما شاكل ذلك ، النبات الذي ينمو بماء السماء ، أو بالماء السائح زكاته العُشر ، أما النبات الذي ينمو بماءٍ مجلوبٍ ، أو مدفوعٍ ثمنه ، أو ماء بئرٍ عليه محركٌ مثلاً ، فهذه الزروع زكاتها نصف العُشر .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذه فريضةٌ من فرائض الإسلام الخمس ، لذلك قال الله تعالى :

﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾

[ سورة المعارج : 24-25]

 ليس دفع الزكاة فضلاً منك ، ولا كرماً ، إنما هو حق الفقير ، ومَن دفعه فقد نجا من عذاب الله ، ومَن لم يدفعه استحق سخط الله في الدنيا والآخرة .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن مَلَكَ الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطَّى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

الأخبار التالية تردع الإنسان عن أن يبخل في تأدية زكاة ماله :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ موضوعٌ قلَّما يخطر على بال ، هذا الموضوع مستنبطٌ من قوله تعالى :

﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾

[ سورة المدثر : 31 ]

 الجراد من جنود الله عزَّ وجل ، قال عنها العلماء : إن الجرادة حشرةٌ خطيرةٌ جداً ، ويكمن خطرها في تحركها وهجرتها من بلدٍ إلى آخر .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ إن أسراب الجراد تستطيع أن تقطع في اليوم ما يزيد عن مئة كيلو متر في اليوم الواحد ، بل إن الجرادة تأكل في اليوم الواحد ما يساوي وزنها ، الإنسان كم يأكل ؟ لو الإنسان وزنه ثمانين كيلو هل يعقل أن يأكل ثمانين كيلو في اليوم ؟ الجرادة تأكل في اليوم الواحد ما يساوي وزنها ، لو تصوّرنا سِرْبَ جرادٍ يغطي مساحة واحد كيلو متر مربع ، إن هذا السِرب يَضُم من مئةٍ إلى مئتي مليون جرادة .
 كان هناك بعض أسراب الجراد تزيد مساحته عن أربعمئة كيلو متر مربع ، وهذا السرب يضم وسطياً أربعين ألف مليون جرادة ، وهذا الجراد يزن ثمانين ألف طن ، إذاً هذا السرب يأكل في اليوم الواحد من أوراق الأشجار ، والنباتات الخضراء ، والمحاصيل الزراعية ما يزيد عن ثمانين ألف طن في اليوم الواحد . .

﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾

[ سورة المدثر : 31 ]

 أحد أسراب الجراد الذي تواجد في بلدٍ إفريقي ، كان طوله خمسين كيلو متراً ، وعرضه ثلاثة كيلو مترات ، بعض الكوارث التي سببها الجراد في العالم
 في عام اثنين وستين قضى الجراد على عشرة آلاف فدان قطن في الهند ، وفي عام ثمانية وخمسين قضى الجراد على مئةٍ وسبعةٍ وستين ألف طن حبوب في الحبشة ، قيل : هذا الطعام يكفي لإطعام مليون إنسان في العام ، في عام سبعة وخمسين قضى الجراد على ستة عشر ألف طن مِن الذرة البيضاء ، وألفي طن مِن المحاصيل الأخرى في السنغال ، وفي عام أربعة وخمسين قضى الجراد على خمسة وخمسين ألف طن من القمح في السودان ، وفي عام أربعة وأربعين قضى الجراد على سبعة ملايين شجرة كرمة ، في أحد الأقطار الإفريقية . .

﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾

[ سورة المدثر : 31 ]

((ما تلف مالٌ في برٍ ولا بحرٍ إلا بحبس الزكاة ))

[ الجامع الصغير عن عمر ]

 الجراد أحد الجنود ، فلذلك قال عليه الصلاة والصلاة :

(( حصِّنوا أموالكم بالزكاة ))

[ الجامع الصغير عن ابن مسعود ]

 حصنوا أموالكم النقدية بالزكاة ، حصنوا بضاعتكم من التلف أو المصادرة بالزكاة ، حصنوا مزروعاتكم من الجوائح ، من الصقيع ، من بعض الحشرات ، من بعض الأمراض التي تصيب المزروعات حصنوها بالزكاة .
 فيا أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذه الأخبار من أجل أن تردع الإنسان عن أن يبخل في تأدية زكاة ماله . .

﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾

[ سورة المدثر : 31 ]

 اللهم اصرف عنا البلاء والوباء .

 

ليلة القدر :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ في نهاية هذه الخطبة كلمةٌ عن ليلة القدر . الله سبحانه وتعالى يقول :

﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾

[ سورة القدر : 1-3]

 أي ألف شهر تساوي ثمانين عاماً ، لو أن الإنسان عبد ربه ثمانين عاماً عبادةً جَوْفاء ؛ من صلاةٍ ، وصيامٍ ، وحجٍ ، وزكاة ولم يقدّر ربه حق قدره لقوله تعالى :

﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة﴾

[ سورة الزمر : 67]

 إذا عرفت الله عرفت كل شيء .

(( ابن آدم اطلبني تجدني ، فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء ))

[ تفسير ابن كثير]

 في ليلة القدر يجب أن يقدِّر الإنسان ربه ، فإذا عرف قدره ، واستقام على أمره ، وأقبل عليه ، وتقرب إليه ، سعد بقربه في الدنيا والآخرة .

 

وجوب الزكاة على كل صائم مسلمٍ عنده قوت يومه :

 شيءٌ أخير : أذكركم مرةً ثانية بأن على كل صائمٍ زكاة الفطر ، وهي تجب على كل مسلمٍ عنده قوت يومه ، ذكراً كان أو أثنى ، صغيراً أو كبيراً ، فقيراً أو غنياً ، وعلى المسلم أن يدفع هذه الصدقة عن نفسه أولاً ، ثم عن كل فردٍ يمونه أو يلي عليه ؛ كزوجته وأولاده إن كانوا صغاراً ولا مورد لهم ، وعن أمه وأبيه ، وإخوته وأخواته إن كان ينفق عليهم ، أو يتولَّى أمرهم ، وتجب على المولود الذي يولَد قبل صلاة العيد ومقدارها نصف صاعٍ من بُر أو صاعٌ من شعير ، عن كل فردٍ ، ويجوز دفع قيمتها بالنقد المتداول ، وقد قُدِّر في هذا العام كحدٍ أدنى بخمس وعشرين ليرة ، وقال تعالى :

﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾

[ سورة البقرة : 197]

﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّه﴾

[ سورة البقرة : 110]

 فمن رفع هذه النسبة وهو في بحبوحةٍ ويسر ، إلى مئة ليرة ، أو إلى خمسمئة ليرة عن كل فرد فهذا مما يثيب الله عليه .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ تعطى هذه الصدقة لمسكينٍ واحدٍ أو لعدة مساكين ، والأقربون أولى بالمعروف ، وأهل الإيمان والصلاح أولى من أهل الفجور والنفاق .
 إن صوم رمضان كما يقول عليه الصلاة والسلام :

((صوم رمضان معلَّق بين السماء والأرض ولا يرفع إلا بزكاة الفطر ))

[ من الدر المنثور عن جرير ]

 مَن لم يدفع هذه الزكاة قبل صلاة العيد ، أي من أدى زكاة الفطر قبل صلاة العيد فهي زكاةٌ مقبولة ، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة مِن الصدقات ، والأولى تقديمها ودفع ثمنها في أثناء شهر رمضان ، بل إن الإمام الشافعي رضي الله عنه يرى جواز دفعها في أول شهر رمضان ، ليتاح للفقير استكمال حاجاته مِن طعامٍ ، وشرابٍ ، وملبسٍ ، وبقية الحاجات .
 وقد اتفق الأئمة على أن زكاة الفطر لا تسقط بالتأخير بعد الوجوب ، بل تصير ديناً في ذمّة مَن لزمته حتى تؤدى ، لو أخَّرتها لا تسقط بل تبقى ذمة في رقبتك ، لذلك لابدَّ مِن أن تؤدى ، ويجب أن تؤدى قبل صلاة العيد .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ كما عوَّدتم هذه اللجان الكريمة التي تحضر في هذا الشهر الفضيل لقبض التبرُّعات السخية منكم ، وقد ذكرت لكم أنه في الأسبوع الماضي ازدادت النسبة عن خمسة وثلاثين ألفاً ، وفي الأسبوع الماضي بلغت ثمانيةً وثلاثين ألفاً ، وقد جاءنا في هذا الأسبوع ستُّ لجانٍ ، فاللجنة الأولى ؛ لجنة جمعية الأنصار الخيرية ، والثانية لجنة جمعية البر والإحسان في قبر عاتكة ، واللجنة الثالثة لجنة جمعية المساعدة الخيرية في العَمارة ، والرابعة لجنة جمعية إغاثة الفقراء في الصالحية ، والخامسة لجنة جمعية القنوات الخيرية بدمشق ، والسادسة لجنة جمعية الشيخ محي الدين الخيرية . ست لجانٍ حضرت لتأخذ من تبرعاتكم ، من زكاة أموالكم ، أو من زكاة فطركم ، وأتمنى عليكم إذا دفعتم لهذه الجمعيات زكاة الفطر أن توضع في مكانٍ خاص ليتسنَّى بالقائمين على الجمعيات دفعها قبل صلاة العيد .
 أيها الأخوة الأكارم ؛

(( صدقة السر تطفئ غضب الرب ))

[ الجامع الصغير بسند صحيح ]

((استمطروا الرزق بالصدقة ))

((باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطى الصدقة))

[ من مختصر تفسير ابن كثير عن أنس ]

 والله سبحانه وتعالى في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه .

الدعاء :

 اللهمَّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَّنا فيمن توليت ، وبارِك اللهمَّ لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك .
 اللهمَّ أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا .
 اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا. اللهم استر عيوبنا ، واغفر ذنوبنا ، واقبل توبتنا ، وفكَّ أسرنا ، وأحسن خلاصنا ، وبلغنا مما يرضيك آمالنا ، واختم بالصالحات أعمالنا . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهمَّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

تحميل النص

إخفاء الصور