وضع داكن
18-04-2024
Logo
الشمائل المحمدية إصدار 1995 - الدرس : 04 - أرجحية عقله الشريف على سائر العقول
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام ؛ مع الدرس الرابع من دروس شمائل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وموضوع درس اليوم أرجحيَّة عقله الشريف صلَّى الله عليه وسلَّم على سائر العقول.
 أيها الإخوة الكرام ؛ بادئ ذي بدء ما من نعمةٍ أعظم ولا أجل ينعم الله بها على عبده كنعمة العقل، بل هي أعظم نعمة على الإطلاق، وبالمناسبة الإنسان أعقد كائن في الكون، وأرقى مخلوق، وهو المخلوق الأول، والمخلوق المكرَّم، والمخلوق المكلَّف، وأعقد ما فيه عقله، فمن نعمة الله العُظمى أن يمنح الله العبد عقلاً راجحاً..

((أرجحكم عقلاً أشدُّكم لله حبَّاً))

 هذا العقل الراجح من لوازمه أن يعرف الله، ومن لوازمه أن يحب الله.
 وهنا نقطة أحب أن أعالجها قبل أن أخوض في الموضوع، قد تجد إنسانًا يحمل شهادة عالية ولا يصلي، ويشرب الخمر، وقد يزني، فكيف نوفِّق بين رجاحة العقل، وبين طاعة الله عزَّ وجل ؟ هذا الموضوع بعض العلماء حلَّه على الشكل التالي: فرَّق بين العقل والذكاء، فالذكاء متعلِّق بالجُزئيات، وأما العقل فمتعلِّق بالكُليات، فالذي يعرف الله سبحانه وتعالى، ويعرف سر الحياة، ويعرف رسالة الإنسان في الحياة هو العاقل، أما الذي يختص باختصاص ضيِّق، ويبدع فيه، ويتفوَّق فهذا ذكي، فالذكاء صفةٌ متعلِّقةٌ بالجزئيات، فلانٌ ذكيٌ فيما هو فيه، ذكيٌ في اختصاصه، وقد يكون بعض المجرمين في أعلى درجات الذكاء، لأنهم يخطِّطون بشكلٍ عجيب، فهل هم عقلاء ؟ لا، إطلاقاً، فالعقل من خصائص المؤمن..

((أرجحكم عقلاً أشدُّكم لله حبًّا))

 وسوف ترون معي بعد قليل أنه ما من مخلوقٍ على وجه الأرض أعقل من رسول الله، لأن العقل هداه إلى الله، ولأن العقل هداه إلى أن يحبَّه، وإلى أن يُخلص له، وإلى أن يجعل حياته كلها في مرضاته، لذلك استحقَّ هذا المقام المحمود.
 أيها الإخوة الكرام ؛ البطولة أن تأتي إلى الدنيا، وأن تستغل هذا العمر المحدود إلى أعلى درجة، فهناك أذكياء جمعوا أموالاً طائلة، وسكنوا بيوتاً فارهة، ثم جاء الأجل، وانتهت حياتهم، وكأنهم لم يكسبوا شيئاً، هل هم عقلاء ؟ لا والله، كانوا أذكياء ولم يكونوا عقلاء، أما هؤلاء الذين جاؤوا وغادروا، وعرفوا قيمة العمر، وعرفوا ربهم، ووضعوا كل طاقاتهم في خدمة هذا الهدف السامي، فلما دنا أجلهم كانوا من أسعد الناس.
 أيها الأخ الكريم ؛ عقلك كل عقلك يظهر ساعة اللقاء مع الله، لذلك الناس لا يدخلون هذه الساعة الحرجة الخطيرة في حساباتهم أبداً، فإذا جاءت أين عقله ؟
 إنّ النبي عليه الصلاة والسلام حينما فتح مكَّة، نظر إليه أبو سفيان نظرةً عميقةً وقال: " ما أعقلك، وما أحكمك، وما أرحمك، وما أوصلك "، عقلٌ ما بعده عقل، ورحمةٌ ما بعدها رحمة، وحكمةٌ ما بعدها حكمة، إنه وفاءٌ لأقاربه ما بعده وفاء.
 وأول شهادة من الله عزَّ وجل لأرجحية عقله صلَّى الله عليه وسلَّم وهي قوله تعالى:

 

﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)﴾

 

( سورة القلم )

 فهذه نعمةٌ عظمى، هذه الآية تذكِّرني بآيةٍ أخرى:

 

﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)﴾

 

( سورة هود )

 إن المؤمن يعيش في رحمةٍ عُمِّيت على عامة الناس، ويعيش في سعادةٍ لا يعرفها عامة الناس، ويعيش في طمأنينةٍ لا يعرف معشارها عامة الناس، ويعيش في سكينةٍ يتجلَّى الله بها عليه لا يعرفها أهل الدنيا، ولذلك أحد العارفين يقول: " ماذا يصنع أعداء بي، بستاني في صدري، إن أبعدوني فإبعادي سياحة، وإن سجنوني فسجني خلوة، وإن قتلوني فقتلي شهادة ".
وهو نفسه يقول: " مساكين أهل الدنيا، جاؤوا إلى الدنيا، وغادروها، ولم يعرفوا أجمل ما فيها، وهو القرب من الله عزَّ وجل ".
 هذه الآية أيها الإخوة شهادة خالق الكون لنبيِّه الكريم بأنه كان في أعلى درجات العقل، حينما أنعم الله عليه بنعمة النبوُّة والرسالة.
 يقول بعض العلماء: " إن الله تعالى لم يعطِ جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها، من العقل في جنب عقل محمدٍ صلى الله عليه وسلَّم إلا كحبَّة رملٍ من جميع رمال الدنيا، وأن محمداً صلَّى الله عليه وسلَّم أرجح الناس عقلاً، وأفضلهم رأياً ".
 وكلَّما كبر عقلك ازداد قربك، وكلَّما كبر عقلك ازداد خوفك من الله، وكلَّما كبر عقلك ازداد حبَّك له، فكأن هناك مؤشِّرين يعملان معاً، رجاحة العقل تعني طاعة الله، وتعني محبَّة الله، وتعني الخوف من الله، وتعني الشَوْق إلى الله، فأنت امتحن عقلك بحالك وبعملك وبقلبك.
 وأجمل ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام عندما أسلم سيدنا خالد بن الوليد، دخل سيدنا خالد على رسول الله فسلَّم عليه بالنبوَّة، قال له:" السلام عليك يا رسول الله "، خالد بن الوليد الذي انتزع منه راية النصر في أحد، من العمالقة، ومن القادة الكبار دخل عليه وقال: " السلام عليك يا رسول الله "، فقال عليه الصلاة والسلام: " تعالَ أقْبِل " فأقبل، فقال عليه الصلاة والسلام:

((الحمد الله الذي هداك، فقد كنتُ أرى لك عقلاً، ورجوت أن لا يسلمك إلا إلى الخير))

 هذه إشارة من رسول الله إلى أن هذا الدين ينبغي أن يُقبل عليه العُقلاء، ومن لوازم العقل أن تقبل على هذا الدين، ومن لوازم الحُمق أن تبتعد عنه، فكان النبي يعجب من سيدنا خالد، إنه رجل عاقل، وأريب، وفَطِن ومع ذلك لماذا تأخَّر إسلامه ؟ قال له:

((عجبت لك يا خالد، أرى لك عقلاً وأرجو أن لا يسلمك إلا إلى خير، وقد أسلمك إلى الخير))

 روى الطبراني عن قُرَّة بن هُبَيرة رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلَّم فقال: " إنه كان لنا أربابٌ وربَّاتٌ نعبدهن من دون الله عزَّ وجل، فدعوناهنَّ فلم يجبن، وسألناهن فلم يعطين فجئناك فهدانا الله بك، فنحن نعبد الله ". فقال عليه الصلاة والسلام:

((قد أفلح من رُزِقَ لبًّا))

 العقل لُب، تصوُّر برتقالة بلا لُب، هناك أشخاص عندهم مهارة ينزعون اللُّب، ويرجعون القشرة إلى ما كانت عليه، فالإنسان يمسكها فإذا هي فارغة، فيصاب بخيبة الأمل، والإنسان عندما تعامله من أول كلمة تعرف أنه عاقل أم مجنون، فالنبي الكريم يقول:

((قد أفلح من رُزِقَ لُبّاً))

 فقال قرَّة بن زبيرة: " يا رسول الله ألبسني ثوبين من ثيابك قد لبستهما"، فكساه، فلما كان بالموقف في عرفات قال عليه الصلاة والسلام: " يا قرَّة أعد عليَّ مقالتك ؟ "، ماذا قال له ؟ قال له: " يا رسول الله إنه كان لنا أربابٌ وربَّاتٌ نعبدهن من دون الله عزَّ وجل، فدعوناهنَّ فلم يجبن، وسألناهن فلم يعطين فجئناك فهدانا الله بك، فنحن نعبد الله ". فقال عليه الصلاة والسلام:

(( قد أفلح من رُزِقَ لُبًّا ))

 قال: " يا قرَّة أعد عليَّ مقالتك "، فأعاد عليه، فقال عليه الصلاة والسلام أمام الملأ:

((قد أفلح من رُزِق لباً، أي عقلاً راجحاً اهتدى به إلى الإسلام، وإلى فعل المأمورات، وترك المنهيات))

 قال تعالى:

 

﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)﴾

 

( سورة الرعد )

 أيها الإخوة الكرام ؛ قال الله تعالى:

 

﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)﴾

 

( سورة يوسف )

 فمن أجل أن تعقلوا، وكل هذا القرآن من أجل أن تعقل، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلَّم أنه قال:

((رأس العقل بعد الإيمان بالله الحياء وحسن الخلق))

( من الجامع الصغير: عن " أنس " )

 ويُروى أن أعرابيًّا دخل على النبي صلى الله عليه وسلَّم، وبيَّن له النبي أوامر الإسلام ومناهيها، فخرج الأعرابي وأعلن إسلامه، فقال له قومه: " بمَ عرفت أنه رسول الله ؟ " على الفطرة، وبالعقل، " بمَ عرفت أنه رسول الله ؟ " فقال الأعرابي: " ما أمر محمٌد بأمرٍ فقال العقل ليته نهى عنه، ولا نهى عن شيءٍ فقال العقل ليته أمر به "، أي توافق الأمر والنهي مع العقل.
 وأحد العلماء الأجلاَّء ألَّف كتاباً كبيراً حول ضرورة توافق العقل مع النقل، صريح المعقول لا يتعارض مع صحيح المنقول، ولا يمكن أن يتعارض العقل مع النقل، ولأن العقل مقياسٌ أودعه الله فينا والنقل كلامه، فهل يعقل أن تتناقض إرادة الله عزَّ وجل ؟ لقد أنزل على نبيِّه الكتاب وأودع فينا العقل، فالعقل مقياسٌ أودعه فينا، والكتاب وحيٌ أوحاه إلى النبي، فهذا من عنده وهذا من عنده، فالمعقول يتوافق مع المنقول، ولكنك لو رأيت تناقضاً بين العقل والنقل، فإنما هو تناقضٌ بين العقل وبين النقل غير الصحيح، أو بين النقل الصحيح وبين العقل الجامح، أما العقل المُطلق، العقل المتوازن فلا يمكن أن يتناقض مع النقل.
 والحقيقة كلكم يعلم أيها الإخوة أن الإيمان باليوم الآخر إيمان نقلي، أي إن الله أخبرنا أن هناك يومًا آخر، وإيمان من نوع السمعيات، أو الإخباريات، أو النقليات، ولكن وأنا أسألكم هذا السؤال: هل هناك دليل عقلي لا نقلي على اليوم الآخر ؟
 بالمناسبة أنا حينما أرى الشيء أحكم على صانعه، هذا شيء أمامي ملموس مرئي مُشاهد، فالعقل يستطيع أن ينتقل من المحسوس إلى المجرَّد، ومن المُشاهد إلى الغائب، ومن الجزء إلى الكُل، فهذه مهمَّة العقل إطلاقاً، لكن اليوم الآخر ليس له آثار في الدنيا، الإيمان باليوم الآخر إيمان تصديقي محض، إيمان تصديقي بما أخبر الله به، ولكن ثمة سؤال: هل هناك دليلٌ عقلي لا نقلي على ذلك ؟ فلو أنّ إنسانًا ما قرأ القرآن، ولا التوراة، ولا الإنجيل، ولا استمع في حياته إلى خطبة، ولا إلى موعظة، ولا قرأ كتابًا إطلاقاً، هل يستطيع بعقله وحده أن يصل إلى أن هناك يومًا آخر ؟
 بعض العلماء وأنا أعجبني هذا المثل، قال: لو فرضنا مسرحيَّة، وأول فصل مُثِّل، ثم أُرخي الستار، لِمَ لم يخرج روَّاد هذه المسرحيَّة من المَسرح ؟ لأن القصَّة لم تنتهِ بعد، والعقدة لم تنحلّ، فهناك بداية وعقدة ونهاية، والعقدة لم تُحل.
 اسمعوا الآن إلى هذه المحاكمة العقليَّة حول اليوم الآخر، أدرك عبد المطلب حقيقة الآخرة بعقله، ذلك أنه قال يوماً: " ما من ظالمٍ يشتدَّ ظلمه إلا انتقم الله منه قبل أن يموت " فقيل له: " فلان جار وطغى "، فقال: "انتقم الله منه يوم كذا وكذا، فقيل له: فلان، فقال: " انتقم الله منه يوم كذا وكذا " فقيل له: " فلان جار وطغى ولم يصبه شيء "، ففكَّر طويلاً ثم قال: " إذاً لابدَّ من يومٍ آخر ينتقم الله منه ".
 في الدنيا قوي وضعيف، وغني وفقير، وظالم ومظلوم، إنسان يعيش عمرًا قصيرًا، وإنسان يعيش عمرًا مديدًا، وقد يموت الظالم قبل أن ينتقم الله منه، وهكذا، أليس هناك يوم تسوَّى فيه الحسابات ؟ ويؤخذ حق المظلوم من الظالم ؟ وحق الضعيف من القوي ؟و حق الفقير من الغني ؟ فما دام فلان جاء إلى الدنيا وطغى وبغى ولم يعاقب إذاً لابدَّ من يومٍ آخر.
 إخواننا الكرام ؛ هناك مقولة لطيفة: عظمة الخلق تدل على عظمة التصرُّف، وكمال الخلق يدل على كمال التصرُّف، ودائمًا هناك انسجام بين كمال الخلق وكمال التصرُّف، فمثلاً: شركة تصنع كمبيوترات، لو أنت اشتريت كمبيوترًا فمن غير المعقول أن تأخذ المبلغ منك وتضعه في الخزينة، وتقول لك: الله يعوِّضك، دون أن تعطيك إيصالات، أو إشعار استلام، أو إشعار قبض، فشركة تصنع كمبيوترات فلابدَّ من نظام دقيق في المحاسبة يتناسب مع دقة الصنعة.
 فالمقولة: كمال الخلق يدل على كمال التصرُّف، فالكون فيه كمال بالخلق، إذاً خالقه لابدَّ من أن يكون كامل التصرُّف، فإذا كان هناك قوي وضعيف، وظالم ومظلوم، وغني وفقير، وصحيح ومريض، ومعمِّر وقصير العمر، ويأتي الموت فينهي كل شيء، صار هذا ظلًام شديدًا، فلابدَّ من يومٍ آخر تسوَّى فيه الحسابات.
 لكن الكفَّار ماذا يقولون ؟ يقولون:

 

﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)﴾

 

( سورة الملك )

 والآية دقيقة، إنّ الإنسان أحياناً إما أن يأكل طبخًا جاهزًا وإما أن يطبخ بيده، فأنت إذا استمعت للحق تستمع له جاهزًا، وإذا أردت أن تتأمَّل وتفكِّر تصل إلى النتائج نفسها..

 

﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)﴾

 

( سورة الملك )

 فلابدَّ أن تسمع، ولابدَّ أن تعقل، والأكمل أن تجمع بينهما، والحسن البصري يقول:" أول ما خلق الله العقل فقال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال الله عز وجل: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم علي منك، بك آخذ وبك أعطي ".

 

( من أحاديث الإحياء: عن " أبي أمامة " )

 فالإنسان يستحق السعادة العظمى عندما استخدم عقله، ويستحق الشقاء الأبدي عندما عطَّل عقله، بك أعطي وبك آخذ.
" أول ما خلق الله العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال الله عز وجل: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم علي منك، بك آخذ وبك أعطي ".
 وأحب العقول إلى الله تعالى عقل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلَّم.
 فأحدنا لو جلس مع إنسان مثقَّف يرتاح، فينطلق معه في الحديث، باستيعاب، وتقدير، لكن لو جلست مع إنسان ضعيف التفكير، ضعيف الثقافة، جامد، محدود يقول لك: قعدت نصف ساعة خرجت روحي، والنبي ما عاش في عصر فيه ثقافة، بل جاء إلى أُناس صخور على صخور، في جهل، وعصبيَّة، وجمود، وضيق أفق، عبدوا صنماً من التمر فلما جاعوا أكلوه ـ أكلت ودٌ ربَّها ـ أفهذا إنسان ؟ ينحتون أحجاراً ثم يعبدونها من دون الله، يقول أحدهم: " من كان أفضل مني فليضرب رجلي " يقوم إنسان فيضرب رجله، فتنشب حرب لمدة عشر سنوات، إنه أفق ضيَّق، وعصبيات، وعدوانية، وفوضى في الأخلاق، فامرأة تتزوَّج عشر رجال ثم تحدِّد هذا المولود لهذا الرجل، هكذا مزاجياً، ورجل يقول لامرأته: اذهبي إلا فلان فاستبضعي منه، ولا مانع عنده أنْ يلتقي معها لقاء زوجيًّا حتى تحمل منه بمحض اختياره.
 إنها الفوضى في العلاقات الزوجيَّة ما بعدها فوضى، وربا ما بعده ربا، وقهر ما بعده قهر، ووأد بنات، وظُلم شديد، وأفق ضيِّق، وثقافة ضعيفة، وجهل، وعصبيات، وأكمل الخلق جاء مع هؤلاء.
 أنا أقول لكم هذه الكلمة: أن تعيش مع الأذكياء فأنت في متعة بالغة، أن تعيش مع أصحاب الثقافات العالية كذلك، لكن أن تعيش مع أناس محدودين، ضيقي الأفق، لا يفهمون، ولا يعقلون، سريعي الاتهام والظن، إنّ الحياة مع هؤلاء جحيم لا يُطاق، وأكمل الخلق كان مع أناسٍ هذا حالهم، فكيف صبر عليهم ؟ وكيف تحمَّل غِلْظَتهم ؟ وكيف تحمَّل جفوتهم ؟ يمسكه الأعرابي من ثوبه اليماني ويشدُّه حتى يؤثِّر على صفحة عنقه ويقول: " يا محمَّد أعطني من مال الله، فهذا ليس مالك ولا مال أبيك " وهو قمَّة المجتمع، فيبتسم النبي ويقول له: " صدق إنه مال الله أعطوه "، فكيف تحمَّل هؤلاء ؟ وكيف ليَّن عقولهم ؟ وقلوبهم ؟ وألَّف قلوبهم ؟ وحبَّبهم به ؟ فهذا الشيء يحتاج إلى منتهى العقل، فقد يكون إنسان من عامة المؤمنين إذا ناقش إنسانًا آخر نصف ساعة، وما فهم عليه، تجده يقول له: اذهب عني ليس فيك خير، ييأس منه رأساً، فالنبي لم ييأس.
 يقولون: إن حصينًا والد عمران الذي يعبد سبعة أصنامٍ في الأرض، ويرى أنها آلهة، كان معظَّماً في قريش، فجاؤوا إليه وقالوا له: " كلِّم لنا هذا الرجل ـ أي محمداً صلى الله عليه وسلَّم ـ فإنه يذكر آلهتنا ويسبُّهم "، وجاؤوا معه حتى جلسوا قريباً من باب النبي، فقال عليه الصلاة والسلام ـ إنسان يعبد سبعة أصنام جاؤوا به إلى النبي ـ فقال عليه الصلاة والسلام: " أوسعوا للشيخ " وهو حصين نفسه، فقال حصين: " ما هذا الذي بلغنا عنك ؟ " الآن أن يقول رسول الله، أما كان يخاطب بضمير المُفرد، الآن إنسان جالس وراء طاولة إذا قلت له: أنت، يقول لك غداً: أنا ؟ يجب أن تقول: أنتم قلتم لنا، إن لم تخاطبه بالجمع يطردك، أليس كذلك ؟ رسول الله قيل له: " ما هذا الذي بلغنا عنك أنك تشتم آلهتنا وتذكرهم ؟ "، فقال عليه الصلاة والسلام مؤنساً: " يا حصين كم تعبد من إلهٍ ؟، قال: " سبعاً في الأرض وواحداً في السماء "، أي ثمانية، فقال عليه الصلاة والسلام: "فإذا مسَّك الضر من تدعو ؟ "، فقال حصين: " أدعو الذي في السماء "، قال: " فإذا هلك المال من تدعو؟ " قال: " أدعو الذي في السماء " قال عليه الصلاة والسلام: " فيستجيب لك وحده وتشركهم معه ؟ هذا الكلام معقول ؟ هو الذي يستجيب لك وتجعلهم آلهةً معه في الأرض ؟ " أرضيته في الشكر أم تخاف أن يغلب عليك ؟ فقال حصين: " لا واحدة من هاتين "، فقال عليه الصلاة والسلام: " يا حصين أسلم تسلم " فقال:" إني لي قوماً وعشيرةً ماذا أقول ؟ " هذه مشكلته رؤساء الأديان، ماذا أفعل بحالي ؟ هذه مشكلتهم، فقال: " قل اللهمَّ أستهديك لأرشد أمري، وزدني علماً ينفعني " فقالها حصين، فلم يقم حتى أسلم.
 فقام إليه عمران ابنه فقبَّل رأسه ويديه ورجليه أمام النبي، فلما رأى النبي هذا بكى وقال: " بكيت من صنيع عمران، دخل حصين أبوه وهو كافر فلم يقم إليه عمران، ولم يلتفت ناحيته، فلما أسلم قضى حقَّه فدخلني من ذلك الرفعة ".
 عندما دخل حصين على النبي كان ابنه موجودًا، قال: ما قام له ولم يلتفت له، لأنه كافر، فلما أسلم قام فقبَّل رأسه ويديه ورجليه فبكى النبي، ما هذه النقلة الكبيرة ؟
 هذا يذكِّرني عندما قال سيدنا عمر: " دخل عمير عند رسول الله والخنزير أحب إليَّ منه، وخرج من عنده وهو أحب إليَّ من بعض أولادي "، انظر لهذا التبدُّل السريع.
 معلومكم في قصَّة تعرفونها كلكم عندما قال له إنسان: " ائذن لي بالزنا "، والصحابة قاموا إليه، الآن انظر إلى المنطق، وإلى الحجَّة، أنت عندما تخاطب عقل الإنسان بهدوء، وتعطيه الحجَّة القويَّة وتحاصره فتفلح معه، فالقضيَّة ليست بالصياح، ولا بالضجيج، ولا بارتفاع الصوت، إنَّ الحجَّة تقارع الحجَّة، قال له: " ائذن لي بالزنا "، فالصحابة ضجوا وقاموا إليه، فقال عليه الصلاة والسلام: " لا " قال: " يا عبد الله أترضى أن يزني الناس بأمك ؟ ". تصور والدته، فقال: " لا ". قال: " كذلك الناس يكرهون، قال: أترضى أن يزني الناس بابنتك ؟ "، قال: " لا " فقال: " كذلك الناس يكرهون ". فقال: " يا رسول الله أُشْهِدُكَ أني تبت من الزنا ".
 وفي رواية تقول: " دخلت على رسول الله وما من شيءٍ أحب إلي من الزنا، وخرجت من عنده وما شيءٌ أبغض إليَّ من الزنا " بالمنطق، في رواية أطول قال له: " لأمك، لابنتك، لأختك، لعمَّتك، لخالتك، ولا الناس يريدونه لبناتهم "، فالداعية الصادق يقدِّم حجَّة قويَّة.
 اختلفت القبائل على من يمسك الحجر الأسود عند بناء الكعبة، وكادت أن تنشب فتنة كبيرة، فماذا فعل النبي ؟ جاء برداء ووضع الحجر بيده الشريفة في الرداء، وأمر كل رأس قبيلة يحمل طرف من الرداء، أليس هذا عقلاً راجحاً ؟.
 عليه الصلاة والسلام، لقد كان في أعلى درجات الحنكة القياديَّة، فأمر بعض أصحابه أنْ يتعلَّم السريانيَّة، وأمر بعض أصحابه أن يتعلَّم العبرانيَّة حتى يأمن مكر هؤلاء، فما كان يقبل من مترجم غير مسلم يترجم له، فأمر أصحابه يتعلَّموا هذه اللغات حتى إذا جاءه كتاب بالسريانية أو بالعبرية كان يكلِّف الصحابي يترجمه له، لئلا يحتال عليه هؤلاء الأعداء.
 إنّ تقصي المعلومات في الحرب عمل مهم، والمعلومات الآن هي أخطر شيء، والآن عصر ثورة المعلومات، فكان في بعض المعارك، روى الإمام أحمد وغيره عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:

 

((لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَصَبْنَا مِنْ ثِمَارِهَا فَاجْتَوَيْنَاهَا وَأَصَابَنَا بِهَا وَعْكٌ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَبَّرُ عَنْ بَدْرٍ فَلَمَّا بَلَغَنَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَقْبَلُوا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَدْرٍ وَبَدْرٌ بِئْرٌ فَسَبَقَنَا الْمُشْرِكُونَ إِلَيْهَا فَوَجَدْنَا فِيهَا رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ وَمَوْلًى لِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ فَأَمَّا الْقُرَشِيُّ فَانْفَلَتَ وَأَمَّا مَوْلَى عُقْبَةَ فَأَخَذْنَاهُ فَجَعَلْنَا نَقُولُ لَهُ كَمْ الْقَوْمُ فَيَقُولُ هُمْ وَاللَّهِ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ شَدِيدٌ بَأْسُهُمْ فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ إِذْ قَالَ ذَلِكَ ضَرَبُوهُ حَتَّى انْتَهَوْا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ كَمْ الْقَوْمُ قَالَ هُمْ وَاللَّهِ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ شَدِيدٌ بَأْسُهُمْ فَجَهَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخْبِرَهُ كَمْ هُمْ فَأَبَى ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ كَمْ يَنْحَرُونَ مِنْ الْجُزُرِ فَقَالَ عَشْرًا كُلَّ يَوْمٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَوْمُ أَلْفٌ كُلُّ جَزُورٍ لِمِائَةٍ))

 وكان الأمر كذلك.
 هذه حنكة قياديَّة رائعة، فيجب أن تعرف حجم عدوَّك قبل أن تخوض المعركة، فكلمة كثير كلمة عامة.
 عندما أمر سيدنا حذيفة بن اليمان أن يذهب إلى معسكر الأعداء في معركة الخندق، ودخل وجلس، وأمره أن لا يحدث شيئاً حتى تأتيننا، وفي رواية " اذهب وأتني بخبر القوم ولا تحدث شيئاً حتى تأتيني " فهذا جلس، فشعر أبو سفيان أن هناك أشخاصًا غرباء يستمعون، فقال: " كلٌ منكم يتفقَّد صاحبه "، فكان سريع البديهة ـ سيدنا حذيفة ـ أمسك بيد جاره وقال له: " من أنت ؟"، فقال له: " أنا فلان " لو تأخَّر لاكتشف أمره.
 إخواننا الكرام ؛ استقر بنفوس الناس أن المؤمن درويش، يقول لك: على البركة، لا يدقِّق، هذا كله كلام غلط، المؤمن الصادق في أعلى درجات الكياسة.

((المؤمن كيس فطن حذر))

( من الجامع الصغير: عن " أنس " )

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾

( سورة النساء: من آية " 71 " )

 هذا المفهوم الساذج أن المؤمن درويش، لا يدقِّق، ليس لديه هذا الفهم الزائد و، يتعب عليه، فهذه كلها مفاهيم جاءتنا من العصور المتخلِّفة، عصور الانحطاط..

 

((المؤمن كيس فطن حذر))

 

( من الجامع الصغير: عن " أنس " )

 هل هناك أعلى من هذا الذكاء ؟ تدخل معسكر العدو، وتجلس بينهم، وتستمع إلى مقولة قائدهم، وحينما يشعر القائد أن هناك من يستمع ويقول: " تفقَّدوا أصحابكم "، فيبادر ويمسك بيد جاره ويقول له: " من أنت ؟ ".
 والقصَّة التي تعرفونها أيضاً من أروع القصص، التي تبيّن رجاحة عقل النبي صلى الله عليه وسلَّم، فنعيم بن مسعود الأشجعي رضي الله عنه قال: " إني أسلمت ـ أسلم في أدق الظروف ـ وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت يا رسول الله". فقال عليه الصلاة والسلام: " إنما أنت فينا رجلٌ واحد "، والمعركة بين جيشين، والأحزاب تحزَّبت، عشرة آلاف مقاتل لم تجتمع في تاريخ الجزيرة العربيَّة، جاءت كلها لترمي النبي وأصحابه عن قوسٍ واحدة، وحتى إن بعض من كان مع النبي قال: " أيعدنا صاحبكم ـ لم يقل رسول الله ـ بأن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته ؟ "، فقد اعتقد بعض الناس أن الإسلام انتهى، هو قضية ساعات وينتهي..

 

﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (11)﴾

 

( سورة الأحزاب )

 بعضهم قال: " ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً "، وفي هذا الموقف الحرج، وفي هذه الساعات الحرجة جاء نعيم بن مسعود وقال له: " أنا أسلمت ولم يعلم قومي بإسلامي، فمرني بما شئت ". فالنبي نظر فقال له: "إنما أنت فينا رجل واحد فخِّذل عنا إن استطعت، إن الحرب خدعة، فاذهب فشتِّت جموع العدو وألقِ بينهم بدهائك "، إنسان واحد قد ينهي معركة !! ولكن مع إخلاص وذكاء، فخرج حتى أتى بني قريظة وهم طائفة اليهود، وكان لهم نديماً فقال: " قد عرفتم ودي إياكم وخاصَّةً ما بيني وبينكم "، قالوا: " صدقت لست عندنا بمتَّهم "، فقال لهم:" إن قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم ـ أي ليسوا مثلكم ـ البلد بلدكم، به أموالكم، وأبناؤكم، ونساؤكم، ولا تقدرون أن تتحوَّلوا منه إلى غيره، وإنهم جاؤوا لحرب محمدٍ وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن رأوا نهزةً أصابوها ـ أي فرصة ـ وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم، وخلوا بينكم وبينهم، ولا طاقة لكم بمحمد إذا خلا بكم، فلا تقاتلوا معهم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقةً لكم، على أن تقاتلوا معهم محمداً حتى تناجزوا".
 إنه كلام منطقي: أنتم هذا بلدكم، وهذه دياركم، وهذه أموالكم، وهذه حصونكم، وهذه بساتينكم، والآن تحالفتم مع قريش وغطفان، وهم بلادهم غير هذه البلاد، ونساؤهم هناك، وأموالهم هناك، فإن فازوا فازوا، وإن لم يفوزا عادوا إلى بلادهم وتركوكم لمحمد، ولا قِبَل لكم بمحمد اللهمَّ صلِّ عليه، فلا تقاتلوا مع قريش حتى تأخذوا منهم الرهائن.
 ثم أتى قريشاً وقال لأبي سفيان ومن معه: " قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمداً، وإنه قد بلغي أمراً رأيته حقاً عليَّ أن أبلغكموه، نصحاً لكم فاكتموه عني"، قالوا: نفعل، قال نعيم: " إن اليهود ندموا على ما صنعوا وأرسلوا إلى محمدٍ إنا قد ندمنا على ما فعلنا، أيرضيك أن نأخذ من أشراف قريش وغطفان رجالاً تضرب أعناقهم كرهائن، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم ؟ فأرسل إليهم محمد نعم، قال نعيم: فإن بعثت إليكم اليهود يلتمسون إليكم الرهائن فلا تدفعوا إليهم رجلاً واحداً ".
 ثم إن نعيماً أتى غطفان فقال: " إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي، ولا أراكم تتهمونني، أي بل أنا مصدقٌ عندكم "، فقالوا: صدقت وما أنت عندنا بمتهم، فقال: " فاكتموا عني " قالوا: نفعل. فقال لهم مثلما قال لقريش.
 وكان من صنع الله لرسوله أن أبا سفيان ورؤوس غطفان أرسلوا إلى اليهود من بني قريظة عكرمة في نفرٍ من القبيلتين: " إنا لسنا بدار مقام وقد هلك الخف والحافر فاغدوا للقتال حتى نناجز محمداً، ونفرغ ما بيننا وبينه ".
 فأرسلوا إليهم: " إن اليوم يوم السبت لا نعمل فيه شيئاً، وكان قد أحدث فيه ـ أي في السبت ـ بعضنا حدثاً فأصابه ما لم يخفَ عليكم، ولسنا بمقاتلين معكم حتى تعطونا من رجالكم يكونون بأيدنا ثقةً لنا حتى نناجز محمداً، فإنا نخشى إن اشتدَّ عليكم القتال أن ترجعوا إلى بلادكم، وتتركونا والرجل، ولا طاقة لنا به ".
 فهذا إنسان واحد، وبذكاء بارع أوقع بين الفريقين، وجعلهم يتهمون بعضهم بعضاً.
 فقالت قريش وغطفان: " والله إن الذي حدثكم به نعيم لحق "، فأرسلوا إلى بني قريظة: " إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً "، فأبوا عليهم وخذَّل الله بينهم، وبعث الله عليهم الرياح في ليالٍ شديدة البرد، فأكفأت قدورهم وطرحت أبنيتهم.

 

((المؤمن كيس فطن حذر))

 

( من الجامع الصغير: عن " أنس " )

 فإنسان واحد أسلم في ظرف من أصعب الظروف التي مرَّت بها الدعوة الإسلاميَّة، وكانت على وشك الانهيار، وأوشك أن تتلاشى، عن طريق هذا الإنسان الحذر، الكيس، الفطن، المخلص الذي استلهم الله عزَّ وجل أنقذ الله هذه الدعوة.
 أيها الإخوة الكرام ؛ كان عليه الصلاة والسلام يُرْهِبُ عدوَّه، والحرب خدعة، فمن هذه الأساليب الذكيَّة ورد أن النبي صلى الله عليه وسلَّم لما توجَّه لفتح مكَّة، وانتهى إلى ممر الظهران، أمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نارٍ لتراها قريش، وتَرْهَبَ من كثرتها، حتى قال أبو سفيان ومن معه حين رأوا من بعيد: " لكأنها نيران عرفة "، أي في كثرتها، وكان ذلك مما ألقى الخوف في قلوبهم، كما أمر عمَّه العبَّاس أن يجلس أبا سفيان على الطريق عند مضيق خطم الجبل، ليشاهد جيوش المسلمين وكتائبهم حين تمرُّ عليه، ثم جعلت تمر عليه كتيبةً كتيبة، فجعل أبو سفيان يقول للعبَّاس: " من هذه الكتيبة يا عباس ؟ "، وطفق العباس يخبره عن تلك الكتائب واحدةً واحدة، وذلك مما حمل أبو سفيان على التطامن والاستسلام.
 فما من أسلوبٍ حديثٍ في كسب المعركة إلا والنبي عليه الصلاة والسلام انتبه إليه، واستخدمه في أروع ما يستخدم القائد الحكيم الأساليب الذكيَّة العاقلة.
 ولنا إن شاء الله تعالى تتمة لهذا الموضوع عن رجاحة عقل النبي، ودائماً وأبداً كما قلت لكم:

((أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً))

 تعرّف إلى رجاحة عقلك من طاعتك لله ومن حبك له، وإذا رأيت نفسك في طاعة الله فهذا دليل رجاحة العقل.
 وأقول لكم مرَّةً ثانية: الفرق بين العقل والذكاء هو أن الذكاء متعلِّق بالجزئيات، بينما العقل متعلِّق بالكليات، فقد يكون المرء ذكياً وليس عاقلاً، وقد يكون عاقلاً وليس ذكاؤه في المستوى العالي، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:

 

((كَفَى بِالْمَرْءِ عِلْمًا أَنْ يَخْشَى اللَّهَ))

 

( من سنن الدارمي: عن " مسروق " )

 أي لمجرَّد أن تخشى الله فأنت عالِم، أي عرفت أن لك رباً، وأن له منهجاً، وأن عليك أن تطيعه، فمعرفة هذا الشيء دليل رجاحة العقل.
 وفي درسٍ قادمٍ إن شاء الله تعالى نتابع هذا الموضوع عن رجاحة عقل النبي.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور