وضع داكن
28-03-2024
Logo
الإيمان هو الخلق - الندوة : 08 - الأمانة - أصول التصورات الإسلامية التي تضبط الإنسان
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

تقديم وترحيب :

أيها السادة المشاهدون ، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ، وأهلاً ومرحباً بكم في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم الإيمان هو الخلق .
بالطبع ضيفنا وأستاذنا في هذه الحلقات لهذا البرنامج الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كلية الشريعة وأصول الدين بدمشق ، أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم .
الدكتور راتب :
أستاذ علاء ، جزاك الله خيراً .
الأستاذ علاء :
أستاذنا الدكتور راتب ، مرّ معنا من خلال حلقات البرنامج في تعدادها أن الخلق ينقسم إلى قسمين ، أو يعرف من خلال ما تبينا بالبحث معكم بأنه انضباط ثم عطاء ، إذاً الأخلاق هي كوابح لجماح النفس الإنسانية ، لتصرفات الإنسان المنزلقة أو المتهورة ، أو التي تكون في غير اتزان ، و غير موزونة ، بعد هذا الضبط والكبح والمنع بكل معنى الكلمة يأتي العطاء ، لذلك هو باعث للعطاء ، وباعث للهمة ، وباعث لكل نهضة ، ولكل خير ، فيستحيل هذا الإنسان في مجتمعه من إنسان غير فعال ، من إنسان فوضوي ، من إنسان أناني ، من إنسان يحمل خلقاً أو خلالاً لا تحبها الناس إلى إنسان عندما يتحلى بالخلق إنسان منضبط ، ثم إنسان يسارع إلى العطاء ، هذا تبيناه من الحلقات السابقة .
الآن في حلقة اليوم لابد أن نقف عند مسألة ، يقول الله تبارك و تعالى : 

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾

[ سورة الأحزاب : 72]

هنا من خلال هذه الآية الكريمة نتبين أن الأمانة لها حمل ثقيل ، مَن هو في الكون أقدر على التحمل رفض أن يحملها ، فتحملها الإنسان ، ما هي الأمانة ؟ ولماذا تصدى لهذه المهمة ؟ وبالتالي كيف تصدى لهذه المهمة اتساقاً مع مسائل التكليف ، ومقومات التكليف ؟

كلُ حركةٍ يسبقها تصوُّرٌ :

الدكتور راتب :
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، أستاذ علاء ، ما من حركة يتحركها الإنسان إلا ويسبقها تصور ، ولو أن سلوك الإنسان لا يتعلق بتصوراته ، بل لا يتعلق بعقيدته لهان الأمر كثيراً ، ولكن ما من خطأ في التصور إلا وينعكس خطأ في السلوك ، وما من خطأ في السلوك إلا وسببه خطأ في التصور ، ومادام البرنامج يتحدث عن الخلق ، والخلق كما تفضلتم انضباط وعطاء ، أي حركة ، حركة سلبية ، وحركة إيجابية ، إذاً وراءها تصور ، فنحن إذا أردنا أن نصحح الأخلاق ينبغي أن نبدأ من التصور ، تماماً كما لو عالج طبيب طفلاً ارتفعت حرارته ، الطبيب الناجح لا يعطيه خافض حرارة ، يبحث عن أصل الداء ، الأصل هناك التهاب ، يعالج الالتهاب ، فتنخفض الحرارة ، ونحن إذا أردنا أن نعالج الأخلاق بمعزل عن التصور لا نفلح ، إذا أردنا أن نعالج الأخلاق بمعزل عن العقيدة ، عن التصور لا نفلح ، حتى الذي أقدم على انحراف خطير يتصور أن هذا شيء ممتع ، و أنه شيء يحقق سعادته في الدنيا ، حتى الذي بذل جهداً كبيراً في خدمة المجتمع هو يتصور أن الله يرضى عنه ، وإذا رضي الله عنه ملك الأبد وسعادة الآخرة.
إذاً : ما من حركة مهما بدت صغيرة إلا وراءها تصور ، فإن صحّ التصور صحّ السلوك ، ذلك لأن كل إنسان فطر على حب وجوده ، و على حب سلامة وجوده ، و على حب كمال وجوده ، و على حب استمرار وجوده ، يشقى من خطئه في التصور ، الله عز وجل يقول عن أهل النار : 

﴿ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾

[ سورة الملك : 10]

إذاً : هي أزمة تصور ، أزمة فهم خاطئ ، أزمة فهم منحرف ، فما من إنسان إلا و يسعى لسلامته و سعادته ، لكن الخطأ في التصور يقود إلى خطأ في السلوك ، ثم يدمر الإنسان في الدنيا والآخرة .
الأستاذ علاء :
دكتور راتب ، هذا يدفعني إلى تصور آخر ، عندما يفشل الإنسان في عمل ما ، في مشروع ما ، في قضية ما ، في دراسة ، في شأن من شؤون الحياة ، هذا مرده إلى أنه خطط لهذا المشروع بشكل غير سليم ، و الدراسة كانت غير سليمة ، والتصور لهذا المشروع على أرض الواقع كان غير سليم ، فبالتالي جاءت النتائج غير سليمة ، لأن التخطيط و التصور كان غير سليم ، بالتالي إذاً هذه المسائل كانت عن تصور غير سليم ومشوش ، لذلك أدت إلى نتائج سلبية : 

﴿ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾

[ سورة الملك : 10]

إذاً : لو كان لدينا التصور الصحيح ، والفهم الصحيح للحياة ، وما بعد الحياة ما كنا في أصحاب السعير .

التخطيط الخاطئ يُفضي إلى نتائج غير سليمة :

الدكتور راتب :
هذا الطالب الذي يتصور مستقبلاً باهراً ، أي مكانة ودخلا و زوجة وأولادا ، يراها في الدراسة ، فيحمل نفسه على دراسة شاقة ، و يبتعد عن كل الملهيات ، لأنه يتصور مستقبله ، وهذا الذي يعيش لحظته ، وعطل تصور المستقبل يمتع نفسه بمتع رخيصة ، فإذا تقدمت به السن شعر بالخسارة الفادحة .
إذاً : أنا أصر ، ونحن في برنامج " الإيمان هو الخلق " على أن أصل التصرف و الحركة و العطاء و الانضباط تصور صحيح ، لذلك إن شاء الله سنمضي حلقات متتابعة حول أصول التصورات الإسلامية التي تضبط الإنسان أولاً ، و تجعله يعطي ولا يأخذ .
الأستاذ علاء :
إذاً : دكتور راتب ، الآن الإنسان هذا المخلوق العاقل الذي أكرمه الله بالعقل والتفكير ، وبالتمييز ، وأكرمه بمعرفة الأشياء ، أعطاه الله الأمانة كما تفضلت ، وهي نفسه التي بين جنبيه ، بالإضافة إلى هذه الأمانة التي حمل ثقلها في أن يجعلها مثلاً في جانب الأبرار ، أو في جانب الأشرار ، لما أعطى الله عز وجل العقل للإنسان أعطاه التكليف ، وكلفه بوجود هذا العقل ، هل لنا أن نتبين مقومات ، وأسس التكليف ؟

تحمُّل الإنسان للأمانة :

الدكتور راتب :
كلامك صحيح ، لكن لابد من الوقوف عند الآية ، قال تعالى : 

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ﴾

[ سورة الأحزاب : 72]

تماماً كما لو أن أباً عنده أولاد عدة ، عرض عليهم من يأتي بدرجة عالية من جامعة متفوقة جداً ، وله نصف المعمل ، فإذا أبى أحد أولاده فله دخل محدود ، وله بيت وزوجة ومركبة ، أما إذا أراد أن يكون طموحاً فلابد من أن يأتي بشهادة عالية جداً ، أحد أولاده قال أنا لها : 

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ﴾

[ سورة الأحزاب : 72]

تعبير يشمل الكون كله : 

﴿ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ﴾

[ سورة الأحزاب : 72]

الإنسان قال : أنا لها يا رب ، فإذا أدى الأمانة لم يكن ظلوماً ولا جهولاً ، بل كان طموحاً ومتألقاً ، وإذا خان الأمانة كان ظلوماً جهولاً .

نفس الإنسان أمانة فلابد مِن تزكيتها :

إذاً : الأمانة في رأي معظم العلماء هي نفسك التي بين جنبيك :

 

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾

[ سورة الشمس ]

كيف نزكي النفس ؟

تزكية النفس أن تعرفها بربها ، وأن تعرفها بسر وجودها ، وغاية وجودها ، من أين ، و إلى أين ، و لماذا ؟
تزكية النفس أن تعرفها بمنهج ربها ، تزكية النفس أن تحملها على طاعته ، تزكية النفس أن تجعلها تتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة ، فتزكية النفس ثمن الجنة ، ثمن سعادة عرضها السماوات و الأرض ، ثمن جنة عرضها السماوات والأرض ، فيها ما لا عين رأت ، و لا أذن سمعت ، و لا خطر على قلب بشر ، هذا كلام خالق لأكوان ، و مع الأسف الشديد معظم الناس لا يدخلون في حساباتهم الدار الآخرة ، ولا يدخلون في حساباتهم الجنة ، ذلك أن الإنسان يعيش فيما حوله ، و لا يفكر في المستقبل البعيد ، والإنسان كلما ازداد عقله ازداد بُعْدُ نظره ، تماماً كما لو أن إنساناً يركب مركبة ليسافر بها إلى حمص ، فإذا بلوحة كتب عليها : الطريق إلى حمص مغلقة بسبب تراكم الثلوج في مدينة النبك ، يرجع ، قرأ اللوحة ، و فهم الواقع ، و اتخذ موقفاً من خلال هذه اللوحة ، لو 

أن دابة تمشي لم تقف إلا عند الثلج

الذي يحكمه النص والمستقبل البعيد كان إنساناً راقياً ، والذي يحكمه الواقع ، وتحكمه الشهوات ، وتحكمه المصالح ، ويعيش للحظته هو إنسان عطل عقله ، ودفع الثمن باهظاً ، هبط بمستواه الإنساني إلى مستوى لا يليق به ، الإنسان خلق لمعرفة الله ، خلق ليسعد بجنة عرضها السماوات و الأرض ، خلق ليكون لله .
أستاذ علاء ، أي إنسان يكون لغير الله يحتقر نفسه : 

﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾

[ سورة البقرة : 130]

أنت مخلوق لله ، لكن الأشياء مخلوقة لك ، أما أنت فمخلوق لله عز وجل ، فلا يليق بإنسانيتك ، ولا بكرامتك ، ولا بكونك المخلوق الأول ، ولا بكونك حملت الأمانة ، ولا بكونك تحمل رسالة أن تكون تابعاً لأحد ، أو أن تكون خطأ من أخطاء إنسان آخر ، أنت لله ، فهذا التوحيد يسمو بالإنسان من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ، يسمو بالإنسان من عبادة الأشخاص إلى عبادة خالق الكائنات ، هذا الذي يرقى بالإنسان .

الفلاح والفوز يوم القيامة :

الإنسان هو المخلوق الأول رتبة ، لذلك الآية الدقيقة : 

﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾

[ سورة الرحمن]

الشيء الذي يلفت النظر أيعقل أن يعلم الإنسان القرآن قبل أن يُخلق ؟ هذا الترتيب رتبي ، وليس ترتيبا زمنيا ، فلا معنى لوجود الإنسان من دون منهج يسير عليه ، وهذا هو الخُلُقُ ، أن تصح رؤيتك فيصح سلوكك ، إذاً : الأمانة النفس ، وأقوى دليل على ذلك : 

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴾

[ سورة الشمس : 9]

أي الفلاح كل الفلاح ، والنجاح كل النجاح ، والعقل كل العقل ، والذكاء كل الذكاء ، والتفوق كل التفوق في تزكية النفس ، وتأهيلها لجنة ربها ، لأن الإنسان إذا وافته المنية ، وعرف مكانه في النار يصيح صيحة لو سمعها أهل الأرض لصعقوا : 

﴿ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴾

[ سورة الفجر : 24]

والمؤمن حينما يرى مكانه في الجنة ومقامه عند الله : 

﴿ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾

[ سورة القمر : 55]

يقول : لم أر شراً قط ، فلذلك البطولة فيمن يضحك آخراً ، كثيرون ممن يضحكون أولاً ، ويبكون كثيراً ، لكن البطولة فيمن يضحك آخراً .
حينما يولد الطفل كل من حوله يضحك ، وهو يبكي وحده ، فإذا وافته المنية كل من حوله يبكي ، فإذا كان بطلاً فليضحك وحده : 

﴿ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ﴾

[ سورة يس : 26]

هذه الدنيا ساعة ، اجعلها طاعة ، والنفس طماعة ، عودها القناعة ، ولئلا يندم الإنسان ندماً لا يحتمل فيقول : 

﴿ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾

[ سورة الفجر : 24]

﴿ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ﴾

[ سورة الفرقان : 27]

هكذا يصف الله عز وجل حال الإنسان عندما يفارق الحياة الدنيا .
أستاذ علاء ، كما تفضلتم هذه الأمانة التي حملها الإنسان ما حمله إياها إلا وقد أعطاه وسائل أدائها أو مقوماتها .

مقومات التكليف :

أولاً : الكون :

أكبر شيء ثابت لا يتزعزع هو الكون ، الكون مظهر لأسماء الله الحسنى ، وصفاته الفضلى ، الكون ينطق بوجود خالق عظيم ، ينطق بكمال هذا الخالق ، ينطق بوحدانيته ، الكون ينطق بأسمائه الحسنى وصفاته الفضلى .

وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
***

يكفي أن نعلم أن الله عز وجل حينما قال : 

﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾

[ سورة الواقعة ]

بين الأرض وبين أقرب نجم ملتهب أربع سنوات ضوئية ، والضوء يقطع في الثانية الواحدة ثلاثمئة ألف كيلو متر ، كم يقطع بالدقيقة ؟ ضرب ستين ، كم يقطع بالساعة ؟ أيضاً ضرب ستين ، كم يقطع في اليوم ؟ ضرب أربع وعشرين ، كم يقطع في السنة ؟ ضرب ثلاثمئة وخمسة وستين ، كم يقطع في أربع سنوات ؟ ضرب أربعة ، معنا رقم كبير جداً ، ويحسن حسابه أي طالب في الصف التاسع ، لو أردنا أن نصل لهذا الكوكب بمركبة أرضية ، أو لهذا النجم سرعتها مئة قسمنا هذا الرقم على مئة كم ساعة ؟ على أربع وعشرين كم يوما ؟ على ثلاثمئة و خمسة وستين كم سنة .
هل تصدق أستاذ علاء أن أقرب نجم ملتهب إلى الأرض يحتاج كي نصل إليه بمركبة أرضية إلى خمسين مليون عام ، متى نصل إلى نجم القطب الذي يبعد عنا أربعة آلاف سنة ضوئية ؟ متى نصل إلى مجرة المرأة المسلسلة التي تبعد عنا مليوني سنة ضوئية ؟ متى نصل إلى بعض المجرات التي تبعد عنا عشرين مليار سنة ضوئية ؟ الأربع سنوات ضوئية تحتاج إلى خمسين مليون عام بالسيارة إليه بسرعة مئة ، أما هذه المجموعة من النجوم فتبعد عنا عشرين مليار سنة ضوئية :
الآن قال تعالى : 

﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾

[ سورة الواقعة ]

أكبر عالم فيزياء في أوربا أنشتاين قال : كل إنسان لا يرى في هذا الكون قوة هي أقوى ما تكون ، عليمة هي علم ما تكون ، رحيمة هي أرحم ما تكون ، حكيمة هي أحكم ما تكون ، هو إنسان حي ، و لكنه ميت ، فالإنسان يحيا قلبه بمعرفة الله ، ويموت بالبعد عنه .
إذاً : هذا الكون أكبر شيء ثابت يدعم الإيمان ، هذا الكون وراءه إله عظيم ، صفاته عليا ، و أسماؤه حسنى ، رحمة ، و علم ، و قدرة ، و حكمة ، و إنصاف ، و عدالة ، فلذلك إذا بدأ الإنسان بمعرفة الله من خلال خلقه ، ثم ثنى بمعرفة الله من خلال كلامه ، ثم ثلث بمعرفة الله من خلال أفعاله يكون قد عرف الله ، وإذا عرفت الله عرفت كل شيء ، ابن دم ، اطلبني تجدني ، فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء ، فالكون له إن شاء الله حلقة كاملة ، نتحدث عن الكون ، و عن السماوات والأرض ، و عن الأرض بما فيها ، و عن المخلوقات ، و عن الحيوانات ، و عن الأطيار ، والأسماك ، و عن نواظمها ، و عن ضوابطها ، لكن أكبر شيء يدل على الله هو الكون ، والكون قاسم مشترك بين كل الناس ، بين كل الملل والنحل ، الكون قرآن صامت ، والقرآن كون ناطق ، والنبي عليه الصلاة والسلام قرآن يمشي ، الكون أحد أكبر مقومات التكليف ، والكون لغة عالمية ، ينطق بوجود خالق عظيم ، ينطق بوجود خالق حكيم .
هذه العين ، لو سافر أحدنا إلى بلاد في الشمال ، الحرارة سبعون تحت الصفر ، فيها ماء العين ، أنت تغطي رأسك وجسمك ، لكن لن تستطيع أن تغطي عينيك كي تمشي في الطريق ، فماء العين يلامس سبعين تحت الصفر ، إذاً : ينبغي أن يتجمد فوراً ، وأن يفقد الإنسان بصره ، من أودع في ماء العين مادة مضادة للتجمد ؟
الحقيقة الخوض في الكون أقصر طريق لمعرفة الله ، وأوسع باب ندخل منه إلى الله : 

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾

[ سورة آل عمران ]

الأستاذ علاء :
إذاً : سيدي ، كما تبين بأن التكليف يقتضي العقل والفهم والتفكر لأولي الألباب ، هذا التكليف أهم مقوم من مقوماته أن ينظر الإنسان إلى هذا الكون .

التفكر في المخلوقات كلها :

الدكتور راتب :
إلى طعامه ، إلى شرابه ، إلى أولاده .
الأستاذ علاء :
إلى السماء ، إلى الأرض ، إلى الماء ، إلى هذا الإعجاز الكبير الذي يدل إلى الرسالة التي تنبي عن مرسلها :
الدكتور راتب : 

﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ﴾

[ سورة الطارق : 5]

﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ﴾

[ سورة عبس : 24]

﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾

[ سورة يونس : 101]

وكل أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب .
هذا الكون .
الأستاذ علاء :
هذا بالنسبة للكون ، وهذا سنفرد له حلقة كما تفضلت إن شاء الله من حلقات هذا البرنامج ، نأتي إلى العقل .

ثانيا : العقل :

الدكتور راتب :
أما العقل فهو القوة الإدراكية التي أكرم الله بها الإنسان ، و ميزه على بقية المخلوقات ، و ما لم يبحث الإنسان عن الحقيقة فقد هبط عن مستواه الإنساني .في الإنسان حاجات سفلى هي محققة الآن في أعلى درجة ، وفي أكمل درجة ، لكن حاجته العليا ليست محققة ، يعيش للدنيا ، يعيش لشهوته ، يعيش لمصالحه ، و لا يعيش لحقيقة آمن بها ، ولا لفكرة اعتقدها ، ولا لهدف نبيل يسعى إليه . 

من مبادئ العقل :

1 ـ العقل لا يفهم شيئا بلا سبب :

إذاً : العقل أداة معرفة الله ، ولكن عظمة الله عز وجل اقتضت أن تكون مبادئ العقل موافقة لقوانين الكون ، فعقلك لا يفهم شيئاً بلا سبب ، لو رأيت شيئاً قد فتح ، وأنت قد أغلقته لا تصدق إلا أن إنساناً دخل إلى البيت في غيبتك ، وفتح الباب .
العقل لا يفهم شيئاً بلا سبب ، كما أنه لا يفهم شيئاً بلا غاية ، إن اقتنيت جهازاً ، ورأيت فيه حاجة ، قلتَ : لماذا هذه القطعة ؟ ماذا أفعل بها ؟ لماذا صنعت هكذا ؟ لماذا وضعت هكذا ؟ هذا سؤال أبدي .

2 ـ العقل لا يقبل التناقض :

والإنسان لا يفهم شيئاً مع التناقض ، إنسان في الشام ، وفي مكة في آن واحد ، لا يقبل العقل ذلك .
الأستاذ علاء :
القيام والعقود في آن واحد هذا شيء مستحيل .
الدكتور راتب :

3 ـ مبدأ الغاية :

إذاً : العقل مبادئه مبدأ السببية والغائية وعدم التناقض ، وهذه المبادئ متوافقة مع قوانين الكون ، وهدفها أن تصل إلى الله بلطف ، هذه البيضة من الدجاجة ، أم الدجاجة من البيضة ؟ إذاً : من خلق الدجاجة الأولى ؟ نقلك الله بلطف إلى مسبب الأسباب ، لو أن الله خلق الكون بلا أسباب كذلك لا تعتقد أن لهذا الكون إلهاً هو أعطاك عقلاً لا يفهم شيئاً بلا سبب ، والله مسبب الأسباب ، هذا المقوم الثاني .

ثالثا : الفطرة :

لعل هناك مقوما ثالثا هو الفطرة ، قال تعالى : 

﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴾

[ سورة الشمس : 7]

الآن الآلات الحديثة ، المركبات الحديثة ، الطائرات الحديثة ، إذا وُجد خللٌ يظهر على الشاشة ، هي تنبئك بالخلل دون أن تبحث عنه ، الفطرة هي : 

﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴾

[ سورة الشمس : 7]

ألهمها حينما تفجر أنها فجرت ، وألهمها حينما تتقي أنها اتقت ، فراحة الإنسان في صلحه مع فطرته ، وشقاؤه في خصامه معها ، وما مرض الكآبة الذي هو المرض الأول في لعالم إلا لأن الإنسان خرج عن مبادئ فطرته ، لأن الفطرة متطابقة تماماً مئة بالمئة مع منهج الله في الأرض ، وسواء أعصى الإنسان ربه أم خالف فطرته يشعر بالكآبة ، وسواء أطعت الله أم طبقت مبادئ الفطرة تشعر براحة ، فالفطرة لها أيضاً حلقة مستقلة إن شاء الله .
الأستاذ علاء :
الفطرة هي غير الجبلة .

بين الفطرة والجِبِلَّة :

الدكتور راتب :
هي نفسها هي أسماء لمسمى واحد ، جبلة ، فطرة .
الأستاذ علاء :
وهذه التي تكون لوحة الإنسان صافية فيها ، وميزانها صحيحا ، ودقيقة جداً ، هي التي تشعره بأنه أخطأ أو أصاب .

إقامة الدِّين حنيفا من الفطرة :

الدكتور راتب : 

﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ﴾

[ سورة الروم : 30]

أن تقيم وجهك للدين حنيفاً هو نفسه فطرة الله التي فطر الناس عليها ، الله أمرك أن تكون صادقاً ، وأنت في أصل تكوينك ، وفي أصل جبلتك تحب الصدق .
الأستاذ علاء :
نأتي إلى المقوم الرابع الشهوة .

رابعا : الشهوة :

الدكتور راتب :
الشهوة كالمحرك في المركبة ، فلا حركة بلا شهوة ، ولولا أن الله أودع فينا حب الطعام والشراب ، وأودع فينا حب الطرف الآخر للزواج ، وأودع فينا رغبة تأكيد الذات ، لما وجدت على وجه الأرض شيئاً ، فمن دون محرك السيارة ليست سيارة ، بل هي وقّافة ، قطعة معادن فقط ، أما المحرك فهو الذي يحركك ، لذلك كتشبيه مريح : المحرك هو الشهوة ، والعقل هو المقود ، والشرع هو الطريق ، فمهمة العقل أن ينطلق بالمحرك ، وأن يبقي المركبة على الطريق ، وألا ينحاز عنه ، وللشهوة إن شاء الله أيضاً حلقة مستقلة .
الأستاذ علاء :
أنا لا أدري إذا كنا نستطيع أن نأخذ المقوم الأخير إذا سمحت .

خامسًا : الاختيار :

الدكتور راتب :
حينما يكون الإنسان مخيراً يثمن عمله ، لو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب ، لو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب ، إذاً العمل لا يثمن إلا بالاختيار ، لكن العقل قد يضل : 

﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴾

[ سورة المدثر ]

الشرع مقياس الفطرة والعقل :

والشهوة والفطرة قد تنطمس ، فما المقياس الذي نقيس به صواب العقل وصواب الفطرة ؟ الشرع ، فالحسن ما حسنه الشرع ، والقبيح ما قبحه الشرع ، وكل هذه الحركة تحتاج إلى وعاء هو الوقت ، و للوقت حلقة مستقيلة .
نحن أمام سبع مقومات للتكليف : الكون ، العقل ، الفطرة ، الشهوة ، الاختيار ، الشرع ، الوقت ، هذه بالمستقبل القريب إن شاء الله .
الأستاذ علاء :

خاتمة وتوديع :

سيكون لنا في كل حلقة عنوان من هذه العناوين نحط في ظلالها ، أعزائي المشاهدون لا يسعني إلا أن نشكر الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كلية الشريعة وأصول الدين في جامعة دمشق ، شكراً لكل هذا الشرح ، ولبسط هذه المعلومات وتفصيلها ، وإن شاء نلتقي في الأسبوع القادم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور