وضع داكن
19-04-2024
Logo
رياض الصالحين - الدرس : 097 - حديث اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة – تحريم الظلم والأمر برد المظالم
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

تمهيد:


أيها الإخوة الكرام؛ لا زلنا في رياض الصالحين, من كلام سيد المرسلين, عليه أتم الصلاة والتسليم، اخترت لكم في هذا اليوم باب: 

تحريم الظلم والأمر برد المظالم.

السبب: أنني أفاجأ من حينٍ إلى آخر, أن مسلماً يصلي، ويصوم، ويحج، ويقيم شعائر الله، أما إذا عاملته بالدرهم والدينار, أخذ ما ليس له، أو منع الذي لغيره. 

اسمحوا لي أن أضرب لكم هذا المثل:

قبل أن تفتح عليه الصنبور, أحكِم قعر المستودع، وإلا فلا معنى إطلاقاً لفتح الصنابير عليه، لن تمتلئ، ما دام قعرها مثقوباً، فتح الصنبور لا يُجدي، أيْ أن هناك سلبيات، وهناك إيجابيات، الإيجابيات لا معنى لها قبل إحكام السلبيات، فالصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، وحضور درس علم، وارتداء ثياب إسلامية، وسواك، وعطر إسلامي، ومسبحة، ودرس علم، ومن جامع إلى جامع، وأكل مال حرام, هذا وضع مَرَضي، هذا وضع لا يمكن أن يقبل في الإسلام.

أُذَكِّركم بقول التستري، أحد كبار العلماء:

ترك دانقٍ من حرام خير من ثمانين حجةً بعد الإسلام

والله لأن أمشي مع أخٍ في حاجته, خيرٌ لي من صيام شهرٍ, واعتكافه في مسجدي هذا

أيها الإخوة؛ يجب أن تفرِّق دائماً بين العبادات التعاملية والعبادات الشعائرية. 

الأصل في الدين إحكام العبادات التعاملية، من أجل أن تُقْبَلَ العبادات الشعائرية. 

أما حينما تأخذ ما ليس لك، حينما تعتدي على حقوق الآخرين، حينما تظلم زوجتك، حينما لا تسوّيِ بالعطية بين أولادك، حينما تأخذ الشركة من شريكك، حينما لا تعطي الناس حقوقهم، لا يمكن أن يقبلك الله عز وجل, ولو صليت ألف ركعة، ولو صمت الدهر كلَّه، ولو فعلت ما فعلت. 

لأن درءَ المفاسد مقدمٌ على جلب المنافع.

إحكام المستودع قبل أن تفتح عليه الصنبور، ما قيمة فتح الصنبور والمستودع بلا قَعْر؟. 

هذا حال المسلمين.

ادخل إلى المحاكم والعياذ بالله, عشرات ألوف الدعاوى، كلها اغتصاب أموال، اقترض قرضًا لم يؤدهِ، هكذا.

الآن: نصف العلاقات التجارية, عليه دين لا يدفع شيئًا، ويقول: ليس معي مال، هذا الحاضر، اشتك عليّ.

ففي طرفة: قال شخص لآخر: أنا أكفله، وإذا لم يدفع لك, ابصق بهذه اللحية، فلم يدفع له, قال له: تعال ابصق بهذه اللحية، وهذا هو الشرط، كلام فارغ.

يا أيها الإخوة الكرام؛ إني أستمع كل يوم إلى قصة, يندى لها الجبين، أيعقل من إنسان يدخل مسجدًا, ثم يأكل حقوق الآخرين، يأخذ ما ليس له, يظلم امرأته، لا يعطيها شيئاً؟.

 

باب تحريم الظلم والأمر برد المظالم.


الإمام النووي رحمه الله تعالى, من عادته أن يُصَدِّرَ أبواب كتابه رياض الصالحين ببعض الآيات:  

الآية الأولى:

يقول الله عز وجل:

﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18)﴾

[ سورة غافر ]

الظلم ظلماتٌ يوم القيامة.

أيْ قبل أن تفتح الصنبور أحكم المستودع. 

قبل أن تصلي أدِّ الحقوق لأصحابها. 

قبل أن تتصدر وتحدث الناس عن الله عز وجل أدِّ ما عليك من حقوق. 

قبل أن تُعْلِن انتماءك لهذا الدين العظيم كن عادلاً في بيتك. 

قبل أن تقول ما أعظم دين الإسلام، أعطِ كل ذي حقٍ حقه.

لا تقبل العبادات الشعائرية, ما لم تستقم العبادات التعاملية، هذا كلام دقيق جداً.

 

العبادات الشعائرية لا تقبل ولا تقطف ثمارها إلا إن صحت العبادات التعاملية


هناك أدلة في القرآن الكريم بشأن: لا تقبل العبادات الشعائرية, ما لم تستقم العبادات التعاملية:

﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)﴾

[ سورة العنكبوت ]

فإن لم تنهَ عن الفحشاء والمنكر, لم يحقق المصلي من صلاته الغاية التي أرادها الله منها.

رُبَّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائمٍ ليس له من قيامه إلا التعب والسفر

أيها الإخوة؛ هناك حديثٌ شريف, لو تأمَّله الإنسان لارتعدت فرائصه:

(( لأَعْلَمَنَّ أَقْوَاماً مَنْ أُمَّتِي, يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ, أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضاً, فَيَجْعَلُهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُوراً، قَالَ ثُوْبان: يَا رَسُولَ اللهِ, صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا، أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ, قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ أخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتَكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ, وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا ))

[ أخرجه ابن ماجة في سننه ]

أيها الإخوة؛ ما من يوم إلا واستمع إلى إنسان يصلي، وله مظهر ديني، ويؤدي العبادات الشعائرية، وله مسجد، وله شَيْخ، ومع ذلك: يأكل أموال الناس بالباطل، ومن أكل أموال الناس بالباطل, أجاعه الله بالحَق، هو أكل بالباطل فجاع بالحق, قال تعالى: (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ) .

أعرف أخًا كريمًا؛ أنا أفتخر به، والده ترك بيتًا بأحد أرقى أحياء دمشق، وله أخت وحيدة، فالورثة ابنٌ وابنة، والإنسان تزوج في بيت أبيه, الذي يملك ثُلُثَيْه، أخته تزوَّجت، وزوجها لها بيت مُلك، بيت زوجها، وليست بحاجة إلى شيء، هذا الأخ قَيَّمَ البيت تقييماً كما لو أنه فارِغ، وأعطى أخته حقَّها من الإرث بالتمام والكمال.

فمعظم الإخوة يقولون لك: هذا بيت العائلة، تعال واسكن إذا أردت ذلك، أو يقيِّمه مستأجرًا بربع القيمة، فهو لا يعطيها من قيمته إلا النذر اليسير.

فيا أيها الإخوة؛ قبل أن تتلبس بمظاهر الإسلام، وقبل أن تؤدِّي شعائر الله، وقبل أن تنتمي لهذا الدين العظيم، الإسلام منظومة قيَم أخلاقية، والمسلمون الأوائل حينما وصلوا إلى مشارق الأرض ومغاربها، وصلوا إلى هذه البلاد باستقامتهم.

عبد الله بن رواحة, جاء يهود خيبر ليقيِّم تمرهم, -فللنبي نصفه فيما أذكر-, فأغروه ببعض حِلِيّ نسائهم, فلعله يُقَيِّم التمر بقيمةٍ أقل، فقال لهم:

والله لقد جئتكم من أحب الناس إلي، ولأنتم عندي أبغض إليَّ من القردة والخنازير، ومع ذلك لن أحيف عليكم، فقال اليهود: بهذا قامت السموات والأرض، وبهذا غلبتمونا

فالمسلم الظالم يُهْزَم، ويمرَّغ في الوَحْل، وقد يقوى عليه كافرٌ عادل، انتبهوا: المسلم الظالم قد يسلط عليه كافر عادل، كافر في عنده قيم مدنية، ليست دينية، قيم مدنية يتعايش بها، فقد يسلط على مسلمٍ ظالم كافر عادل.

أيها الإخوة الكرام؛ فأنا أتمنى أن يكون واضحاً لديكم: أن سيدنا جعفر عندما سأله النجاشي عن الإسلام، هذا سيدنا جعفر من كبار الصحابة, عَرَّفَ الإسلام تعريف أخلاقي فقط قال:

كنا قوماً أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونسيء الجوار، ونقطع الرحم، حتى بعث الله فينا رجلاً, نعرف أمانته, وصدقه, وعفافه, ونسبه، فدعانا إلى الله لنعبده ونوحِّده, ونخلع ما كان يعبد آباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث, وأداء الأمانة, وصلة الرحم، والكَفِّ عن المحارم والدماء

هذا هو الإسلام، فالإسلام صدق.

إخواننا الكرام؛ الصادق وحده داعية، داعية وهو ساكت، بإمكانك أن تكون أكبر داعيةً وأنت ساكت، ولا كلمة؛ لكن صادق، أمين، وَرِع، واضح, فلا يوجد احتيال، واختيال، وإظهار شيء, وإبطان شيء، لا، بل واضح.

المؤمن الصادق لا يكذب، المؤمن لا يغش، لا يحتال، لا يكيد، لا يحقد، لا ينتقم، الآن تصلي، فإذا كنت بهذه الأخلاق, فالطريق إلى الله سالك، والخط إلى الله يصير فيه حرارة، فأنت تقدر تكون أقرب الناس إلى الله بعملك الصالح، أما بعباداتك: فالعبادات مناسبة كي تقبض ثمن عملك الصالح، العبادات مثل ساعات الامتحان، فإذا كنت أثناء السنة دارس دراسة متينة جداً، فأنت أسعد الناس في هذه الساعات الثلاث، لأن كل الذي حصَّلته من عِلم, سوف تَصُبَّه على الورق في هذه الساعات الثلاث، وأنت كمسلم إذا كنت مستقيمًا استقامة تامة، وملتزمًا التزام تام في أداء الحقوق، وأداء الواجبات، تقف لتصلي, فأنت مع الله، لأن الحُجُب ليست بينك وبين الله، فكل معصية حجاب.

اخترت هذا الباب, وأنا أتحرى أن يكون الدرس يوم الأحد درساً واقعياً، أتحرى أن أضع يدي في درس الأحد على الجِراح، المكان الذي ينزِف دماً.

الآن: المشكلة أنك تعامل مسلم لا يفي بوعده، لا يفي بما عليه، يُسَوِّف، يؤَخِّر.

 فالذي يحصل: أن عامَّة الناس يعرفون الدين من أَهل الدين، بينما الخاصَّة يعرفون الدين من منابعه الأصيلة.

فإذا عرف الرجل الدين من المسلمين فيجب ألاّ يسلم، يقول لك: ما هذه المعاملة؟ لا يوجد صدق، لا يوجد استقامة، كل شيء فيه لُغم، كل إنسان لا تعرف أي ساعة ينفجر عليك، هذا مسلم؟!.

المسلم الصادق: تطمئن له، وعده صحيح، أداؤه صحيح، عهده متين.

(( المسلمون عند شروطهم ))

[ أخرجه الحاكم في مستدركه ]

فهذا الكذب، والنفاق، والاحتيال، والأساليب الملتوية, هذه ليست من أخلاق المسلمين. 

الآية الثانية:

أيها الإخوة الكرام؛ يقول الله عز وجل:

﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)﴾

[ سورة الحج ]

أما الأحاديث التي تتحدَّث عن الوعيد الشديد من قبل الله عز وجل، أو من قبل النبي عليه الصلاة والسلام لمن وقع في الظُلم, فهي أكثر من أن تُحْصَى. 

الآية الثالثة:

قال تعالى:

﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)﴾

[ سورة الأنعام ]

الله هو الحَق، فالله عز وجل من أسمائه: الحق، ولأنه من أسمائه الحق، هو الذي سيحق الحق ويبطل الباطل. 

الحديث الأول في هذا الباب: اتق دعوة المظلوم.

(( فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا, أَنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ, فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ ))

[ أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي في سننهم ]

لذلك: المظلوم ينصره الله ولو كان كافراً، لا بحسب حال الداعي، بل بحسب كمال المَدْعو، المدعو هو الله، والله عَدْل، فالمظلوم يستجيب الله له.

فمثلاً: إنسان أقام علاقةً مع امرأةٍ, وقد وعدها بالزواج، والمرأة مغفلة بالطبع، غير ملتزمة، فلو أنها ملتزمة لا تقيم علاقة، أقام معها مدة طويلة جداً، ثم ركلها بقدمه، وانتهى الأمر، فوقع في خطأ, كلفه ثاني يوم مئتان وثمانون مليونًا، قصةٌ واقعيةٌ أعرف كل تفاصيلها، غلطة في عمله التجاري، لأنه وعد امرأةً، ثم سوف، وسوف، وسوف, حتى ركلها بقدمه. 

ألا ينتقم الله منه؟. 

أنت تخاف الله بقدر ما تعرفه، فكلما ازدادت معرفتك بالله, ازددت خوفاً منه ، والذي لا يخاف الله لا يعرفه، بل هو غبيٌ أحمق.

ذات مرة قال لي طالب: أنا لا أخاف من الله. 

قلت له: أنت بالذات معك حق. 

فاستغرب.

قلت له: الفلاح يأخذ ابنه الصغير وقت الحصاد، يكون عمره سنتان، يضعه بين القمح، يمر ثعبان بجانبه, إذا رآه رجل يقفز، ولكن الطفل يضع يده عليه، هذا الطفل الصغير لا يخاف الثعبان، لأنه لا يوجد عنده إدراك، فلا يوجد خوف، تخاف بقدر إدراكك.

لذلك قال عليه الصلاة والسلام:

(( رأس الحكمة مخافة الله تعالى ))

[ أخرجه ابن أبي عمر في مسنده المطالب العالية في زوائد المسانيد الثمانية عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ]

الله كبير، ((رأس الحكمة مخافة الله تعالى)) .

الحديث الثاني في هذا الباب: اتقوا الظلم.

(( عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اتَّقُوا الظُّلْمَ, فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, وَاتَّقُوا الشُّحَّ, فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ, حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ, وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ ))

[ أخرجه مسلم ]

(فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)) .

 

قصص فيها عبر:


هناك قصص رمزية, أذكرها كثيراً، لكنها معبرة. 

 

قصة أنا السائل الأول.


جلس رجل يأكل دجاجًا مع زوجته، طرق الباب، فقامت وفتحت, فعلمت أنه سائل، هَمَّت أن تعطيه قطعةً من الدجاج, لأنه فقير، فنهرها وقال لها: اطرديه، فطردته بتوجيه زوجها، فدارت الأيام، واختلفت مع زوجها، وطلقها، ثم خطبها إنسانٌ غنيٌّ، وعاشت معه، وكانت سعيدةً بهذا الزوج الثاني، لكنها مرةً كانت مع زوجها الثاني, ويأكلان الدجاج، فطُرِقَ الباب، فقامت وفتحت الباب, فاضطربت، بدا ذلك على وجهها، قال: من الطارق؟ قالت: سائل، قال: لماذا اضطربت؟ قالت: أتعلم من هو؟ إنه زوجي الأول، قال: أتعلمين من أنا؟ أنا السائل الأول.

ولو كانت القصة قصة رمزية، لكن الله ينتقم، يجعل من كان في أعلى السلم في أسفل السلم، ويجعل من كان في أسفل السلم في أعلى السلم.

فعندما صار سيدنا يوسف عزيز مصر، كان في القصر جاريةٌ, تعرفه عبداً في القصر، فلما رأته سيِّد القصر قالت: سبحان من جعل العبيد ملوكاً بطاعته؟.

وكم من إنسانٍ دمَّره الله؟.

 

احذروا نقمة الله.


مرة قال لي أحد الناس: بيتي ألف متر مع الحديقة، في بلد عربي، عندي ثلاث سيارات، واحدة للسفر فخمة جداً، ومريحة جداً، ووزنها عال جداً، وواحدة للمدينة، وواحدة للمعمل. 

قال لي: والله ما أدخلت إلى بيتي الفواكه إلا بأكبر كميات، والحلويات إلا بأكبر كميات. 

قال لي: خادم، طباخ، وعامل حديقة، وصف لي حياته.

أنا وجدته في محل بأحد أحياء دمشق الفقيرة جداً, ينام على طاولة التفصيل، ويأكل من عُلبة السردين بلا صحن، وينَقِّب في القمامة, ليأخذ لأهله بعض الخضار المتفسخة أو الفاسدة كي يأكلوها.

كيف كان؟ وكيف صار؟. 

الله عز وجل إذا أخذ شيئًا أدهش.

رجل يبكي كالأطفال, ليس معه ثمن طعام، قد يضربه ابنه.

 

الله جبار مع الضعيف ضد القوي.


كان في بالشام طبيب -والقصة لا أعيها, فهي منذ سبعين سنة-, هو طبيب وحيد، وكان مختصًا بالأمور النسائية، لا يخرج من بيته إلا بليرة إنكليزية, وفي عربة أحصنة، لم يكن ثمة تاكسي، فإذا كانت المرأة مريضة، فأهلها يبيعون الفرشة من تحتها، ويقدمون ليرة ذهب وعرباية.

عمر بيتًا بأفخر أحياء دمشق، وزينه تزيينًا رائعًا، له إطلالة على الشام -البيت إلى الآن موجود، وأنا أعرفه، وهو مشيد من الحجر المنحوت المزخرف-, بعد فترة وجيزة, أصيب بشلل كامل، وضعته زوجته في القبو، تُرسل له الطعام مع الخادمة، يسأل عن زوجته، مرة، مرتين، ثلاثًا، تأتي بعد أسبوع تسبه وتخرج، فلما فاحت منه روائح كريهة, نقلته إلى بيتٍ مستأجرٍ بعيد، ((اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) .

 

الدين معاملة وأخلاق.


دققوا يا إخواننا؛ دينك بحرفتك، مادة مُسَرْطِنَة، مادة تؤذي المسلمين، مادة منتهية المفعول, تضعها في المعمل، تدلِّس, فتوهم الناس أن هذه البضاعة من أصل معين، وهي من أصل ثان أرخص بكثير. 

إنسان ساذج يدخل إلى محلَّك، فتستغل جهله, وتبيعه بضاعة بأعلى سعر, وبأقل مواصفات.

زوجتك مقطوعة لا أحد لها، تظلمها, لأنه لا أحد يدافع عنها.

حالات كثيرة من ذلك، الظلم ظلمات، والظالم عدو الله، والظالم لا يستجيب الله له، ولا يقْبَله، ويلعنه، ويلعنه اللاعنون، يقول عليه الصلاة والسلام: ((اتَّقُوا الظُّلْمَ, فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) .

كان إنسان له موقع, يقوم بتغرير الفتيات، وينال حظه منهن بالحرام، أصيب بشلل، فكانت زوجته تأتي بالرجال لتمارس معهم الفاحشة أمام عينيه، إغاظةً له، الله كبير، وبعد ذلك فالأمور أمام أعيننا، بكل عصر، بكل مصر، بكل مكان، بكل زمان، الله ينتقم انتقام شديد.

فقبل أن تقول: أنا صاحب دين، أنا أنتمي إلى الجامع الفلاني، وأنا أحفظ القرآن، وأنا أصلي.

قبل كل شيء: اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس ، وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً.

 

نفوس لا تخاف الله.


تسكن بيتًا أرضيًا، ولهذا البيت وجيبة داخلية، عَمَّر غرفة مترين بمتر لابنه، مطبخ، وسكنه بكراج، لكن الذي يسكن بآخر طابق اشتكى عليه، وهو لم يحجب عنك الريح، ولا الشمس، ولا المطر، والبناء داخلي, وبأرضه، وبوجيبته، وإذا ستر الإنسان ابنه هل كفر؟ نفوس مريضة، نفوس لا تخاف الله، لا ترحم، إن لم نتراحم لا يرحمنا الله.

فالأصل: المؤمن يعاون أخاه.

أما الآن: إذا وقع إنسان تحت يد إنسان آخر، فيأخذك من المكان الذي يوجعك, فدائماً: يجب أن يدمره، أن يذبحه، أن يسحقه، يكلفه ما لا يطيق، يعد نفسه بطلاً.

 

من الأمراض المهلكة: الشح.


 ((اتَّقُوا الظُّلْمَ, فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, وَاتَّقُوا الشُّحَّ, فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ, حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ, وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ)) فأكبر مرض نفسي يهلك الإنسان: الشح، الحرص على المال، يأخذ ما له وما ليس له، ويمنع أصحاب الحقوق، يجمع هذه الثروة الطائلة، فإذا حان قطافها, جاءه ملك الموت، تفضل.

حدثني أخ قال لي: صلينا الصبح حاضراً، أخوان يصليان الصبح في مسجد في أحد أحياء دمشق.

قال لي: من عادة هذا الصديق, وهو ذو دعابة, يحكي لنا طرفة بالطريق، خرجنا من المسجد معاً، وأتحفنا بطرفتين، وأوصلناه إلى البيت. 

قال لي: وفي الظهر وجدته يقف على موقف سيارة عامَّة -يمكن في المرجة-.

قال لي: والله الذي لا إله إلا هو في العصر صلينا عليه. 

الموت يأتي فجأةً     والقبر صندوق العمل 

((وَاتَّقُوا الشُّحَّ, فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ, حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ, وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ)) بسبب الحرص على المال، فاليوم قضية عرضت أمامي: إنسان ترك شيئًا من المال، أو ثروة، أو مؤسسة ضخمة، وقد أعطى الذكور وحرم الإناث، وهو مرتاح، والإناث تألموا ألماً لا حدود له، فأين العدل؟.

في الصحاح خمسةٌ وثلاثون حديثاً، توجب على المؤمن, أن يعدل بين أولاده, ولو في القبلة، أما إذا لم يعدل, الآن: أكثر الناس يخصون الذكور بكل شيء، والإناث لأن لهم أزواج لا يخصهن، كأن البنت عندما تزوجها رجل لم تعد ابنته، تبقى ابنتك، ولها حقٌ عندك، كحق ابنك عليك بالتمام والكمال، ((اتَّقُوا الظُّلْمَ, فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, وَاتَّقُوا الشُّحَّ, فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ, حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ, وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ))

الحديث الثالث:

﴿ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, قال: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ, حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ -التي لا قرن لها- مِنْ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ ﴾

[ أخرجه مسلم والترمذي ]

لو أن شاتين تناطحتا فقلعت إحداهن قرن الثانية، ((حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ -التي لا قرن لها- مِنْ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ)) .

سأل شخصٌ سيدنا عمر قال له: ((أتحبني؟ قال له: والله إني لأحبك)) لا توجد مواربة، نحن مجتمعنا مجتمع النفاق، ابتسامة عريضة، مصافحة حارة، ورَبْت على الكتِف، وبعد دقيقتين يذمه.

هناك أناس يتقنون فن النفاق، يثني عليك، وعلى علمك، وعلى ذكائك، وعلى طهارتك ، وبعد دقيقتين يذمك، فسأله صديقه: لماذا حكيت ذلك؟ قال له: أعطه جَمَلَهُ، نفاق، النفاق مرض، ((لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ, حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنْ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ)) .

الآن: كم من بيت مغتصب؟ وكم من أرض مغتصبة؟ وكم من محل مغتصب؟ وكم من شركة مغتصبة؟ وكم من امرأة لم يعطها زوجها مهرها؟ وكم من ابن حَرَمَهُ أبوه من حقِّه؟ وكم من ابن حرم أباه من حقه؟ كم؟ ما قيمة هذه العبادات إذا كان في بالمعاملات ظلم؟. يقول عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع:

(( إنَّ دِماءَكُمْ, وَأمْوَالكُمْ, وأعْرَاضَكُمْ, حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، في بَلَدِكُمْ هَذَا, في شَهْرِكُمْ هَذَا، ألا هَلْ بَلَّغْتُ؟ ))

لعلكم تستغربون أنه لماذا اخترت هذا الدرس؟. 

أنا أرى أنه شاع بين المسلمين أكل أموالهم بالباطل، ببساطة، يأكل مال أخيه ولا يعطه حقه، أكثر من مئتي قصة, دين لا يدفعه، هذا الحاضر، هو في الحقيقة لا ينوي أن يدفعه، لو نوى أن يدفعه, أدى الله عنه.

إنسان أخذ مال من إنسان -أنا والله أظنه صالحاً, ولا أزكي على الله أحداً-, هذا الإنسان أفلس، وقع بأخطاء في عمله التجاري, حملته على أن يعلن إفلاسه، لكن لأنه -وأنا أعلم- ينوي أداء الحقوق لأصحابها، الله سخَّر له أُناس, أعطوه بضاعةً ديناً لأمدٍ طويل، وباعها بشكل نقدي بأرباح جَيِّدة، واستطاع أن يفي كل ما عليه من حقوق، فهذا مثل عندي واضح، هذا ماذا عمل حتى أدَّى الحقوق؟ أراد أن يعطي الناس حقوقهم.

(( من أخذ أموال الناس يريد أداءها -لا يملك إلا أنه يريد أداءها- أدى الله عنه ))

[ أخرجه البخاري ]

فالله يريد منك أن تريد أداءها، يؤدي عنك الله عز وجل، أما هذا الذي لا يدفع، لأنه لا يريد أن يدفع فقط.

أيها الإخوة؛ لم ألتق مع تاجر إلا وله مع شخص مليونان، ومع الآخر ثلاثة ملايين، وهذا أكل عليه أربعة ملايين، هكذا البلد أصبحت؟ كيف تصلي؟.

أعرف تاجرَ أقمشة, اشترى بضاعة بالدَّين, وهو من مدينة أخرى، اشترى بيوتاً لأولاده، وزوجهم، ولم يوفِّ الدين، هكذا السندات، لا يوجد، بالبضاعة التي اشتراها ديناً, باعها نقداً، وحل مشكلة أولاده، وأصحاب الأموال قائمون عائدون، ومعهم السندات حبر على ورق، تفضل، ادخل القضاء تحتاج عشر سنوات، فلذلك: ((ترك دانقٍ من حرام خير من ثمانين حجةً بعد الإسلام))

الحديث الرابع:

(( وعن عائشة رضي الله عنها, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ أخَذَ شبْراً مِنَ الأرْضِ ظُلْماً -أي قَدْرَ شبرٍ- طُوِّقَهُ إلى سَبْعِ أرَضِين ))

 

إنذار مبكر:


ركب شخصٌ سيارته متجهًا نحو الحجاز، الإشارة حمراء، فوقف، يبدو أنه أصيب بجلطة مفاجأة، فانكب على مقود السيارة وصاح، زوجته إلى جانبه، ومن غرائب الصُدَف: أن صديقه وراءه بسيارة أخرى، فلما صرخت زوجته, نزل صديقه، وحمله إلى سيارته، وأخذه إلى المستشفى، أزمة قلبية، وضعوه في العناية المشددة، بعد يومين شعر بشيء من النشاط، فطلب مسجلة وشريط كاسيت، وقال بالمسجلة: المحل الفلاني، أنا أخذته اغتصاباً من أخوتي، أعيدوه لأخوتي, يبدو أنه كان أكبر أخوته، واستطاع أن يجمع كل الثروة له، وهيمن على أخوته، فذكر بهذا الشريط أن المحل الفلاني لأخوتي، البيت الفلاني لأختي فلانة، الواقع الذي ارتكبه ذكره، خاف أن يموت بعد يومين ويكون آثمًا، يبدو أن هذه الأزمة غابت عنه نهائياً، وجد نفسه عاديًّا، ليس به شيء أبداً، فطلب الشريط، أخذه، وكسره، هذه النوبة كانت إنذارًا مبكرًا، بعد ثمانية أشهر جاءت القاضية، لم ينفد منها، الأولى نفذ لعله يتوب، فلم يتب.

شخص عنده مطعم, يبيع خمر، حج، وتاب عن بيع الخمر، وهذا شيء جميل جداً، وقد قبل الله توبته، الغلَّة نزلت، فندم، وأعاد بيع الخمر، بعد اثني عشر يوماً من بيع الخمر وافته المنية, بعد ما تاب، والله قبله، أعاد بيع الخمر، وافته المنية في اليوم الثاني عشر.

فيا أيها الإخوة؛ ((مَنْ أخَذَ شبْراً مِنَ الأرْضِ ظُلْماً, طُوِّقَهُ إلى سَبْعِ أرَضِين)) .

أيها الإخوة؛ ساعة النزع، وساعة الوضع في القبر، والله ينسى الإنسان فيها حليب أمه، الآلام التي تنتاب الإنسان العاصي عند الموت، تجد المؤمن مثل المَلِك خفيفًا، أدَّى الحقوق، فهو ناجح, قال تعالى:

﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)﴾

[ سورة القيامة ]

وقال تعالى:

﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) ﴾

[ سورة الحاقة ]

 

 إن كنت بطلاً لا تحلق بي.


لزمه ثلاثمئة ألف، عرض دينًا بثلاثمئة ألف، قال له شخص: أريد مقابلها، قال له: عندي مزرعة أسجلها باسمك، وبعد أن أؤدي الدين, ترجع لي المزرعة، قال له: اتفقنا، هذا قدم له ثلاثمئة ألف، وطوّب الآخر مزرعته، وثمنها مليون ونصف، والذي أخذ المزرعة وجدها شيئًا جميلاً، مسبح، وفيلا، وحياة أخرى، فلما صار معه ثلاثمئة ألف, قال له: كل واحد حقه معه، راحت المزرعة، لأنها مطوّبة، هذا صاحب المزرعة, علاه الهم، والغَم، والألم, حتى قضى عليه، وهو على فراش الموت كتب رسالة، وكلف ابنه حينما تشيع جنازتي.

مثلاً: أنا تصوَّرت البيت بحي المهاجرين، وهذا خصمه بالمرجة، أو بأحد أحياء دمشق البعيدة، والمقبرة بالمهاجرين.

قال له: تمشي بالجنازة من البيت إلى دُكَّان الذي اغتصب المزرعة، وتوقِف الجنازة أمام الناس كلها، وتخرج من بين الصفوف، وتسلِّم الخصم ظرف.

وهذا الابن نفَّذ الوصية، والجنازة مشيت من المهاجرين إلى المرجة، وقفت أمام الناس ، خرج الابن من الجنازة، وسلم الخصم الرسالة، فتح الرسالة مكتوب فيها: أنا ذاهبٌ إلى دار الحق، والحكَم بيننا هو الله، وإن كنت بطلاً فلا تأتِ إلينا.

الله كبير، كم من احتيال وقع؟ مناقصة خُلَّبِيَّة، مزايدة خلبية، ومال أيتام ضاع، وبيت مغتصب، وزوجة بلا مهر، ويقول لها: إذا لم تعطيني هذا البيت أطلقك، فتعطي له البيت، فيطلقها، هو يظن نفسه ذكيًا، ونفد، الله كبير. 

الحديث الخامس:

يا أيها الإخوة: 

(( عن أَبِي بُرْدَةَ, عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ, حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، ثُمَّ قَرَأَ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ))

[ أخرجه البخاري ومسلم والترمذي ]

الآن: نحن في الدنيا في بحبوحة، كل شيء يُصَحَّح، انظر إلى عظمة الشرع، حتى لو عليك ذمة لإنسان ميت, هو وجميع أولاده، فهل لهذه المشكلة حل؟ يدفعها صدقةً، تنجو، تسجَّل في صحيفته, فلا يوجد شيء ليس له حل، عليك ذمة لإنسان متوفى، ولا تعرف أين أولاده؟ فالموضوع سهل جداً, بأن تدفعها صدقة للمسلمين، إذا في عليك ذمم, ادفعها قبل فوات الأوان.

 

تائبون:


لدي قريب توفي رحمه الله، عنده محل حلويات، قال لي: دخل عليّ رجل, وألقى رسالة، وخرج مسرعاً، فتح الرسالة, فوجد مكتوباً فيها شيئاً غريباً، قال: من اثني عشر عامًا أكل قطعة حلويات، ولم يدفع ثمنها، وضع ثمنها بالظرف، لكن على السعر القديم، كان ثمنها عشرة قروش.

لنا أخ عنده معمل للجوارب, قال لي: زارني شخص، قابله، قال له: أنا كنت أشتغل عندك، وفعلاً كان يفقد مالاً، يفقد بضاعة، ولم يترك وسيلة لكشف ذلك، فدائماً هناك فقدٌ للبضاعة والمال، يضع ألف ليرة في جيبه، ويراقب المعطف طوال النهار، يلبسه، يده خفيفة، يبدو أنه انصرف، ولكنه لم يعرفه، بعد اثني عشر عاماً, جاء إليه، وقال له: أنا الذي كنت آخذ من جيبك, ومن مستودعك، وقد تبت إلى الله.

أنا مستعد كي أؤَدي لك كل ما عليَّ من ذمم، قال له: والله أنا أسامحك، ولك أن ترجع إلى المعمل بأعلى وظيفة, ما دمت قد تبت إلى الله عز وجل.

أيها الإخوة؛ أقول لكم نقطة هامة: أنت لست مكلفًا أن تقول له: أنا سرقت منك، ابعث له رسالة من مجهول، أو يمكن إرسالها عن طريق حوالة بريدية، إنسان له معك دين، أرسل له المبلغ حوالةً إلى عنوانه فيها: من فاعل خير، من مدين لك من قبل، الله لم يكلفك أن تفضح نفسك، لأن الله ستير، يحب الإنسان الذي يستر حاله، يمكن أن تؤدي ما عليك, دون أن تشعر أحداً بذلك، هذا هو الحق.

الآن سأعطيكم بعض الأمثلة: 

باع إنسان بيتًا فرضاً بخمسين ألفًا، وقبض ثمنه بالتمام والكمال، وربح فيه عشرين ألفًا مثلاً، وهناك موانع إدارية حالت بين البيت وبين تسجيله لصاحبه، مضى عشر سنوات، صار ثمن البيت ثمانية ملايين، اشتراه بخمسين ألفًا، صار ثمنه ثمانية ملايين، فإذا قال له: طوب لنا، يطلب البائع منه مئتي ألف، فلماذا؟ فيقول له: والله هذا الحاضر، فإذا أردت لا أطوب لك، هذا المال يأكله حراماً.

أعرف رجلاً, وهو في نظري كبير جداً, شيَّدَ بناءً مئة وحدة سكنية، وباعه وقتها بأسعار السوق من الثلاثين، أربعين، ثمانية عشر، عشرين, خمسة وعشرين، والبناء موجود، وهناك أسباب إدارية حالت بينه وبين أن يطوب هذا البناء، لدرجة أن الذين اشتروا منه, شكوا فيه.

واحد اشترى بيتًا بثلاثين ألفًا, صار ثمنه اثنا عشر مليوناً، لكن ليس باسمه، فالجماعة اتفقوا على مبلغ كبير جداً, من كل بيت يعطونه مليونًا، على أن يطوِّب لهم، وهذا الذي عرض عليه أحد أخواننا، عرضوا عليه مئة مليون، كي يطوب هذا البناء، فكان جوابه: ليس لي عندكم شيء، أنا بعتكم، وربحت منكم، وأخذت حقي بالتمام والكمال، والسبب ليس مني، ولما أتمكن أن أطوب دون أي شيء سأفعل، وفعلاً: بعد زمن, صار في إمكانه أن يطوب لهم، فطوب البيوت كلها، ولم يقبض ليرة واحدة، هذا هو الدين.

أما أعطني مئتي ألف، وهات خمسمئة، فلماذا؟ قبضت الثمن بالتمام والكمال، الدين في البيع والشراء، في المحاككة.

قال له: أتعرفه؟.

قال: نعم.

قال: هل حاككته بالدرهم والدينار؟.

قال: لا.

قال: هل جاورته؟.

قال: لا.

قال: هل سافرت معه؟.

قال: لا.

قال: أنت لا تعرفه.

شخص كثير محترم، تسافر معه, لا يشتغل بشيء، لما تأتي بالأكل يأكل, ويقول لك: استحيت منك، لكنك أنت تتعب، وهو فقط يأكل ويجحد، فقط أناني، وهناك إنسان خدوم، فأنت لا تعرفه، تعرفه في السفر، وفي المحاككة, وفي الجوار.

فأنا من محبتي لكم، ومن حرصي على أداء الأمانة، فكل عباداتكم إذا لم يسبقها أداء حقوق, لا تغلبوا حالكم، ((رب صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش)) .

دقق: إذا حج الإنسان بمالٍ حرام, -نحن على مشارف الحج بعد فترة-, وقال: لبيك اللهم لبيك, يناديه منادٍ: أن لا لبيك ولا سعديك, وحجك مردودٌ عليك ، هذا الحج.

والصيام: ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش.

والقيام: التعب والسهر، وقم فصلِّ, إنك لم تصلِّ.

والزكاة: قال تعالى: (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ) هذه صلاة، وصوم، وحج، وزكاة، أربع عبادات غير مقبولة إذا في حقوق، أما أن يبذل الواحد ماله، وروحه في سبيل الله.

أعتقد أن أعلى شيء على الإطلاق: أن تبذل نفسك في سبيل الله، إن كان عليك دين لا يغفر لك حتى تؤدّي الدين، كان عليه الصلاة والسلام لأصحابه يقول:

(( أعليه دين؟ قالوا: نعم عليه ديناران, فقال: صلوا على صاحبكم, قال أبو قتادة الأنصاري: هما علي يا رسول الله, فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما فتح الله على رسوله قال: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه, فمن ترك ديناً فعلي قضاؤه, ومن ترك مالاً لورثته ))

[ أخرجه أبو داود والنسائي في سننهما ]

فأنا أتمنى: هذه أمراض المجتمع, لا تكون عندنا بالجامع، أدّ الذي عليك تكن أعبد الناس، لو لم تصل قيام الليل، لو صليت صلاة معتدلة، من دون إطالة، لو تركت العبادات النافلة, وحافظت على الفرائض, وأديت الحقوق، أفضل ألف مرة من أن تؤدي.

أراد أحدهم أن يذهب إلى الحج، ولديه مال يريد أن يضعه عند إنسان أمين، دخل إلى الجامع، وجد رجلاً صلاته متقنة جداً، قال: والله هذا مناسب، بعدما انتهى قال له: والله أنا ذاهب للحج، ومعي مال أريد أن أضعه عندك أمانة، قال له: والله أنا صائم أيضاً يا سيدي، قال له: والله صيامك لم يعجبني.

ومرة قال له: هذه صلاتي من غير وضوء، فكيف إذا كانت بوضوء؟.

فكثير من الناس يستخدمون الدين مصيدة، إيَّاك أن تلعب بدين الله، الله كبير، إياك أن تستخدم دين الله في مصالحك الشخصية، هذا أتركه بالعلياء، أنت تحرك حركة أرضية من دون أن تتمسَّح بالدين.

 

الخاتمة:


فيا أيها الإخوة؛ هذا الدرس، أحاول أن يكون نابعًا من واقع المسلمين، المسلمون الآن: يظلم بعضهم بعضاً، والله ظلم شديد جداً.

أرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأنا يلهمنا أن نكون على العَدل.

فمرة قرأت قصة -ولا أعرف مدى صحتها- أن النبي الكريم, وجد على السرير تمرة فأكلها، حُجِبَ عنه الوحي أسبوع، قال لعائشة: إني وجدت تمرة ساقطة فأكلتها, ثم ذكرت تمراً, كان عندنا من تمر الصدقة, فما أدري أمن ذلك كانت التمرة أو من أهلي؟ فذلك أسهرني، لعلها قصة للتعليم، أنه يحجب عنه الوحي لتمرة أكلها خطأً من تمر الصدقة، هكذا كان النبي، ((فركعتان من ورع خيرٌ من ألف ركعةٍ من مُخَلِّط)) الورع سيد العبادة، والورع أن تدع مالاً بأس به, حذراً مما به بأس.

 والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور