وضع داكن
23-04-2024
Logo
أحاديث متفرقة - الدرس : 025 - حق العباد على الله أن يعبدوه …
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
 أيها الإخوة المؤمنون: عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:

((بَيْنَا أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا أَخِرَةُ الرَّحْلِ فَقَالَ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ يَا مُعَاذُ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ يَا مُعَاذُ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ قَالَ هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ فَقَالَ هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوهُ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ ))

[ متفق عليه ]

  عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:

((بَيْنَا أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))

 يعني النبي صلى الله عليه وسلم من تواضعه الجم أنه كان يدعو بعض أصحابه ليركب خلفه على الدابة، هذا من تواضعه، وهذا من تكريمه.

((بَيْنَا أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا أَخِرَةُ الرَّحْلِ ))

 الرحل الذي يوضع على الدابة، آخرة الرحل طرف الرحل الآخر.

 

((بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا أَخِرَةُ الرَّحْلِ فَقَالَ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ ))

  الإنسان إذا نودي باسمه هذا من باب التحبب، يا معاذ، مرةً قال عليه الصلاة السلام:

 

((والله يا معاذ إني لأحبك))

((َقَالَ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ))

  معنى لبيك: إجابة بعد إجابة، وإسعاداً بعد إسعاد، يعني أنا ألبيك، وأسعى أن أسعدك يا رسول الله 

((قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ))

 يعني أنا في خدمتك، أنا مستجيب لندائك، وأنا في خدمتك، ما تكلم النبي شيئاً،

((َقَالَ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ))

 معنى ساعة: أي مرحلة من الزمن.

 

((ثُمَّ قَالَ يَا مُعَاذُ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ))

 أنا لا أعتقد على وجه الأرض أن أناسًا يحبون رجلاً على الإطلاق كما أحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم.

 

 

((ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ يَا مُعَاذُ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ))

  السؤال الآن: لماذا ناداه باسمه، وسكت ؟ ناداه باسمه، وسكت، ناداه باسمه، وسكت، قال بعض علماء الحديث: هذا من قبيل التشويق، يعني إذا أردت أن تلقي على إنسان أمراً خطيراً، أمراً ذا بال، تحب أن تلفت نظره، تدعوه مرةً أولى، وثانية، وثالثة.

 

 

((قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ فَقَالَ هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الله على ْعِبَادِه))

 أيضاً كان النبي صلى الله عليه وسلم معلماً، قال:

 

((إنما بعثت معلماً، إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق))

  من أساليبه التربوية أنه كان إذا أراد أن يلقي موعظةً أو حقيقة ساقها على شكل سؤال وجواب.

 

((يَا مُعَاذُ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ فَقَالَ هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الله على ْعِبَادِه))

  الذي خلقنا، ولم نكن شيئًا يذكر، الذي أمدنا بالوجود، أمدنا بحاجاتنا، أمدنا بالإرشاد، أنعم علينا نعماً ظاهرة وباطنة، خلقنا من عدم، خلقنا ليسعدنا، خلقنا لجنة عرضها السماوات والأرض، أليس له حق علينا ؟ قال سيدنا عمر: ( عجبت لثلاث ؛ عجبت لمؤمل والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه، وضاحك ملء فيه ولا يدري أساخط عنه الله أم راض).
 قبل أن تضحك، قبل أن تتمطى في البيت، قبل أن تمزح، قبل أن تسخر من بعض الناس، قبل أن تعطي حظوظ نفسك، قبل أن تستعلي على خلق الله، هل أديت حق الله عليك ؟ هل عرفت الذي خلقك ؟ هل عرفت لماذا خلقك ؟ هل عرفت أين كنت ؟ هل عرفت أين المصير ؟

 

 

((يَا مُعَاذُ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ فَقَالَ هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الله على ْعِبَادِه))

 كان سيدنا معاذ في أعلى درجات الأدب.

 

 

((قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ))

  من يتوقع كلمة واحدة، حق الله على عباده أن يفعلوا كذا، أن يعبدوه، لأن الله عز وجل يقول:

 

 

﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾

 

[ سورة الذاريات: 56]

  أنت خلقت لتعبد الله، العبادة أن تخضع له، أن تأتمر بأمره، أن تنتهي عما عنه نهى، أن تطبق شرعه، أن تحبه، أن تقدم بعض ما عندك ابتغاء مرضاته، أن يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما، أن تعبده، لذلك لما ربنا عز وجل قال:

 

﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾

 

[ سورة النور: 55]

 وعد الله حق:

 

﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً﴾

 

[ سورة النساء: 87]

﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ﴾

[ سورة التوبة: 111]

  هذا كلام خالق الكون.

 

﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾

 

[ سورة النور: 55]

  يعني أن يجعلهم خلفاء في الأرض، هؤلاء قوم النبي e كانوا رعاة الغنم، فلما عبدوا الله عز وجل صاروا رعاة الأمم، وسادة الأمم.

 

﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي﴾

 

[ سورة النور: 55]

  هذا الذي عليه، يا عبادي، هذا وعد، قطعي مني، أما الذي عليكم:

 

﴿يَعْبُدُونَنِي﴾

 

[ سورة النور: 55]

  هذا حق الله على عباده، أن تعبده، أن توقع حياتك وفق مراده، أن توقع حركتك وسكونك عطاءك ومنعك غضبك ورضاك صلتك وقطيعتك، أن توقع كل شؤون حياتك وفق مرضاته،

(( يَا مُعَاذُ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ فَقَالَ هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الله على ْعِبَادِه قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ))

  لذلك إذا آمنت بالله إيماناً قطعياً يقينياً كاملاً، إذا آمنت به خالقاً، وآمنت به مربياً، وآمنت به مسيراً، إذا عرفت أسماءه الحسنى، وصفاته الفضلى، وأيقنت أن هذا القرآن كلامه، وأن هذا النبي e رسوله، فنشاطك كله ينحصر في شيء واحد ؛ أن تبحث عن أمره ونهيه، وأن تعبده من خلال تطبيق أمره ونهيه، فإذا طبقت أمره ونهيه تعبداً ألقى الله في قلبك النور لترى سر أمره ونهيه.
 أريد أن يكون هذا الحديث، وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام:

((من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعمل))

 يوجد علم كسبي، وعلم إشراقي، العلم الكسبي أن تبحث عن أمره ونهيه، أن يقع زواجك وفق ما أراد الله، إن في اختيار الزوجة، وإن في معاملة الزوجة، إن في تربية الأولاد، أن تقع تجارتك وفق ما أراد الله في البيع والشراء، في التعامل مع الناس، أن تقع حالات مرحك فيما يرضي الله، مهمتك الأولى أن تبحث عن أمر الله، فإذا ثبت لك أن هذا حديث صحيح عن رسول الله، وما ينطق عن الهوى بادرتَ إلى تطبيقه، هذا جوهر العبادة، مادمت قد آمنت بالله، وبكتابه، وبرسوله إذاً فمهمتك الأولى أن تعبده، أي أن تبحث عن أمره، وأن تطبق أمره.

 

((قَالَ حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا))

  لمجرد أن تعبده، وأن تعبد معه جهةً أخرى، أي أن تطيع جهةً أخرى، أو أن ترضي جهةً أخرى، أو أن ترجو جهةً أخرى، أو أن تخاف من جهة أخرى، أو أن تعلق الأمل على جهة، أخرى فقد أشركت، به مبالغةً في التوحيد أن تعبده، وألا تشرك به شيئاً، وأقل شيء في اللغة اسمه شيء، كل شيء ممكن اسمه شيء، هذه الذرة التي إذا كنست أرض الغرفة في أيام الشتاء، والشمس في داخل الغرفة ترى ذرات ليس لها وزن إطلاقاً، تجول في أجواء الغرفة، هذه اسمها شيء.

 

 

((وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ))

 لذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام:

 

((الشرك أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء))

  وأدناه أن تحب على معصية، وأن تبغض على جور، أن تحب على جور، وأن تبغض على عدل، نصحك إنسان فغضبت، أشركت نفسك مع الله عز وجل، إنسان قدم لك خدمة، رضيت منه، وهو على معصية، هذا أحد أنواع الشرك الخفي.

 

(( ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ فَقَالَ هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوهُ))

 حق الله عليك أن تعبده، آمنت به، آمنت برسوله، آمنت بكتابه، تقصيت أمره، طبق أمره، نفذت أمره، صليت الخمس، حججت البيت، صمت رمضان، دفعت الزكاة، غضضت بصرك، تحريت دخلك، أوقعت معاملتك لأهلك وفق شرع الله، اعبده في كل ما تعلم، الآن كما يقول النبي عليه الصلاة والسلام ينشأ لك حق عند الله.

 

 

((فَقَالَ هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوهُ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ))

  بالمناسبة، صلاة الاستسقاء أقيمت في كل مساجد دمشق تقريباً، والمطر لم ينزل، هناك مشكلة، إذا كان الرجل راكبًا سيارة، وتوقفت به فجأةً، لو وقف إلى جانب هذه السيارة المعطلة، ورفع يديه، وصرخ، ونادى، واستجار، واستغاث، ورفع صوته، ورفع يديه، ولوح، السيارة واقفة، الموقف العلمي أن تبحث عن سبب الخلل، وأن تصلح هذا الخلل، لذلك ورد في صلاة الاستسقاء أنه لا تشرع صلاة الاستسقاء إلا إذا خرج العباد من مظالمهم، وخرجوا من معاصيهم، وتابوا إلى ربهم، وأدوا الحقوق التي عليهم، وصاموا ثلاثة أيام متتالية، لأن هذه قواعد.

 

 

((حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ))

  نقص الماء يعذبهم، نقص المواد يعذبهم، شدة الحر تعذبهم، شدة القر تعذبهم، نقص المواد التي بين أيديهم يعذبهم، الأزمات الطاحنة تعذبهم، قال تعالى:

 

 

﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً﴾

 

[ سورة النساء: 147]

  الحديث كله طويل، رواه البخاري ومسلم والإمام أحمد، الحديث كله فيه محوران أساسيان، حق الله على عباده، أن يعبدوه، وحقهم على الله ألاّ يعذبهم، لذلك كأن النبي عليه الصلاة والسلام انطلق من قول الله عز وجل:

 

﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً﴾

 

[ سورة النساء: 147]

  لأن الكون سخره الله لك تسخير تعريف فيجب أن تعرفه من خلال الكون، ولأن الكون سخره الله لك تسخير إكرام فيجب أن تشكره، فإذا سخره لك تعريفاً فعرفته، وإذا سخره لك تكريماً فشكرته، فقد حققت المراد الذي خلقت من أجله، لذلك إذا كنت عبداً لله فمقام العبودية الطاعة، مقام العبودية الطاعة مع الحب، لأن الله سبحانه وتعالى سخر لك الكون كله، أولاً سخره كي تحبه، إذا ً لابد من طاعة مع الحب، الطاعة مع الحب لا يمكن إلا أن تبنيا على معرفة الله عز وجل، والطاعة مع الحب لا بد من أن تفضيا إلى سعادة أبدية.
 يمكن أن ألخص لك الدين كله في ثلاث كلمات: الأولى مركزية، والثانية تمهيدية، والثالثة نتيجة حتمية، إذا فعلت الوسطى فالنتيجة حتمية، ولم تفعل الوسطى إلا إذا سلكت في المقدمة التمهيدية، أنت مخلوق كي تطيعه، وتحبه، لكن لن تطيعه ولن تحبه إلا إذا عرفته، إن أطعته وأحببته سعدت بقربه في الدنيا والآخرة، هذا هو الدين كله، إذاً نشاط المؤمن منصرف إلى شيئين، إلى معرفة الله، وإلى طاعته، والتقرب إليه، عنده نشاط فكري دائماً، ونشاط سلوكي، إذا جاء إلى مجلس علم فهذا نشاط علمي تعرّفي، إذا قرأ القرآن، إذا قرأ السنة، إذا قرأ كتاب السيرة، إذا جلس في مجلس علم، إذا استمع إلى خطبة، إذا أمر بالمعروف، إذا نهى عن المنكر، انصاع لأمر بالمعروف، لنهي عن منكر، هذا نشاط علمي مركزه الفكر.
 الآن نشاط سلوكي، مرت امرأة سافرة فغض بصره عنها، عرض عليه دخل فيه شبهة فأعرض عنه، في قبضه، وفي دفعه، في أقواله، وأفعاله، في خواطره، في نطقه، في كلامه، إذاً لن تسعد إلا بحالتين، إذا عرفته، وإذا عبدته، و اقرأ القرآن كله فلن تجد في القرآن إلا هذين الشيئين:

﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾

[ سورة المؤمنون: 32]

 لذلك قيل: نهاية العلم التوحيد، موضوع التوحيد كفكرة سهل جداً، أما كممارسة فأن تعيش التوحيد، إذا جاءك أمر يزعجك ألاّ ترى إلا الله، أن ترى يد الله الخفية، أن ترى يد الله فوق يد هذا الذي ساق الشر إليك، هذا هو التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، تعرفه، وتعبده، قال تعالى:

 

﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾

 

[ سورة الكهف: 110]

  القرآن كله سيلخص بكلمتين:

 

﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾

 

[ سورة الكهف: 110]

 ليطعه طاعةً تامة، وليعمل الصالحات تقرباً إليه، إذا أراد أن يلقاه، ولن يلقاه إلا إذا عرفه، إنما إلهكم إله واحد، هذا ملخص الملخص، هذا سر الدين، الدين كله كامن في هذه الكلمات الثلاث، تعرفه، تعبده، تسعد به في الدنيا وإلى الأبد.
 إذاً من هنا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((لا بورك لي في صباح يوم لم أزدد فيه من الله علماً، و لا بورك لي في صباح يوم لم أزدد فيه من الله قرباً)).
 إذاً أي يوم يمضي لم تزدد فيه علماً، ولم تزدد فيه قرباً فهو مضيعة من حياتك، وهو خسارة كبيرة، لأنك في الأساس بضعة أيام، أنت زمن استهلكت يوماً في غير ما خلقت له، هذه الخسارة، إذاً أن تأتي إلى المسجد لتستمع إلى تفسير كتاب الله، لتستمع إلى حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، لتستمع إلى سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، لتتعرف إلى الطريق إلى الله عز وجل، هذا نشاط علمي، الآن ذهبت إلى البيت، في تعاملك مع أهل البيت، مع أولادك، مع زوجتك، في كسب المال، في إنفاق المال، في مرحك، في وقت فراغك، في وقت عملك، كيف آكل أسمي ماذا أفعل قبل أن آكل ؟ الوضوء قبله، والوضوء بعده، كيف أشرب ؟ جالساً على ثلاث مراحل، كيف أنام ؟ على شقي الأيمن، كيف أستيقظ ؟ كيف أدعو ؟ كيف أصلي ؟ كيف أعامل أقربائي ؟ كيف أعامل زبائني ؟ همك الوحيد في حياتك اليومية تطبيق ما تعلمته في المسجد.
 مرة ثانية أقول لكم بتواضع: الفرق بين أن تعرف السنة وأن تطبقها فرق كبير جداً، كالفرق بين أن تقول: خمسمئة مليون وأن تملك هذا المبلغ، أي إنسان يقول: خمسمئة مليون، أما أن تملك هذا المبلغ فشيء مهم جداً بنظر بعض الناس، كذلك السنة أن تقرأها شيء، وأن تتذوقها شيء، وأن تتأثر بها شيء، وأن تلقيها على الناس شيء، وأن تفعلها شيء آخر، لن تسعد بها إلا إذا طبقتها، فالذي يحب ألاّ يضيع حياته سدىً، الذي يحب أن يرقى يوماً بعد يوم، من لم يكن في زيادة فهو في نقصان، الذي يحب أن يقطف ثمار الدين، أن يراها ملموسة بين يديه، الذي يحب أن يقول: أنا أسعد الناس بهذا الدين، ما من أحد أسعد مني، الذي يحب أن يعرف طعم القرب، طعم الحب، طعم الثقة بالله، طعم رضوان الله، فلا يلتف للأقوال كلها، بل يلتفت للأفعال، ثمة نشاطان، نشاط علمي، ونشاط تطبيقي، نشاط في معرفة الخالق وأمره ونهيه وسنة نبيه، ونشاط في تطبيق هذا الأمر والنهي، هذا ملخص الملخص، والنبي عليه الصلاة والسلام مما قاله عن نفسه:

((أوتيت جوامع الكلم، واختصر لي الكلام اختصاراً))

  جوامع الكلم في هاتين الكلمتين:

((حقه عليك))

((حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوهُ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ))

  فإذا عذبك فعذابه علاج، إذا قنن الأمطار فتقنين تأديب، نحن نقنن تقنين عجز، أما الله عز وجل فيقنن تقنين تأديب.
 هذا هو حديث اليوم، حقه علينا أن نعبده، وحقنا عليه ألا يعذبنا.
 إذا توقفت سيارة أحدنا لا يصيح وينادي، بل يفتح الغطاء، ويرى أين العطل، ويصلح الخلل، فتنطلق بالسيارة، هذا موقف علمي، وهناك موقف يسمونه استعراضيًا دعائيًّا، وهناك موقف علمي، قف من ربك موقفاً علمياً، حينما أرسل هذه المشكلة لعلة أرادها لحكمة أرادها، هناك خلل في حياتي، ما من عثرة، ولا اختلاج عرق، ولا خدش عود إلا بما قدمت أيدكم، وما يعفو الله أكثر.

 

﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾

 

[ وسرة الشورى: 30]

  حقك عليه ألا يعذبك، وحقه عليك أن تعبده، هان الله عليهم فهانوا على الله، كلما قلّ ماء الحياء قلّ ماء السماء، كلما رخص لحم النساء غلا لحم الضأن، هان أمر الله عليهم فهانوا على الله، قال تعالى:

 

﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾

 

[ وسرة الأعراف: 96]

﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾

[ سورة المائدة: 66]

﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾

[ سورة الجن: 19-17]

  هذه قواعد ثابتة، كلام الخالق، كلام خالق الكون، لذلك هنيئاً لمن عرف مفتاح الحقائق، لمن عرف القوانين الثابتة، هذه السنن، هذه سنن ثابتة، مثلاً للسقوط قانون، إذا ألقينا جسماً من السماء إلى الأرض يهوي متسارعاً إلى أن يتحطم على الأرض، أما إذا نزل بمظلة لها سطح مدروس، لها سطح يتناسب مع وزنه، ينزل ببطء، فإذا أُمِر الإنسان أن يلقي بنفسه من الطائرة فقانون السقوط إذا قبله أو لم يقبله، إذا آمن به أو لم يؤمن به، إذا أعجبه أم لم يعجبه، إذا بجّله أو سخر منه، إذا قبله أو رفضه، القانون مطبق، فالذكي يتعرف لقانون السقوط، ويتأدب معه، ليصل سالماً، أما إذا اخترق هذا القانون، وألقى الإنسان بنفسه من الطائرة بلا مظلة فإنه ينزل ميتاً، إذا رفض القانون، القانون مطبق عليه، ربنا وضع سننًا، إن قبلتها فأنت ذكي موفق، وإن لم تقبلها فهي مطبقة عليك، وأنت لا تدري، يا رب كم عصيتك ولم تعاقبني ؟ قال: عبدي كم عاقبتك، ولم تدر.
من موضوعات المرأة المسلمة
 إذا أحب الإنسان أن ينقل إلى زوجته فليس له حق أن يتغافل عن حقوقها عليه، ويبرز حقوقه عليها، قد لا تقبل هذه الحقوق، أمّا إذا كان زوجًا مثالياً فعندئذ يطالبها بحقوقه عليها، أما إذا أغفل ما لها عليه من حق، وطالبها بما له عليها من حق قد تنشأ منازعة، يقول عليه الصلاة والسلام:

((إِذَا صَلَّتْ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا، قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ))

  واللهِ المرأة دينها سهل، يجب على الرجل في البيع والشراء أن يعرف ألف قضية في البيع والشراء حتى ينجو من الربا، الرجل معرض لقضايا كثيرة فيها مزالق، أما المرأة المسلمة

((إِذَا صَلَّتْ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا، قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ))

[رواه ابن حبان في صحيحه، أحمد، الطبراني ]

  في هذا الحديث ثلث دين المرأة طاعتها لزوجها.
 عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((إِذَا صَلَّتْ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا، قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ))

[ أحمد، الطبراني ]

 في هذا الحديث طاعتها لزوجها ربع دينها، صلاتها، وصيامها، وحفظها نفسها، وطاعتها لزوجها.
 السيدة عائشة رضي الله عنها سألت النبي عليه الصلاة والسلام سؤالا دقيقًا جداً:

((أي الناس أعظم حقاً على المرأة ؟ ))

  المرأة لها أب، لها أخ، لها ابن، لها ابن زوج، لها ابن ابنة، لها عم، لها خال، وهكذا، من هؤلاء الرجال جميعاً: أي الناس أعظم حقاً على المرأة ؟ قال عليه الصلاة والسلام

((زوجها، قلت: فأي الناس أعظم حقًا على الرجل ؟ قال أمه))

 ما قال: زوجته، ليس معنى هذا أن ليس لها حق عليه، لا، لكن الحق الأول عليه حق أمه، أيضاً هذا حديث قيم جداً يعرف بمراتب الحقوق.
 عن ابن عباس رضي الله عنها قال: جاءت المرأة إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقالت: يا رسول الله أنا وافدة النساء إليك، هذا الجهاد كتبه الله على الرجال، فإن يصيبوا أجروا، وإن يقتلوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون، ونحن معاشر النساء نقيم عليهم، نرعاهم، نخدمهم، نلبي حاجاتهم، نربي أولادهم، نطبخ لهم، نكنس لهم، وليس لنا شيء، الأجر لهم، إن انتصروا نالوا السعادة، وإن قتلوا نالوا الشهادة، فقال عليه الصلاة والسلم:

((أبلغي من لقيتِ من النساء أن حسن تبعل إحداكن زوجها يعدل ذلك كله ))

[ رواه البذار ]

  هذا حديث مهم جداً أن طاعة الزوج والاعتراف بحقه يعدل ذلك وقليل منكن يفعله.
 أما الواقع تطبيق فأمر آخر.
 ثم جاءت النبي عليه الصلاة والسلام امرأة قالت: يا رسول الله إني رسول النساء إليك، وما منهن امرأة علمت أو لم تعلم إلا وهي تهوى مخرجي إليك، يعني قلوب النساء كلهن معي، الله رب الرجال ورب النساء، وأنت رسول الله إلى الرجال وإلى النساء، الله رب النساء والرجال وأنت رسول الله إلى النساء وإلى الرجال، كتب الله الجهاد على الرجال، فإن أصابوا أجروا، وإن استشهدوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون، فما يعدل ذلك من أعمالهم من الطاعة ؟
 نحن عندنا أعمال تعدل هذه الأعمال، فقال عليه الصلاة والسلام:

((طاعة أزواجهن، والمعرفة بحقوقهن، وقليل منكن من يفعله ))

  حديث أول، وحديث ثان، وحديث ثالث، ورابع، أربعة أحاديث تبين عظم حق الرجل على المرأة، وأنا أتمنى على الزوج المؤمن أن يؤدي ما لها عنده من حقوق حتى يطالبها ما له عندها من حقوق، ليس له الحق أن يقصر كل التقصير، ويطالبها بكل المطالبة، والدليل قال تعالى:

 

﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾

 

[ سورة البقرة: 228]

  هذه فقرة، النساء.
 بقيت فقرة أخيرة، هذه الفقرة الأخيرة أن إنساناً بريطانياً أسلم، فلما أسلم سمى نفسه خوجا كمال الدين، وأن رجلاً بريطانياً آخر قدم لهذا المسلم كتاباً حول سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، والذي يخجل أن إنساناً بريطانياً درس سيرة النبي عليه الصلاة والسلام بعمق، وألف كتاباً موجزاً، ولكن فيه الشيء الكثير، تمنيت أن أقرأ لكم بعض ما كتبه هذا الإنسان الذي أسلم.
 قال: كان النبي عليه الصلاة والسلام خير أسوة للناس، ويحق لي أن أقول:إنه النبي الوحيد، كل كلمة لها معنى، الذي مارس بالفعل جميع المبادئ التي كان يلقنها للناس، مارس بالفعل، بالمحك جميع المبادئ التي كان يلقنها للناس، ولم تجد في القرآن الكريم حكماً أو أمراً لم يعمل به النبي عليه الصلاة والسلام.
 تقول السيدة عائشة:

((كان خلقه القرآن ))

 قال بعضهم: النبي قرآن يتحرك، هذا سر التأثير، وقد تقرأ لغيره كثيراً من الخطب والمواعظ والآراء الخيالية في الفضائل والأخلاق، ولكنك لا تجد لأقوالهم صدى في أفعالهم، أما النبي عليه الصلاة والسلام فهو نسيج وحده في هذا المجال، إذ كان يمارس بالفعل كل ما كان يدعو له بالقول.
الصفة الوحيدة الأساسية المركزية في حياة النبي أن كل شيء دعا إليه مارسه بالفعل، فإذا أردت أن يحبك الله فافعل مثله، وإلا فضحت نفسك.
 الفضائل السلبية أن أنصح الناس بالعفو، هذه فضيلة سلبية، فالفضائل السلبية ليست فضائل على الإطلاق في حق معلم الأخلاق، لأنها لا تكلفه عناءً، ولا تعود على الناس بفائدة، إذ الناس بحاجة إلى من يوضح لهم بطريقة عملية ما يلقى عليهم من الدروس الخلقية، الناس بحاجة إلى من يوضح لهم لا بطريقة بيانية، بطريقة فصيحة، بطريقة بليغة، بل الناس بحاجة إلى من يبين لهم بطريقة عملية ما يلقى عليهم من الدروس الخلقية، وقد يلقي الإنسان على غيره مواعظ في العفو، وخطباً بالتواضع، لكن هذا التعليم الشفهي لا يعد دليلاً على اتصافه بما يعظ، وإنما الدليل هو تخلقه فعلاً بتلقي الأخلاق، ثم لا يخفى عليك أن الإنسان لا يستطيع أن يعلم غيره ما لم يجربه هو بنفسه.
 مثلاً إذا دعوت الناس إلى شيء، وأنت لا تطبقه، ماذا يقال عنك ؟ هذا الكلام التي تقوله ليس واقعياً، كلاماً خيالياً، كلاماً حالماً، كلاماً مثالياً، كلاماً بعيداً عن الواقع، لو أنه واقعي لطبقته أنت، وإذا كان هذا الكلام واقعياً ينشأ سؤال آخر، يقال لك: إذا كان الكلام واقعياً لماذا أنت غير مطبق له، بماذا تجيب ؟
 من أراد أن يعلم الناس دروساً في الصبر والحلم وجب أن يقاسي أشد المحن كما قاسى محمد عليه الصلاة والسلام، والحق من لم يمارس أحوال الحياة لا يمكن أن يكون قدوةً كاملةً للناس.
 النبي ذاق الفقر، وصبر، وذاق الغنى وشكر، وذاق الضعف القهر واعتذر، وذاق القوة وعفا، وذاق موت الولد فصبر، وذاق أن يقال عن زوجته كلام غير طيب، واحتسب، وذاق فرق الوطن، وذاق الجوع، وذاق الخوف، لأن هذه الفضائل لا يمكن أن تظهر إلا في هذه المحن، لهذا كان النبي أسوة مثلاً، أليس من الممكن ألا تنشأ بينه وبين السيدة عائشة مشكلة ؟ جاءه مرةً طبق طعام من ضرتها، فغضبت، وأخذتها الغيرة، وكسرت هذا الطبق، ما موقف الإنسان الكامل إذا رأى هكذا تفعل زوجته ؟ أيضربها ؟ أيسبها ؟ أيكيل لها الصاع صاعين ؟ ما زاد النبي عليه الصلاة والسلام عن أن لمّ أشتات الطبق، وقال:غضبت أمكم.
 علمنا كيف تواجه غضب الزوجة بالحلم والهدوء والرحمة، متألمة مضغوطة، مثلاً لو قرأت سيرة النبي، أنا لا أبالغ كل أحوال البشر إلى حد ما تجدها في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، ذاق الفقر، قال:مضى علي ثلاثون يوماً لقد خفت، وما خاف أحد مثلي، وجعت، وما جاع أحد مثلي، ومضى علي ثلاثون يوماً لم يدخل جوفي إلا ما يواري إبط بلال، فإذا نصح الفقراء بالصبر على العين والرأس، لأنه ذاق الفقر، ولما كان قوياً علمنا كيف نعفو، ولما قهر في الطائف علمنا كيف نرجو، ولما أصبح غنياً علمنا كيف نسخو، ولما تآمر المشركون عليه علمنا كيف يكون حذراً.
 الذي أراه أن قراءة سيرة النبي عليه الصلاة والسلام فرض عيني لماذا ؟ لأن سيرته هي المنهج العملي، أقواله منهج نظري، وسيرته منهج عملي.
 العفو مثلاً، نأخذ فضيلة واحدة، العفو يقتضي شروطاً معينة، ما لم تتوافر في المرء كانت دعواه كاذبةً، أول هذه الشروط أن يلقى أشد الإساءة من أعدائه، قد يزور الإنسان أقرباءه، طول بالك، أنت أكبر من ذلك، قلبك كبير، اعف عنهم، يا أخي هذا الناصح إذا وقع بمأزق كمثل هذا المأزق فرمهم فرماً، لأعدائه كلام فارغ كله، ما تكبر بعيني إلا إذا فعلت ما تقول، طبقت ما تقول، الذي فعل النبي الذي جعل دعوته تنتشر في الآفاق إذا زار النبي عليه الصلاة والسلام، الآن تقف أمام حجرته الشريفة فتبكي، وإذا أردت راقب هؤلاء الذين أمامه من كل حدب وصوب، من كل ملة، من كل نحلة، من كل إقليم، من كل مكان جاؤوا خاشعين باكين متأدبين بعد ألف وخمسمئة عام من وفاته ماذا فعل ؟
 والله يمكن أن تختصر عظمة النبي عليه الصلاة والسلام بهذه الكلمات، إ نه ما قال كلاماً إطلاقاً للاستهلاك، ما قال كلاماً لا يفعله، ما قال كلاماً لا يطبقه، ما قال كلاماً ليعلو به، قال كلاماً يعبر عن حقيقته، يعبر عن تواضعه، يعبر عن عطائه، يعبر عن كرمه، أول هذه الشروط لابد من أن يلقى أشد الإساءة من أعدائه، بدوي جذبه من ثوبه حتى أثر على رقبته الشريفة، قال: يا محمد اعدل، قال: ويحك من يعدل عن لم أعدل، وابتسم.
 هذا الذي دخل عليه مزمجراً غاضباً سمع أنه يسب آلهة قريش، قال: والله لأسوين حسابي مع محمد، ابتسم، أخذه بالحلم، أخذه باللطف حتى أشرق على هذا الرجل نور النبوة، انكب على يديه، قال: والله يا محمد سعيت إليك، وما على وجه الأرض أبغض إلي منك، وأنا ذاهب عنك، وما على وجه الأرض أحب إلي منك.
 هذا الكلام للآباء، للمعلمين، للدعاة، لكل إنسان عنده شخص أمامه، كل من تولى على شخص واحد، إما أن تفعل ما تقول، وإما ضع نفسك في التراب، لا نرقى الآن، هذا سبيل الخلاص، اكتفينا، لا نرقى إلا بالأفعال، في بيتك، في حركتك، في صلاتك، في طعامك، في شرابك، في كل مراحل حياتك، هل أنت مطبق للسنة ؟ طبقها، من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم.
 أول شرط أن يلقى أشد الإساءة من أعدائه، وثانيها أن تدور الدائرة على هؤلاء الأعداء، فيقعون في قبضته، ويصبحون تحت رحمته، وثالثها أن يملك القدرة على القصاص منهم، وهذه شروط العفو، لك عدو لدود، كاد لك، وقع في قبضتك، فعفوت عنه، الآن إذا تكلمت على العفو على العين والرأس، كلامك مقبول، وكلامك مسموع، وكلامك مؤثر، وتفعل في الناس فعل السحر.
 عبد له سيد زار بيت سيده ( شيخه )، فانتهزها فرصة، قال: يا سيدي اطلب من سيدي أن يعتقني، طال مكوثي عنده، قال:أفعل إن شاء الله، مضى شهر وشهران، وثلاثة أشهر، ما استجاب، زاره مرة ثانية، قال له:يا سيدي لو طلبت من سيدي أن يعتقني مضى شهر وشهران وثلاثة، زاره مرة ثالثة، قال له:يا سيدي إلى متى ؟ قال له: إن شاء الله قريبا، بعد أيام استدعاه سيده، وأعتقه، بقي سؤال في ذهنه: ما دامت القضية بكلمة، لما لم يقل قبل سنة فواجه الشيخ قال له: يا سيدي لم تأخرت علي هكذا ؟ قال له: يا ولدي لقد أرهقتني، أنا وفرت من مصروف البيت مبلغاً أعتقت به عبداً، ثم أمرت سيدك أن يعتقك، ما نصحته قبل أن طبقت أنا هذه النصيحة.
 هذا مركز الثقل في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، كان متواضعاً كان مع أصحابه، أرادوا أن يعالجوا شاةً، قال أحدهم: علي ذبحها، قال الثاني: علي سلخها، قال الثالث: عليها طبخها، وقال عليه الصلاة والسلام: وعلي جمع الحطب، فقالوا: نكفيك، قال: أعلم ذلك، ولكن الله يكره أن يرى عبده متميزاً على أقرانه، معنى ذلك هذه القصة وحدها في نزهة، برحلة، بسفرة، وبعمل، بشراكة لا ينبغي أن تتميز على الآخرين إذا كنت مسلما، أما القصة تقولها بفصاحة بالغة، ويتأثر بها الناس، وأنت متميز، لك ميزات، تستهلك وجود الآخرين، هذه ليست دعوة إلى الله، هذه دعوة إلى الدنيا.
 سر نجاح دعوة النبي عليه الصلاة والسلام هذه النقطة.

 

إخفاء الصور