وضع داكن
20-04-2024
Logo
الشمائل المحمدية إصدار 1995 - الدرس : 13 - كرمه - شجاعته
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

كرمه صلى الله عليه وسلَّم:

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ نحن مع الدرس الثالث عشر من شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم ، وقد وصلنا في الدرس الماضي إلى عظيم كرمه صلى الله عليه وسلَّم .
 أيها الإخوة الكرام ؛ بادئ ذي بدء المؤمن يبني حياته كلَّها على العطاء ، والكافر يبني حياته كلَّها على الأخذ ، فإذا أردت أن تعرف ما إذا كنت من أهل الدنيا ، أم من أهل الآخرة ، اسأل نفسك هذا السؤال : ما الذي يفرحك ؛ أن تعطي أم أن تأخذ ؟ أُقدِّم لكم مثلاً صارخاً من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم .
 النبي عليه الصلاة والسلام كان يوزِّع شاةً وكانت معه السيدة عائشة رضي الله عنها ، فلمَّا وزَّعها ، وكادت تنتهي ، يبدو أن السيدة عائشة أرادت أن يبقي لها شيٌ تأكله .
 فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها :

((أَنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَقِيَ مِنْهَا قَالَتْ مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلَّا كَتِفُهَا قَالَ بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا))

[ أخرجه الترمذي]

 فقبل أن نخوض في موضوع كرمه صلى الله عليه وسلَّم ، ما الذي يسعدك ؛ أن تعطي أم أن تأخذ ؟ ما الذي ترتاح له ، أن تبذل أم أن تغتصب ؟ أهل الإيمان يسعدهم العطاء ، يسعدهم البذل ، تسعدهم المؤاثرة ، وأهل الكفر يسعدهم أن يأخذوا ، وأن يغتصبوا ، وأن يعتدوا ، لذلك عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :

(( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَقَهُمْ عَلَى فَرَسٍ وَقَالَ وَجَدْنَاهُ بَحْرًا ))

[ رواه الشيخان ]

(( أحسن الناس ، وأجود الناس ، وأشجع الناس ))

 هذه الأوصاف الثلاثة هي أمهات الكمالات ، فهو أحسن الناس صورةً ومعنىً ، كان عليه الصلاة والسلام جميل الصورة ، وأخلاقه جميلة ، طيِّبة ، مريحة ، وكان أشجع الناس قلباً ، وهو أجود الناس ، وأنفعهم للناس ، هذا الجود الذي اتصف به النبي صلى الله عليه وسلَّم ، كما قال كتَّاب السيرة هو جودٌ لله تعالى ، وجودٌ في الله تعالى ، وجودٌ ابتغاء مرضاة تعالى ، هو في الله ، ولله ، وابتغاء مرضاة الله عزَّ وجل ، لذلك كانت مصارف جوده كلها في طاعة الله ـ أحياناً الإنسان ينفق المال لا في طاعة الله ، بل ينفق سخاءً و رياءً فهو سخاءٌ على عملٍ يرفعه عند الناس ـ لكن كانت مصارف جوده صلى الله عليه وسلَّم في الإنفاق على الفقراء والمساكين ، والإنفاق في سبيل الله وفي الجهاد ، وفي تأليف قلوب المؤلَّفة قلوبهم تمكيناً لهم وللمؤمنين ، إذاً تارةً ينفق في سبيل الله وفي الجهاد ، وتارةً ينفق إطعاماً للفقراء والمساكين ، وتارةً ينفق تأليفاً لقلوب ضعاف الإيمان وتأليفاً لقلوب أعداء الإسلام لعلَّهم يميلون إلى الإسلام .
روى الإمام مسلمٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ :

((مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ قَالَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَاقَةَ))

 دائماً يعطي ، لأنه كان يسعده السؤال .

لا تسألنَّ بُنيَّ آدم حاجــةً  وسل الذي أبوابه لا تُحجَبُ
الله يغضب إن تركت سؤاله  وبُنَيُّ آدم حين يُسأل يغضبُ
* * *

 أحياناً الإنسان يتضَجّر ، فمجرد سؤالين أو ثلاثة ، طلبين أو ثلاثة يتضجر ، و لو تزاحمت عليه الأسئلة لَخرج عن طوره ، لكن النبي صلى الله عليه وسلَّم كان يسعده السؤال ، هذه أخلاق النبي ، لذلك فالمؤمن صدره واسع ، يطرق الناس بابه صباحاً ، ومساءً ، وظهراً ، وفي القيلولة ، وقبل الفجر ، وبعد الفجر ، وفي ساعةٍ متأخرة من الليل يطلبون منه حاجاتهم ؛ قضايا ، وساطة ، معاونة .
 المؤمن الكامل يتسع صدره لكل هؤلاء ، المؤمن الكامل لا يَتَضجر ، و لا يتأفَّف ، لأن هذا الذي يطرق بابه إنما هو ضيفٌ ساقه الله إليه ، والله سبحانه وتعالى ينظر ماذا تفعل ، كيف تردَّه ؟ فالإنسان إذا طُرق بابه أو التجأ إليه أحد ، فالله عزَّ وجل بهذا يمتحنه ، والذي أرسله هو الله عزَّ وجل ، إذا كنت مَرْضيّاً عند الله عزَّ وجل ، وكنت قريباً منه ، تشعر أن الله أرسله إليك، أن الله دلَّه عليك ، أن الله سبحانه وتعالى جعله يأتيك لترقى إليه ، ولو تأفَّفت لصرفه إلى غيرك، لذلك هؤلاء الذين اختصَّهم الله بالنعم يُقِرُّهم الله عليها ما بذلوها ، وإذا منعوها صرفها إلى غيرهم، أحياناً يكون إنسان دخله جيد ، له إخوة بنات ، له أقرباء كلُّهم يطمعون به ، ما في مانع، بارك الله به ، فهو مظنة صلاح ، ومظنة كرم فلا يأس ، ولا حرج ، أختك طلبت منك ، أخوك طلب منك ساعدهما ، أختك الثانية ابنها يحتاج إلى عمليَّة فقالت لك : والله ما لنا غيرك يا أخي ، لا تضجر ، لأن الله عزَّ وجل قادر على أن يجعلك تقف على أبوابه .
هناك شيء لفت نظري ـ قصة قد ذكرتها لكم على ما أعتقد من قبل ـ رجل محسن قدَّم بيتاً بثمانية ملايين ليرة لجمعية خيرية ـ ليكون مشغلاً للخياطة ، وقد كان ـ فأعضاء الجمعية أرادوا أن يكرِّموه ، فأقاموا له وليمة ، حفل تكريم وطعام ، وبدأ الخطباء يتبارون في كَيْل الثناء على هذا المحسن الكريم ، لكن أعجبني أحد إخواننا الكرام عندما ألقى كلمة خاطب المحسن من خلالها ، وقال له : أنت أيها المحسن يا أبا فلان ـ و قد توفي من بعد رحمه الله ـ كان من الممكن أن تكون أحد الفقراء المنتفعين من جمعيتنا ، ولكن الله سبحانه وتعالى أعطاك فأعطيت ، فينبغي أن تشكر أنت ربَّك ، لا أن نشكرك نحن ، أن تشكر أنت ربك على أنه منحك فمنحت، وأعطاك فأعطيت ، ومكَّنك فبذلت .
 إخواننا الكرام ؛ و قد تجدون إنساناً لضعف إيمانه يفهم الأمور معكوسة ، إذا كان ضعيف الإيمان وأنفق ، يقول لك : يا أخي أنا أعطيتهم، وأنا أعطي من مالي ، أما إذا كان إيمانه قوياً يرى أن الله سبحانه وتعالى فضَّله ، وكرَّمه ، ومكَّنه من أن يعطي فيحمد الله على ذلك ، فقد كان من الممكن أن يكون ممن يُعْطَى ، فقيراً محتاجاً . أي أنك إذا أعطيت ، و إذا كانت يدك هي العُليا ، فاحمد الله كثيراً . إذ لم تكن يدك هي السفلى ..

﴿ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)﴾

[ سورة إبراهيم ]

 فالنقطة الدقيقة إذا كنت قد أعطيت يجب أن تذوب شكراً لله عزَّ وجل على أن مكَّنك من أن تعطي .
 روى الإمام مسلمٌ عن أَنَسٍ قَالَ :

((مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ قَالَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَاقَةَ))

 أنا لا أبالغ أيها الإخوة إذا قلت لكم : إن عدداً كبيراً جداً من المؤمنين آمنوا لا لأنهم اقتنعوا بحقائق الإيمان ، بل لأن مؤمناً أحسن إليهم ، فملك قلوبهم ، فآمنوا حباً به ، فممكن أن يكون العطاء سبب الإيمان .
 و أنا أذكر رجلاً كان يركب سيارة فاخرة جداً بين مدينتين ، رأى إنساناً يركب دراجة ، وقد قُطع جنزيرها ، فهو مقطوعٌ في قارعة الطريق ، هذا الرجل الذي يركب سيارة فارهة مؤمن، أوقف مركبته على يمين الطريق، ونزل وأعان هذا الإنسان على إصلاح دراجته لأنه يعرف كيف يصلحها ، قال لي : كنت أعمل من قبل في إصلاح الدراجات ، أصلحها له ، وجعله ينطلق إلى هدفه ، إصلاح هذه الدراجة كان سبب إيمانه ، وسبب توبته ، واستقامته ، فصاحب الدراجة أسره صنيع المعروف ، ورده إلى الصلاح والإيمان .
 العمل الصالح يلفت النظر ، العمل الصالح ؛ الإحسان ، العطاء ، الكرم يملك القلب ، وأنت لن تستطيع أن تدعو إلى الله إلا إذا أحسنت إلى الناس ، لذلك قالوا : القدوة قبل الدعوة ، والإحسان قبل البيان ، قبل أن تتكلَّم ، وتتفلسف ، وتشقِّق ، وتحلِّل ، وتأتي بالدليل ، وتشرح ، وتفصِّل ، قبل أن تفعل هذا مع الناس أحسن إليهم ، إنك إن أحسنت إليهم فتحت قلوبهم، وبعد أن تُفتح قلوبهم لك يفتحون لك عقولهم ، العقل يأتي بعد القلب.
 فصفوان بن أمية أعطاه النبي غنماً بين جبلين ، فرجع إلى قومه فقال :

((يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَاقَةَ))

 والنبي عليه الصلاة والسلام امتُحِن مرَّتين ؛ امتحن مرَّة بالفقر ، فعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ :

((يَا عَائِشَةُ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ قَالَ فَإِنِّي صَائِمٌ قَالَتْ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّةٌ أَوْ جَاءَنَا زَوْرٌ قَالَتْ فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّةٌ أَوْ جَاءَنَا زَوْرٌ وَقَدْ خَبَأْتُ لَكَ شَيْئًا قَالَ مَا هُوَ قُلْتُ حَيْسٌ قَالَ هَاتِيهِ فَجِئْتُ بِهِ فَأَكَلَ ثُمَّ قَالَ قَدْ كُنْتُ أَصْبَحْتُ صَائِمًا قَالَ طَلْحَةُ))

[ مسلم ]

 وامتحن مرَّةً بالغنى فلمَّا سأله أحدهم :

(( لمن هذا الغنم ؟ " قال : " هو لك " . قال : " أتهزأ بي ؟ " ، قال : " لا والله هو لك " ، قال : " أشهد أنك رسول الله تعطي عطاء من لا يخشى الفقر ))

كرم المؤمن يقينه القاطع .

 إخواننا الكرام ؛ أحد أسباب كرم المؤمن يقينه القاطع أن كل شيءٍ ينفقه يخلفه الله عليه.

﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)﴾

[ سورة سبأ ]

 اليقين القاطع بأن الذي تنفقه يأتيك عشرة أضعاف ، هذا الذي يجعلك تُعطي ، فهذا الكلام أقوله للدعاة إلى الله ، هناك أشخاص العطاء المادي يملك قلوبهم ، والمؤمن عنده هداية إنسان أغلى من الدنيا وما فيها ، فرضاً إذا ابنك سيلتزم الشرع بمبلغ من المال طلبه منك ، أنت الرابح، إذا كان سَيَلتزم بالدين إن زوَّجته ، فأنت الرابح ، إذا كان سيسلك طريق الإيمان إذا أمَّنت له بيتاً، فأنت الرابح ، الإنسان أغلى من كل شيء ، هدايته أغلى من الدنيا وما فيها ، فإذا ثبت لك أن هذا العطاء يسهم في هداية هذا الإنسان ، فأعطِ ، وأنفق ولا تخشَ من ذي العرش إقلالاً ، وظِّف المال في خدمة الخلق ، أهِن المال من أجل الحق ، لا تجعل المال يأسرك ، كن أنت سيده و آسره .
قال :

(( وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يوم حنينٍ أناساً من الطُلَقاء ليتألَّف قلوبهم على الإسلام ، أعطاهم مئةً من الإبل - أي عشرة آلاف - وكان من جملة من أعطى مالك بن عوف فامتدحه بقصيدة ))

 أنت قد تعجب أنه يعطي إنساناً عطاء كبيراً ؟‍! هذا الإنسان إذا أسلم ، وإذا اهتدى فهذا نصر وَ غُنمٌ كبيران ، لذلك فهداية إنسان قضية ليست من السهولة بمكان ، لو أنك التقيت مع أناس بعيدين عن الدين فمهما جئتهم بالأدلَّة ، والآيات الواضحة ، والحجج الواضحة ، والقصص المؤثِّرة، فهي كالكتابة على الماء ، فأن تجد إنساناً يلتفت إلى الله ، يلتزم ، يضع شهوته تحت قدمه فهذه بطولة ، فإذا كان ثمن هذه الهداية العطاء والبذل فما من مانع و كن معطاءً جواداً .
 فالمؤمن إخواننا الكرام مجنَّد في خدمة الحق ، مستعد ليبذل وقته ، وماله ، وإمكاناته ، وخبراته ، وعضلاته ، ووجاهته ، ومكانته ، وقلمه ، ولسانه ، في سبيل هداية الخلق ، وهذا الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلَّم .
 أذكر ، أنني كنت قد ذكرت لكم قصَّة : أن إنساناً دخل عند أخته فرأى أن هناك شجاراً بينها وبين زوجها ، واتسع الخلاف بينهما ـ و موضوع الشجار أنّ زوجها من أصحاب الدخل المحدود ـ وهي تطالبه بمبلغ شهري للإنفاق على بناتها ، هو يقول : المعاش كله للطعام وللشراب ، ولا يكفي ، هذا موضوع الخلاف ، وهذا الأخ الذي دخل بيت أخته ورأى هذا الشجار و هو ليس من الأغنياء ، لكن أراد أن يتقرَّب إلى الله فقال لها : يا أختي هذا المبلغ ـ ثلاثمئة ليرة عليّ ، خذيها مني أول كل شهر ، وأنهوا الموضوع . قال لي : والله كنت أول كل شهر أطرق الباب وأعطيها ثلاثمئة ، ما خطر في باله أبداً أن يكون هذا المال سبباً لهداية هذا البيت ، قال : بعد ستة أشهر من شدة الميل والمحبة قيل له : يا أخي خصص لنا وقتاً لدرس أسبوعي .
 بدأ يقوم بدرس أسبوعي لأخته وبنات أخته وأولاد أخته ، قال لي : آية قرآنية ، حديث شريف أشرحه لهم ، حكم فقهي ، تلاوة قرآن ، وتجويد ، كل جمعة ، الله عزَّ وجل بعد حين تحجبت بنات أخته ، و لم يلبثن حتى أكرمهن الله عزَّ وجل و أكرمه بتزويجهن بشبابٍ مؤمنين .
 قلت : سبحان الله ! ثلاثمئة ليرة بالشهر على ستة أشهر سبب هداية أسرة بأكملها ؟! فلا تبخل أيها المسلم ، أحياناً يكون عندك صانع ، وأنت ميسور، و يتقاضى أجارته وهذا صحيح ، له بالشهر خمسة آلاف ، و بعد حين أراد أن يتزوج ، فأعطه في هذا الشهر خمسة وعشرين ألفاً، عليه نفقات باهظة ؛ غرفة نوم ، وغرفة ضيوف ، وصيغة ، ومَهر . يا أخي ليس له عندي أي حق، و أنا أعطيته كل حقه . إعطاؤه حقه ، هذا العدل ، و لكن أين الإحسان ؟ .

﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)﴾

[ سورة النحل ]

 ألا تريد أن يميل قلبه لك ؟ ألا تريد أن يميل قلب هذا الموظف لسيده ؟ ألا تريد من هذا الموظَّف لو قال له سيده : صلِّ ، أن يصلي ؟ لو قال له : تعال معي إلى درس العلم أن يأتي معه ؟ بالبر يستعبد الحر ، فأنا لا أفهم الدين مجرد كلام ، إذا فهمنا : " الدين كلام ويظل كلاما" ، فالصحابة الكرام ما رأوه كلاماً بل رأوه بذلاً ، فأنت بصراحة إذا كنت تطمع بهداية الناس ، يجب أن تعطي من مالك ، من وقتك ، من جهدك ، فلا تستصغر معروفاً ، لعلَّ هذا المعروف يكون سبب هداية أسرة ، والأسرة تجر أسرة، أحياناً تجد شخصاً آمن بِيُسْر ، فسبحان الله ! واستقام والتزم ، جرَّ كل من حوله ، يقول لك : فلان أخي ، أهلاً وسهلاً ، هذا صهرنا ، أهلاً وسهلاً ، الثالث هذا ابن أختي ، أهلاً وسهلاً ، كل يوم يأتي بواحد لأنه محسن ، ليست هذه قضية حكي ، فالكلام قد ملَّ منه كل الناس ، نقولها بصراحة ، وشبعوا منه ، فهناك حكي يملأ الأرض، الناس يريدون فعلاً ، يريدون مسلماً ، لا يريدون من يحدِّثهم عن الإسلام بل يريدون مسلماً حقاً ، يريدون مسلماً يبذل ، مسلماً ملتزماً ، مسلماً مطبِّقاً ، مسلماً محباً ، مسلماً صادقاً ، مسلماً أميناً ، مسلماً وفياً ، هذا الذي يؤثِّر في الناس .
 وروى الترمذي عن سعيد بن المسيِّب عن صفوان بن أمية أنه قال :

((لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ما أعطاني ، وإنه لأبغض الناس إلي ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي))

 هذا مصداق ما قلته قبل قليل ، فأنت تستطيع بمالك وحده أن تقنع الناس بالهدى ، والله الذي لا إله إلا هو لا أغبط إنساناً كما أغبط إنساناً غنياً مؤمناً ، بإمكانه بهذا المال أن يصل إلى أعلى عليين ، بإمكانه بهذا المال أن يكون أكبر داعية في الأرض ، أحياناً الإنسان الفقير لا يحتاج إلى إقناع ، يحتاج إلى دراهم ليحل مشاكله ، إذا أنت أمَّنت لإنسان بيتاً ، أمَّنت له زواجاً ، أمَّنت له عملاً ، انتعش ، أكل ، لبس ، تزوَّج ، صار له بيت ، فبهذا أنت ملكت قلبه ، أنت شيخه .
 والله مرَّة ذكر لي شخص قصَّة ، إنسان يعمل في تجارة الساعات ، قال لي : أفلست ، له أخ هكذا قال لي ـ و أنا لا أدري الحقيقة ـ : والله أخي حجمه المالي مئتا مليون هكذا قال ، و ما قدَّم لي شيئاً ، ولا أمدني و لو بليرة ، ولا مساعدة ، ولا مواساة ، قال لي : فسافرت إلى بلد مجاور ـ لبنان ـ و تعرفت على تاجر ساعات كبير ، قال لي : من كثرة تأثري حكيت له القصَّة فبكيت أمامه . قال : أتبكي ؟! ثم طيب خاطري : و بعثني إلى فندق من أفخر فنادق لبنان، وقال له : ابق فيه يومين أو ثلاثة حتى ترتاح ، وبعد ذلك تعال ، فأقمت في الفندق على شاطئ البحر وكان معي زوجتي .
و بعد يومين ذهبت إليه ـ والقصة من اثنتي عشرة سنة ـ فقال له : هذه خمسون ألفاً لترمِّم نفسك بها ، وهذه كمية ساعات بمئة ألف ، وارجع ، واعمل ، ثم قال : والله أنام ، وأراه في المنام ، و في النهار لا يغادر ذهني إطلاقاً ، و قال أخيراً : أحببته أكثر من أقرب الناس إلي.
 الإنسان عبد الإحسان ، أنت إذا أردت هداية الناس لا تحكِ كثيراً بل افعل كثيراً ، اخدمهم، حل مشاكلهم ، أعطهم ، عاونهم ، ساعدهم ، الصحابة الكرام كان أحدهم يرى أنه ما له حق من الدنيا إلا بحاجاته الأساسيَّة ، وما سوى ذلك فبإمكانه أن يحل آلاف المشكلات ، فهل من المعقول عُرس يكلِّف عشرين مليوناً ، و تجد عشرين ألف شاب لا يجدون غرفة يسكنون فيها ، أمعقول هذا ؟! أنا والله كما قلت قبل قليل : أغبط إخواننا الأغنياء المؤمنين على أنهم يستطيعون بمالهم أن يمسحوا الدموع عن آلاف الأسر ، و يقدر بماله أن يرقى كل يوم سبعين درجة ، المال يجب أن تبذله في الحق ، أن توظِّفه في الحق :

((أنفق بلالاً ولا تخش من ذي العرش إقلالاً))

[ من أحاديث الإحياء عن أبي هريرة "]

 وهذا الذي قال عن رسول الله :

((لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إلي ، فبما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي))

 أنا أقسم لكم بالله أنك إذا تألَّفت قلباً قاسياً ، شارداً ، جافياً بالمال لان القلب ، لا تنسوا هذه الكلمة :

(( بالبر يستعبد الحر ))

 قد يقول أحدكم : أنا لست غنياً ، إذاً استمعوا لهذا الحديث الثاني :

((إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم))

[ الجامع الصغير ]

 ألا تستطيع أن تكون باش الوجه ، ليِّن الجانب ، لين العريكة متواضعاً ؟ ألا تستطيع أن تعاون إنساناً بجهدك ، بخبرتك ؟ قال لك : أنا لا أعرف كيف أشتري غرفة نوم ، قل له : على عيني ، أنت خبير ، انزل معه مرتين ، ثلاثاً ، أربعاً على سبعة أيام ، در معه ، وانتقِ له غرفة نوم سعرها مناسب ، وجيدة لأنك نجَّار وتعرف ، هذا الوقت كله صدقة ، ليس شرطاً أن تكون الصدقة مالاً ، تصدَّقت بوقتك ، بخبرتك ، أحياناً بجاهك ، قال لك : فلان صاحبك وأنا مضطر و لي عنده حاجة ، وهو يرفض أن يلبيها لي ، فامشِ معه .
 لا تنسوا إخواننا الكرام أن سيدنا ابن عبَّاس ابن عم رسول الله كان معتكفاً في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام ، جاءه رجل يشكو ديناً ركبه، قال له : " من صاحب الدين ؟ " قال : فلان . قال : " أتحب أن أكلِّمه لك؟ " قال : إذا شئت ، قام سيدنا ابن عباس المعتكف ، نسي اعتكافه ، فقال له واحد فضولي : أنسيت أنك معتكف ؟ قال له : " لا . ولكني سمعت صاحب هذا القبر والعهد به قريب .. يقول :

(( لأن أمشي مع أخٍ في حاجته خيرٌ لي من صيام شهرٍ واعتكافه في مسجدي هذا ))

 عندما نفهم الدين خدمة ، وبذلاً ، وتضحية ، ومؤاثرة ، فالله يحبنا جميعاً ؛ وإذا فهمنا الدين شعائر ، عبادات نؤديها جوفاء نزهو بها ، ولا نطلع عن الضربة ـ بالتعبير العامي ـ عندئذٍ لا يرضى الله علينا ، الحياة تعاون ، الله قال :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)﴾

[ سورة المائدة ]

 لا تظن أن الناس متعلقون بالدين لأن الدين حق ، فالدين هو حق ، لكن أبلغ من أنه حق ، عندما التقى المؤمن بالمؤمنين و رأى البذل ، والتضحية ، والاهتمام ، والخدمة ، والحرص ، والأنس ، فسُر و انخرط في صفوفهم راضياً .
 وفي مغازي الواقدي أن صفوان طاف معه صلى الله عليه وسلَّم يتصفَّح الغنائم يوم حنين ، إذ مرَّ بشعبٍ مملوءٍ إبلاً وغنماً فأعجبه ، فجعل ينظر إليه ، فقال عليه الصلاة والسلام : " أعجبك هذا الشعب يا أبا وهب؟". قال : " نعم " ، قال : " هو لك بما فيه" ، فقال صفوان : " أشهد أنك رسول الله ما طابت بهذا نفس أحدٍ قط إلا نفس نبي " ، و بعد فهل من الممكن في زماننا أن يقول لك شخص : أخي هذا البيت كله لك ؟‍‍! فما هذا الكلام ؟!! يقول الناس عندئذٍ : أعطهِ هدية ، أعطهِ مبلغاً من المال ألفاً ألفين مثلاً ، يمكن أن تعطيه شيئاً يلبسه ، أو تعطيه ثمنَ طعامِ شهرٍ ، أما هذا بيت فخذه ، هذا فوق مستوى الأشخاص الآن ، أما النبي قال له : " خذه " ، قال : " ما طابت بهذا نفس أحدٍ قط إلا نفس نبي " ، فالإنسان عندما يقدِّم شيئاً ثميناً جداً عن طيب نفس ، وعن سماحة نفس ، وعن شعور بخدمة الخلق ، قال العلماء : فهذا الذي يرفع الإنسان .
 وكان عليه الصلاة والسلام من أجود الناس ، فَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ :

((مَا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ قَطُّ فَقَالَ لَا))

[ متفق عليه]

 وروى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلَّم :

(( حُمِل إليه تسعون ألف درهم ، ووضِعت على حصيرٍ ثم قام إليها يقسمها ، فما ردَّ سائلاً حتى فرغ منها ))

 إخواننا الكرام ؛ الإنسان إذا دعا إلى الله عليه أن يكون خبيراً بالنفوس ، فالنفس تحب من أحسن إليها ، وفي الأثر القدسي :

(( يا داود ذكِّر عبادي بإحساني إليهم فإن النفوس جُبلت على حب من أحسن إليها ))

 وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

(( أَنَّ نَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ ))

[ متفق عليه]

 إذا تعفَّفت يعفَّك الله ، إذا استغنيت يغنِك الله ، إذا تصبَّرت يصبِّرك الله ، و هنا أشعر أننا انتهينا إلى الطرف الثاني ـ الطرف الآخذ ـ قال : احتجْ إلى الرجل تكن أسيره ، واستغنِ عنه تكن نظيره ، وأحسن إليه تكن أميره .
 و إذا أحب شخص أن يتعفَّف فالله يعفَّه ، أي يغنيه من فضله ، و إذا أحب أن يتصبَّر ، فالله يصبِّره ، و إذا أحب أن يستغني ، فالله يغنيه ، كذلك شخص أخذ ، ما في مانع ، فالأخذ مقبول .
 وكان عليه الصلاة والسلام كريم النفس ، يكرِّم السائل بنفسه ـ خذوا أعطوه ـ كان عليه الصلاة والسلام ينهض ، ويتوجَّه نحو الفقير ، ويعطيه بيده ، هذا تكريم للفقير ، لا يكفي أن تعطيه ، و تكون آمراً الطرف الآخر أن يعطيه : أعطوا ، أعطوا ، بل بنفسك أعط ، بيدك أعط، تحرَّك إلى الفقير ، كان عليه الصلاة والسلام يُكْرِم السائل بنفسه ، ولا يأنف أن يقوم إلى السائل فيعطيه الصدقة ، بل كان لا يَكِلُ صدقته إلى غير نفسه حتى يكون ، فهو الذي يضعها في يد السائل ، معنى ذلك أن إنفاق المال بيدك فضيلة .
 وروى ابن ماجة عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :

(( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَكِلُ طُهُورَهُ إِلَى أَحَدٍ وَلَا صَدَقَتَهُ الَّتِي يَتَصَدَّقُ بِهَا يَكُونُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّاهَا بِنَفْسِهِ ))

 فإذا جلس الإنسان مع فقير ، و تناول معه الطعام فهذا تواضع من جهة و جبر لخاطر الفقير من جهة أخرى ، حدَّثني أخ ، سبحان الله ! يوم أن كان طفلاً صغيراً يعمل في معمل ، لرجل صالح ، هذا الطفل فقير ، ويتيم ، ولا يملك من الدنيا شيئاً ، قال لي : تعطيني والدتي بطاطا مسلوقة ، ورغيف خبز بمحرمة ، كان صاحب المعمل كل يوم يجلس مع عاملين أو ثلاثة، يا ابني أين أكلك ؟ تعال لِتأكل معي ؟ قال له : آكل معك شرط أن تأكل معي ، يضع البطاطا المسلوقة ، والثاني يحضر طعاماً نفيساً ، يأكل كل يوم مع عاملين أو ثلاثة لتأليف قلوبهم، يكرمه ، عيديَّة ، و بمبلغ إضافي ، و الإنسان يسعد بالعطاء ، أنا أحياناً أغبط أصحاب المعامل ، عندك اثنا عشر عاملاً هؤلاء زادك إلى الله ، ممكن أن تصل للجنة عن طريقهم ، اخدمهم ، اعتنِ بهم ، تفقَّد أحوالهم ، كيف أوضاعهم في البيوت ؟ يا ترى أهم متزوجون ؟ أم غير متزوجين ؟ جاءهم أولاد ، أعنده حالة ولادة ؟ من الممكن لِلْإنسان أن يصل إلى الجنة عن طريق عُمَّاله ، للجنة عن طريق موظفيه ، للجنة عن طريق أولاده ، عن طريق جيرانه ، عن طريق أصحابه .
 سيدنا الصديق وما أدراكم ما الصديق ، " ما طلعت شمسٌ على رجلٍ بعد نبيٍ أفضل من أبي بكر" ، ومع ذلك كان يحلب الشياه لجيرانه بنفسه ، خدمة لهم ، فلما صار خليفة ، أمعقول ؟ بعد أن أصبح خليفة المسلمين يحلب الشاة للجيران ، طُرق باب أحد جيرانه في صبيحة اليوم التالي لتسلُّمه الخلافة ، قالت الأم لابنتها : يا بنيتي افتحي الباب . ثم قالت : من الطارق يا بنيتي ؟ قالت : جاء حالب الشاة يا أُماه ، ما استأنف ، ما استنكفت نفسه ، ما ترفَّعت نفسه عن حلب الشاة لجيرانه !! أنت تبقى عظيماً جداً إذا خدمت الناس . قالت : يا أمي جاء حالب الشاة . سيدنا الصديق ذهب ليحلب شياه جيرانه المساكين الفقراء .
 وروى ابن سعدٍ عن زياد مولى عيّاش عن أبي ربيعة قال :

(( خصلتان كان عليه الصلاة والسلام لا يكلهما لأحد ؛ الوضوء من الليل حين يقوم ، والسائل يقوم صلى الله عليه وسلَّم حتى يعطيه بنفسه ))

 وفي سنن أبي داود والبيهقي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْهَوْزَنِيِّ قَالَ لَقِيتُ بِلَالًا مُؤَذِّنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَلَبَ فَقُلْتُ يَا بِلَالُ حَدِّثْنِي كَيْفَ كَانَتْ نَفَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

((مَا كَانَ لَهُ شَيْءٌ كُنْتُ أَنَا الَّذِي أَلِي ذَلِكَ مِنْهُ ـ أي أنا المتولي أمر مال رسول الله ـ مُنْذُ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ وَكَانَ إِذَا أَتَاهُ الْإِنْسَانُ مُسْلِمًا فَرَآهُ عَارِيًا يَأْمُرُنِي فَأَنْطَلِقُ فَأَسْتَقْرِضُ فَأَشْتَرِي لَهُ الْبُرْدَةَ فَأَكْسُوهُ وَأُطْعِمُهُ ...))

 كان النبي يقترض ليكسو مسلماً عارياً ، أجل يقترض ، والله أنا أعرف بعض المؤمنين جزاهم الله خيراً ، لشدة حرصهم على العطاء ، إن لم يكن معهم ، وحدث أمر ضروري جداً فإنه يقترض ويعطي .
 وروى الترمذي عن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه ، أن رجلاً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلَّم فسأله أن يعطيه ، فقال النبي عليه الصلاة والسلام : " ما عندي شيء ولكن ابْتَعْ عليّ ـ دين علي ـ فإذا جاءني شيءٌ قضيته " ، قال عمر : " يا رسول الله قد أعطيته فما كلَّفك الله ما لا تقدر عليه". فالله ما كلَّفك أن تقترض وتعطي ، فكره النبي صلى الله عليه وسلَّم قول عمر ـ تضايق منه ـ فقال له رجل من الأنصار : " يا رسول الله أنفق ولا تخشَ من ذي العرش إقلالاً " ، فتبسَّم النبي صلى الله عليه وسلم ، وعُرف في وجهه البشر لقول الأنصاري ، ثم قال : " بهذا أُمرت " .
 أحياناً الإنسان يضع سكاكر في جيبه ، و كلَّما رأى شخصاً يعطيه سكرة ، و يعطي ابنه المرافق سكرتين ، العطاء لو كان قليلاً فاسمه عطاء ، يورث مودة ، و محبة ، و سروراً ، أحياناً الإنسان يعطي شيئاً قد يكون قليل القيمة لكن معناه كبير ، لذلك فالمؤمن لا ينظر إلى قيمة الشيء بل ينظر إلى المعنى الذي قُدِّم هذا الشيء من أجله .
عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ :

((مَا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ قَطُّ فَقَالَ لَا))

[ متفق عليه]

 وفي الصحيحين عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :

((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ))

[ متفق عليه]

 لذلك ، يتضح مما سبق أن النبي صلى الله عليه وسلَّم لا يُجَارى في كرمه ، ولا يُساوى بل ولا يدانى ، ولقد بلغ من كرمه صلى الله عليه وسلَّم أنه كان ينفق المال مرةً للفقير والمحتاج، ومرةً في سبيل الله والجهاد ، وتارةً يتألَّف به فيعطي عطاءً تعجز الملوك عنه ، حتى لا يبقى عنده قوت ليلة ، فيطوي جائعاً هو وأزواجه كلُّهن ، وقد اخترن ذلك لمَّا خيرهن الله جلَّ جلاله ، فالله عزَّ وجل خيَّر زوجات النبي بين أن يسرحهن سراحاً جميلا ، وبين أن يصبرن كما يصبر النبي ، والحياة ماضية ، و يبقى الخير وتذهب المتاعب ، وتبقى التبعة وتذهب الملذَّات .
 انظروا إخواننا الكرام مهما تمتعت بالحياة ، هذه المتع كلها تُنسى ، وتبقى التبعات ، ومهما تعبت في الحياة هذه المتاعب تنسى ، ويبقى الأجر والثواب من الله عزَّ وجل .
 عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :

((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ))

[ متفق عليه]

 وقد علَّقت تعليقات عديدة على هذا الموضوع من أنه بإمكانك أن تجعل من مالك أداةً في تعريف الناس بالله .
 تعليق آخر وأخير : والله الذي لا إله إلا هو لو أنك أنفقت المال في سبيل تليين قلوب الناس وتأليفهم ، وفي سبيل ربطها بهذا الدين ، والله الذي لا إله إلا هو لَزوال الكون أهون على الله من أن يجعلك فقيراً بعد هذا العطاء ، الله كريم ، تنفق من أجل أن تؤلِّف القلوب ، من أجل أن تنهض بالنفوس ، من أجل أن تُلَيِّن النفوس ، وتبقى أنت فقيراً ؟! لا ، ثم لا ، قد ينفق الرجل مالاً و تقول له الشركة : على حسابنا ، قيده على حسابنا ، أحياناً ينفق الإنسان عينات للدعاية فيعطونه حساباً خاصاً لتوزيع المساطر، فإذا كانت شركة عادية ، وأنت روَّجت بضاعتها حُسِمت لك هذه المبالغ ، و سجلت على حساب الشركة ، فكيف إذا روَّجت الحق للناس عن طريق المال ؟ هذا شيء بدهي .

شجاعته صلى الله عليه وسلَّم .

 ومن عظيم شجاعته صلى الله عليه وسلَّم قال سيدنا علي رضي الله عنه في وصف النبي :

((كان عليه الصلاة والسلام أجود الناس صبراً ، وأشجعهم قلباً ، وأصدقهم لهجةً ، وألينهم عريكةً ، وأكرمهم عشرةً ، وكان صلى الله عليه وسلم إذا اعترت الصحابة المخاوف أسرع بنفسه إلى كشفها وإزالتها))

 فالحقيقة أن السيطرة على قلوب الناس لها أسلوبها ؛ فهناك سيطرة ماديَّة ، قد تكون أنت أقوى منهم من حيث السُلطة ، أنت رئيس هذه الدائرة ، هذه سلطة مادية لكن لن تستطيع أن تكون سيَّدهم حقيقةً إلا إذا تفوَّقت عليهم ، فرضاً مدير مستشفى ، قد يكون طبيباً عادياً ، و عنده أطبَّاء كبار، في نظام هذه المستشفى هو المدير وأمره هو النافذ ، وبإمكانه أن يعاقب ويكافئ ، لكن هؤلاء الأطباء الكبار الذين معه هو ليس عندهم مديراً ، هم أقوى منه في علمهم ، وفي خبرتهم ، وفي مهارتهم ، أما لو تصورنا مدير المستشفى هو أعلى طبيب في المستشفى من حيث الخبرة الفنيَّة ، فهو عندئذٍ حقاً مدير المستشفى فعلاً قلباً وقالباً .
 فالنبي الكريم اللهم صلِّ عليه ما أحبَّه أصحابه لأنه رسول فقط ، أو لأنه جاء بالقرآن ، بل لأنه كان بكل الكمالات البشريَّة متفوِّقاً ، فالشجاع إزاءه صغير ، والكريم إزاءَه صغير ، والحليم كذلك إزاءه صغير ، تفوق في كل مكارم الأخلاق ، فأحياناً إنسان يحضر مجلس علم ، وهو مختص اختصاصاً عادياً ، وتطرح في الدرس قضية في اختصاصه بسيطة ، فتكلَّم الأستاذ، ولكن هذه فكرة بسيطة ، وهو يرى نفسه أقوى ، لكن لو أنه فرضاً ـ وهذا الشيء مستحيل الآن ـ أن هذا الداعية يتكلَّم بكل اختصاص ، بشكل يبدو أنه أعلم من أصحاب الاختصاص ؟! فهم يتحجَّمون كلهم ، يقول لك : هذا مثل الزبديَّة الصيني ـ مثلاً ـ فأنت لا تقدر تسيطر بالسلطة ، بل تسيطر بالتفوق ، فتفوق النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي جعل أصحابه يخضعون إليه ، تفوق بالكمال بكل أنواعه ، أحياناً تجد شخصاً له مكانة عليَّة جداً ، عندما يكون في خطر تجده يرتجف ، فبهذا انتهى عند مرؤوسيه ، إذا رجف انتهى ، فسيدنا النبي كان شجاعاً.
عَنْ أَنَسٍ قَالَ :

((كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَانْطَلَقَ النَّاسُ قِبَلَ الصَّوْتِ فَاسْتَقْبَلَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَبَقَ النَّاسَ إِلَى الصَّوْتِ وَهُوَ يَقُولُ لَنْ تُرَاعُوا لَنْ تُرَاعُوا وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ فِي عُنُقِهِ سَيْفٌ فَقَالَ لَقَدْ وَجَدْتُهُ بَحْرًا أَوْ إِنَّهُ لَبَحْرٌ))

[ رواه الشيخان ]

 سُمعت أصوات مخيفة ، لَعلَّهُ غزوٌ مفاجئ ، لعلها غارة صاعقة ، فهم خافوا ، فخرجوا ، فإذا بالنبي قد استطلع الخبر وعاد على فرسٍ عريٍّ وفي عنقه سيف وقد استطلع الخبر وقال :

((لَنْ تُرَاعُوا لَنْ تُرَاعُوا))

 كان اللهمَّ صلِّ عليه شجاعاً .
 وقال ابن عمر رضي الله عنهما :

(( ما رأيت أشجع ، ولا أنجد ، ولا أجود ، ولا أرضى من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلَّم إذا ألمَّت بهم الملمَّات وأحاطت بهم المخاوف لاذوا بجنابه الرفيع ، واحتموا بحماه المنيع صلى الله عليه وسلَّم ))

 سبحان الله ! وقال سيدنا علي كرَّم الله وجهه : " كنا ـ أي معشر الصحابة ـ إذا حمي البأس أو اشتد البأس واحمرَّت الحدق اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، فما يكون أحدٌ أقرب إلى العدو منه " ، حتى في الحرب هو الأول ، أقرب إنسان للعدو هو رسول الله ، كان أصحاب النبي يحتمون به من بأس العدو .
 بالتعبير العامي شيء يكسر العين ، بالكرم كريم ، بالشجاعة شجاع ، بالحلم حليم ، بالشدة شديد ، بالعلم عالِم ، بالحلم حليم قال : " ولقد رأيتني يوم بدرٍ ونحن نلوذ بالنبي صلى الله عليه وسلَّم وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس يومئذٍ بأساً على الأعداء " .
 أما يوم حنين ـ كما تروي كتب السيرة ـ والله عزَّ وجل قال :

﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)﴾

[ سورة التوبة ]

 في يوم حنين وقد ألقى الله الرعب في قلوب الصحابة ، لأنهم قالوا : " لن نغلب من قلَّة " ، فاعتدّوا بقوَّتهم ، فعَنْ أَبِي إِسْحَقَ قَالَ قَالَ رَجُلٌ لِلْبَرَاءِ :

((يَا أَبَا عُمَارَةَ أَفَرَرْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَالَ لَا وَاللَّهِ مَا وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّهُ خَرَجَ شُبَّانُ أَصْحَابِهِ وَأَخِفَّاؤُهُمْ حُسَّرًا لَيْسَ عَلَيْهِمْ سِلَاحٌ أَوْ كَثِيرُ سِلَاحٍ فَلَقُوا قَوْمًا رُمَاةً لَا يَكَادُ يَسْقُطُ لَهُمْ سَهْمٌ جَمْعَ هَوَازِنَ وَبَنِي نَصْرٍ فَرَشَقُوهُمْ رَشْقًا مَا يَكَادُونَ يُخْطِئُونَ فَأَقْبَلُوا هُنَاكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَقُودُ بِهِ فَنَزَلَ فَاسْتَنْصَرَ وَقَالَ أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ ثُمَّ صَفَّهُمْ))

[ متفق عليه]

 وهذه نقطة مهمة جداً : لو كان النبي يدعي النبوة لكان في حنين ولَّى هارباً، أما لأنه نبيٌ صادق ، و هو واثق من نصر الله له فهو ثابت في أرض المعركة ، أحياناً الإنسان يتكلَّم كلاماً هو ليس قانعاً به ، أما إذا صار على المِحَك .. لو فرضنا مثلاً صنع دواء غير واثق من فعاليته، وغير واثق من سلامته ، وأراد أن يبيعه للناس ، وروَّجه ، و قال له واحد : استعمله أنت . فإذا رفض ، فمعنى ذلك أنه غير واثق به ، استعمله أنت ، فعندما أقدم النبي اللهم صلِّ عليه والموت محقق ، لولا أنه نبيٌ صادق لما أقدم ، و لولى هارباً ، قال : " أنا النبي لا كذب ـ أي ليست نبوتي كذباً ـ أنا ابن عبد المطلب " .
 وروى البيهقي في الدلائل عن عروة بن الزبير:

((أن أُبَيَّ بن خلف المشرك قال يوم أحد : أين محمد لا نجوت إن نجا ". قال : " وقد كان أبيّ يقول للنبي صلى الله عليه وسلَّم حين افتدى يوم بدر: " عندي فرسٌ أعلفها كل يومٍ فرقاً ـ أي مكيالاً كبيراً ـ من ذرةٍ لأقتلك عليها" ، فقال عليه الصلاة والسلام : " أنا أقتلك إن شاء الله ))

 هذه الثقة ـ
 فلما رأى أبيُّ النبيَّ صلى الله عليه وسلَّم يوم أحد ، شدَّ أبي بن خلف على فرسه ، يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، فاعترضه رجالٌ من المسلمين ، فقال عليه الصلاة والسلام هكذا :

(( تنحوا ولا تحولوا بيني وبين أبيّ بن خلف ))

 وتناول النبي الحربة من الحارث بن الصمَّة الصحابي ، فانتفض النبي بها انتفاضةً ـ أي قام بالحربة قومةً سريعةً ـ تطايروا ، أي أبيّ بن خلف ومن معه من الكفار ، تفرقوا فارِّين بسرعة كالطيور ، ثم استقبل النبي أبيّ بن خلف بالحربة ، فطعنه في عنقه طعنةً تدأدأ ـ أي سقط ـ منها عن فرسه مراراً . وقيل : بل كُسر ضلعٌ من أضلاعه ، فرجع أبيّ بن خلف إلى قريش وهو يقول : " قتلني محمد " ، وهم يقولون : " لا بأس بك " فقال لهم : " لو كان ما بي من الألم والشدة لجميع الناس لقتلهم ، أليس قد قال : أنا أقتلك ، والله لو بصق علي لقتلني".
 ثم مات أبي بن خلف بشرفٍ في قفولهم إلى مكة ، أي حين رجعوا إلى مكة . ما أشقى هذا الإنسان الذي أراد أن يقتل النبي ، قال له :

(( أنا أقتلك إن شاء الله ))

 و قال أبيّ : " لو بصق عليَّ لقتلني " .
 أيها الإخوة ؛ تحدَّثنا اليوم عن الشجاعة والكرم ، والمؤمن كريم وشجاع اقتداءً بالنبي عليه الصلاة والسلام ، كريم لأنه يعلم علم اليقين أن أي شيءٍ ينفقه يخلفه الله عليه ، وشجاع لأنه يعلم علم اليقين أن الأمر كلَّه بيد الله ، وأن الله مع المؤمنين ، وهذه الثقة التي يثق بها المؤمن بربه هي أثمن ما في إيمانه ، الثقة بالله عزَّ وجل ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :

(( والثقة كنز))

 وفي درسٍ قادم ننتقل إلى صبره صلى الله عليه وسلَّم على أذى المشركين ، وتحمُّله الشدائد في سبيل الله تعالى .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور