وضع داكن
24-04-2024
Logo
الشمائل المحمدية إصدار 2010 - الدرس : 11 - أرجحية عقل النبي عليه الصلاة والسلام
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

أسعد الناس في الدنيا أرغبهم عنها وأشقاهم فيها أرغبهم فيها :

 أيها الأخوة الكرام، نحن في الشمائل المحمدية، ونحن في الدرس الحادي عشر من دروس شمائل النبي عليه الصلاة والسلام، والموضوع اليوم أرجحية عقل النبي عليه الصلاة والسلام.
 بادئ ذي بدء: ورد أن أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً، كلما نما عقلك صحّ اختيارك، خالق السماوات والأرض، الذات الكاملة، صاحب الأسماء الحسنى، والصفات الفضلى، من بيده كل شيء، من بيده مقاليد السماوات والأرض، من إليه يرجع الأمر كله، هذا الإله العظيم حينما ينمو عقلك تجد أن أفضل شيء أن تعرفه.
 ابن آدم اطلبني تجدني، فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء، للتقريب إناء زجاجي رخيص ثمنه عشر ليرات، حجمه كبير، كأس كهذا الكأس لكن من الكريستال ثمنه ألف ليرة، جوهرة بمتحف توبي كابي في اسطنبول، ثمنها مئة وخمسون مليون دولار، أكبر ألماسة في العالم بحجم البيضة، لو وضعنا هذا الإناء الكبير من أرخص أنواع الزجاج إلى جانبه كأس الكريستال وهذه الجوهرة، وقلنا لك: اختر، فإذا اخترت هذا الحجم الكبير المقدر بعشرين ليرة يكون العقل لا فائدة منه إطلاقاً، أما حينما تختار هذه الجوهرة نقول: عقلك راجح، القضية قضية اختيار، هناك إنسان اختار الدنيا، الدنيا متعبة، أسعد الناس في الدنيا أرغبهم عنها، وأشقاهم فيها أرغبهم فيها، بالدنيا هناك سؤال كبير ثم ماذا؟ بعد أن تملك ملايين مملينة ثم ماذا؟ القبر، بعد أن تبلغ أعلى منصب ثم ماذا؟ القبر، بعد أن تنغمس في متع الأرض، بعد أن تنغمس في كل متعة حسية، ثم ماذا؟ ماذا بعد هذا؟ الموت، القبر، فإذا كانت هذه الدنيا تخسرها في ثانية واحدة قد تجمعها في خمسين عاماً وتخسرها في ثانية واحدة، أي حجمك المالي ـ بيلكيت حجمه المالي يقدر بتسعين مليار دولار، و هو شاب بالأربعينات ـ منوط بدقات القلب، فإذا توقف القلب، هذا المبلغ الضخم ليس لك، لورثتك، أي كل مكانتك، كل عظمتك ـ إن صحّ التعبير ـ كل هيمنتك، كل شهاداتك، كل مناصبك، كل حجمك المالي، الاجتماعي، قوة تأثيرك، هيمنتك، كل شيء حققته في الدنيا عند الموت ينتهي، ما جمعته في ستين عاماً تخسره في ثانية واحدة، فما هذه الحياة الدنيا؟
 إن أسعد الناس في الدنيا أرغبهم عنها، وأشقاهم فيها أرغبهم فيها.

الوقت أثمن شيء في حياة الإنسان :

 لذلك البطولة أن تعرف الله، عقلك الراجح يوازن، أيها الأخوة الكرام، أحياناً الإنسان ـ لا سمح الله ولا قدر ـ يصاب بمرض عضال، لو أخبر أن هناك عملاً جراحياً، احتمال نجاحه ثلاثون بالمئة، لكن هذا العمل الجراحي يكلف ثمن بيتك، البيت تملكه لا تملك غيره، أقسم لكم بالله هذا المريض لا يتردد لثانية واحدة أن يبيع بيته ليجري هذه العملية التي يتوهم من خلالها أنها تمد في حياته بضع سنوات، أليس كذلك؟
 إذاً أثمن شيء في حياتك الوقت، أنت وقت، أنت بضعة أيام، كلما انقضى يوم انقضى بضع منك.
 سؤال ثان: إنسان أمامنا الآن أمسك مئة ألف ليرة أو خمسمئة ألف ليرة وأحرقها، بماذا نحكم عليه جميعاً؟ بالجنون، لأنه أتلف المال والمال قوام الحياة، الآن هذا الذي يبيع بيته ليجري عملية جراحية يتوهم من خلالها أنها تمد بعمره بضع سنوات يعيشها بين أهله من أي شيء انطلق؟ انطلق من أن الوقت أثمن من المال، ضحى بماله كله من أجل الوقت، فهذا الذي يحرق المئة ألف يعد سفيهاً فكيف الذي يتلف وقته؟ للساعة الواحدة طاولة الزهر، سهرات فارغة، حديث باطل، غيبة، نميمة، متابعة أفلام، هذا الذي يمضي كل حياته في أباطيل، في شهوات، في أشياء لا تقدم ولا تؤخر، أليس هذا ضعفاً في تفكيره؟ لذلك أنت بضعة أيام، كلما انقضى يوم انقضى بضع منك.

من هداه عقله إلى طاعة الله عز وجل كان عقله راجحاً :

 لذلك أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً، كلما هداك عقلك إلى طاعة الله، إلى أن تخطب وده، أن تتقرب إليه بالعمل الصالح، أن تنفع المخلوقات، أن تكون في خدمة عباده، أن تكون في رضوانه، أن تتحرك في مرضاته، كلما هداك عقلك إلى هذا كان عقلك راجحاً، أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً.
 لا تنسى المثل؛ إناء بلور رخيص جداً، ثمنه عشرون ليرة، كأس كريستال، ثمنه ألف ليرة، جوهرة ثمنها مئة وخمسون مليون دولار، إذا قلنا لك: اختر أحد هذه الثلاثة، فاخترت هذا الإناء الكبير، ونظرت إلى الحجم، ولم تنتبه إلى قيمة هذه الجوهرة، فأنت مغبون، من هو المغبون؟ الذي باع آخرته بدنياه.
 قوام الدين والدنيا أربعة رجال؛ عالم مستعمل علمه، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم، وغني لا يبخل بماله، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه، فإذا ضيّع العالم علمه استنكف الجاهل أن يتعلم، وإذا بخل الغني بماله باع الفقير آخرته بدنيا غيره.

ما كلّ ذكي بعاقل :

 أيها الأخوة الكرام، معنى ذلك أنه ما كل ذكي بعاقل، صار عندنا مصطلحان، فلان ذكي، فلان عاقل، الذكاء متعلق بالدنيا، الذكاء متعلق باختصاص نادر، الذكاء متعلق بنيل شهادة عليا، الذكاء متعلق بتجميع الأموال، الذكاء متعلق بنيل منصب رفيع، هذا كله من الذكاء، النجاح في الدنيا يسمى صاحبه ذكياً، أما الذي ينجح في الآخرة يسمى صاحبه عاقلاً، لذلك ما كل ذكي بعاقل، قد تجد إنساناً يحمل اختصاصاً نادراً، الفيزياء النووية، هناك اختصاصات نادرة جداً، اختصاصات بالذرة، اختصاصات بالفضاء الخارجي.
 أيها الأخوة الكرام، صار هناك فرق بين الذكي وبين العاقل، يمكن أن يأخذ الإنسان دكتوراه باختصاص نادر جداً، يكون له دخل كبير جداً لكن لا يعرف الله، عرف الدنيا ووصل إليها.
 أيها الأخوة الكرام، نظام الدنيا شيء ونظام الآخرة شيء آخر، نظام الدنيا يصلح للدنيا ـ وقد تستغربون ـ الكفر والعدل، ولا يصلح للدنيا الإيمان والظلم، الكفر والعدل يصلح للدنيا، الغرب أخرجوا الدنيا من كل حساباتهم، لكن ضبطوا أمورهم، هناك قوانين يخضع لها كل الناس، الإنسان له حقوق وعليه واجبات، هذا شيء ثابت لذلك أتقنوا الدنيا فملكوها، هناك قيم مستنبطة من الحياة الغربية، قيم العمل، قيم الصدق والأمانة، قيم التعامل الواضح، أتقنوا الدنيا فملكوا الدنيا، لكن نحن مع الأسف الشديد لم نتقن الدنيا والشيء المؤلم أننا لم نتقن الآخرة، لذلك قالوا:

ما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا  وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل
***

تعلق الذكاء بالجزئيات و العقل بالكليات :

 أيها الأخوة، كأن الذكاء متعلق بالجزئيات، بينما العقل متعلق بالكليات، إنسان عرف الله عاقل، عرف أن بعد الموت حياة أبدية، استقام على أمر الله عاقل، ضبط دخله عاقل، ما كسب مالاً حراماً عاقل، ما أنفق المال في معصية عاقل، علاقته بالمرأة زواج فقط، ليس عنده علاقة أخرى، أنجب أولاداً رباهم عاقل، كلما كان عملك وفق منهج الله كلما كان عملك متعلقاً بالآخرة وكنت عاقلاً أكثر، وكلما اهتممت بالدنيا فقط وتفوقت بها كنت أقل عقلاً، والله هناك تفوق بالدنيا في العالم الغربي شيء لا يصدق، هناك إنجاز، وأجهزة، واكتشافات، يمكن للإنسان أن يركب الطائرة على ارتفاع أربعين ألف قدم، مقعده سرير، أمامه كل شيء، كل محطات القنوات، الانترنيت، يأكل أطيب الطعام، على ارتفاع أربعين ألف قدم، اختراع مهم جداً، هذا العقل البشري إذا وجهته إلى الدنيا فعل المستحيل، هذا العقل البشري كأن الله عز وجل ما زودنا به إلا لنعرفه من خلاله، أنت استخدمته استخداماً محدوداً في الدنيا.
 عفواً هل من الممكن أن تشتري كومبيوتراً صناعياً، ثمنه خمسون مليوناً لتجعله طاولة؟ أنت استخدمته استخداماً تحتقر قيمته، هذا حاسوب صناعي، يقدم لك ميزات مذهلة، استخدمته كطاولة! وهذا الذي يستخدم عقله من أجل الدنيا فقط يا خيبة أمله، العقل يمكن أن تصل به إلى الله.
 أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً، لذلك أقول لكم: ما من مخلوق على وجه الأرض أعقل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن كل وقته كان عملاً صالحاً، ما ضيع من وقته ثانية، استقامته مذهلة، وجد تمرة على السرير، قال : "والله يا عائشة لولا أني أخشى أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها"، يبدو أنه اشتهاها، لكنه خاف أن تكون من تمر الصدقة، عقل راجح وورع شديد.

الحياة الدنيا فرصة ذهبية لا تعوض لدفع ثمن الآخرة فيها :

 أيها الأخوة، حينما تعرف سرّ الحياة، هذه الحياة الدنيا فرصة ذهبية لا تعوض لدفع ثمن الآخرة فيها، المؤمنون عندما يتجولون في الجنة يقولون:

﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ﴾

[ سورة الزمر: 87 ]

 لولا أن كنا في الأرض، واستقمنا على أمره، وأدينا العبادات، وعملنا الصالحات، ما وصلنا إلى هنا، للتقريب، طبيب أخذ دكتوراه في الطب، وتابع دراسته في جامعات كبيرة، ورجع طبيباً يحمل أعلى درجة علمية، وصار دخله فلكياً، فإذا دفع كل مريض ألف ليرة، وكان عنده ثلاثون مريضاً، أو خمسون مريضاً مثلاً فدخله فلكي ، هذا الطبيب مع هذا الدخل الكبير اشترى بيتاً فخماً، ومركبة فاخرة، مثلاً مرّ أمام الجامعة يقول: لولا أنني طالب في هذه الجامعة ما كنت بهذا الدخل، لولا أنني انتسبت إلى هذه الجامعة، ونلت منها الدكتوراه، ثم تابعت الدراسة، لما كنت بهذا الدخل، لذلك يوم القيامة المؤمنون في الجنة:

﴿ قَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ﴾

[ سورة الزمر: 87 ]

 لولا أن كنا في الأرض، وعرفنا الله في الأرض، واستقمنا على أمره في الأرض، وأقبلنا عليه في الأرض، وتقربنا إليه في الأرض، لما كنا هنا:

﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾

[ سورة الزمر: 87 ]

 مرة ثانية: أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً، أيها الأخوة الكرام، أبو سفيان حينما فتحت مكة نظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: ما أعقلك! وما أحلمك! وما أرحمك! وما أوصلك!.
 أي عقل ما بعده عقل، رحمة ما بعدها رحمة، حكمة ما بعدها حكمة، وفاء ما بعده وفاء.

 

الآية التالية أول شهادة من الله لنبيه في أرجحية عقله :

 أول شهادة من الله لنبيه في أرجحية عقله قوله تعالى:

﴿ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ* مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴾

[ سورة القلم: 1-2]

 ورد في بعض الآثار، "إن النبي عليه الصلاة والسلام رأى مجنوناً في الطريق، فسأل أصحابه سؤال العارف: من هذا ؟ قالوا : هذا مجنون، قال : لا، إنه مبتلى، المجنون من عصى الله".

 

الدنيا ما لم تنتقل منها إلى معرفة الله فهي دنيا وليست عليا :

 أيها الأخوة، شيء آخر:

﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا﴾

[سورة هود: 28]

 الأمر واضح جداً، هناك آخرة، هناك جنة إلى الأبد، هناك نار إلى الأبد، لهذا الكون إله عظيم، ورب رحيم، وخالق عظيم، هناك منهج، هناك قرآن، هناك سنة، هناك أعمال صالحة، هذا الذي عرف الحقيقة وعرف سرّ وجوده وغاية وجوده، قال:

﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا﴾

[سورة هود: 28]

 أي إذا شخص لم يأكل في حياته إلا الدبس، فأقسم بالله العظيم أنه ما من شيء حلو أطيب من هذا الدبس، كلامه صحيح، لأن أفقه ضيق، لو ذاق العسل لما قال هذا الكلام، أهل الدنيا لا يعرفون إلا الدنيا، لذلك الفلاح عندهم والنجاح المال، والمتع، والطعام، والشراب، والبيت، والمركبة:

 

﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾

 

[ سورة الروم: 7]

 لذلك الدنيا ما لم تنتقل منها إلى معرفة الله فهي دنيا ليست عليا.

 

القرب من الله عز وجل أجمل ما في الدنيا :

 أقوال كثيرة يقولها العلماء: في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.
 ماذا يفعل أعدائي بي؟ بستاني في صدري، إن أبعدوني فإبعادي سياحة، وإن حبسوني فحبسي خلوة، وإن قتلوني فقتلي شهادة، فماذا يفعل أعدائي بي؟ الدنيا جنة لمن عرف الله.

﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا﴾

[سورة هود: 28]

 لذلك قال بعض العلماء: مساكين أهل الدنيا، جاؤوا إلى الدنيا وخرجوا منها ولم يذوقوا أطيب ما فيها، إن أجمل ما فيها هو القرب من الله عز وجل.

 

من عرف الله عرف كل شيء و من فاتته معرفة الله فاته كل شيء :

 أيها الأخوة، يقول بعض العلماء: إن الله تعالى لم يعطِ جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كحبة رمل من جميع رمال الدنيا، وإن محمداً صلى الله عليه وسلم أرجح الناس عقلاً، وأفضلهم رأياً، لأنه عرف الله.
 أعيدكم مرة ثالثة إلى المثل، لما اخترت هذه الجوهرة ـ الألماسة ـ التي ثمنها يقدر بمئة وخمسين مليون دولار، ولم تعبأ بهذا الإناء الكبير، ولا بهذا الكأس، فعقلك راجح، فبطولتك أن تحسن اختيارك، ماذا اخترت؟ إنسان اختار الدنيا، اختار المال فقط، اختار المتعة، اختار اللذائذ، الشهوات، اختار المرأة، وإنسان تعرّف إلى الله، إن عرفته عرفت كل شيء، وإن فاتتك معرفته فاتك كل شيء.
 أيها الأخوة الكرام، سيدنا خالد عندما دخل في الإسلام دخل متأخراً، هناك ملمح للنبي خطير جداً، دخل سيدنا خالد على النبي عليه الصلاة والسلام وسلم وقال له: السلام عليك يا نبي الله، لأن خالداً دخل بمعارك ضد النبي عليه الصلاة والسلام، وكان قائد جيش، وهو أحد أسباب عدم انتصار المؤمنين في أحد، لكن عندما أسلم قال: السلام عليك يا رسول الله ـ خالد أحد العمالقة من القادة الكبار ـ فقال عليه الصلاة والسلام : " تعالَ أقْبِل، فأقبل، فقال عليه الصلاة والسلام: الحمد الله الذي هداك ، فقد كنتُ أرى لك عقلاً، ورجوت ألا يسلمك إلا إلى الخير.
 معنى ذلك أن من شأن العاقل، من شأن الذكي، أن يهديه عقله وذكاؤه إلى الله عز وجل، إلى الله معرفة، وطاعة، وقرباً.
 هناك نص آخر يقول له: "عجبت لك يا خالد أرى لك عقلاً، وأرجو ألا يسلمك إلا إلى الخير، وقد أسلمك إلى الخير".
 أنت امتحن عقلك بقدر طاعة ربك، النبي الكريم قال: "قد أفلح من رُزِقَ لبًّاً".
 هناك بعض الفواكه، لها قشرة جميلة، لكن العبرة باللب، فإذا وجدت قشرة بلا لب فلا تأخذها، للطرفة هناك إنسان يأخذ برتقالة ويقشرها بشكل دقيق، ويأخذ لبها، ثم يعيد القشرة كما كانت، فإذا أمسكها إنسان آخر وجدها فارغة، فيصاب بخيبة أمل، فالعقل لب، والإنسان بلا عقل، بلا لب.
 يقولون: مرة كان أبو حنيفة النعمان ـ رحمه الله ـ يلقي درساً حول صلاة الفجر، ودخل إنسان طويل القامة، عريض المنكبين، له مكانة، يرتدي جبة، وغطاء على رأسه، فيبدو أن أبا حنيفة ـ رحمه الله تعالى ـ ظنه عالماً كبيراً، فكان يشعر بألم في رجله وكان يمدها، مستأذناً طلابه، فلما رآه رفع رجله فجلس هذا العالم الكبير الشأن، العريض القامة، والحديث عن صلاة الفجر فسأل سؤالاً قال: كيف نصلي الفجر إذا طلعت الشمس قبل الفجر؟ قال له: عندئذ يمد أبو حنيفة رجله.
 أحياناً سؤال يُحجمك، سؤال يُنهيك، والإنسان دائماً يرى الشخص يأخذ فكرة عنه من ثيابه، فإذا تحدث نسي ثيابه، وإذا سافر معه نسي حديثه، إن شاء الله نتابع هذا الموضوع في درس قادم.

الموضوع العلمي :

الإعجاز في السنة عن عودة بلاد العرب جنات و أنهارا :

 ننتقل إلى الموضوع العلمي.
 أيها الأخوة الكرام عالم من أشهر علماء البيولوجيا، ومتخصص في المنطقة الواقعة بين إفريقيا وبين الجزيرة العربية، التقى بعالم مسلم فسأله هذا العالم المسلم هل عندك دليل على أن أرض العرب كانت بساتين وأنهاراً؟ الصحراء ـ الربع الخالي ـ ماذا يوجد فيها؟ رمال فقط، منطقة قاحلة لا نبات، ولا نهر، فقال له هذا العالم المسلم: هل عندك دليل على أن أرض العرب كانت بساتين وأنهاراً؟ نحن نعرف تدمر، تدمر كانت بساتين وأنهاراً، الأرض لها دورات عديدة، لها أكثر من عشر دورات غير الدورتين المألوفتين، حول نفسها وحول الشمس، هذه الدورات تغير وضع الخصوبة والجفاف في الأرض، الربع الخالي كان جنات، كان بساتين، كان أنهاراً، تدمر كذلك، كانت جنات، وبساتين، وأنهاراً، قال له هذا العالم: هل عندك دليل على أن أرض العرب كانت بساتين وأنهاراً؟ فقال: هذا معروف عندنا، وهذا شيء يعرفه العلماء المتخصصون، قال له: ما الدليل؟ قال: في الجزيرة العربية رواسب نهرية تلاحظ في أماكن عدة، وقد عثر على قرية مدفونة تحت الرمال في الربع الخالي، فيها مناطق متحجرة، وقد عثر على مناطق أخرى متحجرة، فلما فحصت فإذا هي جذوع أشجار كبيرة، وهذا كله يؤكد أن هذه البلاد كانت بساتين وأنهاراً، فمنطقة الربع الخالي الصحراء، الجرداء، القاحلة، كانت مفعمة بالبساتين والأنهار، وهذا شيء ثابت عن علماء الجيولوجيا الذين وجدوا المستحاثات وقد أكدوا ذلك، ثم سأله سؤالاً آخر فقال: هل عندك دليل على أن بلاد العرب ستعود بساتين وأنهاراً؟ فقال: هذا أيضاً شيء معروف عندنا، قال: وما الدليل؟ قال: كتل الجليد الضخمة تتجه نحو الجنوب، وهذا الذي سبب قبل أعوام شتاءً قارساً جداً في أوربا، وأمريكا، وإن اتجاه هذه الكتل الجليدية نحو الجنوب سوف يغير مناخ الأرض، وبتغير مناخ الأرض سوف تتغير خطوط المطر، ولا بد من أن يأتي يوم تعود بلاد العرب فيه كما كانت، مروجاً وأنهاراً.
 الآن عالم مسلم مع علماء الجيولوجيا، وعلماء الجيولوجيا لا يعنيهم إطلاقاً القرآن والسنة، عندهم مستحاثات، عندهم دراسات، عندهم أبحاث دقيقة جداً، تؤكد أن منطقة الربع الخالي، الصحراء الجرداء القاحلة كانت مروجاً وأنهاراً وسوف تعود مع تبدل خطوط المطر مروجاً وأنهاراً.
 فقال هذا العالم الجيولوجي المسلم ما قولك في رجل قال قبل ألف وأربعمئة عام:

((لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ الْمَالُ وَيَفِيضَ حَتَّى يَخْرُجَ الرَّجُلُ بِزَكَاةِ مَالِهِ فَلاَ يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهَا مِنْهُ وَحَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأَنْهَارًا))

[مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

 أدق كلمة في الحديث كلمة تعود، أي كانت، النبي الأمي الذي عاش قبل ألف وأربعمئة عام، يقول: حتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً، هذا الشيء ثبت الآن بالأبحاث الجيولوجية، والمستحاثات، وما إلى ذلك، أما أن يأتي نبي أمي قبل ألف وأربعمئة عام يقول هذه الحقائق! لذلك هذه الأمور التي تحدث عنها النبي ليس من أنه يعلم الغيب، ولكن الله أخبره بذلك، هذا من إخبار الله له:

((لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ وفي نهاية الحديث وَحَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأَنْهَارًا))

[مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

الإيمان الكامل برسول الله صلى الله عليه و سلم :

 لذلك قال تعالى:

﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾

[ سورة النجم: 3-4 ]

 أحاديث كثيرة النبي تنبأ بها فيما يؤكد أن كلامه ليس من ثقافته، ولا من معطيات عصره، ولا من اجتهاده، ولا من بيئته، ولكنه وحي يوحى، لذلك يقول سيدنا سعد بن أبي وقاص: "ثلاثة أنا فيهن رجل وفيما سوى ذلك أنا واحد من الناس، ما صليت صلاة فشغلت نفسي بغيرها حتى أقضيها، ولا سرت في جنازة فحدثت نفسي بغير ما تقول حتى أنصرف منها ـ الشاهد هنا ـ وما سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علمت أنه حق من الله تعالى".
 فلذلك أيها الأخوة، أنت حينما تقرأ القرآن الكريم، وتقرأ فيه عن ألف وثلاثمئة آية تتحدث عن حقائق اكتشفت الآن، وحينما تقرأ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكتشف أن الذي جاء به ليس من ثقافته، ولا من معطيات عصره، ولا من اجتهاده، ولا من بيئته، ولكنه وحي يوحى، أرجو الله سبحانه وتعالى أن نرزق الإيمان الكامل برسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور