وضع داكن
24-04-2024
Logo
أحاديث متفرقة - الدرس : 020 - النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا ونفعنا بما علمتنا وزدنا علما، وأرنا الحق حقا و ارزقنا إتباعه، وأرنا الباطل باطلا و ارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة المؤمنون: بقي علينا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:

((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَعَلَا صَوْتُهُ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ وَيَقُولُ بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ وَيَقْرُنُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَيَقُولُ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِأَهْلِهِ وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ))

[ مسلم، النسائي، أبو داود، ابن ماجه، أحمد، الدارمي ]

  و أنا ولي المؤمنين، قبل شرح هذه الفقرة الأخيرة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد أن أقدم بين يدي هذا الشرح مقدمة تلقي ضوءاً على معنى هذا الحديث، هذه المقدمة متعلقة بما يسمى بالبيئة، الإنسان له بيئة يعيش فيها، يمكن أن نضرب هذا المثل، إن صح أن الإنسان وعاء فالبيئة تلقي في هذا الوعاء ما فيها، و إن صحّ أن الإنسان يتحرك، و يتصرف، و يتكلم فلن يتكلم، ولن يتصرف، ولن يتحدث إلا بما فيه، إذاً البيئة أمر خطير، أي مثلاً لو أن أحدكم قرأ القرآن ماذا في القرآن ؟ فيه آداب، ألم تقل السيدة عائشة حينما سئلت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

((كان خلقه القرآن))

  آداب غض البصر، آداب إلقاء السلام، آداب رد السلام، آداب الاستئذان، آداب الحديث، طلب العلم، قيمة العلم، إذا قرأت القرآن كأنك وعاء، وقد صب في هذا الوعاء مكارم الأخلاق، وإذا قرأت الحديث النبوي الشريف ماذا فيه ؟

((أدبني ربي فأحسن تأديبي))

  كل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم حق من الله تعالى، إذا صاحبت مؤمناً المؤمن بيئة، أي هذا الذي يلقى فيك، من معلومات، من أفكار، من قيم، من قصص، من تجارب، من خبرات، أنت وعاء بالضبط، أنت وعاء، فإذا وضعت نفسك في بيئة طيبة ألقي في هذا الوعاء الكمال، فإذا أردت أن تتحرك، أن تقول، أن تفعل، أن تعامل، أن تعطي، أن تأخذ، لن يصدر منك إلا الكمال، أي هذا الوعاء لو ملأناه عسلاً، ولهذا الوعاء صنبور، و فتحنا هذا الصنبور سيخرج العسل الذي ملئ فيه، لو ألقينا في هذا الوعاء دبساً، وفتحنا الصنبور لن نرى إلا الدبس، لو ألقينا في هذا الوعاء في هذا الوعاء شراباً، لو ألقينا ماء، ماء آسناً، لن نجد إلا الماء الآسن، ماء مالحاً لن نجد إلا الماء المالح، فأنت وعاء فانظر كيف تملئ نفسك ؟ إذا لازمت أهل العلم، إذا لازمت أهل الإيمان، إذا قرأت القرآن، قرأت سنة النبي العدنان، إذا قرأت عن أبطال التاريخ، قرأت عن أصحاب رسول الله، هذه البطولات، وهذه الأفكار، وهذه القيم، وهذه الأنماط الكاملة في التعامل، الوفاء، الكرم، الشجاعة، العفة، الأمانة، الصدق، هذا كله يصب في وعائك، فإذا تحدثت فكلامك لطيف، لن تتكلم بكلمة بذيئة لأنك أدبت بالقرآن.
 ربنا علمك قال لك:

﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ﴾

[ سورة المؤمنون]

  كلام لطيف، الدين كله حياء، أي أتمنى عليكم أن تختاروا البيئة التي تعيشونها، أي إذا صاحبت إنساناً قليل الدين، قليل الأخلاق، سيطرح أفكاراً وآراء ومواقف مضحكة، وتعليقات لاذعة، ومزاحًا غير جيد، هذا بيئتك.
 إذاً البيئة وسعت معناها من كتاب إلى صديق إلى مجلس علم، إلى زميل، إلى صاحب، إلى جار، كلما انتقيت هؤلاء بذكاء وبطيب صببت في وعائك الكمال، فلو أن إنساناً قرأ قصصاً رخيصة أو تابع مسلسلات رخيصة ماذا سيجد ؟ سيجد الخيانة الزوجية، الانحراف، اللؤم، الاستغلال، سيجد السقوط، الدناءة، هذه خبرات، التلاعب على الناس، المواقف التي تعبر عن أنانية صاحبها، فإذا اخترت بيئة طيبة بدءاً من كتاب تقرؤه، إلى صديق تصحبه، إلى مجلس علم تحضره، هذه البيئة الطيبة ما هي إلا صنبور فيه ماء طيب، أو ماء معسل، أو ماء معطر صبّ في هذا الوعاء، فإذا فتح الصنبور الآخر الذي يفرغ هذا الماء كان شيئاً طيباً، ومذاقاً رائعاً، وريحاً طيباً أيضاً، إذاً يجب أن تكون ولي المؤمنين، يجب أن تكون معهم، لاحظ نفسك لو وجدت فجأة مع أصدقاء قدامى من أصدقاء الجاهلية، لاحظ أنك تحس أنك في واد، وهم في واد، تحس بالفرق واضحًا تماماً، من مواقفهم، من مزاحهم، من تعليقاتهم، من حبهم لذاتهم، من أنانيتهم، هكذا كنت منهم، كنت منهم، وأنت لا تدري، والآن أنت بعيد عنهم، وأنت لا تدري، هذا أثر الجليس الصالح، هذا أثر البيئة الطيبة، مع أن الإنسان من المفروض أن يملك ميزاناً دقيقاً دقيقاً يزن به كل شيء، و لكن قد يضعف الميزان أحياناً، ربنا عز وجل قال:

 

﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾

 

[ سورة الكهف: الآية 28]

  كن معهم، جالسهم، لا تختر صديقاً في نزهة إلا مؤمناً، لا تختر شريكاً في التجارة إلا مؤمناً، لا يأكل طعامك إلا تقي، لا تصاحب إلا مؤمناً:

 

﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾

 

[ سورة الحجرات: الآية 10]

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾

[ سورة التوبة: الآية 119]

  هكذا، لذلك:

 

﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾

 

[ سورة المائدة: الآية 51]

﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ﴾

[ سورة آل عمران: الآية 28]

  أي يمكن أن يكون محور هذا الدرس البيئة الصالحة، قال عليه الصلاة و السلام: ((الوحدة خير من الجليس السوء لكن الجليس الصالح خير من الوحدة))، فقد تقول: أنا متضايق، أنا متألم، أشعر بضيق، أشعر بملل بسأم بضجر، حياة تافهة، لا معنى لها، مستقبل مظلم، ضباب، العالم مقبل على مجاعات، على كوارث، على نقص في المواد الغذائية، هذه من آثار البيئة الفاسدة، قد تكون هذه البيئة فاسدة في عقيدتها، فالكافر متشائم سوداوي المزاج، يزين الأمور بالمادة فقط، فإذا قلّت المادة ضاق بها ذرعاً، ضاق بقلتها ذرعاً.
 فيا أيها الإخوة الأكارم: آيات كثيرة ذكرتها لكم تباعاً، أحاديث كثيرة ذكرتها لكم تباعاً، مفادها أن يجب أن تختار البيئة الصالحة، الإنسان دعه يقرأ قصة ساقطة يعيش أجواءها، يعيش مشاعر، أحاسيس أبطالها، يعيش رغبات أبطالها، يتمنى أن يكون أحدهم، في سقوطه وانحرافه وملذاته، اقرأ قصة عن أصحاب رسول الله، كنت في الوحل فإذا أنت في السماء، كنت في الطين فإذا أنت في أعالي الجبال، كنت أنت في القمامة فإذا أنت بين الأزهار، هكذا، لذلك العبرة قد يقول أحدكم: أنا في الدرس أحس براحة كبيرة، هذا كلام طيب، هذا بيت الله، أنت في بيته، إذاً أنت في ضيافته، إذاً أنت خاضع لتجلياته، كل هذا الكلام صحيح، و لكن البطولة في أثناء الأسبوع يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وأنت في محلك التجاري، وأنت في وظيفتك، أنت مع أصدقائك، أنت في مكتبك، بين زبائنك، وأنت مسافر، أن تكون مع الله عز وجل، لن تكون مع الله عز وجل إلا إذا دققت في هذا الموضوع، أن تختار البيئة الطيبة، البيئة الصالحة.
 الصاحب ساحب كما قال بعض العلماء الأجلاء، ومن جالس جانس، إذا جلست مع أناس طيبين تجانسهم، إذا جلست مع العلماء تحبهم، تحب أن تكون عالماً مثلهم، إذا جلست مع الكرماء تحب أن تكون كريماً مثلهم، شيء دقيق جداً، انظر ما الذي يدخل إلى هذا الوعاء ؟ نسميها باللغة الدارجة التغذية، يوجد تغذية أحياناً، تغذية طيبة، إذا قرأ الإنسان عن أصحاب النبي التغذية جيدة جداً، إذا قرأ عن بطولاتهم، عن وفائهم بعهدهم، إذا قرأ عن النبي صلى الله عليه وسلم كل حركاته، كل سكناته، كل مواقفه في منتهى الكمال، صحابي جليل نزع من ردائه ريشة طائر فرفع النبي الكريم يديه إلى السماء و قال: اللهم اجزه عني كل خير، علِم نفسك الوفاء، علم نفسك تتحسس بالكمال، تتحسس بالمعروف، يكون رد فعلك رائعاً رد فعل الشاكر، الممتن.
 فيا أيها الإخوة الأكارم: أصحابك، السهرات، الأدوار، الرحلات، النزهات، الولائم، هؤلاء من ؟ من جنسك، من طينتك، من جبلتك، مؤمنون، أطهار، صادقون، شرفاء، أعفة، أم أنهم من الدرجة الثانية ؟ يوجد مزح رخيص، يوجد استراق نظرات إلى المحرمات، يوجد ذمم غير منضبطة، تساهلات، هكذا.
البيئة أصحاب النبي عليهم رضوان الله عاشوا في أطهر بيئة فكانوا أبطالاً، المسجد بيئة، مجالس العلم بيئة، المؤمنون بيئة، مطالعاتك بيئة، قراءاتك بيئة، من تصاحب في نزهاتك بيئة، بالضبط أنت وعاء، كل شيء تقرؤه صنبور على هذا الوعاء، كل شيء تسمعه صنبور على هذا الوعاء، مجلس العلم الذي تحضره صنبور على هذا الوعاء، الوعاء يمتلئ، قد يمتلئ حباً لله، قد يمتلئ حباً للخير، قد يمتلئ حباً للمؤمنين، قد يمتلئ حباً لأصحاب النبي، قد يمتلئ حباً للحق، نزيه إلى أقصى حدود، إلى أقصى درجة، لا تخشى في الحق لومة لائم، تقول الحق ولو كان مراً، و لو كان على نفسك، هكذا إذا صاحبت الأتقياء، فلذلك الصاحب مهم جداً، الشخص بأثناء الجمعة لا يصاحب أناساً بعيدين يبتعد معهم، يأتي إلى يوم الدرس فإذا هو غريب عن هذا المجلس، أما إذا صاحب أهل الحق، أهل الإيمان، أهل التقى، أهل الورع، أهل الإحسان، أحياناً تجلس مع شخص محسن تتمنى العمل الطيب، أي يجهد في خدمة الخلق، في إكرامهم، في مد يد المعونة إليهم، بالإحسان إليهم، فمن أجل أن تكون مع المؤمنين يجب أن تجالسهم.
 النبي صلى الله عليه وسلم قال:

((أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ ))

 قال ربنا عز وجل:

 

﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا﴾

 

[ سورة النور: الآية 19]

  الحقيقة أن الله عز و جل في كتابه الكريم، والنبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الشريفة أعطاك صفات المؤمن، وفي الوقت نفسه أعطاك مقياساً، فهل تحب أن تشيع الفاحشة في المؤمنين ؟ المحبة فقط تسبب الهلاك، أي إذا فعلت هذا كنت في خندق آخر غير خندق المؤمنين، هل تركن إلى الذين ظلموا ؟ هذه الآية الثانية:

 

﴿وَلَا تَرْكَنُوا﴾

 

[ سورة هود: الآية 113]

 أنت لم تعاونهم، لم تؤازرهم على ظلمهم، لم توافقهم، لكنك تركن إليهم، ترتاح لهم، تقيم معهم علاقات طيبة، علاقات وشيجة، علاقات حميمة، إذاً أنت منهم مقياس ثان، والمقياس الثالث مر بنا في درس الجمعة حينما:

 

﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً﴾

 

[ سورة القصص: الآية 83]

  جزاء الآخرة لا للذي يعلو في الأرض أو يُفسد، هي جزاء من لا يريد العلو ولا الفساد، ونفي الإرادة أبلغ من نفي الحدث، إذاً أنت وعاء وعليه صنبور، انظر هذا الصنبور ماذا يلقي في هذا الوعاء ؟ فإذا تكلمت، أو تحركت، أو تصرفت، أو تعاملت، أو تنزهت، أو جالست، أو دعوت، أو دعيت، تصرفاتك، مواقفك، علاقاتك، صلاتك، كلها متأثرة بهذا الوعاء الذي امتلأ إما ماء طيباً طاهراً، أو ماء معسلاً، أو ماء معطراً، أو ماء آسناً، أو ماء مالحاً، هكذا.
 هذا الذي يطلبه العلماء من تلاميذهم، ما يسمى الحمية الاجتماعية، أنت بحاجة إلى حمية على أقل تقدير في مرحلة البدايات، في البدايات أنت بحاجة إلى حمية، أي هذه النزهة قد لا تناسبك، هذه السهرة قد لا تجدي، هذا اللقاء قد لا ينفع، هذا المكان في هذا الطريق هذه الدكان في هذه الطريق لا تتناسب مع إيمانك، هذه العلاقة، هذا المقصف يتناقض مع هويتك أنت مؤمن، وهذا فيه منكرات لذلك أهم شيء البيئة، و الله سبحانه وتعالى كما قلت قبل قليل قال:

 

﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾

 

[ سورة الكهف: الآية 28]

 صاحب أهل الفجور تشتهِ الفجور، صاحب أهل الصدق تشتهِ الصدق، صاحب أهل الخير تشتهِ الخير، أي:

 

﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾

 

[ سورة الكهف: الآية 28]

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾

[ سورة الممتحنة: الآية 13]

  لا تركن إليهم:

 

﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾

 

[ سورة هود: الآية 113]

  الوحدة خير من الجليس السوء، ولكن الجليس الصالح خير من الوحدة، وتذكر أنك آلة كهربائية فيها بطارية، هذه البطارية تحتاج إلى شحن دوري، مجالس العلم ما هي إلا نوع من أنواع هذا الشحن، تجد حينما ينتهي هذا المجلس، أو أي مجلس آخر فيه صدق وإخلاص يمتلئ الإنسان إيماناً، يمتلئ نوايا طيبة، يمتلئ اندفاعاً إلى الحق و أهله، فإذا مضى يوم أو يومان ضعفت همته، فترت عبادته، قلت أعماله الطيبة، يأتي الوقت الآخر ليعاد شحن هذه البطارية، إذاً يتجدد إيمانه، و النبي صلى الله عليه وسلم قال:

((جددوا إيمانكم ))

 إذاً يقول عليه الصلاة و السلام:

((أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ))

 أي يجب أن توقن يقيناً قطعياً أن أرحم الخلق بالخلق هو النبي صلى الله عليه وسلم:

 

﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾

 

[ سورة التوبة: الآية 128]

  ويجب أن تعلم علم اليقين أن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق إلا بالحق، محب لك، أولى بك من نفسك، لا ينطق إلا بالحق، هنا تظهر بطولة سيدنا سعد ثلاثة أنا فيهن رجل، و فيما سوى ذلك فأنا واحد من الناس، ما سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علمت أنه حق من الله تعالى،

((مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِأَهْلِهِ وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ))، هنا النبي من هو ؟ في أية صفة يتكلم ؟ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((...أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِأَهْلِهِ وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ ))

  و أنا ولي المؤمنين، النبي صلى الله عليه وسلم حينما يتكلم له صفة، سأقربها لكم، لما ربنا عز وجل قال:

 

﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾

 

[ سورة التوبة: الآية 103]

  يخاطب النبي على أنه نبي أم على أنه الولي ؟ على أنه الولي، الأمير، أي الزكاة يجب أن تؤخذ لا أن تعطى، لم يقل للمؤمنين ادفعوا الزكاة، لا، قال له خذ من أموالهم، إذاً أي إنسان تولى الأمر من بعد النبي مكلف أن يأخذ الزكاة، هنا حينما يقول النبي الكريم:

((أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِأَهْلِهِ وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا))

 ما هو الضياع ؟ سأوضحه لكم، الضياع المرأة التي جادلت النبي صلى الله عليه وسلم:

 

﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا﴾

 

[ سورة المجادلة: الآية 1]

  ماذا قالت له ؟ قالت: يا رسول الله إن فلاناً زوجي تزوجني وأنا شابة ذات أهل و مال وجمال، فلما كبرت سني، وتفرق أهلي، وذهب مالي، ونثر بطني ـ أحضرت له خمسة أولاد ـ وزوى جمالي، قال: أنت عليّ كظهر أمي، ولي منه أولاد ـ دققوا فيما قالت ـ إن تركتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا، كأنها تبين هذه المرأة دور الرجل ودور المرأة، المرأة بالمناسبة كالرجل تماماً، مساواة مطلقة من حيث شيئان، من حيث التشريف والتكليف، كرامتها من كرامته:

 

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾

 

[ سورة النحل: الآية 97]

  شأنها من شأنه:

 

﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾

 

[ سورة آل عمران: الآية 195]

﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ﴾

[ سورة الأحزاب: الآية 35]

  إذاً في القرآن آيات تشير إلى أن المرأة كالرجل من حيث التشريف، ومن حيث التكليف، كلف الرجل بالإسلام، وكلفت بالإسلام، كلف بأركان الإسلام، وكلفت بأركان الإسلام، كلف بأركان الإيمان، وكلفت بأركان الإيمان، إذاً المرأة كالرجل، أما دورها شيء، ودوره شيء آخر، إن تركتهم إليه ضاعوا، إذاً من المربية ؟ المرأة، و إن ضممتهم إلي جاعوا ؟ من الذي يكسب الرزق ؟ الرجل، تقسيم رائع أنت أيها الزوج لكسب الرزق، وهي لتربية الأولاد، وأنعم بهذه من مهمة، لذلك أيما امرأة قعدت على بيت أولادها فهي معي في الجنة.
 إذاً:

((وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا))

 ما معنى الضياع ؟ أي أيتام، من ترك ديناً أو أيتاماً فإلي وعلي، هذا اسمه في البلاغة لف ونشر، ديناً علي، ضياعاً إلي، أي الدين علي أن أقضيه، والضياع إلي حفظه ورعايته، إذاً على أولي الأمر أن يتحملوا أعباء المؤمنين، بهذه الطريقة يغنى هذا الفرد، ترك مالاً له، ترك ديناً على أولي الأمر، ما معنى ذلك ؟ أحدث نظرية الاقتصاد أن الإنسان إذا اغتنى اغتنت معه الدولة، الضرائب تؤخذ ممن ؟ من المواطنين، فكلما اغتنى المواطن اغتنت معه الدولة، إذاً في إغناء المواطن مصلحة عامة،

((مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِأَهْلِهِ وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ))

 وأنا ولي المؤمنين، لاحظ إذا اغتنى الإنسان وجد شيء من التكافل الاجتماعي، ونحن لا ندري، رجل ميسور حال يساعد كل أفراد أسرته، إذاً النبي عليه الصلاة و السلام في هذا الحديث بوصفه الإمام، بالفقه يوجد عندنا مصطلح الإمامة الكبرى، النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث هو الإمام، ومن مهمات الإمام أن يتحمل أعباء المواطنين، أموالهم لهم، وأولادهم، وديونهم على الإمام، بهذا يغتني الفرد، فإذا اغتنى الفرد تغتني معه الأمة، واغتنت معه الحكومة، و أنا ولي المؤمنين، أي إنسان له مرجع، أنت مؤمن لك مرجع، لك مستشار، لك إنسان له باع طويل في الإيمان، لك إنسان يقدم لك الخبرات مجاناً، لك إنسان يحب لك ما يحب لنفسه، من علامة المؤمن أنه يحب لأخيه ما يحبه لنفسه، والحديث له تتمة، وأن يكره له ما يكره لنفسه، مستحيل من مؤمن صادق يتمنى لأخيه مشكلة، يتمنى لأخيه فضيحة، يتمنى لأخيه أزمة، مستحيل، إذا عز أخوك فهن أنت، عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ))

[ البخاري، مسلم، أحمد ]

  إذاً يا أيها الإخوة الأكارم: الله عز وجل لا يحبنا إلا إذا رآنا كما يريد، الآن نموذج من أصحاب رسول الله عليهم رضوان الله.
 هذا عمير بن سعد في درس من دروس الأحد في أيام رمضان تحدثنا عن قصته، و كيف أن له عماً كان مؤمناً، ثم نافق، و كيف قال هذا العم أي زوج أمه: إن كان محمد على حق فنحن شر من الحمر، وكيف أن هذا الغلام الصغير ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فاتهمه زوج أمه بالتكذيب، فدعا الله أن ينجيه من هذا التكذيب حتى نزل الوحي يؤكد طهره وصدقه، الآن عمير بن سعد له موقف آخر حينما كبر، هذا الموقف هو أن أهل حمص كانوا شديدي التذمر من ولاتهم، كثيري الشكوى منهم فما جاءهم من وال إلا وجدوا فيه عيوباً، و أحصوا له ذنوبه، و رفعوا أمره إلى خليفة المسلمين، و تمنوا عليه أن يبدلهم به من هو خير منه، فعزم الفاروق رضوان الله عليه أن يبعث إليهم بوال لا يجدون فيه مطعناً، ولا يرون في سيرته مغمزاً، فنثر كنانته (الكنانة جعبة السهام )، وعجم عيدانها عوداً عوداً، فلم يجد خيراً من عمير بن سعد، و على الرغم من أن عمير كان إذ ذاك يضرب في أرض الجزيرة في بلاد الشام على رأس جيش في سبيل الله، على الرغم من كل ذلك فقد دعاه أمير المؤمنين، و عهد إليه بولاية حمص، و أمره بالتوجه إليها فأذعن عمير للأمر على كره منه، لأنه كان لا يؤثر شيئاً على الجهاد في سبيل الله، بلغ عمير حمص فدعا الناس إلى صلاة جامعة، و لما قضيت الصلاة خطب الناس فحمد الله، و أثنى عليه، و صلى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وقال: أيها الناس: الآن عمير بن سعد هذا الطفل الصغير في عهد عمر صار رجلاً، ولاه حمص، قال: أيها الناس إن الإسلام حصن منيع، و باب وثيق، وحصن الإسلام العدل، وبابه الحق، فإذا دك الحصن، وحطم الباب استبيح حمى المسلمين، و إن الإسلام ما يزال منيعاً ما اشتد السلطان، وليست شدة السلطان ضرباً بالسوط، ولا قتلاً بالسيف، و لكن قضاء بالعدل و أخذاً بالحق.
 تذكرون مرة أن والياً سأل سيدنا عمر رضي الله عنه قال: يا أمير المؤمنين إن أناساً قد اغتصبوا مالاً ليس لهم لست أقدر على استخراجه منهم إلا أن أمسهم بالعذاب، فإن أذنت لي فعلت، أجابه عمر إجابة تكتب بماء الذهب، لأنها فيها أصولاً صحيحة لإدارة شؤون الناس، قال: يا هذا أتستأذنني في تعذيب بشر، وهل أنا لك حصن من عذاب الله؟ وهل رضائي عنك ينجيك من سخط الله ؟ إذاً ماذا أفعل اغتصبوا مالاً ليس لهم ؟ قال: أقم عليهم البينة، هل معك دليل ؟ معك مستمسك ؟ معك حجة ؟ معك مأخذاً ؟ أقم عليهم البينة فإن قامت فخذهم بالبينة و إلا فادعهم إلى الإقرار، الاعتراف سيد الأدلة فإن أقروا فخذهم بإقرارهم، وإن لم يقروا فدعوهم لحلف اليمين، فإن حلفوا فأطلق سراحهم، وايم الله، لأن يلقوا الله بخيانتهم أهون من أن ألقى الله بدمائهم، فقال عمير بن سعد يخاطب أهل حمص: ليست شدة السلطان ضرباً بالسوط، ولا قتلاًَ بالسيف، و لكن قضاء بالعدل، وأخذاً بالحق، ثم انصرف إلى عمله لينفذ ما اختطه لهم من دستور في خطبته القصيرة، قضى عمير بن سعد حولاً كاملاً في حمص لم يكتب خلاله إلى عمر كتاباً، ولم يبعث إلى بيت المال شيئاً، فأخذت الشكوك تساور عمر إذ كان شديد الخشية على ولاته من فتنة الإمارة، فما معصوم عنده أحد إلا النبي صلى الله عليه وسلم:قال لكاتبه اكتب إلى عمير ابن سعد، و قل له:إذا جاءك كتاب أمير المؤمنين فدع حمص وأقبل عليه، و احمل معك ما جبيت من فيء المسلمين، تلقى عمير بن سعد كتاب عمر بن الخطاب فأخذ جراب زاده، وحمل على عاتقه قصعته ووعاء وضوئه، و أمسك بيده حربته، و خلّف حمص و إمارتها وراءه، و انطلق يحث الخطى مشياً على قدميه من حمص إلى المدينة، فما كاد يبلغ عمير المدينة حتى كان قد شحب لونه، وهزل جسمه، و طال شعره، و ظهرت عليه وعثاء السفر.
 دخل عمير على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فدهش الفاروق من حالته، وقال: ما بك يا عمير ؟ فقال: ما بي من شيء، فأنا صحيح معافى بحمد الله، أحمل معي الدنيا كلها، وأجرها من قرنيها، فقال له: وما معك من الدنيا ؟ قال: معي جرابي ـ أي كيس ـ قد وضعت فيه زادي، و معي قصعتي آكل فيها، وأغسل عليها رأسي، وثيابي، و معي قربة لوضوئي وشرابي، ثم إن الدنيا كلها تبع لمتاعي هذا، وفضلة لا حاجة لي، ولا لأحد غيري فيها حاجة، فقال عمر: وهل جئت ماشياً ؟ قال: نعم، قال: أما أعطيت من الإمارة دابة تركبها ؟ قال: هم لم يعطوني، وأنا لم أطلب منهم، قال: وأين ما أتيت به لبيت المال ؟ قال: لم آت بشيء، قال: ولم ؟ قال: لما وصلت إلى حمص جمعت صلحاء أهلها، ووليتهم جمع فيئهم، فكانوا كلما جمعوا شيئاً منه استشرتهم في أمره، ووضعته في مواضعه، وأنفقته على المستحقين، فقال عمر لكاتبه: جدد عهداً لعمير على ولاية حمص، فقال عمير: هيهات، فإن ذلك شيء لا أريده، ولن أعمل لك، ولا لأحد بعدك، ثم استأذنه بالذهاب إلى قرية في ضواحي المدينة يقيم فيها مع أهله فأذن له، لم يمض على ذهاب عمير إلى قريته وقت طويل حتى أراد عمر أن يختبر صاحبه، وأن يستوثق من أمره، فقال لأحد من ثقاته يدعى الحارث:انطلق يا حارث إلى عمير بن سعد، و انزل به كأنك ضيف، فإن رأيت عليه آثار نعمة فالمعنى واضح، فعد كما أتيت، و إن وجدت حاله شديدة فأعطه هذه الدنانير، وناوله صرة فيها مئة دينار.
 انطلق الحارث حتى بلغ قرية عمير بن سعد فسأل عنه فدل عليه، فلما لقيه قال: السلام عليك ورحمة الله، قال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، من أين قدمت ؟ قال: من المدينة، قال: كيف تركت فيها المسلمين ؟ قال: بخير، قال: و كيف أمير المؤمنين ؟ قال: صحيح صالح، قال: أليس يقيم الحدود ؟ قال: بلى، و لقد ضرب ابناً له لفاحشة أتاها، فمات من الضرب، أقام الحد على ابنه سيدنا عمر مرة، قال: اللهم أعن عمر، فإني لا أعلمه إلا شديد الحب لك يا الله، رغم أنه مزعوج، قال: اللهم أعن عمر، فإني أراه شديد الحب لك، أقام الحارث في ضيافة عمير بن سعد ثلاث ليال، فكان يخرج له في كل ليلة قرصاً من شعير، فلما كان اليوم الثالث قيل للحارث لقد أجهشت عميراً و أهله ـ أتعبتهم ـ فليس لهم إلا هذا القرص الذي يؤثرونك به، رغيف واحد تأكله عنهم، وقد أضر بهم الجوع والجهد فإن رأيت فتحول عنهم، عند ذلك أخرج الحارث الدنانير، ودفعها إلى عمير، فقال عمير: ما هذه، قال الحارث: بعث بها إليك أمير المؤمنين، قال: ردها إليه، وأقرئ عليه السلام، وقل:له لا حاجة لعمير بها، فصاحت امرأته، وكانت تسمع ما يدور بين زوجها وضيفه، سيدنا رسول الله وزع مرة شاة فبقي منها القليل فقالت له:لم يبق منها شيء، لم يبق إلا كتفها، فقال عليه الصلاة و السلام: بل بقيت كلها إلا كتفها.
قالت له امرأته:خذها يا عمير، فإن احتجت إليها أنفقتها، وإلا وضعتها في مواضعها، فالمحتاجون هنا كثر، فلما سمع الحارث قولها ألقى الدنانير بين يدي عمير، وانصرف، فأخذها عمير وجعلها في صرر صغيرة، ولم يبت ليلته تلك إلا بعد أن وزعها بين ذوي الحاجات، وخصّ منهم أبناء الشهداء.
عاد الحارث إلى المدينة فقال له عمر: ما رأيت يا حارث ؟ قال: حالاً شديدة يا أمير المؤمنين، قال: أدفعت إليه الدنانير، قال: نعم، قال: وما صنع بها ؟ فقال: لا أدري، وما أظنه يبقي لنفسه منها درهماً واحداً، كتب الفاروق إلى عمير: إذا جاءك كتابي هذا فأقبل علينه، توجه عمير إلى المدينة، ودخل على أمير المؤمنين فحياه عمر، ورحب به، وأدنى مجلسه، ثم قال له: ما صنعت بالدنانير يا عمير ؟ قال: وما عليك منها يا عمر بعد أن خرجت لي عنها ؟ قال: عزمت عليك أن تخبرني بما صنعت بها، قال: ادخرتها لنفسي لأنتفع بها في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، أي دفعتها، فدمعت عينا عمر، وقال: أشهد أنك من الذين يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة، ثم أمر له بوسق من طعام وثوبين، فقال: أما الطعام فلا حاجة لنا به يا أمير المؤمنين، فقد تركت عند أهلي صاعين من شعير، وإلى أن نأكلها يكون الله عز وجل قد جاءنا بالرزق، و أما الثوبان فأخذهما لأم فلان، أي لزوجته فقد بلي ثوبها، وكادت تعرى، لم يمض وقت طويل على ذلك اللقاء بين الفاروق و صاحبه حتى أذن الله لعمير بن سعد بأن يلحق بنبيه، وقرة عينه محمد بن عبد الله بعد أن طالت أشواقه إليه، فمضى عمير في طريق الآخرة، وادع النفس، واثق الخطى، لا يثقل كاهله شيء من أحمال الدنيا، مضى ليس معه إلا نوره وهداه وورعه وتقاه، فلما بلغ الفاروق نعيه، وشح الحزن وجهه، واعتصر الأسى قلبه، وقال: وددت أن لي رجالاً مثل عمير بن سعد أستعين بهم في أعمال المسلمين.
 الإنسان السعيد الذي يوفق في اختيار معاونيه، إذا وفقت في اختيار شريكة حياتك فأنت من اسعد الناس، وفقت في اختيار شريكك أنت من أسعد الناس، البطولة أن تحسن الاختيار، والموفق هو الذي يختار هؤلاء الأشخاص النزيهين الأتقياء الورعين، قال: وددت أن لي رجالاً مثل عمير بن سعد أستعين بهم في أعمال المسلمين.
 هكذا كان الصحابة، لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم آخر صلاة بأصحابه ابتسم حتى رئيت نواجذه، قال:علماء حكماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء.
 شهادة المرأة أولادها، شهادة الأب أولاده، شهادة المعلم تلاميذه، شهادة المرشد طلابه، كلما كان رواد المسجد نظيفين أتقياء متواضعين أخلاقيين أعفة ثبر هذه شهادة أن هذا المجلس حق، إذا وجدت أخطاء انحرافات القضية تدعو للشك، فلذلك كلما ارتفع مستوى الإخوة الأكارم أحبنا الله عز وجل.
البطولة لا أن نسمع أن نكون في مستوى الدعوة، أن نكون في مستوى هذا الدين الحنيف، في مستوى هذا الخلق الكريم.

 

إخفاء الصور