وضع داكن
23-04-2024
Logo
الشمائل المحمدية إصدار 1995 - الدرس : 17 - حياء الرسول
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

  الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علماً، وأرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعه، و أرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

حياء الرسول:

 أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس السابع عشر من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وصلنا في الدرس الماضي إلى عظيم حيائه صلى الله عليه وسلم، وقبل أن أمضي بالحديث عن حيائه صلى الله عليه وسلم أريد أن أضع بين أيديكم حقيقةً لعلها تلقي ضوءاً على موضوع درسنا.

 

تمهيد:

 أيها الإخوة الكرام؛ النبي عليه الصلاة والسلام كما تعلمون سيد الخلق وحبيب الحق، وهو صفوة الله من خلقه، وهو سيد الأنبياء والمرسلين، وهو سيد ولد آدم بنصوص قطعية الدلالة والثبوت، فلما أراد ربنا سبحانه وتعالى أن يثني عليه، فلو أنه وصفه بخطابته التي لا تعلو عليها خطابة، ولو وصفه بعلمه، ولو وصفه بقيادته، لو وصفه باجتهاده، لو وصفه باستنباطه، لو وصفه بفتواه، لو وصفه بقضائه، لكانت هذه الأوصاف صحيحة، وهي صفات فذّة، لكن الله جل جلاله حينما أراد أن يثني على نبيه الكريم ما أثنى عليه إلا بحسن خلقه، وهذه هي الصفة العظمى، قال تعالى:

﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾

[ سورة القلم ]

 هذه قضية يجب أن تكون ماثلةً نصب أعيننا، الإنسان إذا آتاه الله قدرةً عقليةً فائقة ربما تفوق في اختصاصه، تفوق في كتابته، تفوق في إلقائه، تفوق في استنباطه، في حفظه، هذه قدرات عقلية لا ترفع صاحبها عند الله ما لم تستخدم في الحق، لكنَّ الذي يسعدك في الجنة إلى أبد الآبدين أن تكون ذا خلق حسن، والله سبحانه وتعالى حينما أثنى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ما أثنى عليه إلا بالخلق الحسن، فإذا أردت أن تكون قريباً من الله عز وجل فكن ذا خلق حسن.

 

الحياء والإيمان:

 الآن ندخل في شميلة من شمائله صلى الله عليه وسلم ألا وهي حياؤه، فقد كان عليه الصلاة والسلام أعظم الناس حياءً، لأنه أعظمهم إيماناً، وثمَّةَ علاقةً طردية مترابطةً بين الحياء والإيمان، فالحياء والإيمان قُرِنا معاً، فإذا زال أحدهما زال الآخر، الحياء والإيمان قُرِنا جميعاً، فالذي لا يستحيي لا خير فيه، الذي لا يخجل لا خير فيه، الوقح لا خير فيه، الذي لا يبالي بسلامة سمعته لا خير فيه، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((الْحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ وَالإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ وَالْبَذَاءُ مِنَ الْجَفَاءِ وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ))

[ الترمذي ـ أحمد ]

 إذا كان في المرء حياء ففيه إيمان، وإذا كان فيه إيمان ففيه حياء، إذا أَثبتَّ أحدهما أثبتَّ الآخر، إذا أثبتَّ لإنسان أنه مؤمن فهو حيِيٌّ طبعاً، وإن أثبتّ له الحياء فهو مؤمن وربِّ الكعبة، إذا أثبتَّ الحياء فهو مؤمن، وإذا أثبتَّ الإيمان فهو حيِيّ، فالذي لا يستحي ليس مؤمنًا، يروى أن النبي عليه الصلاة والسلام استأجر أجيراً في بناء، فاغتسل عرياناً، فقال له: خذ أجارتك، لا حاجة لنا بك، فإني أراك لا تستحيي من الله.
 الآن درسنا خطير، كلمة حياء تعني إيمان، إنْ لم يكن الحياء عند الرجل فلا إيمان له، وفي الصحيحين عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:

((كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا))

[ البخاري ـ مسلم ـ ابن ماجة ـ أحمد ]

 المؤمن يستحيي، يخجل، وفي رواية البخاري في وصف النبي صلى الله عليه وسلم...

((وَإِذَا كَرِهَ شَيْئًا عُرِفَ فِي وَجْهِهِ))

 فمن شدة حيائه فهو يستحيي أن يواجه الناس بأخطائهم، فإذا تجاوز إنسان حدَّه معه، وإذا فعل إنسان نقيصةً أمامه، وهو يستحيي أن يواجه بخطأ الناس، عرفنا ذلك من وجهه.
 أما القول الذي ذكرته قبل قليل:

((... أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا))

 فمن هي العذراء؟ هي البكر المستترة في ناحية بيتها أو خيمتها، تكون في الأعم الأغلب شديدة الحياء، ولقد كان عليه الصلاة والسلام أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، ماذا نستنبط من هذا الكلام ؟ أن الله سبحانه وتعالى فطر الفتاة على الحياء، فأي إنسان بَدَّل فطرة هذه الفتاة من الحياء إلى التبذل، إلى الوقاحة، وإلى الترجل، فقد أفسد طبيعتها، فالذي عنده فتاة فالأصل أنها تستحيي، هكذا فطرها الله عز وجل، فالإنسان إذا أراد لابنته أو لمن يربيها أن تنطلق، كما يقول أهل الدنيا، أن تكون جريئةً، فهذا يخرجها عن فطرتها التي أرادها الله.
 إن بعض العلماء يقول: إن أجمل ما في الفتاة حياؤها، ومن علامات قيام الساعة أن النخوة ترفع من رؤوس الرجال، وأن الحياء يذهب من وجوه النساء، وأن الرحمة تنزع من قلوب الأمراء، هذه من علامات آخر الزمان.
 إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاءكم، وأمركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بخلاءكم، وأمركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها.
 لذلك أيها الإخوة ؛ مِن الدعاء النبوي الشريف:

((اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.))

 يا رب إذا كانت الحياة خير لي فأحيني، وإن كان الموت ستراً لي وراحةً لي فأمِتْنِي، لأن النبي عليه الصلاة والسلام رأى جنازةً كما روى ذلك أَبُو قَتَادَةَ بُنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيُّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ

((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ: مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ قَالَ: الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ))

[ البخاري ـ مسلم ـ النسائي ـ أحمد ـ مالك ]

 فأنت بين أن تكون مستريحاً، وبين أن تكون مستراحًا منه، وشتان بين الحالين، يقول لك: الناس يخافون مني، فهذا الكلام لا يعد مزيةً، فَعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتِ:

((اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ عَائِشَةُ وَأَنَا مَعَهُ فِي الْبَيْتِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ ثُمَّ أَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ عَائِشَةُ فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ سَمِعْتُ ضَحِكَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلُ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ فِيهِ مَا قُلْتَ ثُمَّ لَمْ تَنْشَبْ أَنْ ضَحِكْتَ مَعَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنِ اتَّقَاهُ النَّاسُ لِشَرِّهِ))

[متفق عليه، واللفظ لمالك ]

 إنما أنا رحمة مهداة، ونعمة مزجاة، كما قال عليه الصلاة والسلام عن نفسه، ولدينا تعليق أحبُّ أنْ أسوقه لكم، وأنتم تفهمون عليَّ مقصدي، كان النبي عليه الصلاة والسلام يجلس وإلى جنبه سيدنا علي بن أبي طالب، فدخل سيدنا الصديق وسيدنا علي بن أبي طالب قام من مكانه وأجلس سيدنا الصديق، فالنبي سر سروراً عظيماً فقال:

(( لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل.))

 الحياء أيها الإخوة خلق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ وَلَكِنَّ الاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى وَلْتَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ))

[ الترمذي ـ أحمد ]

 هذه العين، هذه النعمة العظيمة هل تنظر بها إلى عورات المسلمين، هذه الأذن النعمة الجليلة هل تستمع بها إلى ما يغضب الله عز وجل، إلى غناء، أو نميمة، أو فسق، أو فجور.

((... أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى...))

 هل تسمح لنفسك أن تُدخِل إلى معدتك طعاماً حراماً، في الرأس عينان، وأذنان، ولسان، والبطن فيه معدة، والمعدة فيها طعام، فإذا حفظت الرأس وما فيه من حواس من أن تعصي الله عز وجل، وحفظت البطن من أن تدخل عليه مالاً حراماً أو طعاماً حراماً فقد استحييتَ من الله تعالى حقًّا.

((... وَلْتَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى...))

 فإذا فعلت ذلك فقد استحييت من الله حق الحياء، ولهذا الحديث تتمة في رواية أخرى:

((... وَالإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ وَالْبَذَاءُ مِنَ الْجَفَاءِ وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ))

[ الترمذي ـ أحمد ]

 معنى ذلك أن الحياء يحملك على فعل الخيرات، وفعل الكمال، وفعل الجميل، وأن الحياء يمنعك من فعل السيئات، وفعل القبائح، وفعل المنكرات، فالحياء والإيمان واحد، الحياء والإيمان قُرِنا جميعًا، فإذا رُفِع أحدهما رُفِع الآخر، إذًا هناك مؤشران للحياء والإيمان ؛ هذان المؤشران يتحركان معاً.

 

الفرق بين الحياء والخجل:

 لكن أريد أن أنبه أيها الإخوة أن الحياء شيء، والخجل شيء آخر، الخجل أن تستحيي أن تطلب حقك، أن تستحي أن تُدليَ بالحق، أن تذكِّر بأمر الله، أن تأمر بالمعروف، أن تنهى عن المنكر، تستحيي أن تقول للمخطئ إنك مخطئ، هذا ليس حياءً، فالحياء فضيلة، لكن الخجل نقيصة.
 الخجل أُدْرِج في علم النفس مع الأمراض النفسية، لكن الحياء أدرج مع الفضائل، الحياء فضيلة، لكن الخجل رذيلة، وفي حديث صحيح عَنْ أَبِي السَّوَّارِ الْعَدَوِيِّ قَالَ سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((الْحَيَاءُ لا يَأْتِي إِلا بِخَيْرٍ فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ إِنَّ مِنَ الْحَيَاءِ وَقَارًا وَإِنَّ مِنَ الْحَيَاءِ سَكِينَةً فَقَالَ لَهُ عِمْرَانُ أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُحَدِّثُنِي عَنْ صَحِيفَتِكَ))

[ البخاري ـ مسلم ـ أبو داود ـ أحمد ]

 أحياناً الحياء يحجبك عن معصية، عن فعل شنيع، عن فعل قبيح، عن إيقاع أذى، وقد بلغ من حياء النبي صلى الله عليه وسلم - دققوا -أنه لم يواجه أحداً بما يكره، هناك إنسان طبيعته وقحة، يرى إنساناً جالسًا بين مجموعة فيقول له: أنت غلطت، وقلت كذا، لا يراعي كرامته، وإحساسه الرقيق، ومشاعره، بل يَفْضحه بين الناس، أنت ممكن أن تنصحه بين الناس بألطف عبارة، وبأدق إشارة من دون قسوة، من دون تجريح، من دون فضح، لذلك قالوا النصيحة شيء، والفضيحة شيء آخر.
 وهذه نصيحة أيها الإخوة، إذا أردت أن يتشنج الإنسان، وأن يركب رأسه، وأن يقول لك قولاً غليظًا جرحًا فوَجِّهْ إليه نقداً أمام ملأ من الناس، عندئذٍ لن يكون منطقياً، ولا واقعياً، ولا متفهماً لكلامك، لأنك ربطت بين النصيحة والفضيحة، أما إذا أردت الخير فلا تفضح أحداً على ملأ من الناس، ولكن انفرد به، وانتقِ أجمل عبارةٍ، وأدق إشارةٍ، وكن مخلصاً في إسداء هذه النصيحة حتى يتقبلها أخوك، وفي هذا عمل جليل.
 وقد بلغ من حيائه صلى الله عليه وسلم أنه لم يواجه أحداً بما يكره، بل يعرِّض بذلك، أو يأمر بعض أصحابه من يصارح ذلك الرجلَ المقصر، مثلاً قد يرتدي إنسان ثوبًا بالصيف أبيض من دون بنطال، أو سروال تحته، فيجلس من دون عناية، وتبدو عورته، وهو لا ينتبه، إذا سكتنا، وما تكلمنا ولا كلمة لم نكن له ناصحين، وإذا نصحناه أمام الناس أيضاً فهذه مشكلة، من أساليب النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر أصحابه أن يوجهوا صحابياً إلى خطئه، لأن النبي مقامه كريم، فإذا هو نصحه أمامه يصغر، ويقع في إشكال، فإذا كان الإنسان يستحي منك فلا تدقق كثيرًا، ولا تحرجه، ولا تقتحم عليه عالمه الخاص، فلو فرضنا إنسانًا دخل على غرفة ابنه، فقد يكون ابنه في تلك اللحظة قائمًا يغيِّر ملابسه، فليُحْدِثْ حركةً أو صوتًا قبل أنْ يدخل عليه، وقد يكون جالسًا جلسة غير مقبولة ففاجأته، فاقْرَع الباب حتى يشعر أنك تريد أنْ تدخل غرفته، أو نادِ أخاه الثاني أمام غرفته، فيأخذ حذره، ويتهيَّأ، أو يعتدل في شأنه، الإنسان الذي يستحيي فاستَحْيِ منه، والذي يستهابك استهَبْهُ، الذي يحسب لك حسابًا فلا تدقق عليه حتى تبقى أنت في مكانتك، فإِنْ كان الشخص يهابه ابنُه، لكنه يقتحمه، ويقتحمه، فبعد ذلك يفجر الابن، وكذلك المعلم، والمدرس، والقاضي، فإذا استحيا منك شخصٌ فحاول أن تحفظ مكانته.
 وقد روى أبو داود عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ

((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى عَلَى رَجُلٍ صُفْرَةً فَكَرِهَهَا قَالَ لَوْ أَمَرْتُمْ هَذَا أَنْ يَغْسِلَ هَذِهِ الصُّفْرَةَ قَالَ وَكَانَ لَا يَكَادُ يُوَاجِهُ أَحَدًا فِي وَجْهِهِ بِشَيْءٍ يَكْرَهُهُ))

 تذكرون كما ورد في السيرة عندما كان النبي عليه الصلاة والسلام مع أصحابه في دعوة غذاء، وقد تناولوا لحم الجزور، يبدو أنه ظهرت رائحة تؤكد أن أحد الحاضرين انتقض وضوءه، فلما أذن العصر فكل الصحابة متوضؤون، فمَن الذي سوف يتوضأ ؟ هذا الذي انتقض وضوءه، فالنبي عليه الصلاة والسلام لعظيم كماله، وعظيم حيائه قال:

((من أكل لحم جزور فليتوضأ))

 قالوا: كلنا أكلنا، قال: كلكم توضؤوا.
 من أجل أن يستر حال هذا الذي انتقض وضوءه، هذه أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام، أحياناً الخطيب يلقي خطبة يتحدث فيها عن فساد المجتمع، والنساء الكاسيات العاريات كيف يرتدين الثياب، ويذكر أعضاء المرأة عضوًا عُضوًا على منبر رسول الله، واللهِ إنّ ذكر الأعضاء على منبر رسول الله أمرٌ لا يليق، والناس تفهم على الطائر، يكفي أنْ يقول: ثيابهن متبذلة، وانتهى الأمر، وصار مفهومًا أنّ ثياب النساء متبذلة، فاضحة وليست محتشمة، فعَنِ ابْنِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ أَبَاهُ أُسَامَةَ قَالَ:

((كَسَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبْطِيَّةً كَثِيفَةً كَانَتْ مِمَّا أَهْدَاهَا دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ فَكَسَوْتُهَا امْرَأَتِي فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَكَ لَمْ تَلْبَسْ الْقُبْطِيَّةَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَوْتُهَا امْرَأَتِي فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْهَا فَلْتَجْعَلْ تَحْتَهَا غِلَالَةً إِنِّي أَخَافُ أَنْ تَصِفَ حَجْمَ عِظَامِهَا))

(مسند الإمام أحمد)

 أين العظم ؟ العظم لا يظهر في مواطن كثيرة، وما ذكر شيئًا مٍن أعضاء المرأة.
 هناك شيء آخر سأقوله لكم، قد يرتكب الإنسان غلطة فلا تواجهه صراحةً، فكان عليه الصلاة والسلام يقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا، ويكون واحد هو الذي ارتكب الغلطة، وهو عندما قال أقوام ضيعه، دققوا، فمِن الممكن أن يغلط الإنسان غلطة بمفرده، أنت يمكنك أن تقول: هناك عدد كبير من الناس يفعلون هذا، فالجمع ضَيَّعه، أحياناً ترى مخالفة في مجلس العلم، إذا ذكرتها في أثناء وقوعها اتَّجهتْ كلُّ الأنظار إلى المخالف، ولكن بعد العشاء، وبعد أن انتهت الصلاة والأماكن تغيرت والمخالف حكماً مخالفته زالت إذا نبهتَ إليها فلا مانع، فالمسلم يجب أن يكون نبيهًا ولطيفاً، قال تعالى:

﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ(159)﴾

[ سورة آل عمران ]

 العلماء لهم عند هذه الآية وقفة رائعة، قالوا: الباء باء السببية، أيْ بسبب رحمة استقرت في قلبك يا محمد كنت ليّناً لهم، فلما كنت ليّناً معهم التفّوا حولك، وأقبلوا عليك، وأحبوك، وطبقوا سنتك، وارتقوا إلى الله عن طريقك، ونجوا من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، وسعدوا بك، لأن رحمة استقرت في قلبك أدَّت إلى لينك معهم، واللين جذبهم، ولو لم تكن هذه الرحمة في قلبك لكنت فظاً غليظاً، وحينما تكون فظاً غليظاً ينفض الناس من حولك رغم أنه يوحى إليك، أخي في حيِّنا دكتور قاسٍ، دكتور بأخلاقه العالية، إذا كان لديه قسوة، وإجحاف وكبر، انصرف الناسُ عنه، مهما كانت علمه وكانت خبرته، واعلمْ أنّ شهادتك هي أخلاقك.
 ومن ذلك حياؤه صلى الله عليه وسلم من القوم الذين أطالوا الجلوس عنده بعد الأكل، فاستحيا النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم انصرفوا، كلمة (انصرف) وقعُها صعب على المؤمن أنْ يتحملها، فكان لا يتكلم كلمة جارحة، فهناك أشخاص لو جرح بكلمة يراها فعلتْ جرحاً بليغاً، وبذلك تخسره.
اسمعوا هذه القاعدة أيها الإخوة ؛ مجموعة تصرفات كثيرة وذكية، ومجهدة، تشدّ إنسانًا إليك، تصرُّفٌ واحد أحمق ينصرف به عنك، فالانصراف يكفي بحادث واحد أحمق، كلمة قاسية، كلمة غير لبقة، كلمة فيها تعجرف، فمئةُ تصرف ذكي، وكامل، ولطيف تُبذل حتى تشده إليك، أما التنفير فيكفيه تصرف واحد ليبعده عنك.
 أنا أسأل أحياناً بعض الذين انضموا إلى جماعة ثم انتكسوا، وتركوا الدين كله، وهذه ممكن أن تكون بدراسة، فعندنا ظاهرة مفادها إنسان انضم إلى مسجد، وأقبل على الدين بكليته، وفجأةً انتكس، وانقلب على عقبيه، فلو كانت هناك دراسة اجتماعية نفسية تجد أنّ إنسانًا أساء إليه، فلضعف تفكيره لم يفرق بين الدين وبين هذا الإنسان، بل جمعهما معاً، فَكَرِهَ الدين بسبب هذا الإنسان، نخبة قليلة وقلة قليلة تستطيع أن تفرق بين الدين، وبين رجال الدين، بين القيم، وبين من يدعي هذه القيم، بين المبادئ والأشخاص، لكن الكثرة الكاثرة لا تستطيع أن تفرق، تصرف قاسٍ واحد، تصرف مجحف واحد، تصرف واحد فيه كبر ربما صرفتَ به إنسانًا عن هذا الدين العظيم الذي كان من الممكن أن يكون سبب سعادته، فقبل أن تقول كلمة، قبل أن تبتسم، جاءك سؤال سخيف وابتسمت، هذا السائل لن يسألك بعدُ طيلة حياته أبدًا، لقد منعتَ عنه العلم لأنك سخرت منه، أما أنْ يطرح عليك سؤالاً، وأن تصغي إليه بأدب، وأن تقول: السؤال وجيه، وهذا جوابه، فقد شجعته أن يسأل، فاللهم ألهمنا الحكمة قولاً وعملاً، والإنسان إذا صدق في خدمة الخلق ألهمه الله سلوكَ الطريق الصحيح.
 عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:

((مَرَّ بِنَا فِي مَسْجِدِ بَنِي رِفَاعَةَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَرَّ بِجَنَبَاتِ أُمِّ سُلَيْمٍ دَخَلَ عَلَيْهَا فَسَلَّمَ عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرُوسًا بِزَيْنَبَ فَقَالَتْ لِي أُمُّ سُلَيْمٍ لَوْ أَهْدَيْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّةً فَقُلْتُ لَهَا افْعَلِي فَعَمَدَتْ إِلَى تَمْرٍ وَسَمْنٍ وَأَقِطٍ فَاتَّخَذَتْ حَيْسَةً فِي بُرْمَةٍ فَأَرْسَلَتْ بِهَا مَعِي إِلَيْهِ فَانْطَلَقْتُ بِهَا إِلَيْهِ فَقَالَ لِي ضَعْهَا ثُمَّ أَمَرَنِي فَقَالَ: ادْعُ لِي رِجَالاً سَمَّاهُمْ وَادْعُ لِي مَنْ لَقِيتَ...))

 وبالمناسبة أذكرُ أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قُدِّم إليه طعام فأكله وحده أبداً، قدَّم هذا الصحابي الجليل هديةً لرسول الله فأمره أنْ يدعوَ قومًا ليأكلوا معه ؛

((... قَالَ فَفَعَلْتُ الَّذِي أَمَرَنِي فَرَجَعْتُ فَإِذَا الْبَيْتُ غَاصٌّ بِأَهْلِهِ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى تِلْكَ الْحَيْسَةِ وَتَكَلَّمَ بِهَا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ جَعَلَ يَدْعُو عَشَرَةً عَشَرَةً يَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَقُولُ لَهُمُ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَلْيَأْكُلْ كُلُّ رَجُلٍ مِمَّا يَلِيهِ قَالَ حَتَّى تَصَدَّعُوا كُلُّهُمْ...))

[ البخاري ]
 الإنسان إذا جلس للطعام مع أولاده يرتِّب جلسة لطيفة، فالأكل نشاط اجتماعي، هناك من يأكل كما تأكل البهائم، أما المؤمن فيأكل بهدوء.
 شكا بعضهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الطعام لا يكفيهم فقال: لعلكم تأكلون متفرقين، اجتمعوا على طعامكم.
 مع الاجتماع على الطعام فوائد.
 أولاً: الطعام الذي يجتمع عليه الناس يبارك الله فيه، لاحظ أحياناً أنّه قد زادت بقية طعام، لو جلس كل أفراد الأسرة على هذه البقية لكفتهم، أما إنْ أكلوا فرادى فلا تكفيهم.
 ثانياً: الطعام مناسبة لذكر الله عز وجل، يبدو أن الطعام يزداد هضمه أو يسهل هضمه إذا مزج بذكر الله عز وجل، فإذا كان إنسان غضبان فلا يأكل، لِيأكلْ، وهو مرتاح، ويأكل مع أخيه، ولا يبقى ساكتًا، وعينه في الطعام، كُلْ ببطء، وحِّدث أخاك في أثناء الطعام، وهذا من السنة.
 يعني أكل من دون جهد، تراكَمَ الغذاء من دون عمل، هذا الغذاء يترسب في الشرايين، وإذا تصلِّبت الشرايين تعبَ القلب.
القلب يضخ الدم، والشريان، قلب آخر !! فهل تصدقون ؟
 أخ من إخواننا قال لنا هذا، الذين يعملون في الصحيات، أنبوب الماء يضخ اثني عشر بارًا، البار وحدةٌ تحمّل الضغط، طبيب من أطباء القلب الذين اختصوا في موضوع البالون قال: يدخلون بالونًا عن طريق الوريد الفخذي إلى الشريان الذي في القلب المسدود، فإذا دخل هذا البالون توسع حتى يفتح المجرى، فسئل هذا الطبيب ألا ينفجر هذا الشريان ؟ قال له: لا، لأن هذا الشريان يتحمل عشرين باراً، فقد جهَّز الله عز وجل الشرايين بعضلات مرنة طولية وعرضية، فلما يضخُّ القلب الدمَ يتوسَّع الشريان بحسب مرونته، ولأنه مرن يجب أن يعود إلى حجمه الطبيعي فيتقلص، ولما يتقلص ينقل الدم إلى الجهة الثانية، فصار الشريان قلبًا أيضاً، فكلما كان الشريان مرنًا ارتاح القلب، لكن الشريان عندما تترسب فيه الدهون يفقد مرونته، ويتعب القلب.

 يتعب القلب، وإذا تعب تضخّم، بعد أن يتضخم يسترخي، وأخطر شيء في الإنسان شرايينه ومرونة هذه الشرايين، ودواؤها الأول زيت الزيتون، عشرين سنة والأطباء ينهون عن زيت الزيتون، ويحذِّرون منه، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول في حديث عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ))

[ الترمذي ـ ابن ماجة ]

 الآن، العالم كله يقول الدواء الوحيد لتصلب الشرايين زيت الزيتون، وهو الزيت الذي تركيبه غير مشبع، بمعنى أنه يلتقم ذرات الدهن في الدم، فالزيوت غير المشبعة تخفض الشحوم الثلاثية في الدم، أما الزيوت المشبعة فترفعها، يخفض الكولسترول، ويخفض الضغط، لأنه صنع الله عز وجل.

 والنبي عليه الصلاة والسلام بعد أن دعاهم، وبعد أنْ أطعمهم رآهم استمروا في جلوسهم، فتضايق واستحيا منهم، عندئذٍ أنزل تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَق﴾

[سورة الأحزاب]

((... حَتَّى تَصَدَّعُوا كُلُّهُمْ عَنْهَا فَخَرَجَ مِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ وَبَقِيَ نَفَرٌ يَتَحَدَّثُونَ قَالَ وَجَعَلْتُ أَغْتَمُّ ثُمَّ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ الْحُجُرَاتِ وَخَرَجْتُ فِي إِثْرِهِ فَقُلْتُ إِنَّهُمْ قَدْ ذَهَبُوا فَرَجَعَ فَدَخَلَ الْبَيْتَ وَأَرْخَى السِّتْرَ وَإِنِّي لَفِي الْحُجْرَةِ وَهُوَ يَقُولُ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ) قَالَ أَبُو عُثْمَانَ قَالَ أَنَسٌ إِنَّهُ خَدَمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ))

[ البخاري ]

 والإنسان أحيانا قيد دخل بيته الساعة الثالثة، وعنده الساعة الرابعة موعد، فلديه إذًا ساعة فراغ واحدة، فإنْ لم يسترِح قليلا فلن يستطيع أنْ يستأنف العمل، فيأتيه إنسان بعد الساعة الثالثة بقليل بلا سبب وجيه، بلا أمر مهم، وبلا أمر قاهر، مستأنس فقط، الإنسان يحتاج إلى ملاحظة أنّ هذه الفترة ساعة راحة المرء الوحيدة، وقد يجري بعضهم اتصالاً الساعة الثانية ليلاً، والموضوع يتعلق بالميراث، هل من المعقول الاتصال بالليل لفتوى على الهاتف الساعة الثانية بعد منتصف الليل، أصحاب القضية سهروا فاختلفوا، يقولون: نسأل الأستاذ فلانًا، فهذا ليس معقولاً إطلاقاً، الإنسان يحتاج إلى ذوق، هناك أوقات نوم وراحة، يطُرق الباب، وما فُتِح، فصاحب الببت يتوضأ في الحمام، أو يصلي الظهر، فالأدب أن تنتظر ما يساوي أربع ركعات، فلو أنه قال: الله أكبر، وأنت طرقت الباب فماذا يفعل ؟ والطَّرق المستمر يشوش الصلاة.
 عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((إِنَّ الرِّفْقَ لا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلا زَانَهُ ولا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلا شَانَهُ...))

[ مسلم ـ أبو داود ـ أحمد ]

 قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ﴾

[الأحزاب: الآية 53]

 لذلك قال النبي الكريم:

((العيادة فواق ناقة))

 مريض متألم، ومضطر لتناول دواء، حقنة، جرعة، يريد أن يأكل، جاء الطبيب يريد أن يغير له الضمادة، فهذا حال لا يصح، وليس مقبولاً لا عقلاً ولا ذوقًا ولا دينًا.

﴿إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَق﴾

[الأحزاب: الآية 53]

 والمراد أن النبي صلى الله عليه وسلم يستحيي حياء كرم، فلن يقول لضيوفه: انصرفوا، فهذه ثقيلة، إذا قلت لإنسان: انصرف فمن الممكن ألاّ يدخل بيتك في حياته، وهذا شيء وقع، فالنبي كان يستحيي، وإذا كان يستحيي فالمفروض على الطرف الثاني أيضاً أن يكون لطيفاً، قالوا: المراد أنه صلى الله عليه وسلم يستحيي حياء كرم أن يقول لضيوفه: انصرفوا، واللهُ لا يستيحي من بيان الواجب اتباعه، وهذا لا ينافي أنه سبحانه و تعالى متصف بحياء الكرم، فعَنْ سَلْمَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا))

[رواه أبو داود]

 أي خاليتين، فالله عز وجل كريم، إنْ قلت: يا رب بإخلاص ثم لا يلبِّي دعاءك، فهذا غير صحيح، أما إذا كان الطلب غير معقول فلن يجيبك، فاجهد أن تطلب من الله الشيء الذي يرضيه.

 

للحياء أنواع:

 العلماء ذكروا أن للحياء أنواعاً.

النوع الأول:

 حياء الكرم، وسببه كرم النفس كاستحيائه صلى الله عليه وسلم من القوم لما أطالوا الجلوس عنده، ضيف دخل بيتك، وليس عندك شيء لتضيفه فتستحيي، هذا حياء الكرم، و من ذلك حياء الإجلال، حياء الكرم زارك ضيف ولم تكرمه، أو طلب منك شيئاً، ولم تلبِّه، أو وسّطك لقضية فخيَّبتَ ظنه فيها، أذكر مرة أنّ سيدنا عليًّا قال كما ورد في نهج البلاغة: " واللهِ والله مرتين لحفر بئرين بإبرتين، و كنس أرض الحجاز في يوم عاصف بريشتين، و نقل بحرين زاخرين بمنخلين، و غسل عبدين أسودين حتى يصيرا أبيضين أهون علي من طلب حاجة من لئيم لوفاء دين "، تقف بباب اللئيم ثم يردك، لذلك فالنبي عليه الصلاة و السلام ما سئل عن شيء فقال: لا، رجل وضع ثقته بك، والله كريم لا تخيب ظنه بك، هذا حياء الكرم.

النوع الثاني:

 أما حياء الإجلال فهو حياء سببه المعرفة بعظمة المستحيا منه، أي أنت طالب والأستاذ حضر عندك درس ومذاكرة فخجلت من مقامه، طلاب العلم المخلصين يستحيون ممن تفوَّق عليهم بالعلم، أن يتفلسفوا أمامه، أو يتطاولوا، والإنسان إذا كان عنده هذا الأدب لا يتجاوز حده مع من علَّمه، فهذا حياء الإجلال، والنبي عليه الصلاة و السلام قال:

((وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ قَلْبًا))

[ رواه أحمد عَنْ عَائِشَةَ]

 فكان أصحابه الكرام أمامه لا يتكلمون إجلالاً لمقامه العلمي، يقال: سكت إجلالاً لعلمك، أحياناً تجد رجلاً علمه قليل ومِن دون دقة، ومن دون دليل، من دون برهان، و بحضرة عالم جليل هو يتكلم خمس دقائق، ربع ساعة، نصف ساعة، وكلامه كله أغلاط، أو كله ضحالة، فالإنسان يجب أن يستحيي ممن تفوَّق عليه، أحيانًا طبيب ناشئ مع طبيب كبير، تاجر صغير فتح محلاً البارحة مع تاجر قضى أربعين سنة بالتجارة، ممرض أمام طبيب مثلاً، إنسان برتبة دنيا أمام إنسان برتبة عالية، الحياء دليل الإيمان، هذا حياء الهيبة والإجلال، الإنسان من الأكمل أمام من تفوّق عليه أن يقف بحياء، حياء المحبة، وهذا حياء المُحبِّ من محبوبه، فيستحي أن يسيء إليه لأنه يحبه.

النوع الثالث:

 وهناك حياء العبودية، حياء العبودية فيه محبة وخوف، رغباً ورهباً، يرجو ويخاف، يطمع برحمة الله ويخاف عقابه، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، هذا حياء العبودية يجب أن يجمع بين الخوف والرجاء، أمّا خوف فقط معه يأس، ورجاء معه تفلُّت، فربنا عز وجل قد يؤدِّب فاعلَه.
 مثلاً:
 يرى المؤمن حين تزداد ثقته بنفسه، وثقته بأن الله يحبه يتساهل قليلاً، إذا تساهل فالله عز وجل يحجبه، ينكمش لكنه يرجع بعد حين أكثر أدبًا، وحتى لا ييأس فقد يفتح الله عليه، أمّا التأديب فإنّ الله سبحانه وتعالى يقلبك من حال إلى حال، إذا كان حالك حال الثقة الزائدة مع التفلت يأتي الحجاب، حال اليأس مع القنوط يأتي الفتح، وعلى كلٍ حياء العبودية يجب أن يجمع بين الخوف والرجاء.

النوع الرابع:

 بقي حياء المرء من نفسه، الإنسان أحيانًا يكون في غرفته، والباب مقفل، والنوافذ كذلك، فإذا عمل عملاً لا يليق بمكانه كإنسان فيستحيي من نفسه ويتوقف، إذا نظف الإنسان نفسه تنظيفًا جيدًا فالنظافة احترام للذات، فالإنسان وحده لا يعبأ لأنّه لا أحد يراقبه، لكن ألاَ يستحيي من نفسه ؟ ألاَ يستحي من الله الذي يراه ؟.
 فهذا حياء الحشمة، قالوا: هذا الحياء سببه الاحتشام، وتَوِّقي إبداء ما يُطلَب منه الإخفاء، كلما كان أكثر حشمة فالحياء من النفس، حياء العبودية، حياء المحبة، حياء الإجلال، حياء الكرم، فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي قُرَادٍ قَالَ:

((خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْخَلاءِ وَكَانَ إِذَا أَرَادَ الْحَاجَةَ أَبْعَدَ))

[ النسائي ـ ابن ماجة ـ أحمد ]

 أخبرني إنسان سافر إلى بلد شرقي حينما كان ملتئم الشمل، وانتسب إلى جامعة من أكبر الجامعات هناك، طبعاً دخل في المدينة الجامعية، ففوجئ في أول يوم عطلة حين أراد أن يغتسل قال: صالون ضخم كلها منابع ماء، ويغتسل كل الطلاب ذكوراً وإناثاً عراةً مختلطين، المراحيض بصالون يضمُّ خمسين مرحاضًا ليس بين اثنين حواجز، إنهم وحوش، فإذا لم تستحِ فاصنع ما تشاء، أين نحن المسلمين، الحمد لله لدينا بقية حياء، بقية احترام للذات.
 عَنْ أَنَسٍ قَالَ:

((كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ الْحَاجَةَ لَمْ يَرْفَعْ ثَوْبَهُ حَتَّى يَدْنُوَ مِنَ الأرْضِ))

[ الترمذي ـ أبو داود ]

 أنا ألاحظ أناسًا يلبس أحدهم ثوبًا في الصيف يشمره إلى مكان عالٍ بلا سبب، يدَّعي أنه يتهوى، ويمشي في الطريق بلا حياء أبداً، وكان عليه الصلاة والسلام إذا دخل المِرفَق ـ دورة المياه ـ لبس حذاءه وغطى رأسه.

((وكان عليه الصلاة والسلام يغتسل من وراء الحجرات وما رأى أحد عورته قط))

[ وإسناد هذا الحديث حسن ]

 أيها الإخوة ؛ هذا حياء النبي، والمؤمن يستحيي، والحياء من الإيمان، والحياء والإيمان قُرِنا جميعاً، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر، وإذا أثبت الحياء أثبت الإيمان، وإذا نقضتَ الحياء نقضتَ الإيمان، وإذا أثبتَّ الإيمان أثبتَّ الحياء، والحياء لا يأتي إلا بخير، والحياء من لوازم الإيمان والحياء من الله، ألا يستحي أحدنا من الله عز وجل ؟ قال له: ابن آدم عظ نفسك فإذا وعظتها فعظ غيرك وإلا فاستحْيِ مني.
 شيء مخجل، وقاحة في الإنسان أنْ ينصح الناس ولا ينتصح، يأمرهم ولا يأتمر، ينهاهم عن شيء ثم يقترفه، هذا من الوقاحة ومن قلة الحياء، فاستحيِ من الله حق الحياء، أجل، حق الحياء:

((... وَلَكِنَّ الاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى وَلْتَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ))

[ الترمذي ـ أحمد ]

 إذًا الرأس وما حوى؛ العين والأذن واللسان، والبطن وما حوى ألاّ نأكل طعاماً حراماً، في الدرس القادم إنْ شاء الله ننتقل إلى عظيم مهابته صلى الله عليه وسلم.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور