وضع داكن
29-03-2024
Logo
أحاديث متفرقة - الدرس : 024 - عن المولد من مدارج السالكين.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الأكارم: ما زلنا في شهر مولد النبي عليه الصلاة والسلام، فقد اخترت لكم موضوعاً مستوحىً من ميلاد النبي عليه الصلاة والسلام، ألم يجب النبي صلى الله عليه وسلم السيدة عائشة حينما سألته: يا رسول الله ما هذا الأدب ؟ فقال عليه الصلاة والسلام:

((أدبني ربي فأحسن تأديبي))

 والاحتفال بعيد المولد أساسه أن نتبع النبي عليه الصلاة والسلام، أن نتبع سنته، أن نقتفي أثره، أن نتأدب بآدابه صلى الله عليه وسلم، قال بعض العلماء: ربنا عز وجل حينما قال:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾

 

[ سورة التحريم: 6]

  هذه الآية الكريمة بماذا فسرها المفسرون ؟ كيف يقي الرجل أهله النار ؟

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾

 

[ سورة التحريم: 6]

 قال ابن عباس رضي الله عنه: " أي أدبوهم وعلموهم "، علموهم عقائد التوحيد، وأدبوهم بآداب الإسلام، التأديب سلوكي، والتعليم نظري، علمه، وأدبه، بين له، وراقبه، وجهه، وتابعه، إذاً معنى قوله تعالى:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾

[ سورة التحريم: 6]

  قال ابن عباس رضي الله عنه: " أي أدبوهم وعلموهم "، حتى إن علم الأدب يقال فيه: فلان مختص بالأدب، الأدب العربي، الأدب فرع صغير جداً من فروع الأدب العام، يعني إصلاح اللسان، تهذيب القلم، القدرة على التعبير تعبيراً مؤثراً صادقاً، العلماء الأجلاء قالوا: الآداب ثلاثة، أدب مع الله عز وجل، وأدب مع رسوله صلى الله عليه وسلم، وأدب مع خلقه، ثلاثة أبواب كبيرة من الآداب.
 بالمناسبة درس الجمعة تفسير، ودرس الأحد سنة، يغلب على التفسير الإجلال، ويغلب على السنة الجمال، فأنت بين الجلال والجمال، لو أن الإنسان توجه إلى بيت الله الحرام بماذا يشعر ؟ يشعر بالجلال، فإذا توجه إلى مقام النبي عليه الصلاة والسلام بماذا يشعر ؟
أنت مع أكمل الخلق، أنت مع صفوة الصفوة، أنت مع نخبة النخبة، أنت مع الذي قال عنه حسان بن ثابت:

و أجمل منك لم تر قط عيني               و أكمل منك لم تلد النساء
خلقت مبرّأً من كل عــيب            كأنك قد خلقت كما تشـاء

 إذاً الآداب ثلاثة، أدب مع الله، وأدب مع رسول الله، وأدب مع خلقه.
 الأدب مع الله، أمَا قال النبي الكريم: ((أدبني ربي فأحسن تأديبي)) ؟ الاحتفال بعيد المولد له شكليات وله حقيقة، شكلياته أن تأتي فرقة منشدين، وتملأ الجو بأناشيدها، ومدائحها، شيء طيب ومقبول، وأن توزع الحلوى بحسب المستوى، لكن حقيقة الاحتفال بعيد المولد أن نتعلم عن هذه الشخصية العظيمة التي جعلها الله لنا قدوة، جعلها لنا أسوة، فالأدب مع الله ثلاثة أنواع، صيانة معاملته عن أن يشوبها بنقيصة، يعني في تعاملك مع الله، في صلواتك، في صيامك، في حجك، في زكاتك، في دعائك، في ابتهالك، في تهجدك، في استغفارك، في حمدك، العلاقة المباشرة مع الله يجب ألاّ يشوبها شائبة، هذا بند من بنود الأدب مع الله، هذا من ناحية السلوك.
أما القلب فمن آداب القلب مع الله ألا يلتفت إلى غيره، لذلك لما ربنا عز وجل قال:

﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾

[ سورة المؤمنون: 1-3]

 قال أكبر المفسرين: اللغو ما سوى الله، لذلك المؤمن يوم القيامة لا يندم إلا على ساعة مرت لم يذكر الله فيها، إذاً الأدب مع الله في أداء عباداتك كما أراد الله عز وجل، والأدب مع الله في ألا يلتفت قلبك إلى سواه، لذلك الله يغار، يغار على المؤمن أن يلتفت إلى سواه، فحينما يلتفت القلب إلى سوى الله عز وجل يأتي التأديب، يقولون: إن الله يحب أن يسمع صوت عبده اللهفان، إذا غفل العبد، أو التفت لغير الله، أو سها، أو لها ما هو التأديب ؟ لفت نظر، لماذا نسيتني ؟

يا عبدي أيا عبدنا ما قرأت كتابنا      أما تستحي منا ويكفيك ما جرى
أما تختشي من عتبنا يوم جمعنا       أمـا أن تقلع عن الذنب راجعاً

 كلما ارتقى الإنسان يملك حساسية، وكلما هبط مستوى يتبلد حسه، إذاً من أدبك مع الله عز وجل أن تعبده كما أراد، ومن أدبك مع الله عز وجل ألا يلتفت قلبك إلى سواه، لذلك العلماء يقولون: إخلاص العمل، وإخلاص الجهة، وإخلاص النية، النية فيها إخلاص، والوجهة فيها إخلاص، والعمل فيه إخلاص.
الآن الأدب الثالث صيانة إرادتك أن تتعلق بما يمقته الله عز وجل، ترغب، تعزم على عمل لا يرضي الله، تنوي، الإرادة، وكما تكلمنا البارحة في درس الجمعة قبل يومين هناك إحسان بالقصد، وإحسان بالعزيمة، وإحسان بالحال، وإحسان بالعمل، وإحسان بالوقت، يعني أن يبقى قصدك مطابقاً لما يريد الله عز وجل، ألا تقصد إلى بشيء لا يريده.
الآن كبار العلماء ماذا قالوا مع الأدب مع الله ؟ قال يحيى بن معاذ: من تأدب بأدب الله صار من أهل محبته، أتحب أن يحبك الله ؟ تأدب بالأدب مع الله.
 وقال ابن المبارك، وكان من كبار العلماء قال لتلميذ يبدو أنه تجاوز حده قال: يا بني نحن إلى أدبك أحوج منا إلى علمك، كن أديباً، لذلك المقولة الشهيرة: الامتثال خير من الأدب، وفي رأي الأدب خير من الامتثال، القضية بحسب الوضع، إما أن ترى أن الأدب أفضل من أن تطيع، وإما أن ترى العكس.
لو أن إنساناً أحب أن يكرمك، وأنت أصررت، يا أخي امتثل، وأحياناً ترى المناسب أن تكون أديباً مع هذا الإنسان.
 الحسن البصري سئل عن أنفع الأدب فقال، التفقه في الدين، والزهد في الدنيا، والمعرفة بما لله عليك، أرقى أنواع الدب التفقه في الدين، أن الأصل هو العلم، العلم هو الحارس، العلم هو الموجه، العلم هو الضابط، العلم هو المنور، قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾

[ سورة المائدة: 35]

 الوسيلة العلم والعمل، ولا يصح العمل إلا إذا صح العلم، لذلك إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، العلم هو الأصل، لأنه أصل صلاح العمل.
 التفقه في الدين: إذا أراد الله بعبد خيراً فقهه في الدين، وأرقى عمل تفعله أن تتفقه في الدين، أن تعرف حقيقة الدين، سر التشريع، التفقه في الدين، والزهد في الدنيا، والمعرفة لما لله عليك.
 أحد العلماء سهل التستري قيل له: ما الأدب قال: قوم استعانوا بالله على مراد الله، إياك نعبد، وإياك نستعين، وصبروا لله على آداب الله، استعنت بالله على طاعته، واستعنت بقوته على أن تكون أديباً بحقه.
 أبو حفص أحد العلماء قال له الجنيد: لقد أدبت أصحابك أدب السلاطين، فقال الجنيد: فقال أبو حفص: حسن الأدب بالظاهر عنوان حسن الأدب بالباطن، فالأدب مع الله حسن الصحبة معه بإيقاع الحركات الظاهرة والباطنة.
 المؤمن إذا اتبعت حياته، والله مشيه، جلسته، نظراته، اتكاؤه، تناول طعامه، ضحكه، ابتسامه، حديثه، كل علاقاته مصبوغة بصبغة الأدب مع الله عز وجل، هذا مقام العبودية، فمن تمام مقام العبودية أن تكون أديباً مع الله عز وجل، لذلك النبي ما رئي ماداً رجليه قط، وهو النبي الكريم، وهو سيد الخلق، وحبيب الحق، ما رئي ماداً رجليه قط، إلا إذا كان الإنسان معذورًا فهذه ليس لها علاقة، إذا كان مريضًا، معه التهاب مفاصل، تكلس بالمفاصل، هذا موضوع آخر، أما الإنسان الصحيح، ليس به شيء فالنبي عليه الصلاة والسلام ما رئي ماداً رجله بين أصحابه.
 قال: من قهر نفسه بالأدب فهو يعبد الله بإخلاص.
 الإنسان أحيانا يأخذ حريته، الحرية الزائدة مع التفلت من آداب الإسلام أحد علامات قلة الورع، وأحد علامات النفاق، قال: من قهر نفسه بالأدب فهو يعبد الله بإخلاص.
 وقال عبد الله بن المبارك: قد أكثر الناس القول في الأدب، ونحن نقول: إنه معرفة النفس ورعونتها، وتجنب تلك الرعونات.
 أحيانا إنسان يفتخر زيادة بحاله، هذه رعونة من رعونات الجاهلية، وقد يتوعد خصمه توعدًا شديدًا، هذه رعونة، أحياناً يبالغ بإمكاناته، هذه رعونة، أحياناً يحتقر الآخرين، هذه رعونة، هذه من رعونات الجاهلية، فكلما ارتقى الإنسان ارتقت مشاعره، وارتقت مطالبه وارتقت مسالكه.
 قال أبو عثمان: إن صحت المحبة، وتأكدت فعلى المحب ملازمة الأدب، يعني علامة صدق محبتك لله عز وجل أن تكون أديباً معه، فسر الدين الأدب مع الله، في الصلاة، هذا الذي يحرك حركات وسكنات، ويصلح هيئته، ويحك رأسه دائماً، ويتلفت، وينظر إلى السقف أحياناً، وعيونه زائغة في الصلاة، لو خشع قلب هذا لخشعت جواره، الإنسان كلامه يعبر عن معرفته بالله عز وجل، هناك كلمات قاسية، وكلمات فيها تطاول على الله عز وجل، وكلمات فيها تجاوز للعبودية، وكلمات فيها غمط لحق الناس.
 نأخذ أمثلة، هؤلاء الأنبياء الكرام صلوات الله عليهم مثل عليا، مثلاً سيدنا يوسف ماذا قال:

 

﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾

 

[ سورة يوسف: 100]

 يخاطب إخوته، ماذا فعل به إخوته ؟ وضعوه في الجب، أيهما أخطر الجب أم السجن ؟ الجب، لأن السجن طعامك مضمون، وشرابك مضمون، ونومك مضمون، أما الجب ففيه خطر الموت، لم يقل: وقد أحسن بي إذا أخرجني من الجب لئلا يحرجهم، لئلا يخجلهم، لئلا يزعجهم، لئلا يذكرهم بنقيصتهم، بعملهم، بجريمتهم، قال تعالى:

 

﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾

 

[ سورة يوسف: 100]

 هذا الأدب، لما أحد سئل سيدنا العباس: أيكما أكبر أنت أم رسول الله ؟ قال: هو أكبر مني، وأنا ولدت قبله، ما هذا الأدب ؟ هو أكبر مني قدراً، وعلماً، وأنا ولدت قبله، الإنسان كلما ارتقى يقول لك: مؤشر اقتصادي، سعر العملة مثلاً، أيضاً الأدب مؤشر المعرفة، كلما نمت معرفتك ارتقى مستوى أدبك مع الله عز وجل.
 سيدنا المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ماذا قال ؟

 

﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾

 

[ سورة المائدة: 116]

 كلمة: ما قلت أنا ؟ هذا الشيء فيها سوء أدب، إن كنت قلته فقد علمته، ماذا قولك لو أنه قال: لم أقل هذا يا رب، أنا ما قلت لهم هذا، فيها رعونة، إن كنت قلته فقد علمته، لم يقل لم أقله، وفرق كبير بين الجوابين، بين أن يقول هذا النبي العظيم: لم أقل هذا، وبين أن يقول: إن كنت قلته فقد علمته.

 

﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾

 

[ سورة المائدة: 116]

 أثنى على ربه، ووصفه بتفرد العلم، أنت تعلم ما في نفسي، لكنني لا أعلم ما في نفسك، قال تعالى:

 

﴿إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾

 

[ سورة المائدة: 116-117]

 والله الذي لا إله إلا هو إذا قرأت هذا الحوار الذي حدثنا الله في القرآن تشعر أن هذا النبي الكريم يقطر أدباً مع الله عز وجل، لو في وقت تقف عند كلمة، كلمة تعلم ما في نفسي، ولا أعلم ما في نفسك، أنا يا رب مكشوف، لكنك أنت وحدك علام الغيوب، أنت تعلم، وأنا لا أعلم، إن كنت قلته فقد علمته.
ما قلت لهم إلا ما أمرتني به، أنا عبد أنا مأمور، أنا علمي محدود، ما دمت حياً قلت لهم هذا، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم، إنك على كل شيء شهيد، يا ربي هؤلاء أشركوا بك، عذبهم، أدخلهم النار، قال: لا، أنت السيد، أنت المالك، أنت الرب، أنت الإله، إن تعذبهم فإنهم عبادك هذا ليس من حقي، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم، إذا كان سيدنا المسيح قد رأى قومه، وقد جعلوه إلهاً من بعده، قال: يا رب إن تعذبهم فإنهم عبادك، أنت تحكم على الناس سلفاً، فلان كافر فلان إلى النار، ليس هذا من شأن الإنسان، هذا من شأن الله عز وجل، إذا رأيت إنساناً عاصٍيًا، إنساناً منحرفاً فالله يهديه.
مرة قال لي شخص: أنا أغض بصري، ولا أتأثر بالنساء إطلاقاً، يعني يعتز باستقامته، شيء تافه، لا قيمة له، قلت له: والله سيدنا يوسف أنت أعلم منه ؟ ماذا قال سيدنا يوسف:

﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾

[ سورة يوسف: الآية 33]

 هل من المعقول أن تكون أنت أعلى من سيدنا يوسف هذا النبي العظيم ؟ هذه الكلمة فيها رعونة، أنا لا أتأثر، استقامتي تامة، مضبوطة، إرادتي قوية، هذا كلام فارغ، لما ربنا عز وجل يحب أن يؤدبك يضعف مقاومتك، إياك نعبد، وإياك نستعين، يجب أن تستعين على طاعة الله بالله، هذه الآية التي تقرأها كل يوم سبع عشرة مرة، إياك نعبد وإياك نستعين، يعني لا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول عن معصية الله إلا بالله، ولا قوة على طاعته إلا به، إذا كان نبي عظيم يقول:

 

﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾

 

[ سورة يوسف: الآية 33]

 تقول أنت: أنا لا أتأثر، لا، قل: يا رب احفظني، يا رب أعني على طاعتك، أعني على غض البصر، أعني أن أكون كما تريد، سيدنا إبراهيم قال:

﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾

[ سورة إبراهيم: الآية 35]

 نبي عظيم، أبو الأنبياء، من أولي العزم يدعو ربه أن يجنبه أن يعبد الأصنام، ما قولكم ؟
 أحياناً يكون الإنسان مثلاً غاضبًا من إنسان بحق، فإذا استعطفته، فهذا من سوء الأدب، هو أرحم منك، أب يحب أن يؤدب ابنه، وأنت ليس لك علاقة، ارحمه، لا تضربه، هذا سوء أدب، فإن قال: إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فأنت الغفور الرحيم، لا، قال: فإنك أنت العزيز الرحيم، يعني أنت الحكيم إن عذبتهم، فهذه هي الحكمة، وإن رحمتهم فهذه هي الحكمة.
 أحيانا الإنسان يدعو، وفي دعائه تطاول على الله، لو قال له: إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم، بحسب الظاهر أقرب مناسبة وأكثر، قال: وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الرحيم، يعني إن غفرت لهم فهذه هي الحكمة المطلقة، وإن عذبتهم فهذه هي الحكمة المطلقة، وأنا يا رب هذا ليس من شأني، فلان كافر ؟ الله أعلم، هذا ليس من شأنك، هذا من شأن الله، نحن نحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر.
 قال: يا رسول الله قالها تقية، قال: يا أسامة أشققت على صدره، من تمام الأدب أن تحكم على الناس بالظاهر، يصلي، يصوم، يشهد أنه لا إله إلا الله، انتهى الأمر، إنسان رأيته يعلن الشهادة، ويصلي، ويصوم انتهت مهمتك، ليس من شأنك أن تكفره.
 سيدنا إبراهيم كيف أدبه مع الله ؟

 

﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ﴾

 

[ سورة الشعراء ]

 هي حسب السياق: وإذا أمرضني فهو يشفين.

 

﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾

 

[ سورة الشعراء: الآية 80]

 نسب المرض إليه، والحقيقة هكذا، أنت مخلوق كامل، أي خلل في التعامل مع الأشياء، وفي الطعام، والشراب إذا خالفت السنة فهناك أعراض المخالفة، فإذا كان ثمة آلة في أعلى درجات الصيانة والإتقان، إذا حصل فيها خلل من سوء استعمالها، لا من صانعها، صانعها مبرأ، أما أنت فأسأت استعمالها، يقول لك: تطبيق وكالة معها تعليمات، مع دقة، تعمل بانتظام، بلا كلل، ولا ملل، لكن أنت أسأت استعمالها، شغلتها على خلاف تعليمات الصانع، يحصل فيها خلل.
 كلام سيدنا إبراهيم فيه أدب، سيدنا الخضر قال:

 

﴿فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا﴾

 

[ سورة الكهف: 79]

 نسب الإرادة إلى ذاته، و قال:

 

﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا﴾

 

[ سورة الكهف: 82]

 ربنا أيضاً علمنا الأدب، قال تعالى:

 

﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾

 

[ سورة الأنعام: 17]

 الضر: إن يمسسك، أما الخير إن يردك، وفرق كبير بينهما، الأصل في علاقة الأب مع ابنه المحبة، والرعاية، والعطف، والإكرام، هذا الأصل، لكن أحياناً الابن ينحرف، وانحرافه يستوجب العقاب، الأصل هو الإكرام، العقاب شيء طارئ استثنائي، شيء غير مقصود، غير مرغوب فيه، غير مراد، أما الإكرام فهو الأصل، كلمة مس، قال تعالى:

﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ﴾

[ سورة الأنعام: 17]

 إذا أراد الإنسان أن يمس مدفأة يمسها بكل جسمه ؟ يعانقها بطرف إصبعه، وأيضاً يعطيها ريقًا حتى إذا أراد أن يلمس مكواة يضع كل كفه، طرف إصبعه، المس أقل مساحة ممكنة في أقل زمن ممكن، وهكذا الله عز وجل:

 

﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ﴾

 

[ سورة الأنعام: 17]

 يقول لك: كريزة رمل، كريزة يعني موجة دقيقتين أو ثلاث يصيح، ويستريح، إذا كانت مستمرة ساعتين ينتهي الإنسان، فربنا إذا عذب الإنسان تكون النوبات خفيفة، يقول لك: لا تحتمل، ربنا قال:

 

﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾

 

[ سورة الأنعام: 17]

 المس شيء، والإرادة شيء آخر.

 

﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً﴾

 

[ سورة الكهف: 79]

 الجن ماذا قالوا ؟

 

﴿وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً﴾

 

[ سورة الجن: 10]

 الشر، ما قالوا: أراد الله بهم شرا، هذا مستحيل، قال تعالى:

 

﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾

 

[ سورة هود: 119]

 ربنا عز وجل خلق الخلق ليرحمهم، ليسعدهم، عرض عليهم الأمانة، الذين قصروا في حملها دفعوا الثمن، هذا ليس مراداً، ليس مقصوداً، سيدنا موسى كان جائعاً جداً، ما قال، ربي أطعمني، قال تعالى:

 

﴿فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾

 

[ سورة القصص: 24]

 أيضاً في منتهى الأدب، سيدنا آدم ما قال: ربي قدرت علي المعصية، وقضيتها علي، قال تعالى:

 

﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾

 

[ سورة الأعراف: 23]

 أنت لو تتبعت أقوال الأنبياء مع الله عز وجل لرأيت أقوالهم في منتهى الأدب، في منتهى المعرفة، سيدنا أيوب ماذا قال ؟ قال تعالى:

 

﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾

 

[ سورة الأعراف: الآية 151]

 سيدنا إبراهيم قال له جبريل: ألك عند الله حاجة ؟ قال: علمه بحالي يغني عن سؤالي، انظر على هذا الأدب.
 سيدنا يوسف أيضاً، قال تعالى:

 

﴿أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾

 

[ سورة يوسف: الآية 100]

 ما قال: من بعد أن فعل بي إخوتي ما فعلوا، جعل فعلهم تابعاً للشيطان، النبي عليه الصلاة والسلام أمر رجلاً أن يستر عورته، وإن كان خالياً لا يراه أحد، هذا من تمام الأدب مع الله عز وجل، قال بعضهم: الزموا الأدب ظاهراً وباطناً، فما أساء أحد الأدب في الظاهر إلا عوقب ظاهراً، وما أساء أحد الأدب باطناً إلا عوقب باطناً.
 عندنا نقطة مهمة جداً قالها ابن المبارك، قال: من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السنن، عندك آداب، سنن، فرائض، مستوى الآداب، الأدب أن تدخل إلى المسجد بالرجل اليمنى، أن تأكل باليمنى، ألا تأكل متكئاً، أن تشرب جالساً، أن تسمي، أن تحمد، عندك آداب الطعام، آداب الطريق، آداب التعلم، العلم له آداب كثيرة جداً.
 عندك الآداب، ثم السنن، ثم الفرائض، ماذا قال ابن المبارك ؟ من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السنن، ومن تهاون بالسنن عوقب بحرمان، الفرائض، ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة، آداب، سنن، فرائض، معرفة، قصرت في الآداب حرمت السنن، قصرت في السنن حرمت الفرائض، قصرت في الفرائض حرمت المعرفة، لذلك ورد في بعض الأحاديث، والحديث الضعيف يجوز روايته في الآداب فقط: ((ما استرذل الله عبداً إلا حضر عليه العلم والأدب))، الإنسان إذا كان صغيراً في عين الله عز وجل، إذا سقط من عين الله حظر عليه العلم والأدب يعطيه المال الوفير، الصحة الطيبة، الذكاء، الجمال، حياته غنية بالمباهج والمتع بالشهوات، لكنه محروم من الأدب والعلم والأدب والعلم الذي هو عطاء الأنبياء، إذاً من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السنن، من تهاون بالسنن عوقب بحرمان الفرائض، ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة.
 إذا كان مع الإنسان وقت يبحث عن آداب الطريق، غض البصر، طرح السلام، رد السلام، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، إذا كان للإنسان محل على الطريق، هذه لها آداب، آداب طلب العلم، آداب المجالسة، آداب الزيارة، آداب عيادة المريض، آداب المشي في الجنازة، كنا بجنازة منذ أسبوع الملقن يلقن، والشيخ يدعو، والميت في قبره، وإنسان يتحدث عن البيع والشراء، وعقود، وشراء، وأسعار، وارتفاع، وتوكيل محامين، والله وقف موقفاً ما من واحد إلا اشمأز منه، واحتقره، هذا مكان عقود، ومحامين، وبيع، والميت يدفن، هناك آداب التشييع، فإذا تعرف الإنسان إلى الآداب، وانتقل منها إلى السنن، أو بالعكس، المعرفة، الفرائض، السنن، الآداب يكون قد وصل إلى درجة ترضي الله عز وجل.
 الأدب في العمل علامة قبول العمل، أحيانا يكون العمل طيبًا، لكن ليس فيه أدب، أنا فعلت كذا، قال بعض الحكماء: رقصت الفضيلة تيهاً بنفسها فانكشفت عورتها، حتى إذا حدثت الناس بأعمالك الطيبة فهذا الحديث نفسه فيه سوء أدب مع الله عز وجل، كأنك تستعلي عليه، فلذلك الأدب في العمل علامة قبول العمل.
 إن شاء الله في درس قادم نتحدث عن آداب النبي عليه الصلاة والسلام العربي، طبعاً تحدثنا عن آداب الأنبياء في القرآن، والنبي له آداب كثيرة، بقي الأدب مع رسول الله، والآداب مع الخلق، الآداب بحث لطيف جداً، وهذا يقودنا إلى طاعة الله عز وجل والإقبال عليه.
والآن إلى قصة من قصص التابعين رحمهم الله تعالى، نحن في الدرس الماضي كان الحديث عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، واليوم الحديث عن سالم بن عبد الله بن عمر.
 ولد سالم بن عبد الله في رحاب المدينة المنورة مثوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودار هجرته، وفي أجوائها العبقة بطيوب النبوة المتألقة درج وشب، وفي كنف أبيه العابد الزهاد الصوام القوام تربى، وبأخلاقه العمرية تخلق، لقد رأى فيه أبوه من مخايل التقى، وعلائم الهدى، وأبصر في سلوكه من شمائل الإسلام، وأخلاق القرآن فوق ما كان يراه في إخوته، فأحبه حباً ملك عليه شغاف قلبه، وخالط منه حبات فوائده، حتى لامه اللائمون، وأقبل عليه يبث ما وعاه صدره من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويفقهه في دين الله، ويمليه من كتاب الله، ثم دفع به إلى الحرم الشريف، وكان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مازال معموراً بطائفة كبيرة من جلة الصحابة، فحيثما ألم الفتى بركن من أركان الحرم ألفى أمامه نجماً متألقاً، وعبقاً من طيوب الرسالة الغراء، أتيح لهذا الفتى أن يأخذ عن طائفة من جلة الصحابة، وعلى رأسهم أبو أيوب الأنصاري، وأبو هريرة، وأبو رافع، وأبو لبابة، وزيد بن الخطاب، بالإضافة إلى والده عبد الله بن عمر، فما لبث أن غدا علماً من أعلام المسلمين.
 العلم بالتعلم، يجب أن تجلس على ركبتيك، أن تفهم كلام الله، أن تفهم سنة النبي عليه الصلاة والسلام، أن تدفع الثمن، ألا إن سلعة الله غالية، ما من إنسان تعلم بلا تعلم، تعلم من عند نفسه، العلم له مكان، وهو المسجد، والعلم له رجال، له كتاب، لابد من أن تأخذ بالوسائل كي تصل على الأهداف.
عبد الرحمن بن الضحاك والي المدينة في خلافة يزيد بن عبد الملك، وكانت فاطمة بنت الحسين رضي الله عنه، قد ترملت، وانقطعت إلى أولادها، فتقدم إليها ابن الضحاك، وخطبها لنفسه، فقالت: والله ما أبغي الزواج، ولقد قعدت على بني، ووقفت نفسي عليهم.
 هناك حالات تكون المرأة شابة في مقتبل الحياة، ويموت زوجها، ولها منه أولاد، تقف نفسها على أولادها، النبي عليه الصلاة والسلام قال مرة:

((أول من يمسك بحلق الجنة أنا فإذا امرأة تنازعني تريد أن تدخل الجنة قبلي قلت من هذه يا جبريل ؟ قال هي امرأة مات زوجها وترك لها أولاداً فأبت الزواج من أجلهم))

 هذه امرأة تريد أن تدخل الجنة قبل النبي عليه الصلاة والسلام، ليس لأنها تعرف أنه هو النبي، ولكن هي مشغولة برغبتها بدخول الجنة، أراد النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الحديث أن يبين عظم المرأة التي تقف نفسها على أولادها، فجعل يلح عليها، وهي تحتال في الاعتذار إليه من غير مخاشنة، خوفاً من شره.
 أحياناً الإنسان يخاشن الناس، الخشونة غير مطلوبة، حتى في الوعظ، حتى في الإرشاد، حتى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من أمر بالمعروف فليكن أمره بالمعروف، هناك وسائل لطيفة جداً، وذكية جداً، ومؤدبة جداً في النصح، وهناك وسائل فظة، ومواقف عنيفة، وكلام قاس، ماذا قال الله عز وجل ؟

﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾

[ سورة آل عمران: الآية 159]

 علموا، ولا تعنفوا، فإن المعلم خير من المعنف، فالإنسان مع من دونه، مع أولاده، مع أقاربه، مع موظفين عنده، دائماً يكون رحيما.
 دخل رجل إلى المسجد، وقد ركض، وأحدث جلبة وضجيجًا، شوش على الحاضرين، هذا عمل فيه إساءة، لكن ما الذي حمله على هذه الإساءة ؟ حرصه على الصلاة خلف النبي عليه الصلاة والسلام، في الوقت المناسب النبي ما نسي هذا الحرص منه، قال له:

((زادك الله حرصاً ولا تعد))

 تريد أن تنتقد إنساناً ابحث عن ميزاته أولاً، عندك موظفون، أنت صاحب محل، عندك عمال، أنت صاحب معمل، أنت رئيس دائرة، مدير مستشفى، أنت إنسان داعية، عندك ناس تابعون لك، هذا الإنسان ليس معصومًا، يخطئ، ويصيب، أخطأ أليس له حسنة ؟ هذا أحد ملوك الأندلس كان يسير في حديقة ابن عباد، رأى صفحة ماء مستوية هبت عليها نسمات عليلة، فجعلتها كالزرد، كالسلسلة فقال:

نثر الجو على الماء زرد

 وأراد أن يتابع الشعر فما تمكن، وثمة جارية وراءه قالت:

ياله درعاً منيعاًً لو جمد

 أعجب بهذه الجارية، فتزوجها، وأصبحت زوجته، هو ملك أكبر دولة في الأندلس، عاشت هذه الجارية بعد أن أصبحت ملكة أو زوجة الأمير حياة بمنتهى الرفاه، والبحبوحة، مرةً اشتاقت إلى حياة الفقر، اشتهت أن تدوس في الطين، فجاءها بمسك، وكافور، وخلط المسك، والكافور بماء الورد، وقال لها: هذا هو الطين، فدوسي فيه، ثم جاء ابن تاشفين، وقضى على ملوك الطوائف جميعاً، ووضعهم في السجن، وذاق حياة البؤس والمرارة، ولما خرج من السجن، كانت تقول له هذه الجارية، أو هذه الزوجة: لم أر منك خيراً قط، فكان يقول لها: ولا يوم الطين.
 هكذا النبي الكريم قال:

((إن أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئاً قالت: لم أر منك خيراً قط))

 الإنسان من كماله ألا ينسى الفضل، لا ينسى المواقف الطيبة، فالإنسان إذا أمر بالمعروف فلا يكن قاسياً، لا يكن فظاً، يسلك طريق الحلم، لأنك أنت إلى أن تمتلك القلوب أحوج منك إلى أن تمتلك الأجسام، لك قالب وقالب، القَلب له شكل، وله حقيقة، أنت تريد الحقيقة، القلب مثلاً إذا كنت قويًا، والناس دونك، أنت تريد أن يمدحوك في وجهك أم في غيبتك ؟ إذا كانوا يحبونك يمدحونك في غيبتك، أما إذا كانوا يخافونك فيمدحونك في حضورك، والمديح في حضور الرجل لا قيمة له، المقياس أن تمدح في غيبتك.
 فلما وجدها تتأبى، النبي عليه الصلاة والسلام لما طلب من امرأة أن تراجع زوجها، أن تقبله زوجاً لها، بعد أن رفضته، قالت له: أفتأمرني ؟ قال: لا إنما أنا شفيع، قضايا الزواج قضايا خاصة جداًُ، الإنسان لا حق له أن يضع مكانته كلها، ومركزه للضغط على إنسان كي يأخذ فلانة، أو أن تأخذ فلانة فلانًا، هذه قضية خاصة جداً.
 قال لها: والله إن لم ترضي بي زوجاً لآخذن أكبر بنيك، ولأجلدنه بتهمة شرب الخمر، فاستشارت سالم بن عبد الله في أمرها، فأشار عليها أن تكتب على الخليفة كتاباً تشكو فيه الوالي، وتذكر قرابتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتبت الكتاب، وأنفذته مع رسول لها إلى دمشق، وما كاد الرسول يمضي بالكتاب حتى جاء أمر الخليفة إلى ابن هرمز عاملة على ديوان المال في المدينة بأن يقدم عليه ليرفع إليه حسابه، فقام ابن هرمز يودع أصحاب الحقوق عليه، فاستأذن على فاطمة بنت الحسين، وقال: إني ماض إلى دمشق، فهل لك من حاجة ؟ قالت: نعم تخبر أمير المؤمنين بما ألقى من ابن الضحاك، وما يتعرض بي إليه، وأنه لا يرعى حرمة لعلماء المدينة، وخاصة سالم بن عبد الله، فلام نفسه على زيارتها، إذ ما كان يريد أن يحمل شكواها من ابن الضحاك إلى الخليفة، وصل ابن هرمز إلى دمشق في نفس اليوم الذي وصل فيه الرسول الذي يحمل كتاب فاطمة، فلما دخل على الخليفة استخبره عن أحوال المدينة، وسأله عن سالم بن عبد الله وصحبه من الفقهاء، فقال له: هل هناك أمر ذو شأن جدير بأن يعلم، أو خبر ذو خطر حري بأن يذكر، فلم يذكر له شيئاً من قصة فاطمة بنت الحسين، ولم يشر بشيء من موقف الوالي من سالم بن عبد الله، وفيما هو جالس عنده يرفع له حسابه إذ دخل الحاجب، وقال: أصلح الله الأمير، إن في الباب رسول فاطمة بنت الحسين، فتغير وجه ابن هرمز، وقال: أطال الله بقاء الأمير، إن فاطمة بنت الحسين حملتني رسالة إليك، وأخبره الخبر، فما إن سمع مقالته حتى نزل عن سريره، وقال: لا أم لك، ألم أسألك عن شؤون المدينة، وأخبارها ؟ أيكون لديك مثل هذا الخبر، وتكتمه عني ؟ فاعتذر له بالنسيان، ثم أذن للرسول، فأدخل عليه، فأخذ الكتاب منه، وفضه، وجعل يقرأه، والشرر يتطاير من عينيه، وأخذ يضرب الأرض بخيزران كان في يده، وهو يقول: لقد اجترأ ابن الضحاك على آل رسول الله، ولم يصغ لنصح سالم بن عبد الله فيهم، هل من رجل يسمعني صوته، وهو يعذب في المدينة، وأنا على فراشي في دمشق، فقيل له: نعم يا أمير المؤمنين ليس للمدينة إلا عبد الله بن بشر النضري، فوله إياها، وهو مقيم الآن في الطائف، قال: نعم، والله نعم، إنه لها.
 ثم دعا بقرطاس، وكتب بيديه من أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك إلى عبد الواحد بن بشر النضري، السلام عليك، أما بعد، فإني قد وليتك المدينة، فإذا جاءك كتابي هذا فتوجه إليها، واعزل عنها ابن الضحاك، وافرض عليه غرامة مقدارها كذا وكذا.
 هذا التابعي الجليل الذي كان عالماً فقيهاً في المدينة له شأنه، فحينما تجاوز الوالي قدره، ولم يرع له نصحاً، ولم يقم له قيمةً استحق هذا الوالي من الخليفة أن يعاقب بهذا العقاب، أخذ صاحب البريد الكتاب، ومضى يحث الخطى نحو الطائف عن طريق المدينة، فلما بلغ المدينة لم يدخل على واليها ابن الضحاك، ولم يسلم عليه، فأوجس الوالي خيفة في نفسه، وأرسل إليه، ودعاه إلى بيته، وسأله عن سبب قدومه، فلم يبح له بشيء، فرفع طرف فراشه، وقال انظر، فإذا كيس قد ملئ بالدنانير، فقال: هذه ألف دينار، ولك علي عهد الله وميثاقه إن أنت أخبرتني عن وجهتك، وما في يدك لأدفعنها إليك، ولأكتمن ذلك، فأخبره، فدفع إليه المال، وقال: تريث هنا ثلاث ليال حتى أصل إلى دمشق، ثم امضِ إلى ما أمرت به، زم ابن الضحاك ركائبه، وغادر المدينة لتوه، ومضى نحو دمشق، فلما بلغها دخل على أخ الخليفة مسلمة، وكان سيداً أريحياً صاحب نجدة، فلما صار بين يديه قال له: أنا في جوارك أيها الأمير، قال أبشر بخير، ما شأنك ؟ قال: إن أمير المؤمنين ناقم علي لهنة بدرت مني، فغدا مسلمة على يزيد، وقال له: إن لي لدى أمير المؤمنين حاجة، فقال يزيد: كل حاجة لك مقضية ما لم تكن في ابن الضحاك، إلا هذه الحاجة، فقال: والله ما جئتك إلا من أجله، فقال: والله لا أعفيه أبداً، قال: ما ذنبه ؟ قال: لقد تعرض لفاطمة بنت الحسين، وهددها، وتوعدها، وأرهقها، ولم يصغ لسالم بن عبد الله في أمرها، فهب شعراء المدينة جميعاً، يهجونه، وطفق صلحاؤها، وعلماؤها يعيبونه، فقال مسلمة: أنت وشأنك معه يا أمير المؤمنين، فقال يزيد: آمره أن يعود إلى المدينة لينفذ واليها الجديد أمري فيه، ويجعله عبرة لغيره من الولاة، فرح أهل المدينة أعظم الفرح بواليهم الجديد، وسرهم حزمه في تنفيذ أمر الخليفة لابن الضحاك.
 الناس بعلمائهم، وأمرائهم، وإذا فسد العلماء والأمراء فالأمة كلها تفسد، مراكز القوى في الأمة العلماء والأمراء، لذلك إذا أهين العلماء فالأمر يبدو غير صحيح.
 وازدادوا تعلقاً حينما وجدوه يذهب مذاهب الخير، ولا يقطع أمراً من أمورهم إلا إذا استشار القاسم بن محمد بن أبي بكر، وسالم بن عبد الله بن عمر.
 سيدنا عمر بن عبد العزيز وضع له مستشاراً، قال لهذا المستشار: كن معي دائماً، فإذا رأيتني ضللت - طبعاً جعله عالماً جليلاً - فأمسكني من تلابيبي، وهزني هزاً شديداً، وقل لي: اتقِ الله يا عمر فإنك ستموت.
 الإنسان دائماً يستشير، يقولون: من استشار الرجال استعار عقولهم، وقال بعضهم: تملكها، عقل راحج كبير تشتريه، وتمتلكه، إذا استشرته فهذه نصيحة لوجه الله في أمور الدنيا، في أمور الشراء، في أمور الزواج، في أمور متعلقة بالشرع، اسأل من كان بهذا الأمر خبير، قال تعالى:

 

﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾

 

[ سورة النحل: 43]

 والاستشارة مفخرة، الله عز وجل قال:

 

﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾

 

[ سورة آل عمران: 159]

 لمَ خاطب النبي عليه الصلاة والسلام، وهو سيد ولد آدم الذي يوحى إليه، المعصوم ؟ ومع ذلك أمره أن يشاور، فهذه القصة مغزاها أن الإنسان عليه أن يستشير، وإذا أشار عليه أولو العلم والفضل فعليه أن ينصاع إليهم، لأنهم يأتونه بالدليل عن الله عز وجل، إنسان وقع في معصية كبيرة، هذه المخالفة دمرته، لأنه ضن بوقته أن يبذله في سؤال أهل العلم، أو سؤال أولي الخبرة.
 القصة معزاها أنك عليك أن تسأل، وعليك أن تستشر، وعليك أن تشاور، وإذا استشرت، وجاءتك الفتوى أو الإشارة أو التوجيه مع الدليل القرآني أو النبوي فعندئذ عليك أن تنصاع لأن هذا حكم الشرع.
 إن شاء الله تعالى نتابع هذه السير سير التابعين في دروس قادمة.

إخفاء الصور