وضع داكن
19-04-2024
Logo
أحاديث متفرقة - الدرس : 045 - أحاديث تبدأ بـ طوبى .....
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 


 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الأكارم: من الأحاديث الشريفة ما تبدأ بكلمة طوبى، ومن الأحاديث الشريفة ما تبدأ بكلمة ويل، ومن الأحاديث الشريفة ما تبدأ بكلمة عليك، ومن الأحاديث الشريفة ما تبدأ بكلمة إياك، فإياك تفيد التحذير، وعليك تفيد الإغراء، وطوبى تفيد معنى هنيئاً لمن كان كذا، والويل تعني الهلاك لمن يفعل كذا، أربع زمر: (عليك، وإياك، وويل، وطوبى)، وإذا لم يستجب الرجل لكلام النبي e وأمره، و لتحذيره وإغرائه، و لمباركته و إبعاده فمن هو الذي يمكن أن يستجيب له ؟.
 حديث اليوم:

((طوبى لمن ـ يعني هنيئاً ـ تواضع في غير منقصة))

[ البيهقي في شعب الإيمان]

  هناك خط دقيق بين التواضع والذل، وهناك مواقف إذا فعلتها تذل نفسك، وقد قال عليه الصلاة والسلام:

((لاَ يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ))

[ الترمذي وابن ماجه عن حذيفة]

  وقال e:

((ابتغوا الحوائج بعزة الأنفس فإن الأمور تجري بالمقادير))

[المقدسي في الأحاديث المختارة، والسيوطي في الجامع الصغير عن عبد الله بن بسر]

  فعل (تواضع) على وزن تفاعل، ووزن تفاعل من معانيه تصنع الشيء، تقول: تمارض، تعاظم، تمارض ليس مريضاً، ولكنه تصنع المرض، تعاظم ليس عظيماً، ولكنه تصنع العظمة، تعالم ليس عالماً، ولكنه تزيّ بزيّ أهل العلم، فوزن تفاعل يفيد التصنع، فكل الأفعال التي على وزن تفاعل تقريباً مذمومة إلا تواضع، هو ليس وضيعاً، ليس ذليلاً، ليس منحرفاً، ليس مذنباً، هو في أعلى درجات النزاهة، في أعلى درجات الطهر، في أعلى درجات العفة، ومع ذلك تواضع، أي تصنع أن يكون مع عامة الناس، التواضع إذاً أن تكون قريباً ممن هو دونك، لذلك من صفات النبي عليه الصلاة والسلام أنه ما صاحبه أحد إلا ظن أنه أقرب الناس إليه.
 دخل سيدنا عمر على سيدنا رسول الله فرآه مضجعاً على حصير، وقد أثّر في خده الشريف، فبكى، قال: يا عمر ما يبكيك ؟ قال: رسول الله ينام على الحصير، وكسرى ملك الفرس ينام على الحرير ؟! قال: يا عمر إنما هي نبوة، وليست ملكاً، هكذا النبوة،

(( طوبى لمن تواضع في غير منقصة))

[ البيهقي في شعب الإيمان]

 كان تواضعه في المكان الصحيح، تواضع وهو عزيز، تواضع وهو عفيف، تواضع وهو نظيف، تواضع وهو مستقيم، إلا أن كل إنسان حينما يقع يتّضع قهراً عنه، انظر إلى صورة المجرم، وقد ألقي القبض عليه، في أدنى درجات الذلة والمسكنة، أسقط في يده، خافض الرأس، خافض الطرف، هذا ليس تواضعاً، المجرم يتضع، والمنحرف يتضع، والخائن يتضع، والسارق يتضع، والزاني يتضع، إذا زلت قدم الإنسان يتضع، ولكن التواضع الذي أمر النبي عليه الصلاة والسلام به، أو أثنى على صاحبه هو أن تكون في أعلى درجات القوة، ومع ذلك فأنت قريب ممن حولك،

((طوبى لمن تواضع في غير منقصة))

  إذاً حينما لا يحسن الإنسان التصرف، أو حينما يضع نفسه في الموضع الذي لا يليق به فقد ذل، لا نقول: هذا تواضع، هذا ذل، ولا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه.
 الآن:

((طوبى لمن ذل في نفسه من غير مسكنة))

[ البيهقي في شعب الإيمان]

  حالة المؤمن مع الله حالة تذلل، ولكن المؤمن عزيز إلى أعلى درجة، وذليل مع الله إلى أدنى درجة، لأنه عرف ضعفه، وعرف جهله، وعرف نقصه، وعرف أنه طارئ، وأنه حادث، وأنه ميت، ورأى عظمة الله عز وجل فصغرت نفسه أمام ربه، لذلك هو في عين نفسه صغير، لكنه في عين الناس كبير، بعكس الفاجر والفاسق، هو في عين نفسه كبير، وفي عين الناس صغير.

 

((طوبى لمن ذل في نفسه من غير مسكنة))

 

 الإنسان أحياناً يصاب بمرض عضال يفتقر فقراً شديداً، يشعر بضعفه، لا حيلة له، ليس شيء في يده فيتمسكن، هذا الذل الناتج عن المسكنة ليس فضيلة، ولكن التذلل في نفس المؤمن، فهو أمام ربه ذليل، فكلما تذلل أمام ربه رفعه الله أمام الناس، وكلما استنكف عن طاعة ربه أذله الله بين الناس، العلاقة عكسية، كلما تذللت أمام الله عز وجل، كلما مرغت وجهك في أعتاب الله عز وجل رفع الله لك ذكرك، ورفع شأنك، وأسبغ عليك هيبة ووقاراً، وإذا استنكفت عن طاعة الله، واستكبرت عن عبادته، ورفضت الحق أذلّك الله بين خلقه، فلذلك إما أن تتواضع، وإما أن يضعك الله، إما أن تتذلل في نفسك لله عز وجل، وإما أن يذلك الله أمام خلقه، إما تكون عبداً لله، وإما أن تكون عبداً لعبد لئيم، كن عبداً لله، فعبد الله حر، ولا تكن عبداً لعبد لئيم، فهو الهوان والذل.
 كأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: هنيئاً لمن تواضع في مكان التواضع، تواضع، وعرف قدر نفسه، تواضع ولم يذل نفسه، تواضع في موطن التواضع، وأعز نفسه في موطن العز، كلكم يعلم أن أحد أصحاب رسول الله ركب فرسه في بعض المعارك متبختراً به، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله يكره هذه المشية إلا في هذا الموطن، وقد قيل: التكبر على المتكبر صدقة.
((طوبى لمن ذل في نفسه من غير مسكنة))

 فكلمة فعلت وتركت، وبإمكاني أن أفعل، وأنا أعطيتك، ولي فضل عليك، وأنت لولاي ما كنت شيئاً، هذه كلمات فيها اعتزاز بالنفس، فيها كبر، فيها شرك، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام لما جمع أصحابه الذين وجدوا عليه في أنفسهم قال: أما إنكم لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم، أتيتنا مكذباً فصدقناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فواسيناك، ألم تكونوا ضلالاً - لم يقل فهديتكم قال - فهداكم الله بي.
 الحقيقة ليس موضوع التواضع موضوع واقع، إذا أجرى الله الخير على يديك فلا ينبغي أن تنسبه إليك، الله وفقني، وفعلت كذا، الله يسر لي هذا الأمر، أكرمني بهذا البيت، أنعم علي بهذه الصنعة، تفضل علي بهذا العلم، دائماً كلمة أنعم علي، وتفضل علي، وأكرمني، وأجرى على يدي الخير، وجعلني سبباً، وسمح لي أن أتحدث عنه، وسمح لي أن أزور بيته، هذه كلمات المؤمن، لا يرى أنه فعل شيئاً يقتضي أن يتيه به على خلق الله، دائماً يقول: أكرمني الله، أجرى على يدي الخير، وهكذا...

((طوبى لمن تواضع في غير منقصة، و ذل في نفسه من غير مسكنة، وأنفق من مال جمعه في غير معصية))

[ البيهقي في شعب الإيمان]

  الحقيقة لماذا الذي ينفق ماله يشعر بالقرب من الله عز وجل ؟ لأن الإيمان دعوى بالأصل، هو يدعي أنه مؤمن، ولكن حينما أنفق ماله أكد لنفسه قبل غيره أن الله ورضوان الله أغلى عليه من ماله، والمال شقيق الروح.
 هناك باخرة غرقت في البحر الأحمر قبل أسبوع، طبعاً باخرة ضخمة تحمل ستمئة راكب، وغرق منها ما يقرب من خمسمئة راكب، ونجا مئة وثمانون، وقصص غريبة جداً ذكرت حول غرق هذه الباخرة، لكن الشيء الذي يلفت النظر أن أحد الذين نجوا نجا بماله قد عارك الأمواج ستاً وثلاثين ساعة، ومعه محفظة فيها كل الأموال التي جاء بها من الحجاز، فقلت: والله هذه القصة تؤكد أن المال شقيق الروح، هو يعارك الأمواج، وبين الموت والحياة، ومحتفظ بمحفظة فيها كل ما جاء به من بلاد الحجاز ؟! قالوا في الصحيفة: تحويشة العمر حافظ عليها كما حافظ على حياته، إذاً المال شقيق الروح، فإذا أنفقت المال فهذا مما يؤكد أن الله أغلى عليك، ورضوانه أغلى عليك من مالك الذي جعله الله شقيق الروح، وإذا صمت رمضان معنى ذلك أن رضوان الله وطاعته أغلى عليك من الطعام والشراب، وإذا ذهبت إلى بيت الله الحرام معنى ذلك أن الله عز وجل والقربى منه وزيارة بيته وأداء فريضته أغلى عليك من أهلك ومالك ومحلك التجاري ومكانتك وكل ألوان النعيم التي في بلدك، إذاً الإنسان لا يرقى إلا بالبذل، إلا بالطاعات، لا يرقى بالاعتقادات، الاعتقاد لابد منه، لكنه شرط لازم غير كاف، بالاعتقاد لا ترقى، لكن ترقى بالبذل.

 

((طوبى لمن تواضع في غير منقصة، و ذل في نفسه من غير مسكنة، وأنفق من مال جمعه في غير معصية))

  لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، فهذا المال الذي جمعته بكدك وعرقك، والذي تحريت به الحلال، لأنه كما قال عليه الصلاة والسلام:

 

((من بات كالاً في طلب الحلال بات مغفوراً له ))

[السيوطي في الجامع الصغير عن أنس]

  لحكمة بليغة أرادها الله عز وجل جعل كسب المال الحلال صعباً، وجعل كسب المال الحرام سهلا، فإذا شعرت بضيق وحرج وشدة وهموم من أجل كسب المال الحلال، والحرام مبذول أمامك فهذه طاعة لله عز وجل، هناك مفارقات دقيقة، مثلاً من طبيعتك أنك تحب العاجلة وتكره الآجل، قال تعالى:

 

﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولاً﴾

 

[ سورة الإسراء: 11]

  أنت متعلق دائماً بالشيء السريع، والآخرة بعيدة، بعد الموت، والدنيا بين يديك خضرة نضرة، فإذا تركت الدنيا، وطلبت الآخرة فقد ارتقيت إلى الله عز وجل، أنت ضعيف، وقد تسبب لك طاعة الله ضعفاً ومؤاخذة ومسؤولية وحرجاً وضيقاً، ومع ذلك آثرت طاعة الله على كل ما حولك من ضغوط، إذاً ترقى بهذه الطاعة.

 

((طوبى لمن تواضع في غير منقصة، و ذل في نفسه من غير مسكنة، وأنفق من مال جمعه في غير معصية، وخالط أهل الفقه والحكمة))

  دائماً وأبداً انظر في الدنيا لمن هو أدنى منك، وانظر في الآخرة لمن هو أرقى منك تسعد في دنياك وأخراك، إذا نظرت في دنياك لمن هو أدنى منك رأيت نعم الله عليك لا تحصى، أما إذا دخلت على الأغنياء البعيدين عن الله عز وجل خرجت من عندهم وأنت على الله ساخط، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

((إِذَا أَرَدْتِ اللُّحُوقَ بِي فَلْيَكْفِكِ مِنْ الدُّنْيَا كَزَادِ الرَّاكِبِ، وَإِيَّاكِ وَمُجَالَسَةَ الْأَغْنِيَاءِ، وَلَا تَسْتَخْلِقِي ثَوْبًا حَتَّى تُرَقِّعِيهِ))

[الترمذي]

  الدخول على الأغنياء أمر خطير، والإنسان في ساعات غفلته وساعات ضعفه وساعات فتور همته يجد أنه لا يملك شيئاً، فيستصغر بيته وأثاث بيته، وما عنده، إلا إذا كان مؤمناً، فهذا المؤمن له حالة خاصة، لذلك:

((إِذَا أَرَدْتِ اللُّحُوقَ بِي فَلْيَكْفِكِ مِنْ الدُّنْيَا كَزَادِ الرَّاكِبِ، وَإِيَّاكِ وَمُجَالَسَةَ الْأَغْنِيَاءِ، وَلَا تَسْتَخْلِقِي ثَوْبًا حَتَّى تُرَقِّعِيهِ))

  وخالط أهل الفقه والحكمة، لأن الإنسان إذا خالط أهل الفقه والحكمة يستعير كل خبراتهم، ويأخذ بعضاً من أحوالهم، ويأخذ من علمهم، ويأخذ من حكمتهم، ويأخذ من مواقفهم، يتعلم من أخلاقهم، ومن أفعالهم، ومن أفكارهم، لذلك حينما يخالط الإنسان أهل الفقه والحكمة يرقى عند الله عز وجل، والصاحب ساحب، قل لي من تجالس أقل لك من أنت، من جالس جانس، ومن جانس جالس، من جالس جالس، فإذا لم يكن كان بينك وبين هذا الإنسان لغة مشتركة هو يحب الحق، وأنت تحب الحق، هو يحب الفضيلة وأنت تحب الفضيلة، هو يؤثر الورع، وأنت كذلك، هو يحب جهاد النفس والهوى، وأنت كذلك، مادام بينك وبين هذا الذي تتعلم منه قواسم مشتركة أو لغة مشتركة فقد أصبت المجانسة، ومن جانس جالس، لا تستطيع أن تجالس إلا إذا جانست، ومن جالس جانس، من جالس اشتق من علم هؤلاء، ومن أخلاقهم، ومن فضلهم فلذلك:

((طوبى لمن تواضع في غير منقصة، و ذل في نفسه من غير مسكنة، وأنفق من مال جمعه في غير معصية، وخالط أهل الفقه والحكمة، ورحم أهل الذل والمسكنة))

 وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ شَرَفَ كَبِيرِنَا، وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا))

[ الترمذي، أحمد ]

 عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إِلَّا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّهِ))

[الترمذي]

  من صفات المؤمن العطف على الضعفاء، وتوقير للكبار، فمن كان أكبر منك سناً كان أكثر منك علماً، وأقدم منك في طريق الإيمان، فيجب أن توقره، الحياة كلها أدب، حينما دخل سيدنا الصديق على النبي عليه الصلاة والسلام كان إلى جانبه سيدنا علي كرم الله وجهه، فقام علي كرم الله وجهه ليجلس محله سيدنا الصديق، النبي عليه الصلاة والسلام تأثر لهذا الموقف الأخلاقي، قال عليه الصلاة والسلام: لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل، أحيانا يدخل المسجد رجل وقور كبير في السن، يتمنى أن يجلس في مكان، ويستريح فيه، يرى في المجلس صغيرًا حديث السن أخذ أحسن مكان، طبعاً نتمنى على الصغير أن يوقر الكبير، نتمنى عليه.

 

((... وأنفق من مال جمعه في غير معصية، وخالط أهل الفقه والحكمة، ورحم أهل الذل والمسكنة))

 

((طوبى لمن ذلت نفسه، وطاب كسبه، وحسنت سيرته، وحسنت سريرته، وكرمت علانيته، وعزل عن الناس شره، طوبى لمن عمل بعلمه، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله))

[الطبراني في الكبير، ومسند الشهاب، والترغيب والترهيب ]

((طوبى لمن ذلت نفسه))

 لله طبعاً، قال تعالى:

 

﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾

 

[ سورة المنافقون: 8]

((طوبى لمن ذلت نفسه، وطاب كسبه))

 كسبه حلال، اللهم ارزقني طيباً، واستعملي صالحاً، رزقه طيب، أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، رزقك طيب، وعملك صالح،

((طوبى لمن ذلت نفسه، وطاب كسبه))

  إتقان العمل يجعل كسبك حلالاً، أن تأخذ السعر المناسب يجعل كسبك حلالاً، ألاّ تغش الناس في البيع والشراء يجعل كسبك حلالاً، ألا تنتقص من أموالهم.
 لاحظ أنا أضرب مثلاً دائماً، أوضح فكرة أعجبتك، غرفة نوم، تقول للنجار: أنا أريد سريرًا واحدًا، لا سريرين، لكن أحذف لك ألفي ليرة، فقط، اذهب إليه بعد سنة عنده غرفة بسرير واحد، تقول: أريد سريرين، فيجيبك: بثمانية آلاف، لماذا إذا أردت أن تحذف السرير حذفتَ ألفي ليرة، وإضافة سرير واحد بثمانية آلاف ليرة ! ما أنصفته، قال تعالى:

 

﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾

 

[ سورة هود: 85]

 أحياناً يريد إنسان أن يبيع شيئاً، شعرت أنه مضطر، تريد أن تأخذها بأقل سعر، بلا ثمن لاضطراره، هذا حرام، فلذلك يطيب كسبك إذا صدقت مع الناس، يطيب كسبك إذا أنصفته، يطيب كسبك إن لم تبتز أموالهم، يطيب كسبك إن لم تنتقص ما عندهم، يطيب كسبك إن لم تغشهم، يطيب كسبك إن أعطيتهم شيئاً فوق ما يستحق.

 

((طوبى لمن ذلت نفسه، وطاب كسبه، وحسنت سيرته، وحسنت سريرته))

 ليس في داخله أحقاد، الإنسان قد يكون بظاهره مقبولا، العكس رائع، قال تعالى:

 

 

﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾

 

[ سورة المنافقون: 4]

  أما المؤمن فمن داخله نظيف، ليس عنده حقد، ولا عنده أسلوب الاحتيال، والمكر، والخداع، والخيانة، والمؤامرة، والتدبير، ليس عنده موقف معلن وموقف مبطن، سر وعلانية، يعتقد ما لا يقول، ويقول ما لا يعتقد، هذه أخلاق المنافقين، المؤمن بر كريم، والفاجر خب لئيم.

 

((طوبى لمن ذلت نفسه، وطاب كسبه، وحسنت سيرته، وحسنت سريرته، وكرمت علانيته))

  أنا لا أقبل أن مؤمنًا مظهره فيه إهمال، غير مقبول، أنت مؤمن تمثل دين الله عز وجل، حتى المظهر الخارجي يجب أن يكون مقبولاً من دون فخامة، لكن من دون ضعف، الإنسان إذا كانت ثيابه نظيفة، ومحله التجاري مرتبًا، وبيته مرتبًا فأنت تمثل هذا الدين، فلا داعي أن يكون الإنسان الزاهد مظهره غير مقبول، مظهره منفر، بيته منفر، محله التجاري منفر، علاقاته فوضى، غبار في دكانه، حساباته غير مضبوطة، ليس هذا هو الإيمان.

 

 

((طوبى لمن ذلت نفسه، وطاب كسبه، وحسنت سيرته، وحسنت سريرته، وكرمت علانيته، وعزل عن الناس شره))

 طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.

 

 

((طوبى لمن عمل بعلمه، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله))

 فضل القول امسكه، وفضل المال أنفقه، وعمل بعلمه.
 هذا الحديث من الأحاديث الجامعة المانعة، كأن أكثر مكارم الأخلاق مجموعة في هذا الحديث.
 أعيد عليكم نص الحديث: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:

 

((طوبى لمن تواضع في غير منقصة، و ذل في نفسه من غير مسكنة، وأنفق من مال جمعه في غير معصية، وخالط أهل الفقه والحكمة، ورحم أهل الذل والمسكنة، طوبى لمن ذلت نفسه، وطاب كسبه، وحسنت سيرته، وحسنت سريرته، وكرمت علانيته، وعزل عن الناس شره، طوبى لمن عمل بعلمه، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله))

  نحن من حين لآخر نتحدث عن أصحاب رسول الله، المقطع الثاني من درس الأحد دائماً في السيرة، سيرة منوعة، إما فقرات وضيئة من حياة رسول الله، أو قصص عن أصحابه الكرام، أو عن التابعين، أو عن العلماء المشاهير العاملين، كأبي حنيفة النعمان، ومن كان على شاكلته.
درسنا اليوم مالك بن دينار: مالك بن دينار كان من كبار العلماء، ومن كبار الزهاد، ومن كبار المحبين لله عز وجل، له قصص كنت أرويها لكم سابقاً.
 حينما مر بطريق رأى إنساناً مخموراً، وزبد الخمر على شفتيه، ويقول: الله، الله، وهو سكران، فكبُر عليه أن يخرج هذا الاسم العظيم من فم نجس، فغسل فمه، وأكرمه، وكانت توبة هذا السكّير على يديه، وقد رأى رجلاً في المسجد يصلي، ويبكي قال له: من أنت ؟ قال: إن الذي هداني أخبرك بحالي، وكان قد رأى في المنام أن صوتاً يقول: يا مالك طهرت فمه من أجلنا، فطهرنا قلبه من أجلك.
 والإمام مالك بن دينار دخل إلى المسجد، وحدث الناس عن قصته، كان منحرفاً، وكان مقصراً، وكان بعيداً عن الدين، وكانت له بنت يحبها كثيراً، رآها في المنام، ورأى ثعباناً يتبعها، القصة معروفة عندكم، وهو يهرب منه، و الثعبان يتبعه إلى أن رأى ابنته أشارت إلى الثعبان، فابتعد عنه، قال: ما هذا يا بنيتي ؟ قالت: هو عملك يا أبت، قال: ومن أنت ؟ قالت: أنا عملك الصالح، هاتان القصتان ترويان عن الإمام مالك بن دينار.
 على كلٍّ هذا الإمام له أقوال، قال الإمام مالك بن دينار: " منذ عرفت الناس لم أفرح لمدحهم، ولم أكره مذمتهم، قيل: ولمَ ذلك ؟ قال: لأن حامدهم مفرط، وذامهم مفرط".
 الناس إذا مدحوا بالغوا، وإذا ذموا بالغوا، وإنصافهم قليل، والحقيقة أن الناس لو أنهم جميعاً أثنوا عليك، ولم تكن عند الله مرضياً فلا قيمة لثنائهم، ولو أنهم جميعاً غضبوا عليك، وكنت عند الله مرضياً فلا قيمة لغضبهم لذلك.
 إذا صح منك الوصل فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب.
 يروى أن الإمام مالك بن دينار مرّ بوالي البصرة يرفل، فصاح به مالك: أقل من مشيتك، فهمَّ خدمه به، قال أمير البصرة: دعوه، ثم قال: أتعرفني يا هذا ؟ فقال له مالك بن دينار، قال: نعم، أوّلك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، ثم أنت بين هذا وذاك تحمل العذرة، فنكس الوالي رأسه ومشى.
 يقول عون بن حكم عن أبيه عن مالك بن دينار قال: قدمت من سفر لي، فلما صرت بالجسر قام العشار الذي يأخذ الضرائب، فقال: لا يخرجن من السفينة أحد حتى يدفع ما عليه، ولا يقوم أحد من مكانه، قال الإمام مالك بن دينار: فأخذت ثوبي فوضعته على عنقي، ثم وثبت، فإذا أنا على الأرض، فقال لي العشار: ما أخرجك ؟ قلت ليس معي شيء، قال: اذهب فقلت في نفسي هكذا أمر الآخرة.
 وقفة عظيمة، وحساب صعب، ويوم عسير، وهول عظيم، أما المستقيم فلا علاقة له بكل هذا، قال تعالى:

﴿لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾

[ سورة الأنبياء: 102-103]

  كما أن العشار أوقف السفينة جميعاً، ابقوا في مكانكم، لا أحد يغادر، هو وقف، وحمل ثوبه على عاتقه، وقفز على الأرض، قال: أين أنت ؟ قال: ليس معي شيء فتركه، لذلك من حاسب نفسه في الدنيا حساباً عسيراً كان حسابه يوم القيامة يسيراً، من كان صراطه في الدنيا ضيقاً كان صراطه في الآخرة عريضاً، أما كلمة: لا تدقق، وهذه ليس مشكلة، وهذه فيها فتوى، وهذه الله يسامحنا، وهذه الله لا يؤاخذنا، أتغش ؟ عندي أولاد، ماذا أفعل، وقت صعب، عندي أولاد، هذه لا تجوز، في غير مذهب، جائزة، لها فتوى، كلما وسعت الصراط في الدنيا يضيق في الآخرة، وكلما ضيقته عليك في الدنيا يتسع في الآخرة، القضية معكوسة، أو بالأصح من حاسب نفسه في الدنيا حساباً عسيراً كان حسابه يوم القيامة يسيراً، ومن حاسبها في الدنيا حساباً يسيراً كان حسابه يوم القيامة عسيراً.
 كان الإمام مالك بن دينار يطوف في البصرة بالأسواق، فينظر إلى أشياء يشتهيها، فيرجع ويقول لنفسه: " أبشري فو الله ما حرمتك ما رأيت إلا لكرامتك علي.
 نقطة مهمة، كلما اشتهت نفسك شيئاً أعطيتها، معنى ذلك أن هذه النفس ليست كريمةً عليك، أما إذا حملتها على طاعة الله، وحرمتها ما يلهيها عن طاعة الله كرمت عليك، فقال الإمام مالك لنفسه: أبشري فو الله ما حرمتك ما رأيت إلا لكرامتك علي.
 وله قول رائع، يقول:

((إن البدن إذا أصابه السقم لا ينجع فيه طعام ولا شراب، ولا نوم ولا راحة))

 المريض لا يهنأ لا بطعام ولا بشراب، ولا بنوم ولا براحة، قال: وكذلك القلب إذا علق حب الدنيا لم تنجح فيه المواعظ.
 وله قول آخر، قال:

((بقدر ما تحزن للدنيا كذلك يخرج هم الآخرة من قلبك، وبقدر ما تحزن للآخرة يخرج هم الدنيا من قلبك ))

  هناك همَّان، هم الدنيا، وهم الآخرة، فإذا حزنت للآخرة خرج من قلبك هم الدنيا، وإذا حزنت للدنيا خرج من قلبك هم الآخرة.
 كان الإمام مالك بن دينار في المقبرة، فإذا رجل يدفن، فجاء حتى وقف على القبر، فجعل ينظر إلى الرجل، وهو يدفن، فجعل يقول:

(( مالك غداً هكذا يصير، مالك غداً هكذا يصير، وليس له شيء يتوسده في قبره))

 فلم يزل يقول غداً مالك هكذا يصير.
 والله إنها كلمة بليغة، ما منا واحد إلا وسوف يكون غداً كهذا الذي وسد في قبره.
 يقال:

((إن مالك بن دينار رأى رجلاً يضحك، فقال: ما أحب أن قلبي فرغ لمثل هذا، وأن لي ما حوت البصرة من أموال والعقد))

 إنسان يضحك، وسوف يموت، يضحك، ولا يدري أساخط عنه الله أم راض ؟ يضحك، ولا يعلم مصيره في الآخرة، يضحك، ولم يقف على أحكام كتاب الله عز وجل، يضحك، وليس له عمل يلقى الله به، هذا الضحك يتنافى مع عظم المهمة التي أنت عليها في الدنيا، يقول الإمام مالك بن دينار: " إن في بعض الكتب أن الله عز وجل يقول: إن أهون ما أنا صانع بالعالم إذا أحب الدنيا أن أخرج حلاوة ذكري من قلبه، فأقلّ عقاب يعاقب الله به ذا علم، ومن له دعوة إذا أحب الدنيا أن أخرج حلاوة ذكري من قلبه "، فيصبح ذكر الله كالصلاة والذكر والدعاء، لا معنى له، كلمات يرددها، وحركات يقوم بها، وأقوال يتفوه بها.
 وكان يقول هذا الإمام:إن الله عز وجل إذا أحب عبداً انتقصه من دنياه، وكف عنه ضيعته، الدنيا تنقص قليلاً، ويجمع الله شمله، هكذا قال عليه الصلاة والسلام:

((من أصبح وأكبر همه الدنيا جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه شمله، ولم يؤته من الدنيا إلا ما قدر له، ومن أصبح وأكبر همه الآخرة جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة))

  مرّ تاجر بعشار فحبسوا عليه سفينته، العشار آخذ الضرائب، فجاء إلى مالك بن دينار، فذكر ذلك له، قال: فقام مالك بن دينار، ومشى معي إلى العشار، استجار بالإمام مالك بن دينار بمكانته، ووجاهته، فذهب الإمام مالك بن دينار معه إلى العشار، فلما رأوه قالوا: يا أبا يحيى ألا تبعث لنا حاجتك، نحن نأتيك، له مكانة كبيرة، قال: حاجتي أن تخلصوا سفينة هذا الرجل، دعوا هذه السفينة، قالوا: قد فعلنا حباً وكرامة، قال: وكان عندهم كوز يجعلون فيه ما يأخذون من الناس الدراهم، فقال العشار: ادع الله لنا يا أبا يحيى، قال: قولوا للكوز أن يدعو لكم، كيف أدعو لكم، وألف يدعون عليكم ؟ أترى يستجاب لواحد ولا يستجاب لألف، هذه إشارة للإنسان، لا يبني حياته على إيذاء الناس، أو على انتقاص حقوقهم، أو على بث الخوف فيهم.
 ويقول الإمام مالك بن دينار: " كفى بالمرء خيانةً أن يكون أميناً للخونة، وكفى بالمرء شراً ألا يكون صالحاً، ويقع في الصالحين "، هو سيئ، ويتهجم على الصالحين، هو مقصر، ويتهجم على هؤلاء المتفوقين، هو مذنب، ويتطاول على المستقيمين، " كفى بالمرء خيانةً أن يكون أميناً للخونة، يعني شر الناس من باع آخرته بدنيا غيره ".
 يقول الإمام مالك بن دينار: " خرج أهل الدنيا من الدنيا، ولم يذوقوا أطيب شيء فيها، قالوا: وما هو ؟ قال: معرفة الله عز وجل ".
 ويقول الإمام مالك بن دينار:

((إن القلب إذا لم يكن فيه حزن خرب، كما أن البيت إذا لم يسكن خرب))

 إذا لم يكن ثمة حزن لم يكن هناك إقبال، هذا البيت يصبح خرباً، ويقول الله عز وجل: حسنت منظر الخلق سنين أفلا حسنت منظري ساعة.
 ويقول الإمام مالك بن دينار: " لو أعلم أن قلبي يصلح على كناسة لذهبت حتى أجلس عليها، قلبك أين يصلح، في أي عمل يصلح ؟ ما الذي يملأه رضىً ؟ يقول الإمام مالك بن دينار:

((لو أعلم أن قلبي يصلح على كناسة لذهبت حتى أجلس عليها))

  ويقول الإمام مالك بن دينار:

((إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب، كما تزل القطرة عن الصفا ))

 إذا كان البلاط أملس ثقيلا لماعًا، هذا السيراميك إذا ألقيت عليه الماء انحدرت سريعاً، حتى لو ألقيت عليه الزيت لا يعلق عليه شيء، يقول الإمام مالك بن دينار: " إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما تزل القطرة عن الصفا "، موعظته لا تؤثر في القلوب، لا يسمح الله له أن يؤثر كلامه في القلوب، مادام هو غير صادق، وغير مخلص، كلامه يفقد الحياة، يفقد قوة التأثير، يفقد هذه الروحانية، يقول الإمام مالك بن دينار:

(( إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما تزل القطرة عن الصفا))

 ويقول:

((إذا طلبت العلم لتعمل به كسرك العلم، وإذا طلبته لغير العمل، لم يزدك إلا فخراً))

 هناك علم يكبرك حتى تصبح من جبابرة العلماء، ومن الطغاة، ومن المتكبرين، وهناك علم كلما ازددت علماً ازددت به تواضعاً،

((إذا طلبت العلم لتعمل به كسرك العلم))

 كما قال الإمام الشافعي: " كلما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي "، العلم الذي تطلبه للعمل يزيدك تواضعاً وقرباً من الناس، وحباً لله، ورحمة للخلق، والعلم الذي تطلبه للافتخار يحجبك عن الناس، ويصبح دركات إلى الهلاك.
 وكان يرى انحراف قومه فيقول لهم: "أنتم تستبطئون المطر، وأنا أستبطئ الحجارة "، كما يقول عليه الصلاة والسلام: لولا شيوخ ركع وأطفال رضع وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صباً.
 أحيانا ترى وضع الناس، انحرافاتهم، تقصيرهم، تفلتهم من أوامر الله عز وجل، لا يستأهلون هذه الأمطار التي هطلت، الحمد لله الأمطار هطلت بكميات كبيرة جداً في أكثر المناطق، أربعة أمثال، أو خمسة أمثال، ما هطل في العام الماضي حتى هذا التاريخ، فيقول لهم: أنتم تستبطئون المطر، وأنا أستبطئ الحجارة.
 يقول الإمام مالك بن دينار: " إن الله جعل الدنيا دار مفر، وجعل الآخرة دار مقر"، الدنيا نفر منها، والآخرة نستقر فيها، الناس بالعكس يفر في نفسه من الآخرة، ويستقر في الدنيا، ولكن هذا الاستقرار لا يدوم، لابد من الموت.
 سمعت في بعض البلاد أنه لا يمكن أن ترى جنازة أبداً، كأن البلاد ليس فيها موت، من المستشفى إلى المقبرة، من دون أي مظهر من مظاهر الجنازة، فالناس غارقون في ملاهيهم، في تجارتهم، في دنياهم، نحن الحمد له جنائز كثيرة، وإعلام في المآذن، أحياناً يذكر في الموت.


((إن الله جعل الدنيا دار مفر، وجعل الآخرة دار مقر، فخذوا لمقركم من مفركم، وأخرجوا الدنيا من قلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم، ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم، ففي الدنيا حييتم، ولغيرها خلقتم، وإنما مثل الدنيا كالسم أكله من لا يعرفه، واجتنبه من عرفه، ومثل الدنيا كالحية مسها لين، وفي جوفها السم القاتل، يحذرها ذوي العقول، ويهوي إليها الصبيان بأيديهم))

 طفل عمره سنتان، رأى ثعبانا يقترب منه، فيضع يده عليه، أما العاقل فيفر منه، هذا كلام دقيق وبليغ.


((إن الله جعل الدنيا دار مفر، وجعل الآخرة دار مقر، فخذوا لمقركم من مفركم، وأخرجوا الدنيا من قلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم، ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم، ففي الدنيا حييتم، ولغيرها خلقتم، وإنما مثل الدنيا كالسم أكله من لا يعرفه واجتنبه من عرفه، ومثل الدنيا كالحية مسها لين، وفي جوفها السم الناقع، يحذرها ذوي العقول، ويهوي إليها الصبيان بأيديهم))
 قال رجل: قدمت من مكة فأهديت إلى مالك بن دينار ركوة، يعني إناء، يستعمله في وضوئه، وفي حاجاته، فكنت عنده، فجئته يوماً، وجلست في مجلسه، فلما قضاه قال لي: يا حارث تعال، وخذ تلك الركوة، فقد شغلت عليّ قلبي، قلت: يا أبا يحيى، إنما اشتريتها لك تتوضأ فيها، وتشرب، فقال: يا حارث، إني إذا دخلت المسجد جاءني الشيطان، وقال لي: يا مالك، إن الركوة قد سرقت، فقد شغلت علي قلبي ".
 يعني مثال لطيف، إذا شغلك شيء عن ذكر الله دائماً فهذا قد صار حجاباً بينك وبين الله.
 وكان يتقنع بعباءة أو كساء، ويقول: إلهي قد علمت ساكن الجنة من ساكن النار، فأي الدارين دار مالك، وأي الرجلين أنا ؟ ثم يبكي.
 قال:

((إن العالم إذا أتيته في بيته فلم تجده قص عليك بيته رأيت حصيره للصلاة، ومصحفه، ومظهرته في جانب البيت ترى أثر الآخرة))

  قال:

(( إن الأبرار تغلي قلوبهم بأعمال البر، وإن الفجار تغلي قلوبهم بأعمال الفجور، والله يرى همومكم، فانظروا ما همومكم))

  المؤمن إذا سمع أن شخصاً له أعمال طيبة، له صلوات، له أذكار، له خدمات، يفهم كتاب الله، يحفظ كتاب الله، يغلي شوقاً وغيرةً، يغلي طمعاً وتنافساً، والفجار إذا سمعوا عن أهل الشهوات، وكيف يمضون الليالي والأيام عن رحلاتهم، وعن إنفاقهم، وعن مسراتهم، وعن أعراسهم، وعن مركباتهم، وعن منتجعاتهم أيضاً يغلي الفجار، ويتأوهون، قال تعالى:

﴿يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾

[ سورة القصص: 79]

  قال:

((إن الأبرار تغلي قلوبهم بأعمال البر، وإن الفجار تغلي قلوبهم بأعمال الفجور، والله يرى همومكم فانظروا ما همومكم))

  قال: إن الصديقين إذا قرأ عليهم القرآن الكريم طربت قلوبهم إلى الآخرة، وما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب "، يعني أعظم عقوبة أن يكون لك قلب قاس لا يلين، لا يرحم، لا يتأثر بذكر الله.
 من عقوبات الله عز وجل قال:

((ضنك في المعيشة، ووهن في العبادة، وسخط في الرزق ))

الإنسان الذي يسخط رزقه، وهو ضعيف في عبادته، وضنك في معيشته، هذه عقوبات من الله، ضنك في المعيشة، ووهن في العبادة، وسخط في الرزق.
قال شخص للإمام مالك في الطريق: يا أيها المرائي، قال: متى عرفت اسمي، قال: ما عرف اسمي غيرك، خجل، هذا اسمي فعلاً، دخل عليه اللصوص في البيت، فلم يجدوا شيئاً، فأرادوا الخروج، فقال: لو صليتم ركعتين، دعاهم للصلاة في بيته.
قال أحدهم: دخلنا على الإمام مالك عند الموت، فجعل يقول:

((لمثل هذا اليوم كان دؤوبُ أبي يحيى))

 كل هذا تعب سبعين سنة أو ثمانين سنة، الصلوات، وجهاد النفس، والهوى، والإنفاق، وتعلم العلم، والاقتداء برسول الله، وخدمة الخلق، كل هذه الجهود التي بذلها في حياته حرم نفسه حظوظها، وشهواتها قال:

((لمثل هذا اليوم كان دؤوب أبي يحيى ))

  إذا كان ساعة اللقاء في ذهن الإنسان دائماً، تصدق، جلس في مجالس العلم، طلب رضوان الله عز وجل، أنفق من ماله، أنفق من وقته، أنفق من علمه، نصح الأمة، أتقن عمله، كان عضواً نافعاً، كف من شهواته، ضبط جواره، ضبط دخله، ضبط مصروفه، أحسن إلى أهله، كل هذه الجهود المتتابعة، وهذه الهموم المتلاحقة، وهذا الانضباط الشديد، كل هذا لهذه الساعة، تصور طالباً من واحد أيلول نظم برنامج دراسته، ترك كل الزيارات، والعلاقات، والنزهات، والحفلات، عكف على طاولته، قرأ الكتب المقررة، لخصها، بوبها، قرا المراجع، زار أصدقاءه المتفوقين، ذاكر معهم الدروس، حضر دروس إضافية، كل هذا التعب لهذه الساعة، ساعة الامتحان، كل ما تفعله في الدنيا من أعمال صالحة، من صلوات، من صيام، من حج، من زكاة، من حضور مجالس علم، من اتعاظ، من تلاوة القرآن، من حفظ القرآن، من فهم القرآن، من الأمر بالمعروف، من النهي عن المنكر، من الإحسان إلى الزوجة، إلى الأولاد، إلى الوالدين، للجيران، للأقارب، إتقان العمل، نصح المسلمين، كل شيء تفعله لهذه الساعة، فإذا فزت فيها، فقد فزت بكل شيء، لذلك الكفار قال تعالى عنهم:

﴿ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾

[ سورة الزخرف: 83]

  أيها الإخوة: من حين لأخر سبحان الله ! أي إنسان تعرف على الله عز وجل يوصف بأنه ذو عقل راجح، ويوصف أنه ذو نفس طيبة، وذو حكمة بالغة، فهذا الإمام قدوة لنا، فهذا إنسان عاش حياةً، وانتهت حياته، وبقي ذكره العطر، وأهل الدنيا يعيشون، ويموتون، ويبقى ذكرهم القذر، فاختر لنفسك، وأنت في الدنيا، إما أن تسعد في الدنيا والآخرة، وإما أن تخسرهما معاً.
 فالإمام مالك بن دينار هذا الإنسان له توبة نصوحًا عند الله عز وجل، وقصته تبث الثقة في النفوس، كان قاطع طريق، وكان بعيداً عن الدين بعد الأرض عن السماء، ومع ذلك تاب توبة لو وزعت على أهل بلد لكفتهم، وأكرمه الله بالعلم، وكان من كبار العلماء والعارفين والزهاد، والإنسان حينما يذوق طعم القرب تصغر الدنيا في عينيه، من عرف الله زهد فيما سواه.

إخفاء الصور