وضع داكن
28-03-2024
Logo
أحاديث متفرقة - الدرس : 043 - إذا أراد الله بعبده خيراً فقهه في الدين .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الأكارم: قبل أن أشرع في شرح بعض الأحاديث الشريفة التي اخترتها لكم من كتاب الجامع الصغير لابد من مقدمة تلقي ضوءاً على محور هذه الأحاديث المقدمة.
 إن الإنسان له جانب عقلي وجانب نفسي هو وإن غذاء العقل هو العلم، وإن غذاء القلب هو الحب، والذي لا يحب أو لا يُحب ليس من بني البشر، إذا كنت تنتمي إلى بني البشر فلابد من أن تحب، ولابد من أن تُحب، السؤال الآن أن تحب شيء واقع، هذه حقيقة لا يستطيع إنسان على وجه الأرض أن ينكرها، لأن هذا من جبلة الإنسان، ولكن المشكلة من تحب، المشكلة كلها من هو أهل أن تحبه ؟ زوجتك، أولادك، عملك، الدرهم والدينار، الشهوات، الملذات، المباهج، لابد من أن تحب، لأنها فطرتك، لأنها جبلتك، لأنها طبيعتك، ولكن السؤال الدقيق من هو أهل أن تحبه ؟
 بادئ ذي بدء كل شيء فانٍ، ليس أهلاً أن تحبه، لسبب بسيط، لأنه فان، لأنك إذا تورطت، وأحببته غاب عنك في أدق اللحظات، لو كنت متخذاً من العباد خليلاً لكان أبو بكر خليلي، ولكن أخ وصاحب في الله، فلما يتورط الإنسان يتورط في حب غير الله فقد غامر وقامر بحياته، وقد ضل ضلالاً مبيناً، وقد ضل سواء السبيل، وقد اتجه إلى طريق مسدودة، وقد انطلق في هاوية ما لها من قرار، لسبب بسيط، لأن الذي أحببته لن يدوم لك، هذا أول سبب، فأحب الباقي، ودع الفاني، أحب الذي يدوم إلى الأبد، ودع الذي ينتهي عند الموت، ألم يقل عليه الصلاة والسلام:

((عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب ما شئت فإنك مفارق، واعمل ما شئت فإنك مجزي به))

  حتى إن هذا الإنسان الذي طرق باب سيدنا عمر ليشكو زوجته فسمع صراخاً في بيت عمر، فعاد أدراجه، سيدنا عمر سمع طرق الباب، انطلق ليفتح الباب رأى رجلاً قد ابتعد، يا أخا العرب تعال، لماذا طرقت الباب، وابتعدت ؟ قال: جئتك أشكو مما أنت منه تشكو، أشكو لك من المشكلة نفسها، قال له: يا أخا العرب، هذه الزوجة، إما أن تفارقنا، وإما أن نفارقها، وليست أبدية، دارها تعش بها.
 هذا حل معقول، الحياة لا تدوم، شيء من المداراة، وشيء من التفاهم، وشيء من التنازل، منك شيء، ومنها شيء، التقوا في منتصف الطريق، القضية انحلت.
 من المؤهل أن تحبه ؟ الله سبحانه وتعالى، أول موضوع، أول قسم بالدرس لماذا يجب أن تحب الله ؟ لأنه باق، ولماذا يجب ألا تتورط في حب الدنيا ؟ لأنها زائلة، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى.
 يوجد سبب آخر، لأن المخلوق مهما علا شأنه لا يستطيع أن يدفع عنك ضراً، ولا أن يجلب لك نفعاً، لو كنت أقرب الناس إلى فلان، وصرت في مرض عضال يبعث لك باقة ورد يموت، يبعث له إكليلا، وغير ذلك، يبكي، يقول: تأثرنا لموتك، هل يستطيع مخلوق أن يتدخل ويشفيك ؟ لا يقدر، أولاً لأن الله عز وجل باق على الدوام، هو الذي ينبغي أن تحبه، الشيء الثاني لأن ما سوى الله لا يستطيع أن يجلب لك نفعاً، ولا أن يدفع عنك ضراً، قال تعالى:

 

﴿إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ﴾

 

[ سورة فاطر: 14]

﴿وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ﴾

[ سورة فاطر: 14]

  يجب أن تحب الله، لأنه باق على الدوام، ولأن أمرك كله بيدك.
 النقطة الثانية في الدرس يا ترى المعول عليه أن تحبه أم أن يحبك ؟ أن تحبه شيء طبيعي وبديهي، لأنه المنعم، لكن الشيء الذي يسعدك أن يحبك هو، عندك إنسان أعطيته منحة كبيرة، فأحبك، هو ما له فضل في هذا الحب، أما إذا رأيت منه عملاً أخلاقياً رائعاً، تضحية، إيثاراً، الآن تحبه، فمحبتك له بعطائك إياه محبة ابتدائية، أما إذا وقف موقفاً أخلاقياً، وقف موقفاً مخلصاً، الآن تحبه محبةً لها نوع خاص.
 درسنا اليوم يا ترى إذا أنت أحببت الله عز وجل لأنه يغدوك بنعمه، كما قال عليه الصلاة والسلام: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ مِنْ نِعَمِهِ وَأَحِبُّونِي بِحُبِّ اللَّهِ وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي بِحُبِّي ))

[ الترمذي ]

  إذا أحببت الله عز وجل لما يغدوك به من نعمه ماذا يقتضي حبك لله عز وجل ؟ أن تلتزم أمره ونهيه، الآن إذا طبقت أمره تماماً أحبك الله، السؤال: هل عندك دليل على أن الله يحبك ؟ في الحديث الشريف طائفة من أقوال النبي عليه الصلاة والسلام فيها إشارة إلى أن الله إذا أحبك أراد بك الخير، وإذا أراد بك الخير فعل معك كذا وكذا، وهذا محور درسنا.
 يقول عليه الصلاة والسلام:

((إذا أراد الله بعبد خيراً جعل غناه في نفسه))

 أنت عالم، هذه النفس البشرية خلقت للأبد، عالم زاخر بكل شيء،
 أتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر.
 فإذا كنت غنياً في نفسك، إذا كنت مؤمناً بربك، إذا كنت صادقاً مع نفسك، إذا كنت أميناً على من ائتمنك، إذا كنت محباً لمن خلقك، إذا كنت صابراً، إذا كنت ذاكراً، إذا كنت شاكراً، إذا كنت متوكلاً، إذا كنت مستسلماً، إذا كنت مفوضاً، أنت دولة، قال تعالى:

 

﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾

 

[ سورة النحل: 120]

  هناك شخص بألف بمليون، بمئة ألف مليون، النبي عليه الصلاة والسلام أقسم الله بعمره، قال تعالى:

 

﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾

 

[ سورة الحجر: 72]

  الله عز وجل خاطب النبي عليه الصلاة والسلام، فقال:

 

﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾

 

[ سورة القلم: 4]

  قال تعالى:

 

﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾

 

[ سورة الشرح: 1-4]

  لا يذكر الله عز وجل إلا ويذكر معه النبي عليه الصلاة والسلام، وأنت أيها المؤمن لك نصيب من هذه الآية، إذا أنت أخلصت لله عز وجل إخلاصًا جيدًا، وأحببت الله حباً صحيحاً صادقاً، وانطلقت لخدمة الخلق كي يرضى عنك رب الخلق، إذا كنت كذلك فالله عز وجل يرفع لك ذكرك بقدر إيمانك، وبقدر إخلاصك، وإذا أحببته ألقى حبك في قلوب الخلق، إذا أحببته فيما بينك وبينه ألقى حبك في قلوب الملائكة، فإذا أحببته، وانطلق لسانك بذكر نعمائه ألقى حبك في قلوب الخلق، إذا خفته ألقى في قلوب الخلق الخوف منك، صارت لك هيبة، إذا اشتغلت به اشتغل الناس بك، بمعنى حديثهم أنت، إذا اشتغلت به اشتغل الناس بك، إذا أحببته أحبك الناس، إذا هبته هابك الناس، إذا خفته خافك الناس، معادلة دقيقة جداً، ومعادلة رياضية بالثواني لا بالدقائق.
 إذا أردت أن تكون أكرم الناس فاتق الله، إذا أردت أن تكون أغنى الناس فكن بما في يدي الله أوثق منك مما في يديك، إذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله.

 

((إذا أراد الله بعبد خيراً جعل غناه في نفسه)).

 إن جلست مع غني تحس أنه منتشٍ ممتلئ، عنده معنويات عالية بشكل لا يصدق، من أين هذه المعنويات ؟
 تصور إنساناً يعمل عند ملك، دخل على الملك، وقابله، هذا الملك ابتسم بوجه أثنى على ذكائه، أجلسه بجانبه، منحه شيئًا، يخرج ويمشي بالعرض، ابتسامته، منتشٍ، يحس بمكانة علية، إذا كان الإنسان العادي أقوى من الآخرين، له مكانة عند الآخرين، الله جعله فوقهم، خصك بابتسامة، أو بنظرة، أو بمصافحة حارة، أو بهدية، أو أثنى عليك، تنتشي أنت، هذا انتشاء مزيف، أما إذا شعرت أن خالق الكون يحبك، وأنك بعينه، وأنك برعايته، هذه المعنويات، إذا أراد الله بعبد خيراً جعل غناه في نفسه، وإذا هذا الإنسان امتلأ قلبه حباً للدنيا قد يجعل غناه في دفتر شيكاته، يقول لك: أنا معي شيك مفتوح، لكن هذا لا ينفعه حينما يأتي الأجل، وهذا لا ينفعه إذا أراد الله المعالجة، إذاً أنت غني بماذا ؟ غني بممتلكاتك أم غني بنفسك ؟ المؤمن غني بنفسه، وغير المؤمن غني بممتلكاته، لذلك من علامات قيام الساعة أن قيمة المرء في آخر الزمان متاعه، ولكن المؤمن قيمته في معرفته بربه، وفي تطبيقه لمنهجه، وفي حبه له.
 عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

 

((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا فَقَّهَهُ فِي الدِّينِ))

[ متفق عليه ]

  رتبة العلم أعلى الرتب، إن الله عالم يحب كل عالم، الفرق الدقيق بين الإنسان وغير الإنسان هو العلم.
 رجل واقف عند قصاب يقول لك: هذه كُلى، هذا الكظر، هذا الكبد، المعدة، الأمعاء، عضلات، عظام، أوتار، دماغ، نخاع، سوداء، كبد، البنية واحدة تقريباً، يمكن أن يكون حيوانًا أقوى من الإنسان، أضخم، أوزن، أسرع بصره، أدق، النسر ثمانية أمثال بصره، الكلب شمه مليون ضعف، شم الإنسان يكفي أن تعطيه بعض أدوات المتهم حتى يميز رائحته من بين الملايين بالشم، الكلاب أقوى، بالبصر النسور أقوى، بالسمع القطط، والكلاب أدق سمعاً، يتعرفون إلى الزلازل قبل وقوعها، من بعض الدواب في خفة الحركة القطط، في سرعة الجريان هناك الغزال، أي حيوان لحكمة أرادها الله عز وجل جعله يتفوق على الإنسان، إلا الإنسان بالعلم والخلق، فإذا تخلف في عقله وفي أخلاقه كان دون مستوى الحيوان، وهذا الذي قاله الله عز وجل:

 

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾

 

[ سورة البينة: 6-7]

 الإنسان المؤمن خير ما برأ الله والكافر شر ما برأ الله إذاً:

((... إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا فَقَّهَهُ فِي الدِّينِ))

  بالمناسبة أي علم ممتع لو تعلمت تاريخ العصور البيزنطية في متعة، أي علم تقرأ تاريخ جغرافيا، فيزياء، كيمياء، فلك، تقرأ مثلاً تشريح بعض الحيوانات، أي علم ممتع، هناك علم ممتع، ونافع، إذا كان معك اختصاص الناس في أشد الحاجة له تطلب أرقامًا غالية كثيراً، مختص بالكومبيوتر، ونحن بحاجة له، تطلب في الشهر ثلاثين ألف مثلاً، هناك علم ممتع، وعلم ممتع نافع، أما العلم الديني فممتع نافع مسعد لا في الدنيا فحسب، بل في الدنيا والآخرة.

 

((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا فَقَّهَهُ فِي الدِّينِ وزهده في الدنيا وبصره بعيوبه))

  هذه كلها مقاييس، إذا أردت أن تعرف أيحبك الله عز وجل، أيريد بك خيراً فقهك في الدين، يعني جمعك مع أهل الحق، جعل قلبك يهفو إلى المساجد، جعل المسجد مأوىً لك، قال تعالى:

 

 

﴿فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً﴾

 

[ سورة الكهف: 16]

  الكهف في آخر الزمان هو المسجد، أنت أويت إلى بيت الله حيث معرفة الله، حيث آياته، حيث سنة نبيه، وسيرة أصحابه، فلذلك:

((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا فَقَّهَهُ فِي الدِّينِ))

  وإذا أراد به شراً بالمعنى المعاكس يريد خمس نجوم دائماً، يريد عرسًا بمكان فخم، يريد حفلة مختلطة، يريد ناديًا ليليًا حيث الخمور، والغنى، والفسق، والفجور، فالناس رجلان، بر تقي، وفاجر شقي، فالمؤمن يأوي إلى بيوت الله، وغير المؤمن يأوي إلى أماكن اللهو والطرب، الحديث دقيق:

((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا فَقَّهَهُ فِي الدِّينِ وزهده في الدنيا وبصره بعيوبه))

((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا جعل له واعظاً من نفسه يأمره وينهاه))

  دائماً في تفكير يا ولدي لا أحبّذ لك هذا السفر، هذا واعظ من نفسه، هذه الصفقة لا تريدها فيها شبهة، فلان لا تزره ضال مضل، فلان زره دائماً، إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا فعنده واعظ داخلي يأمره وينهاه، الواعظ هو الملك، أنت بين إلهام ملك ووسوسة شيطان، تأكد أن حركتك اليومية إما بوحي من ملك أو بوسوسة من شيطان، فإذا كنت مع الله قيض الله لك ملكاً يلهمك رشدك، وإذا كنت مع الشيطان لا سمح الله قيض لك قريناً يوسوس لك كل فعل سيئ، قال تعالى:

 

﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ﴾

 

[ سورة النمل: 4]

  الشيطان يريك المعصية متألقة، يريك أكل مال الناس مغنماً، وذكاء، يريك العدوان بطولة يريك الانغماس بالشهوات ذكاءً، هكذا، هذا الذي دعاه النبي عليه الصلاة والسلام:

((اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه))

((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا جعل غناه في نفسه))

(( وإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا فَقَّهَهُ فِي الدِّينِ وزهده في الدنيا وبصره بعيوبه ))

((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا جعل الله له واعظاً من نفسه))

  الواعظ من نفسه عنده محكمة داخلية، عنده ميزان داخلي، معه ميزان واللهِ لو نطبق الذي قاله النبي عليه الصلاة والسلام والله لمات القضاة من الجوع، ولأغلقت المحاكم كلها، ما هو الميزان ؟
 قال: عامل الناس كما تحب أن يعاملوك، هذه كنّتك التي في البيت تعاملها معاملة كما تتمنى أن يعامل زيد ابنتك، وهي عنده، لما تعامل أم زوجتك معاملة أتنتظر من زوجتك أن تعامل بهذه المعاملة، أترضى من زوجتك أن تسخر من أمك ؟ لماذا تسخر من أم زوجتك ؟ لو طبقت هذه القاعدة في العلاقات الاجتماعية، في العلاقات المالية، في البيع في الشراء، في كل شيء عامل الناس.
 أقول لكم ولا أكتمكم: إن الإنسان إذا استخدم مقياسين سقط من عين الله مرة كنت في محل تجاري الابن حمل، إياك يا بني، ظهرك، لم ينتبه بعد دقيقتين أو ثلاث عنده صانع حمله حمله، قال: سيدي، فقال: أنت شاب في أول حياتك، ما انتبه لنفسه أن ابنه خاف على ظهره، أما الصانع فشاب، مقياسان، حينما تقيس الأمور بمقياسين انتهيت كإنسان، سقطت من عين الله، يجب أن تقيس الأمور كلها بمقياس واحد، قال: عامل الناس كما تحب أن يعاملوك، هذا كيف طبقه النبي عليه الصلاة والسلام، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ:

((إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ قَالُوا مَهْ مَهْ فَقَالَ ادْنُهْ فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا قَالَ فَجَلَسَ قَالَ أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ قَالَ لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ قَالَ أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ قَالَ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ قَالَ أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ قَالَ لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ قَالَ أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ قَالَ لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ قَالَ أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ قَالَ لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ قَالَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ وَحَصِّنْ فَرْجَهُ فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ ))

[أحمد ]

  إذا أطلق بصره في فتاة هذا الشاب نفسه لو رأى شاباً آخر يحدق في أخته يمكن أن يغلي، هذا مقياس، هذا المقياس إذا طبقناه في حياتنا فلن نقع في مشكلة، ولا قضية، ولا معضلة، ينتهي كل شيء، أنت واقف وراء الطاولة، أمام موظف، أنت موظف أمامك مراجع، لو كنت محله أترضى أن يقول لك: تعال غداً، وبعد غد، وتخلق له مشكلة، تخوفه، أترضى أن تكون محله ؟ لا ترضى، أنت بائع، أترضى لو كنت شارياً أن تغش، أن يدلس عليك ؟ لا ترضى، هذا المقياس، قال: عامل الناس كما تحب أن يعاملوك.

 

((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا جعل الله له واعظاً من نفسه يأمره وينهاه ))

 

((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا عسله))

  قيل: وما عسله ؟ ليس معنى أنه أطعمه عسلاً، أي يفتح له عملاً صالحاً قبل موته، يرزقه عملاً صالحاً، إن في الدعوة إلى الله، إن في هداية الناس، إن في خدمتهم، إن في بناء المساجد، إن في إطعام اليتامى، إن في رعاية الأرامل، إن في تأمين الشباب في بيوت، إن في تزويج الشباب إذا:

((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا عسله قيل وما عسله قال يفتح له عملاً صالحاً قبل موته ثم يقبضه عليه))

((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا صير حوائج الناس إليه))

 هذا مقياس والله.

 

((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا صير حوائج الناس إليه))

 فالإنسان لا يضجر إذا سمح لك الله عز وجل أن تخدم خلقه، هذا شرف عظيم نلته، وهذه مرتبة عالية، تفضل الله بك عليها، ولو شاء لصرفهم عنك إلى غيرك، قال تعالى:

 

 

﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾

 

[ سورة محمد: 38]

  لا تتدلل كثيراً، أخي ما ارتاح، لا ترتاح هي الدنيا للعمل، كلها هموم، ولكن الهموم كلها مقدسة، لا تمن على الله عز وجل، قال تعالى:

 

﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾

 

[ سورة الحجرات: 17]

  إذا جاء إنسان إلى وليمة، وما أكل، أخي ها نحن جئنا، أما إذا أكل يقول: كثر الله خيرك، إذا أكل شيئًا، وإذا ما أكل شيئًا آخر، إذا وضعوا له صحونًا، لكن ليس فيها طعام، انتظر ساعات، ومشى، أخي جئنا، يمن عليه، أما لو أكل لا يمن عليه، بالعكس يشكره.

 

﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾

 

[ سورة الحجرات: 17]

  إذا كنتم صادقين في طلب الإيمان، ذقتم حلاوة الإيمان، عندئذ لا تمنون على الله، بل الله يمن عليكم.

 

((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا صير حوائج الناس إليه))

 

((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا عاتبه في منامه))

  الإنسان الصادق إذا كان في طريق غلط يرى مناماً فيه تحذير، معنى هذا أنه غال على الله، فالعتاب في المنام صير حوائج الناس إليه، طهره قبل موته، عسله، فقهه في الدين، زهده في الدنيا، بصره بعيوب نفسه، جعل له واعظاً من نفسه يأمره وينهاه، جعل غناه في قلبه.
هذه كلها من علامات حب الله لك، هذا مقياس.
 أجرى أحدهم تحليلا، يرى في القائمة النسبة الطبيعية، يرى النسبة عنه 350، الطبيعية 125، واللهِ هناك زيادة، الأحاديث كلها معايير طبيعية، هكذا المؤمن، فإذا طبقت عليك هذه الصفات فاشكر الله عز وجل، ما طبقت هناك شيء آخر.
 قبل أن ننتقل إلى السيرة أقرأ عليكم مرة أخيرة الأحاديث.

 

((إذا أراد الله بعبد خيراً جعل غناه في نفسه)).

 

((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا فَقَّهَهُ فِي الدِّينِ وزهده في الدنيا وبصره بعيوبه))

((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا جعل له واعظاً من نفسه يأمره وينهاه))

((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا عسله قيل وما عسله قال يفتح له عملاً صالحاً قبل موته ثم يقبضه عليه))

((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا طهره قبل موته))

((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا صير حوائج الناس إليه))

((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا عاتبه في منامه))

 وفي حديث أخير:

((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍه الخير عجل له العقوبة في الدنيا))

  ثوب أبيض عليه سواد فوراً تنظفه، أما ثوب أصله أزرق، ومن الشحم والزيت والوحل صار أسود، اسكب عليه لتر حبر لا يظهر، ليس هناك مشكلة، إذا كان الإنسان كله ذنوب، كله انحرافات، فلا يشعر على شيء، أما النقي الظاهر فيشعر، كلمة قالها بلسانه قال:

((يا عائشة قلت كلمة لو مزجت بمياه البحر لأفسدته ))

 قالت: صفية قصيرة فقط، هذه الكلمة.
 إذا شعر الإنسان أن الله عز وجل يتابعه كلما غلط في ضربة يفرح.
 الدرس الماضي سيدنا ابن حذافة الذي حدثتكم عنه كان قائداً لسرية فيها ثمانون من أصحاب رسول الله، وقد وقعوا في أسر هرقل، وكيف أن هرقل ملك الروم عذبهم، ووصل إلى قائدهم ابن حذافة، وعرض عليه أن يتنصر، أو أن يضعه في بقرة من النحاس، فيها زيت مغلي، وكيف أن ابن حذافة هذا الصحابي الجليل قال: والله لا أفعل، فجاء برجل، ووضعه أمامه في هذه البقرة، فانفصل جلده عن لحمه فوراً، ثم عرض عليه أن يزوجه ابنته، وأن يجعله شريكه في الحكم على شرط أن يتنصر، فأبى، قال: والله لا أفعل، ثم جاءه كتاب من سيدنا عمر يأمره أن يطلق سراحه، قال: قبل رأسي، وانطلق، قال: والله لا أفعل، إلى أن قال له: قبل رأسي، وخذ كل أصحابك، قال له: أما هذه فنعم، وقبل رأس هرقل، ولما بلغ عمر ما فعل قام أمام أصحابه جميعاً، وقبل رأسه إكراماً له، هذا سيدنا ابن حذافة، طبعاً كان في القسطنطينية استنبول حالياً مقر هرقل.
 رجل عربي كان ملكاً من ملوك الغساسنة في القسطنطينية، رجل مقيم مع هرقل كان ملكاً من ملوك الغساسنة اسمه جبلة بن الأيهم الغساني، من آل جفنة، آخر ملوك الغساسنة في بادية الشام، عاش زمناً في العصر الجاهلي، وقاتل المسلمين في دومة الجندل، وحضر معركة اليرموك، وهو على أطراف الجزيرة، ثم أسلم، وجاء المدينة في عهد سيدنا عمر بن الخطاب، ملك جاء المدينة، وقد أعلن إسلامه، سيدنا عمر رحب به، وقربه منه، فهذا لا تزال عقليته عقلية ملك، فلما كان في الطواف، والقصة تعرفونها جميعاً رويتها كثيراً لكم، ولكن الآن سوف نأخذ تتمتها، فلما كان في الطواف يبدو أن بدوياً من قبيلة فزارة داس طرف ردائه الذي كان يجر وراءه، فلما داس طرف ردائه انكشف عن كتفه فالتفت، وهو ملك إلى هذا البدوي، وضربه ضربةً هشمت أنفه، هذا البدوي ليس له إلا عمر، توجه إلى سيدنا عمر ليشكو جبلة بن الأيهم الملك الغساني.
 يقول: فلطم جبلة عينه أو أنفه، فأمر عمر بالاقتصاص منه، فقال: يا أمير المؤمنين أوعينه مثل عيني ؟ هو من سوقة الناس، وأنا ملك، والله لا أقيم في بلد علي به سلطان، فهاجر إلى بلاد الروم مرتداً، لأنه رفض أن ينفذ حكم الله، ضرب أنف هذا البدوي، فهشمها، فلما أمر عمر أن يضرب أنفه رفض.
هناك شاعر صاغ هذا الحوار ببعض الأبيات، فيقول له:
 أصحيح ما ادعى هذا الفزاري الجريح ؟
 قال جبلة: لست ممن ينكر، أو يكتم شيئا، أنا أدبت الفتى أدركت حقي بيدي.
 قال عمر: أرضِ الفتى، لابد من إرضائه، ما زال ظفرك عالقاً بدمائه، أو يهشمن لآن أنفك، وتنال ما فعلته كفك.
 فقال جبلة: كيف ذاك يا أمير المؤمنين، هو سوقة، وأنا صاحب تاج،هذا من عامة الناس، كيف ترضى أن يخرَّ النجم أرضاً.
 يقول له عمر: نزوات الجاهلية ورياح العنجهية قد دفناها، وأقمنا فوقها صرحاً جديداً، وتساوى الناس أحراراً لدينا وعبيداً.
 قال جبلة: كان وهماً ما جرى في خلدي أنني عندك أقوى وأعزّ، أنا مرتدٌ إذا أكرهتني.
 فقال عمر: عنق المرتد بالسيف تحذ عالَم نبنيه كل صدع فيه بشبا السيف يداوى، وأعز الناس بالعبد بالصعلوك تساوى.
 وارتد إلى بلاد الروم، واستقبله هرقل، وقربه، وأعطاه قصراً، وأسكنه فيه، وتنصر.
 سقت هذه القصة لأن الإنسان أحياناً بساعة غضب يرتكب حماقة يدفع ثمنها طول حياته، وأحياناً يدفع ثمنها بعد مماته، وأحياناً يخلد في النار بسبب موقف غير صحيح، لهذا قال عليه الصلاة والسلام:

((ألا يا رب شهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً))

  يصنفون المجرمين مع الأغبياء، لأنه بساعة من ساعات غضب قتل إنسانا، فحكِم ثلاثين سنة في السجن، غبي جداً، لذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام:

((لا تغضب))

 ودائماً الإنسان المستقيم لا يصل إلى مواقف حرجة، فهذا ارتدى ثوباً طويلاً، وهذا مخالف للسنة، بالخطأ داس هذا البدوي طرف الثوب، انخلع من كتفه، انزعج، التفت، فإذا بدوي، ضربه ضربةً هشمت أنفه، البدوي شكاه إلى عمر، عمر يقيم الحق الناس سواسية كأسنان المشط.
عن عُرْوَة بْنِ الزُّبَيْرِ

((أَنَّ امْرَأَةً سَرَقَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ... ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ النَّاسَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ فَقُطِعَتْ يَدُهَا فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَتَزَوَّجَتْ قَالَتْ عَائِشَةُ فَكَانَتْ تَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))

[ البخاري ]

  هذا التميز في المعاملة، هذا يوجب الهلاك للأمة، أن الشريف إذا سرق لا يحاسب، والضعيف يحاسب، ابن حذافة رضي الله عنه كان في القسطنطينية، ويبدو أنه كان قبل الإسلام على علاقة مع جبلة بن الأيهم، أراد أن يزوره فلعله يعيده إلى حظيرة الإسلام، فالآن زاره في القسطنطينية في قصره المنيف، يقول له ابن حذافة: ويلك يا جبلة، إن قصرك هذا لأجمل من القصر الذي يقيم فيه هرقل، قال: أجل، ذاك قصرهم القديم، وهذا قصر جديد، يقول له ابن حذافة: متاع الحياة الدنيا، والله عنده حسن المآب، سيدنا عمر بن عبد العزيز كلما دخل على مجلس الخلافة يتلو قوله تعالى:

 

﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾

 

[ سورة الشعراء: 205-207]

  يقول له جبلة: هات ما عندك، فليس بيننا أحد، يقول له ابن حذافة: بلغني أن قيصر قد تغير عليك، فقال جبلة: أفلهذا رغبت في زيارتي ؟ يقول له: نعم، لا تبتئس يا جبلة، فلعل الله قد أراد بك خيراً في ذلك، فقال جبلة: أي خير يا أبا حذافة ؟ قال: ومن يمنعك من الرجوع إلى قومك والإسلام، عد إلى دينك، عد إلى أمتك، عد إلى قومك، عد إلى المدينة، قال: أبعد الذي قد كان بعد الموقف مع عمر ؟ قال حذافة: قد ارتد الأشعث بن قيس، ثم رجع إلى الإسلام، في أمثلة أخرى، فقال جبلة: شتان ما بيني وبين الأشعث، الأشعث لم يلحق بقيصر مثلي، ولم يتزوج ابنته قيصر زوج ابنته لجبلة، ابن حذافة قال: بلغني أنك لست معها على وفاق، فلمَ لا تطلقها، قال: أطلقها وهي ابنة قيصر ؟ قال: ولم لا ؟ قال: وقد هجرتك ونشزت عنك، قال: وكيف أعيش بعد ذلك، من أين آكل إذا طلقتها ؟.
 معنى هذا تحمل الهوان، قال: تعني الرزق الذي يجريه عليك قيصر ؟ قال: سنفرض لك عطاءً من ديوان المسلمين، قال: فهل أجد عندكم هذه العيشة هنا ؟ رفاه كبير جداً، يعني آثر هذا الرفاه على كرامته.
 فقال ابن حذافة: هذه عيشة الملوك يا جبلة، وليس في الإسلام ملوك، ولكنك سوف تعيش بيننا حراً كريماً، لا يتعبدك أحد، ولا يمن عليك أحد.
 قال جبلة: ليلطمني أعرابي جلف من بني فزارة.
 قال: ذلك الحق، ولا غطاطة على أحد، أيؤخذ منه الحق، ألا تحب يا جبلة أن تقيم في أرض تسوده كلمة الحق ؟ قال: تلك آفة الملوك يا ابن حذافة، لا يستطيعون إن عزلوا أن يعيشوا ملوكاً، ولا أن يعيشوا سوقة، فيضيعون بين ذلك وذاك.
 قال: لو أن عمر ولاني الشام لكفاني هذا الهوان، قال: ما كان لعمر أن يوليك شيئاً من أمر المسلمين، وأنت ترى أنك ملكاً عليهم، وهم سوقة، ما نضجت، لست أهلاً أن تكون ملكاً عليهم، قال جبلة: أتضمن لي يا ابن حذافة أن عمر يقبلني عن عدت إليه ؟ قال: نعم، قال: بعد كل هذا الذي صنعته معه ؟  قال: نعم، إنه لا يملك أن يردك، قال: ويزوجني إحدى بناته ؟ قال: ويزوجك إحدى بناته، قال له: أتضمن لي ذلك ؟ قال: نعم، قال: وأين أسكن في خص كالخص الذي هو يقيم فيه ؟
 قال: ويحك يا جبلة، ستكون واحداً من المسلمين، لك ما لهم، وعليك ما عليهم، قال: يا ليتني أستطيع أن أفعل هذا يا ابن حذافة، قال: وما يمنعك ؟ قال المصير الذي كتب علي.
 انظر إلى أهل الشرك دائماً: هكذا الله مقدر علي، دائماً المذنب المنحرف يتهم الأقدار.
 قال: هذا مصيري، هكذا الله كاتب علي، قال: كلمة واحدة تقولها يا جبلة، ويتغير هذا المصير كله، قال: هيهات يا ابن حذافة، إني أعرف بنفسي منك، ولكن لي رجاء حبذا لو قبلت.
 طلب منه أن يتزوج ابن حذافة ابنته فذهب إلى ابنته، وقال: يا بنيتي إن ابن حذافة يريد الرجوع إلى المدينة، وقد رجوت أن يحملك معه فيزوجك هناك من هو جدير بك من فتيان العرب، طبعاً هو رفض أن يأخذها لنفسه، قالت له: امرأتك الرومية يا أبي هي التي أوعزت إليك ذلك.
فقال جبلة: إنك تعلمين أنني لست معها اليوم على وفاق، قالت: فعلام تريد أن تقصيني عن القسطنطينية لترميني في الصحراء، فقال: ليست صحراء إنها مدينة عامرة، قالت وردة: أنسيت يا أبي ما كنت تحدثني بالأمس، ألم تقل لي: إن أمير المؤمنين يقيم في خص حقير لا ترضاه أنت لخدمك وعبيدك.
 ذكرته بالكلام السابق، فقال لها جبلة: إنه عمر بن الخطاب زاهد في الدنيا، قالت: كلا بل تريد أن تقصيني عنك، تريد أن تقبرني كما قبرت أمي من قبل، وصارت تبكي، قال جبلة: لا والله إنك لأغلى الناس عندي، وما كنت لأصبر على فراقك، ولكنني أخاف عليك، قالت: ممّ ؟ قال: أن يتزوجك علج من علوج الروم، قالت: فما بالك تريد أن تزوج عمتي عالية واحداً منهم، قال: يا وردة قيصر أكرهني على ذلك، ليس لي خيار، وطلبها مني، وأخاف أن يزوجك هو أحد علوج الروم.
 طبعاً أنا ذكرت التفصيلات لأن الإنسان لما كما قال عليه الصلاة والسلام:

((من أقام مع المشركين برأت منه الذمة))

  صار تحت رحمتهم، وتحت ضغوطهم يمرغون به الوحل، ويضغطون عليه، انظر ساعة غضب شيطاني جعلته يعيش هذه العيشة البعيدة، والتي فيها إهانة لكرامته.
 نقطة دقيقة جداً، يقول له: تلك المحنة التي ليس لي بها يد فلله عليك يا ابن حذافة إن سألوك عني فقل لهم: إني سعيد في بلاد الروم، أعيش في هذا القصر المنيف كما يعيش قيصر الروم، بل أكرم، وأعز، احك لهم ما رأيت عندي من الجواري والكراسي من الذهب والطنافس والحرير والطيور المغردة، احك لهم كل ذلك، ولا تحك لهم عن ذلي وهواني وعذابي في هذه الديار.
 الذي أتمناه على كل مسلم أن يعرف إذا بقي مع دينه، ومع إسلامه، ومع طاعة ربه، ومع إقباله على الله، ومع تطبيقه منهج ربه، وهذه قصة طويلة فيها كثير من التفصيلات نقلت لكم هذه التفصيلات، زوجوه امرأةً تأمره وتنهاه، ونشزت عنه، واستعلت عليه، وهجرته، وأمروه أن يزوج أخته لعلج من علوجهم، وهو يخاف على ابنته، أن يتزوجها واحد منهم، وهو في ذل، وكرامته في الوحل، هذا كله ما جناه، لذلك هذه القصة يمكن أن تكون ترجمةً تفصيلية لحديث رسول الله الذي ورد في الجامع الصغير:

((من أقام مع المشركين برأت منه الذمة))

  أنت انكشفت، كنت مغطى فكشف، كنت في ظل الله فكشفت، كنت تحت رحمة الله فانكشفت، فالإنسان عليه دائماً وأبداً أن يبقى مع منهج الله عز وجل.
 أيها الإخوة الأكارم: القصص تعلمنا الشيء الكثير، السعيد من اتعظ بنفسه، لا من اتعظ بغيره، فكلما قرأت قصة، هذه قصة قديمة، هذا جبلة بن الأيهم الملك الغساني كان ملكاً في بلاد الغساسنة، وحارب المسلمين في وقائع عديدة، في دومة الجندل، ثم اهتدى إلى الله، وطاف حول الكعبة، في ساعة غضب، ساعة ثأر، ساعة حمق، ساعة ثأر لكرامته ارتكب هذه الأحموقة، فهشم أنف الأعرابي، فاحتكما إلى عمر، أمره أن يرضيه، قال: أرض الفتى، لابد من إرضائه، لو أرضيته لانتهى الأمر، مازال ظفرك عالقاً بدمائه، وإن لم ترضه ليهشمن الآن أنفك، وتنال ما فعلته كفك، فما تحمل، فقال جبلة: كيف ذاك يا أمير المؤمنين، هو سوقة، وأنا صاحب تاج،هذا من عامة الناس كيف ترضى أن يخرَّ النجم أرضاً.
 يقول له عمر: نزوات الجاهلية، ورياح العنجهية قد دفناها، وأقمنا فوقها صرحاً جديداً، وتساوى الناس أحراراً لدينا وعبيداً.
 قال جبلة: كان وهماً ما جرى في خلدي أنني عندك أقوى وأعزّ، أنا مرتدٌ إذا أكرهتني.
 فقال عمر: عنق المرتد بالسيف تحز، عالَم نبنيه، كل صدع فيه بشبا السيف يداوى، وأعز الناس بالعبد بالصعلوك تساوى.
 ارتد، وذهب إلى بلاد الروم، وتزوج ابنة قيصر، وعاش في هذا الذل والهوان، هي تأمره أن يرسل ابنته إلى الصحراء، تأمره أن يفعل كذا.
 دائماً وأبداً أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً، الله عز وجل أعطانا عقلا، وبهذا العقل نستطيع أن نحكم، والنبي الكريم يقول:

(( إذا أردت إنفاذ أمر تدبر عاقبته))

  قبل أن تقدم عليه، قبل أن تقدم على هذه التجارة، قبل أن تقدم على هذا الزواج، قبل أن تقدم على هذا السفر، قبل أن تقدم على هذا الطلاق، قبل أن تقدم على هذه الشراكة تدبر عاقبته دائماً، ليكن عملك وفقاً المنهج الإلهي دائماً، ليكن عملك وفق ما أراد الله، لا وفق ما تريد، أقول لكم كلاماً صحيحاً:

 

﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾

 

[ سورة طه: 133]

  والله الذي لا إله إلا هو ما من إنسان ضال على وجه الأرض إلا بسبب خروجه عن منهج الله، وما من إنسان شقي على وجه الأرض إلا بسبب خروجه عن منهج الله، وهذه الآية من آيات الله الدالة على عظمته.

 

﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾

 

[ سورة طه: 133]

﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾

[ سورة البقرة: 38]

﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾

[ سورة الإسراء: 9]

  اجعل هذا القرآن حكماً في زواجك، في عملك، في حرفتك، في سفرك، في إقامتك، في غضبك، في رضاك، في عطائك، في منعك، في كل أحوالك، فالإنسان إما أن يتبع أمر الله، وإما أن يتعظ، مَن عبد الله بن جحش زوج من ؟ زوج رملة بنت أبي سفيان، كان معها في الحبشة فتنصر، وعاقر الخمر، ومات مرتداً عبيد الله.
 فلذلك الإنسان لما يتبع شهوته انتهى، أما إذا حكم عقله نجح، والعقل هو كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:

((إنما الدين هو العقل ومن لا عقل له لا دين له)).

  كما قلت لكم: إذا كان الأخ في مغنم كبير من سفر، لكن على حساب ديته فلا يسافر، إذا كان المغنم الكبير على حساب استقامته، على حساب انضباطه الشرعي فلا يسافر، لأن الآخرة خير لك من الأولى، والله عز وجل قال:

 

﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى﴾

 

[ سورة الأعلى: 1-7]

﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾

[ سورة الأعلى: 14-15]

  قد أفلح وردت في أربع مواضع، قال تعالى:

 

﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾

 

[ سورة الشمس: 9]

﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾

[ سورة الأعلى: 14]

﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾

[ سورة المؤمنون: 1-2]

  هذا هو الفلاح، الفلاح أن تأتي الله بقلب سليم.

 

إخفاء الصور