وضع داكن
29-03-2024
Logo
أحاديث متفرقة - الدرس : 035 - اتقوا الله واعدلوا في أولادكم.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 


 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الأكارم، حديثان شريفان لا أظن أن واحداً منا ليس في أمسّ الحاجة إلى فهم مدلولهما.
 الحديث الأول: عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ، فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْطَلَقَ أَبِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ، فَرَجَعَ أَبِي فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ))

[ متفق عليه، واللفظ لمسلم ]

  ولهذا الحديث روايات عديدة سآتي عليها إن شاء الله، وسوف يكون موضوع درسنا هذا الحديث، وما يتشعب عنه من جزئيات وفروع ما من مسلم إلا وهو في أشد الحاجة إليها، لأنه قد يمضي حياته صائماً مصلياً، ثم لا يعدل بين أولاده الذكور، أو بين أولاده الذكور والإناث فيلقى الله عز وجل وهو عليه غاضب.
 والد النعمان بن بشير هو بشير بن سعد الأنصاري، قصة هذا الحديث أنه كان له أولاد من نساء متعددات، وأحدهم راوي الحديث، وأمه عمرة بن رواحة أخت عبد الله بن رواحة، كان له أولاد كثر من نساء متعددات، إحدى هذه النساء عمرة بنت رواحة أخت عبد الله بن رواحة الشاعر المشهور رضي الله عنه، وكان من أمر عمرة أنها أرادت لولدها النعمان أن يحوز شيئاً من أبيه يختص به دون إخوته لصغر سنه، أو لكونه وحيداً منها، فطلبت من زوجها ذلك، فجعل له حديقةً، ولم تكتفِ المرأة بما صنع الرجل بأن أعطاه حديقة، وامتاز بها على إخوته، ولم تكتف المرأة بما صنع الرجل حتى قالت له: أشهد على ذلك رسول الله لتوثق هذه العطية، ولتخص ابنها بهذه العطية، فذهب بولده ليشهد على ما وهب له، ذهب البشير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ولده النعمان، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم المبعوث بالعدالة والمساواة عاب عليه ذلك، وأبى أن يشهد عليه، وعد ذلك من الجور، أي الظلم، وقال:

((اتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ))

 وفي بعض الروايات عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: انْطَلَقَ بِي أَبِي يَحْمِلُنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اشْهَدْ أَنِّي قَدْ نَحَلْتُ النُّعْمَانَ كَذَا وَكَذَا مِنْ مَالِي، فَقَالَ:

((أَكُلَّ بَنِيكَ قَدْ نَحَلْتَ مِثْلَ مَا نَحَلْتَ النُّعْمَانَ ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي، ثُمَّ قَالَ: أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَلَا إِذًا))

 أي لا تفعل ذلك إذاً، وربما قال: سووا بين أولادكم في العطية كما تحبون أن يسوى بينكم في البر.
 الأولاد كثيرون يتمزقون أشد التمزق حينما يروا آباءهم قد فضلوا إخوتهم عليهم، بل إن تفضيل بعض الإخوة على بعض من قبل الآباء ربما سبب عداوة وحقداً دفينين، وربما سبب عداوة عاجلةً، أو عداوةً آجلة بعد موتك، بل إن المحروم ربما تمنى موت أبيه.
  أعيد عليكم الروايات: عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ، فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْطَلَقَ أَبِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ، فَرَجَعَ أَبِي فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ))

[ متفق عليه، واللفظ لمسلم ]

 عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلَامًا – نحل بمعنى أعطى - فَقَالَ:

((أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَهُ ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَارْجِعْهُ ))

[ متفق عليه ]

  الروايات المتعددة:

((اتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ))

[ متفق عليه ]

  وفي بعض الروايات عند النسائي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ:

((هَلْ لَكَ وَلَدٌ غَيْرُهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَعْطَيْتَهُمْ كَمَا أَعْطَيْتَهُ ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: لاَ أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ ))

 وفي رواية:

((أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَلَا إِذًا))

[مسلم]

  وربما قال: سووا بين أولادكم في العطية كما تحبوا أن يسوى بينكم في البر.
 الحقيقة اختلف العلماء في شيء، وهو أنه يجوز للوالد أن يسترد هبةً وهبها لابنه كما فعل البشير مع ولده النعمان حينما نحله حديقة، فلما سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك قال:

((لاَ أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ))

 فاسترجع الحديقة.
 قال بعض العلماء: العائد من هبته كالعائد من قيئه، إلا أن العلماء أجازوا بهذا الحديث إذا بدا للأب أن في هذه الهبة ظلماً وجوراً أن يسترد هبته، وأن يسوي بين أولاده، فالحق قديم، والرجوع إلى الحق أولى، هذا يختص بهذا الحديث.
 لكن النقطة الآن دقيقة، أن يقول بعض العلماء: يجوز ألا تسوي بين أولادك في العطية، فكيف نوفق هذا الحكم الفقهي، ولاشك أن العلماء استندوا إلى أدلة في السنة النبوية، كيف نوفق بين هذا الحكم الشرعي وهذا الحديث الشريف الصحيح الذي ورد في البخاري ومسلم ؟
 الحقيقة إذا كان هناك أسباب مادية وجيهة لك جواب لله عز وجل، والحديث الذي تعرفونه جميعاً، والذي يفهمه الناس أحياناً على غير ما أريد منه، فَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ: إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ))

[البخاري]

  يأتون بهذا الحديث الشريف ليدللوا على فساد آخر الزمان، وعلى انحراف الإنسان، وعلى تحلله من كل حياء وخجل، لكن لهذا الحديث معنى آخر، يعني أي عمل إن كان بإمكانك إذا واجهك الله به يوم القيامة ألا تستحي من الله، وأن تكون معك حجة قوية إذا لم تستحِ من هذا العمل يوم تعرض عليك أعمالك فافعله، ولا تخش في الله لومة لائم، كيف ؟
 لو أن لك ولداً ضعيفاً يعاني من مشكلة في جسده، لا يقوى على العمل، ولك أولاد آخرون أقوياء أشداء، فإذا خصصت هذا الضعيف بشيء يعينه على أمر حياته، وأنت حينما خصصته بهذا الشيء لا تبتغي إلا أن ترضي الله عز وجل، وأن هناك أسبابًا مادية، وليست أسباب اجتماعية، فهناك آباء بعض أبنائهم أذكى من بعض، بعض أبنائهم يتمتعون بذكاء اجتماعي، فهذا الابن الذكي يقدم لأبيه معسول الكلام، ويعتني به عنايةً ظاهرةً، فلعله يأخذ منه أكثر مما يعطي إخوته، إذا كان عطاؤك الزائد لبعض أبنائك لسبب اجتماعي أو نفسي، ولا تملك جواباً لله تعالى يوم القيامة فهذا محاسب عليه، وهذا ينطبق عليه حديث النبي عليه الصلاة والسلام:

((فَلَا تُشْهِدْنِي إِذًا، فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ))

[مسلم]

  أما إذا كانت لك إجابة لله عز وجل، أو إذا لم تستح من هذا العمل فاصنع ما تشاء، المقياس الدقيق أن تمتلك حجةً تدلي بها يوم القيامة لربك إذا قال لك: يا عبدي لماذا فعلت كذا ؟ فالقضية أن هذا الحديث ينهى عن الظلم، أيْ بلا مبرر، أعطيت بعض الذكور، وحرمت بعضهم الآخر بلا مبرر، خصصت أموالك لأولادك الذكور، وحرمت منه الإناث بلا مبرر، إذا لم تكن تمتلك الحجة والمبرر والمسوغ فأنت ينطبق عليك هذا الحديث:

((فَلَا تُشْهِدْنِي إِذًا، فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ))

 أما إذا كان هناك مبرر، الإنسان أحياناً له أربع بنات، ثلاث منهن أزواجهن أغنياء أقوياء، وواحدة منهن لها زوج ذو دخل محدود جداً، ويعاني من السكنى مع بيت أهله الشيء الكثير، فإذا تفضل الأب على هذه البنت ببيت صغير خصها به، وجعلها تعيش مع زوجها حياةً كريمة، وهو يملك لله جواباً عن هذا التصرف فهذا استثناء من هذا الحديث، ولا شيء على صاحبه ما دام الدافع إلى ذلك رضوان الله تعالى.
 الشيء الذي ينبغي أن نحذر منه هو أن الله سبحانه وتعالى حينما تولى بنفسه توزيع التركة بين الورثة، ما معنى أحكام المواريث ؟ ما معنى الفرائض ؟ يعني أن الله عز وجل تولى بنفسه من خلال قرآنه توزيع أنصبة التركة بعد وفاة صاحبها بين الورثة، أولاداً، وإخوة، وأبناء، وأحفادًا، وما إلى ذلك، فأي تغيير أو تبديل أو تلاعب أو تحويل أو هروب من دفع الحقوق إلى أصحابها فهذا يعد ظلماً، المقياس بلا مبرر، بلا مسوغ، بلا جواب تملكه لله عز وجل يوم القيامة، فأنت إذاً ميزت بين أولادك في العطية، حابيت بعضهم على حساب بعض، فهذا ظلم شديد يؤاخذ عليه الإنسان، وقد يلقى الله وهو عليه غضبان، وقد لا يسمح له بدخول الجنان، قال تعالى:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾

 

[ سورة الحجرات: 1]

  الله عز وجل له قرآن، وللنبي سنة تفسر القرآن، فإذا لم يعجبك هذا، وأردت أن تأتي بدين جديد، وتحاول حرمان الإناث، وإعطاء الذكور، أو تفضيل ولد على ولد فهذا مشكلة.
 الآن هناك مشكلة يعاني منها إخوة كثيرون، هذه المشكلة أن أباً له محل تجاري، يأتي أحدَ أولاده، ولعله أكبرهم، يقول له: اعمل في هذا المحل، إخوته الآخرون إما يدرسون، أو لهم أعمال أخرى، أو هم صغار، فهذا الذي يعمل في هذا المحل ليس له شيء إلا أن يأكل ويشرب، أيضاً هذا ظلم لهذا الولد، هو كبقية إخوته سيأخذون كما سيأخذ، وليس له فضل عليهم إطلاقاً، مع أنه يبذل جهداً كبيراً لتحصيل أرباح هذا المحل، هذا أيضاً ظلم من بعض الآباء لأولادهم الذين يحرصون على إرضائهم، ويعملون معهم، ويلازمونهم، هذا ظلم، وذاك ظلم، الآية الكريمة:

 

﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾

 

[ سورة النساء: 11]

  إذاً الحكم الأول: أن الأصل ألا تحابي ولداً على حساب ولد، أن تسوي بين أولادك في العطية، بل إن من السنة أن تسوي بينهم بالقبل إذا كانوا صغاراً، حتى هذا المستوى، أما أن تعطي الذكور، وتحرم الإناث فهذا ظلم لا يرضاه الله عز وجل، وهذا لعب بدين الله، أما إذا كان هناك ضرورة، وهناك مسوغ، وهناك مصلحة، ولك عند الله جواب يوم القيامة فهذا الحديث الذي قلته قبل قليل:

((إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ))

  يعني إذا كان لك وجهة نظر سديدة ترضي بها الله عز وجل خالصة من كل شائبة فافعل، ولا تلتفت للوم أحد، ولا تأخذك في الله لومة لائم، وهذا يفسر بأن تخص بعض الأولاد إذا كانوا في أمسّ الحاجة إلى بعض المساعدة دون بعض في حياتك على شكل هبة، لا على شكل شيء آخر.
 أما العطاء الجليل الذي يعطيه الأب لأولاده، الآن دخلنا في عطاء آخر، العطاء الأول ما ترك الأب لأولاده من ميراث، والنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن أن تكون الوصية أكثر من الثلث، من أجل أن تدع أولادك أغنياء، دون أن تجعلهم فقراء يتكففون الناس من بعدك.
 على كلّ العطاء الكبير الذي يمنحه الوالد لولده هو أن يؤدبه بآداب الإسلام، والحقيقة الإمام أبو حامد الغزالي، وهو من أشد علماء المسلمين عناية بتربية الأولاد، بل إن التربية الإسلامية يعد أبو حامد الغزالي علَمها الأول، حتى إن في الجامعة تحت بند التربية الإسلامية يدرسون ما ورد في إحياء علوم الدين من توجيهات، وما ورد من تربية الأولاد أو الصبيان كما يقول الغزالي من توجيهات، والحقيقة أمامي وصية من أروع الوصايا التي أوصى بها الإمام أبو حامد الغزالي المؤمنين في تربية أولادهم، فالعطاء الحقيقي الذي يفوق أي عطاء مادي هو هذا العطاء، يقول هذا الإمام الجليل: " ومهما رأى فيه - أيْ في ولده - مخايل التميز فينبغي أن يحسن مراقبته "، فمراقبة الابن أخطر ما في تربية الأولاد، لأن غفلةً بسيطة قد تودي بأخلاق ابنك، و بأخلاق ابنتك، فأخطر ما يفعله الآباء أن يغفلوا عن أولادهم، أين ناموا تلك الليلة ؟ لا يدقق في حركاتهم، في نزهاتهم، في أصدقائهم، إذا لم يدقق الأب في حركة ابنه ربما كانت غفلة الأب عن ابنه سبباً في شقائه في الدنيا والآخرة، وأقول لكم هذه الكلمة، وهي من أدق الكلمات: مهما كنت على مستوى رفيع من الإيمان إذا شقي ابنك فشقاء ابنك شقاء لك، وخير كسب الرجل ولده، وأعظم الأعمال الصالحة عند الله أن ينشأ ابنك على طاعة الله، وخير كسب الرجل ولده، مهما رأى الأب في ابنه من مخايل الذكاء والتمييز والإدراك والوعي فينبغي أن يحسن مراقبته، يا ترى هذا الابن أيستحي ؟ أيستحي من كلمة بذيئة ؟ أيستحي من نكتة ساقطة ؟ أيستحي من نظرة وقحةً ؟ إن كان يستحي فالحياء من الإيمان، وعلامة إيمان الطفل حياؤه، علامة حسن خلقه حياؤه، لذلك يجب أن يربى الطفل على الحياء، في أقواله، وفي أفعاله، وفي حركاته، وفي سكناته.
 فإذا كان هذا الابن يستحي فهذا من علامة إشراق نور العقل عليه، فإذا رأى بعض الأشياء قبيحاً، وبعضها خيراً، أو جميلاً، فهذه علامة مبشرة بخير، أن هذا الابن على شيء من الأخلاق، ومن الحياء، ومن الإيمان، بل إن حياء الطفل الصغير دليل كمال عقله حينما يكبر، ولا أشك أن حياء الطفل الصغير لا يتأتى إلا بالمراقبة والتوجيه.
 فالصبي المستحيي لا ينبغي أن يهمل، بل يستعان على تأديبه، بحيائه، أو تمييزه، والطفل الذي يستحي هذا إذا أدب لا ينبغي أن يجرح، فإذا جُرح فقد حطّم.
 أحيانا معلم - أصلحه الله - يأتي بطفل مستحي، يفهم بالنظرة، يفهم بالازورار، فيضربه ضرباً مبرحاً، وهذا الضرب المبرح مع طفل يستحي هو في حقه جريمة، ولما يغلب على الطفل من الصفات القبيحة، كأن يكون شره الطعام، فينبغي أن يؤدب فيه، ألاّ يأخذ من الطعام إلا بيمينه، وأن يقول فيه: باسم الله، عند أخذه، وأن يأكل مما يليه، وألا يبادر إلى الطعام قبل غيره، وألا يحدق النظر فيه، ولا إلى من يأكل، وألا يسرع في الأكل، وأن يجيد المضغ، وألا يوالي بين اللقم، وألا يلطخ يده، ولا ثوبه، وأن يعوّد أكل الخبز وحده في بعض الأحيان حتى لا يصير الأدم حتماً.
 هذا قول النبي عليه الصلاة والسلام:

((اخشوشنوا، وتمعددوا، فإن النعم لا تدوم))

[الطبراني في المعجم الأوسط عن القعقاع بن أبي حدرد بغير قوله: فإن النعم...]

  هذا توجيه الإمام الغزالي، من حين إلى آخر عوّده على طعام خشن، الطعام الخشن هو الطعام القليل، أو الطعام الذي ليس فيه إدام، إذا عوّدت ابنك على طعام خشن، وجاءته أيام عصيبة في المستقبل، وقلّ دخله، أو خسر عمله يألف هذا الوضع الجديد، ولا يضجر، لأن الذي لا يألف وضعه الجديد، وهو يشكو ضيق ذات يده ربما مد يده إلى الحرام، أو ربما نافق، هناك مزلقان خطيران ممن تعوّد على الإسراف في المصروف، ثم قلّ دخله فجأةً، الذي تعوّد على الإسراف والتبذير وشراء الحاجات الكمالية الزائدة، الذي يتعوّد على هذا لو قلّ دخله فجأةً يدفع دفعاً إما إلى أكل المال الحرام، أو إلى ممالأة من عندهم المال، نفاق إما على حساب دينه، أو على حساب آخرته.
 ويقبح عند هذا الصبي كثرة الأكل، وأن يشبه كل من يكثر الأكل بالهائم، وأن يذم بين يديه الصبي الذي يكثر الأكل، ويمدح عنده الصبي المتأدب القليل الأكل، وأن يحبب إليه الإيثار بالطعام، وقلة المبالاة به، والقناعة بالطعام الخشن، هذا فيما يتعلق بالطعام.
 دقائق كثيرة أوردها الإمام الغزالي، وهي متعلقة بتأديب الصبيان في الطعام، أوردت هذه الفقرة لأن خير شيء تدعه لأولادك الخلق الحسن، والأدب الحسن.
  هناك أشخاص أغنياء يدعون لأولادهم مالاً كثيراً، ولكن يغفلون عن تربيتهم، وأخلاقهم السيئة، وجهلهم، وغفلتهم، وشرودهم عن الحق وأهله، ويدفعونهم إلى تبديد هذه الثروة في أيام قليلة، بينما الخلق الحسن يجعل هذا المال صالحاً في يد عبد صالح، لذلك كل ما يفعله الأولاد بعد موت آبائهم في صحيفة آبائهم، إن كانت أفعالهم صالحةً.
 قال:

((وأن يحبب إليه من الثياب البيض))

 الآن ننتقل إلى شيء متعلق بالعصر الذي عاش فيه الغزالي، يبدو أن الألوان الفاقعة والصارخة ليست من صفات الأولاد المهذبين، قال:"وأن يحبب إليه من الثياب البيض دون الملون، وأن يكون هذا من شأن النساء والمخنثين، وأن الرجال يستنكفون منه، ومهما رأى على صبي ثوباً فينبغي أن يستنكره، وأن يذمه، ويحفظ الصبي عن الصبيان الذين تعودوا التنعم والرفاهية، ولباس الثياب الفاخرة.
 الصبي المدلل فوق الحدود، الغارق في النعيم، الذي يتبجح، وينفق أموالاً طائلة، مثل هذا الصبي لا ينبغي أن يرافق صبياً آخر له رقة في طبعه، وله خشونة في حياته.
 وعلى الوالد أن يشغل ابنه بتعلم القرآن وأحاديث النبي العدنان، وحكايات الأبرار، وأحوالهم، ليُغرس في نفوسهم حب الصالحين، ويُحفَظَ من الأشعار التي فيها ذكر العشق وأهله، كهذه المجلات الرخيصة، هذه التي تعنى بأخبار الفنانين والفنانات، الأحياء منهم والأموات، هذه المجلات يجب أن نحفظ منها أولادنا، هذه إشارة، ويُحفَظَ من الأشعار التي فيها ذكر العشق وأهله، تجد أن مخزون هذا الصبي عن أخبار الساقطين والساقطات الشيء الكثير، بينما مخزونه عن أصحاب رسول الله وعن الأبطال الحقيقيين الشيء القليل، وهذا من علة هذا العصر.
 الطفل وعاء، هذا الوعاء بماذا يمتلئ ؟ قال: وعليه أن يحفظه من مخالطة الأدباء الذين يزعمون أن ذلك من الظرف، ورقة الطبع "، يعني إذا كان في وسط أشخاص حديثهم عن النساء، ومزاحهم ليس في المستوى المطلوب، أو مع الكتاب الذي فيه أشعار ساقطة يؤذي الصغار، والأصدقاء الذين يتحدثون هذه الأحاديث يؤذون الصغار، المراقبة مهمة جداً، لذلك حينما قال عليه الصلاة والسلام:

((داعب ولدك سبعاً، وأدبه سبعاً، وراقبه سبعاً، ثم اترك حبله على غاربه))

 هذا شيء دقيق جداً.
 ينبغي أن تحفظ ولدك من قراءة أو من مشاهدة فيها فساد وضلال وانحراف وفسق، ويجب أن تحفظ ابنك من صديق ليس في المستوى المطلوب، قال: "ثم مهما ظهر على الصبي خلق جميل، وفعل محمود فينبغي أن يكرم عليه "، التشجيع مهم جداً، هناك أسلوب الردع، وهناك أسلوب المكافأة، أسلوب التشجيع والمكافأة والتكريم أسلوب فعال جداً، وله نتائج مضمونة، بينما أسلوب الزجر والتقريع والتوبيخ والتأنيب والعقاب المتكرر هذا أسلوب منفر، ربما يبعد الطفل عن مربيه.
 الآن، إن خالف ذلك في بعض أحواله مرةً واحدة فينبغي أن يتغافل عنه، مثلاً هناك أب على ابنه كأنه بالمرصاد، كل غلطة يحاسبه عليه حساباً شديداً، الأب إذا لاحظ أن ابنه غلط مرة مرات قليلة فتغافل الأب عن ملاحظة ابنه فهذا شيء طيب يحفظ له حياءه، يحفظ له مكانته، الشيء الآخر، إذا رأيت ابنك يستحي منك، اضطرب لما رأيته وهو يفعل كذا، اضطرب، اضطرابه واستحياؤه هذا دليل حيائه، فلا تقتحم عليه حياءه، ولا تضيق عليه الخناق لئلا يفجر، ولئلا يتجاسر، فإذا استحيا منك فاستحي منه.
 الحديث الشريف تعرفونه:

((عبدي لقد كبرت سنك، وانحنى ظهرك، وضعف بصرك، وشاب شعرك، فاستحي مني، فأنا أستحي منك))

[ تفسير الطبري( 28/165)، (28/166)، وابن كثير(4/392)]

  الأب الحكيم إذا رأى ابنه يستحي منه فعليه هو أن يستحي منه، هناك بقية حياء، وعنده هيبة لك، هيبتك عنده دفعته إلى أن يتوارى، هذه بادرة طيبة، تغافل أحياناً، وحاسب أحياناً، هذا الذي أراده الإمام الغزالي.
 إذا فعل الطفل شيئاً ليس لائقاً، وتغافلت عنه مرة، وعادها مرةً ثانية فالأسلوب المناسب أن تكاشفه بها سراً، هذه مهمة جداً، الشيء الذي لا يحتمله الصغير أن توبخه أمام الآخرين، فإذا فعل شيئاً واستحيا منك، وحاول ستره عنك، وهرب منك، وخجل أن تعلم، فتغافل أنت، أما إذا أعاد ذلك ثانيةً فينبغي أن تكاشفه بها سراً حفاظاً على حيائه، وعلى كرامته، ودفعاً له بترك هذا الشيء.
 النصيحة التي تأتي بعد هذه النصيحة عدم الإكثار من المعاتبة، فالإكثار من المعاتبة يجعل هذه المعاتبة مألوفة عند الصبي، كمن يضرب ابنه على أدنى عمل، الضرب المستمر يجعل هذا الصغير يألف الضرب، فعندئذ لا يفعل الضرب فعله إطلاقاً، دائماً كل الوسائل الردعية إذا كثر استعمالها فقدت قيمتها.
 الآن هناك أشياء دقيقة جداً، قال: " ليكن الأب حافظاً هيبة الكلام معه، يعني رفع الكلفة كلياً بين الأب وابنه، هذا مما يدعو إلى اجتراء الابن على أبيه، فلا يوبخه إلا أحياناً، والأم تخوفه بالأب، وتزجره عن القبائح، وينبغي أن يمنع عن النوم نهاراً، فإنه يورث الكسل، ولا يمنع منه ليلاً، ولكن يمنع الفرش الوطيئة حتى تتصلب أعضاؤه، وتعود على الخشونة في المفرش والملبس والمطعم، قال: "وينبغي أن يمنع من كل ما يفعله في خفية "، لأنه حينما يخفيه يعتقد أنه قبيح، الشيء الذي تستحي منه فيما بينك وبين الله لا تفعله أمام الناس، الشيء الذي تستحي به لا تفعله، قال: "ويعود ألاّ يكشف أطرافه "، يعني التبذل في الثياب هذا مما نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام، ينبغي أن يعود ألاّ يكشف أطرافه، وألاّ يسرع المشي، وألاّ يرخي يديه، وعليه أن يمنع على أن يفتخر على أقرانه بشيء مما يملكه والده، هذا التباهي على الأقران فيما يملك الوالد هذا أيضاً مما يجب أن نبعد أبناءنا عنه.
 حينما سئلت السيدة عائشة عن أخلاق رسول الله e قالت:

((كان خلقه القرآن))

[مسند أحمد]

  فحينما يحفظ الطفل القرآن الكريم، وحينما تشرح له بعض الآيات، قال تعالى:

 

﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً﴾

 

[ سورة الإسراء: 36]

  حينما يوضع الطفل أمام هذه الآيات، وحينما تشرح له شرحاً بسيطاً فهذا مما يرسخ في أعماقه الآداب الإسلامية، والعوام يقولون: المربى غالٍ، فالطفل الذي تلقى توجيهات كثيرة، وقوّمت أخلاقه حتى استقامت فهذا شيء نفيس جداً، والحقيقة كما قلت في أول الدرس: وخير كسب الرجل ولده.
 يحسن بنا أن نحاول إما تصوير هذه الصفحات عن هذه الوصية، طبعاً الوصية طويلة، وفيها جزئيات كثيرة جداً، والإنسان إذا قرأها بعناية وتمهل، وحاول أن يستوعبها، وجعلها دستوراً له في تربية أولاده، فهي وصية كما يقولون جامعة مانعة، تتناول الكلام، وقرناء السوء، والعادات العقلية، والاجتماعية، والنفسية، والتربوية، وما إلى ذلك.
 في موضوع السيرة معنا قصة قصيرة من غزوة مؤتة، وغزوة مؤتة فيما يروي كتاب السيرة أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما أرسل الرسل إلى الملوك والأمراء في أطراف الجزيرة العربية هؤلاء الملوك والأمراء تلقوا رسل النبي عليه الصلاة والسلام بمواقف متباينة، بعضهم تلقى الرسول بالترحيب والإكرام، بعضهم أسلم كالنجاشي، وبعضهم جامل كالمقوقس، وبعضهم أكرم الرسول، إلا أن بعض أمراء الغساسنة حينما جاءه رسول النبي عليه الصلاة والسلام، وكان يحكم بصرى في تخوم الشام، حينما جاءه هذا الرسول قيده، وضرب عنقه، وكان موقفاً من أشد المواقف إجراماً، لأن العادة بين الملوك أن الرسل يكرمون، لأنهم لا ذنب لهم، إنهم مبلغون، فالنبي عليه الصلاة والسلام حينما رأى هذا التطاول، وهذا التعدي، إنّ سكوته على هذا الموقف يضعف هيبة المسلمين، كيف لا وقد علا شأنهم، واتسع نفوذهم، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، هيبة منهم، أو طمعاً بما عندهم، فلذلك رأى النبي عليه الصلاة والسلام أن من الحكمة أن يرسل جيشاً إلى تخوم الشام ليؤدب هذا الأمير الغساني الذي تطاول على رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضرب عنقه، فجهز جيشاً فيما يسمى في كتب التاريخ والسيرة معركة مؤتة.
 جهز النبي عليه الصلاة والسلام جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، وجعل على رأسهم سيدنا زيد بن حارثة، فإذا قُتل فجعفر بن أبي طالب، فإذا قُتل فعبد الله بن رواحة الشاعر الذي أخته تحدثنا عنها قبل قليل، وتوجه الجيش إلى بلاد الروم، ولكن الشيء الذي لا يصدق أن الروم توقعوا أن يكون الجيش كبيراً جداً، وأن يستأصلهم من أصلهم، فجهزوا جيشاً تروي كتب التاريخ أنه يزيد عن ثلاثمئة ألف، مئة ألف من العرب الغساسنة الذي يحكمهم هذا الأمير الأحمق، الذي قتل رسول رسول الله، فلما قدم أصحاب رسول الله في هذا الجيش المتواضع الذي لا يزيد عن ثلاثة آلاف مقاتل، وعلى رأسهم قواد ثلاثة، فلما قدموا، وجدوا أنهم أمام جيش لا قِبل لهم به، ما الذي حدث ؟ سيدنا زيد حمل الراية، وقاتل بها حتى قتل، تولى القيادة من بعده سيدنا جعفر، أمسك بالراية، ضربت يمينه، فأمسكها بشماله، ضربت شماله، فأمسكها بعضديه، ثم جاءته ضربة قاتلة وقع من على فرسه، وقتل، الآن في رواية بعضهم يؤكدها، وبعضهم ينفيها، على كلّ إن صحت فلها دلالة دقيقة، أن سيدنا عبد الله بن رواحة حينما رأى صاحبيه ماتا سريعاً، استشهدا سريعاً، وقع في نفسه - إن صحت الرواية - تردد لا يزيد على ثلاثين ثانية، كان شاعراً، وقال:

 

يا نفس إلا تقتلي تموتي     هذا حمام الموت قد صليت
إن تفعلي فعلهما رضيت    وإن توليت فقد شـــقيت

 وأخذ الراية فقاتل بها حتى قتل، أما تتمة القصة سيدنا خالد، رحم الله خالد بن الوليد أمّر نفسه، ووضع خطة رائعة، بدل قواته من كانوا على الميمنة، نقلهم إلى الميسرة، ومن كانوا في المقدمة نقلهم إلى المؤخرة، وأمر بعض جنوده أن يحدثوا جلبة، وضجيجياً، وأن يثيروا غباراً الأمر الذي ظن الروم الذين يعدون ثلاثمئة ألف مقاتل أن هناك إمدادات سريعة جاءت من قبل المدينة، فهذا الذي جعلهم يتريثون فصار يناوشهم، وينسحب قليلاً، يناوشهم وينسحب قليلاً، إلى أن جرهم إلى قلب الصحراء، عندئذ خافوا، وتهيبوا من كمين يقضي عليهم، فانسحبوا، ولاذوا بالفرار، فلما جاء الجيش إلى المدينة، وقد علم أهل المدينة أنهم انسحبوا، فصار الغلمان يقرعونهم، ويقولون: فرّار، فرّار، فسمع النبي عليه الصلاة والسلام هذه المقولة، فقال: بل كرّار إن شاء الله تعالى، وعدّ النبي عليه الصلاة والسلام حنكة سيدنا خالد وطريقته الفذة في إيهام العدو بمجيء إمدادات كبيرة، وإنقاذه أصحاب رسول الله من موت محقق عد ذلك النبي عليه الصلاة والسلام نصراً من نوع آخر، فالحفاظ على حياة الإنسان، وإنقاذه من هلاك محقق، وقدرته على إيهام الأعداء بحجم بأكبر بكثير من الحجم الحقيقي هذا نوع من أنواع النصر غير الظاهر الذي أثنى النبي به على سيدنا خالد.
 لكن في هذه القصة وقفة قليلة، هي أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما كان بالمدينة، وقبل أن يأتي الجيش من مؤتة سئل عن الذي حصل ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أخذ الراية أخوكم زيد، فقاتل بها حتى قتل، وإني لأرى مقامه في الجنة، ثم أخذ الراية أخوكم جعفر، فقاتل بها حتى قتل، وإني لأرى مقامه في الجنة، ثم سكت النبي قليلاً، حتى قال أصحابه: يا رسول الله ما فعل عبد الله ؟ فقال: ثم أخذ الراية أخوكم عبد الله، فقاتل بها حتى قتل، وإني لأرى في مقامه ازوراراً عن صاحبيه.
 إذا صحت هذه الرواية لأن بعض الكتاب ينفيها لموقف رائع جداً، وقفه هذا الصحابي الجليل قبيل معركة مؤتة، هذا الموقف يتناقض مع موقفه الثاني، على كلّ إن صحت فيجب أن نستنبط من ذلك أن هذا الصحابي الجليل الذي تردد في بذل روحه في سبيل الله كان في مقامه ازورار عن صاحبيه، كيف لو فعل الإنسان المعصية، الذي تردد في فعل الخير، تردد بتقديم نفسه في سبيل الله كان هذا نقطةً قدحت من مكانته عند الله عز وجل، لذلك إذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ، فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا، وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا، وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا))

[مسلم]

  فلنبادر بالأعمال الصالحة، وليكن غنى المؤمن في الأعمال الصالحة، لأنه هو الغنى الحقيقي الذي لا فقر بعده، ولا ننسى هذه الآية الكريمة:

 

﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾

 

[ سورة العصر: 1-3]

إخفاء الصور