وضع داكن
19-04-2024
Logo
أحاديث متفرقة - الدرس : 017 - أما بعد فإن أصدق الحديث1.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وعلى من اهتدى بهداه.
 أيها الإخوة الكرام: مازلنا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه منبر جيش، فعَنْ جَابِرٍ قَالَ:

((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ، يَحْمَدُ اللَّهَ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ يَقُولُ: مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ، إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ، ثُمَّ يَقُولُ: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ، وَكَانَ إِذَا ذَكَرَ السَّاعَةَ احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، كَأَنَّهُ نَذِيرُ جَيْشٍ، يَقُولُ: صَبَّحَكُمْ مَسَّاكُمْ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِأَهْلِهِ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَيَّ أَوْ عَلَيَّ، وَأَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ))

[ البخاري، مسلم، النسائي، أبو داود، ابن ماجه، أحمد، الدارمي ]

  الحقيقة أنّ هذا الحديث يعد من أصول الدين، لأنه لولا هذا الحديث لأصبح الدين الإسلامي مجموعة من الخرافات والضلالات والزيادات، ومجموعة من الأكاذيب، أما النبي عليه الصلاة والسلام فقد قال:

((وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ))

  قال تعالى:

 

﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً﴾

 

[المائدة: من الآية 3]

  لا يستطيع إنسان كائناً من كان على وجه الأرض أن يزيد بعد أن نزل هذا القرآن، وقد وصفه ربنا سبحانه وتعالى بأنه كامل وتام، قال تعالى:

 

﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً﴾

 

[ سورة المائدة: الآية 3 ]

  لذلك كل إنسان يجب أن يكون متبعاً كما قال سيدنا الصديق رضي الله عنه: " إنما أنا متبع، ولست بمبتدع "، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول:

((إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ))

  هذا كتاب خالق الكون، يقال: واللهِ أنا رأيت الجن، لا، لأن الله سبحانه وتعالى يقول:

 

﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ﴾

 

[ سورة الأعراف: الآية 27 ]

((إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ))

  يمكن أن ترد ألف قصة، يمكن أن تقول: صغار، كبار، سود، قطط:

 

﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ﴾

 

[ سورة الأعراف: الآية 27 ]

  انتهى الأمر:

((إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ))

  تقول لي: اخترعوا دواء لطول العمر، لا، أقول: ليس هذا صحيحاً، قال تعالى:

 

﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾

 

[ سورة النحل: الآية 61 ]

  الأجل محدود، وبيد الله عزوجل، الولي فلان قال: إنك سوف تصبح غنياً، تقول: ليس بصحيح، لأن النبي عليه الصلاة والسلام سيد الخلق، وحبيب الحق قال:

 

﴿وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾

 

[هود: من الآية 31]

 إذا كان عليه الصلاة والسلام لا يعلم الغيب فهل يستطيع إنسانٌ كائناً من كان أن يدعي علم الغيب ؟ مستحيل، النبي لا يعلم الغيب، والنبي لا يملك للناس نفعاً ولا ضراً، بل في آية أخرى:

 

﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً﴾

 

[ سورة الأعراف: الآية 188 ]

  فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يملك لنفسه النفع، ولا يملك الضر، أفيملكه لغيره ؟
 أخي، هذا العالم بعد أن تمّ له هذا الكشف رُفع عنه التكليف، قل له: هذا كذب:

 

﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾

 

[ سورة الزمر: الآية 13 ]

  النبي عليه الصلاة والسلام لم يرفع عنه التكليف، ولو أنه خالف الله عز وجل لخاف عذاب يومٍ عظيم، فإذا أنت فهمت القرآن فهماً صحيحاً، وعقلته، وفهمت قوانينه كان بإمكانك أن ترد كل قصة، أو كل دعوة، أو كل مقولة تخالف نصه، الشرط أن تؤمن به إيماناً تحقيقياً، قبل أن تبحث عن أي شيء في الدين يجب أن تؤمن بالله إيماناً تحقيقياً، ويجب أن تؤمن بالقرآن إيماناً تحقيقياً، فإذا أخبرك القرآن عن شيء بعد أن آمنت بالله إيماناً تحقيقياً، وبعد أن آمنت بكلام الله عز وجل إيماناً تحقيقياً، الآن إذا أخبرك القرآن عن شيء تؤمن بهذا الشيء إيماناً تصديقياً من نوع ثان، هكذا أخبر الله عز وجل، فإذا قال لك: إطلاق البصر يرفع مستوى الذوق الجمالي، قل له: كذب، لأن الله عز وجل يقول:

 

﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾

 

[ سورة النور: الآية 30 ]

  يقول لك: الاختلاط يهذب المشاعر، قل له: كذب:

 

﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾

 

[ سورة النور: الآية 31 ]

  إذا فهمت كتاب الله عزوجل أصبحت شخصية فذة، معك تعليمات الصانع، معك تعليمات من خالق الإنسان، من أعظم خبرة، من خالق الإنسان، ربنا عز وجل يقول:

 

﴿وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾

 

[ سورة فاطر: الآية 14 ]

  بل إن أية مشكلة على وجه الأرض، بل إن أية مصيبة تقع على وجه الأرض أساسها مخالفة منهج الله عز وجل، فأية مخالفة لمنهج الله أساسها الجهل، إذاً أكبر عدو للإنسان هو الجهل، فهو أعدى أعداء الإسلام.
 الإنسان بحكم فطرته مفطور على حب ذاته، وعلى حب وجوده، وعلى حب استمرار وجوده، وكمال وسلامة وجوده، فالقضية قضية علم، يجب أن تعلم ما الذي ينفعك، وما الذي يضرك، إذاً:

((إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ))

  النبي عليه الصلاة والسلام قال:

((من تعلم القرآن متعه الله بعقله حتى يموت))

  المؤمن الذي بدأ حياته بطاعة الله عز وجل، وامتلأ قلبه بالإيمان، وامتلأت تلافيف دماغه بالقرآن، إن هذا المؤمن بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرف، بل إن شريط عمره من أمتع أيام عمره.
 الآن الناس يقولون لك: الشباب، أكثر الناس يعتزّون بالشباب، يقولون لك: صحة طيبة، وضرس طيب، مثلاً، عنده روح مرحة، عند الناس الشباب هو النهاية العظمى، الخط البياني، أما والله الذي لا إله إلا هو عند أهل الإيمان خريف العمر هو النهاية العظمى، لأنه ازداد علماً، وازداد عقلاً، وازداد صلة بالله عز وجل، وازداد كرماً وطهراً وحكمة وفهماً ومكانة، وأصبح يهتم بمعالي الأمور، ويبتعد عن سفاسفها، لذلك قد ترى مؤمناً في السبعين وفي الثمانين، وكأنه كوكب دري بصحته، وباعتداله في الطعام والشراب، باهتمامه بأمر آخرته، وبفهمه لكتاب الله، وبذاكرته القوية.
 تعلمون القصة المشهورة، أن رجلا في السابعة والتسعين من عمره، وهو بكامل صحته، بصره حاد، وسمعه مرهف، وعلى كل خد وردة، وأسنانه في فمه، وقامته مستقيمة، فلما قيل له: يا سيدي ما هذه الصحة ؟ قال: يا بني حفظناها في الصغر، فحفظها الله علينا في الكبر، من عاش تقياً عاش قوياً، مثلاً:

((إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ))

 أحياناً تتلبد السماء بالغيوم، ويصبح الأمر ضبابيًا، وتنتشر المخاوف، والتشاؤم، والنظرة السوداوية، والخوف العام، والقهر العام، ويقال: المنطقة على كف عفريت مثلاً المنطقة وحرب مدمرة، لا تبقي ولا تذر، ونقص مياه، وشح في الأمطار، خطوط المطر اختلفت، أصبح هناك تصحر، ونقص في المواد الغذائية، وتفجر سكاني، إذا سمعت كلام أهل الدنيا لا تشتهي إلا الموت، لا يوجد خبرٌ سار، اقرأ كتاب الله عز وجل:

 

﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾

 

[ سورة فصلت: الآية 30 ]

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾

[ سورة النحل: الآية 97 ]

  الله عز وجل وعد، والحياة الطيبة في أدق معانيها أن تشعر أن الله يحبك، وأن الله راضٍ عنك، قد يبتليك، ولكن هذا البلوى إذا جاءت وأنت على طاعة الله عز وجل تأتي برداً وسلاماً، لقد قرأنا أو شاهدنا عن أصحاب رسول الله كيف أنهم يعني ابتلاهم الله عز وجل في المرض والوهم والحزن، ومع ذلك كانوا في قمة سعادتهم، العبرة في السعادة إذا كنت قريباً من الله عز وجل فأنت في قمة سعادتك، إذا كنت قريباً من الله عز وجل فأنت في قمة نشوتك، لذلك:

((إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ))

 أخي الأمور بيد فلان، بضغطٍ على زر يدمر قسماً من العالم، هكذا الله عز وجل قال ؟

 

﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ﴾

 

[ سورة يونس: الآية 24 ]

 هكذا يظن أهلها، قال ربنا: وظن أهلها، يظنون، يتوهمون، يحسبون، ينخدعون، أنهم قادرون عليها:

 

﴿قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ﴾

 

[ سورة يونس: الآية 24 ]

  اقرأ القرآن:

 

﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾

 

[ سورة الفتح: الآية 10 ]

﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾

[ سورة الزمر: الآية 62 ]

  الله لم يخلق شيئاً وفلّته عليك، الله رحيم، ما خلق حيواناً شرساً وفلته، ما خلق إنساناً قوياً مخيفًا وفلته، ما خلق شيئاً مادياً مدمراً موميائية وفلتها:

 

﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾

 

[ سورة الزمر: الآية 62 ]

﴿لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾

[ سورة الأعراف: الآية 54 ]

  يعني أن هذا الذي خلقه بأمره لا بأمر غيره، تقرأ القرآن فترتاح، علاقتك مع جهة واحدة لا يوجد غيره، عادلة، حكيمة، رحيمة، لطيفة، قديرة، قوية، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال – وهو حديث واللهِ الذي لا إله إلا هو لو عقله الإنسان لاطمأن - قال:

((لا يحزن قارئ القرآن ))

  تقرأ القرآن وهو كلام الواحد الديان وتحزن ؟ وتحس بانقباض ؟ بسوداوية ؟ بتشاؤم ؟ بيأس ؟ لا، إذا يئس الناس فأنت لا تيأس، وإذا خاف الناس أنت لا تخاف، تعمل بما أمرك الله به، هناك منهج، قال تعالى:

 

﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ﴾

 

[ سورة آل عمران: الآية 158 ]

﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾

[ سورة القصص: الآية 61 ]

((إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ))

  والله أيها الإخوة: لو قرأتم كتاب الله قراءة متأنية، قراءة واعية، قراءة تدبر، قراءة تفهم، وأيقنت أن هذا كتاب الله في مصداقيته، كلام خالق الكون، الكون كله بيد الله، هذا الخالق هذا كلامه، إذا قرأته بهذا الفهم عندئذ يلقي القرآن في قلبك طمأنينة لو وزعت على أهل بلد لكفتهم.

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾

[ سورة النحل: الآية 97 ]

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً﴾

[ سورة مريم: الآية 96 ]

﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾

[ سورة البقرة: الآية 257 ]

﴿مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ﴾

[ سورة هود: الآية 55 ]

﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾

[ سورة هود: الآية 56 ]

((إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ))

  تقرأ مقالة، تقرأ نظرة تشاؤمية، رأيًا، رأي كاتب، رأي عالم له هدف معين، أحياناً هناك أهداف خبيثة حول ترويج معلومات معينة، هناك انفجار سكاني، سوف تصبح هناك مجاعات في العالم، وقحط، الله عز وجل قبل سنتين بعدما كثرت الإشاعات أن هناك تصحرًا، ونقصًا في الموارد، ونقصًا في المياه، والحرب العالمية الثالثة حرب مياه، الحرب الأولى حرب بترول، والثانية قمح، والثالثة حرب مياه، عندئذ لا يوجد ماء أبداً، قبل سنتين بعث الله أمطاراً كثيرة، كيس القمح في الجزيرة أنتج سبعين كيساً، يعني في تاريخ الزراعة الكيس هناك بعشرة أكياس، أو خمسة عشر، أو عشرين، قال لي أحدهم: إن مزارعاً واحداً قبض ثمن قمحه بالسعر الرسمي ستين مليون ليرة، إذا أعطى أنتج، الله عز وجل يعطينا، شواهد لا تصدق، كلامه، أنا الرزاق ذو القوة المتين، إذا استحققت الرزق الوفير، قال:

 

﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ﴾

 

[ سورة الجن ]

﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾

[ سورة الأعراف: الآية 96 ]

﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾

[ سورة المائدة: الآية 66 ]

  أنا أذكر مرة حيث كنت صغيراً، والدي أحضر كيس مئة كيلو كم سعره اليوم ؟ يمكن أن يكون سعره خمسة وعشرين ألفًا إلى ثلاثين ألف ليرة، كيس مؤونة، يبدو أن اللحم البشري لم يكن سعره غاليا، إذا رخص لحم البشر رخص لحم الغنم، أصبحت المرأة كما هي في الطريق تعرض أجمل ما فيها للأجانب، إذا رخص لحم المرأة غلا لحم الضأن، إذا قلَّ ماء الحياء في الوجوه قلّ ماء السماء، يبدو أنه إذا كثر ماء الحياء كثر ماء السماء، في علاقات أنت اسمع أي تفسير، لكن لا تنس أن هناك تفسيراً إلهياً، مثلاً في البلد المجاور هناك حرب طالت، أصبح فيها انهيار اقتصادي، يمكن أن تفهم الأحداث فهماً معيناً، من زاوية معينة، من زاوية عربية، من زاوية دولية، هذه الأحداث يجب أن تفهمها فهماً دينياً، قال تعالى:

﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾

[ سورة النحل: الآية 112]

  لا تبتعد عن تفسير الله عز وجل، لا تبتعد عن القرآن الكريم تبقى مرتاحاً، هل المشكلة هكذا تفسيرها ؟ وهذا التصحر هذا تفسيره ؟ النبي عليه الصلاة والسلام أخبر عن آخر الزمان، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا))

[ مسلم، أحمد، مالك ]

 زوجة المسلم سافرة بأبهى زينة، وهو يصلي، ولما فهم المسلمون الإسلام صلاة وزكاة وحجًّا وصيامًا ضعفوا، الإسلام منهج كامل، يجب أن يؤخذ بكامله، هذا كله على كلمة:

((إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ))

  أردت من هذا الحديث الشريف أن الإنسان يقرأ القرآن يومياً، يقرأ قراءة تدبر، أي كل حرف بحسنة، هكذا قال النبي e، اقرأ قراءة فهم، قراءة تدبر، وتمعن، تأنَّ، افهم كلام خالق الكون، يقول تعالى:

 

﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾

 

[ سورة الزخرف: الآية 32 ]

  الله عز وجل ضمن لك الرزق، وقال:

 

﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾

 

[ سورة النجم: الآية 39 ]

  أما السعي الآخر فتركه لك، الناس بالعكس ما هم مكلفون به تركوه للأقدار، وما قد ضمن لهم يبيعون من أجله دينهم بعرض من الدنيا قليل، فاقرأ القرآن، وقف عند آياته آية آيةً، وخذ كلام الله على محمل الجد، أحياناً قبل خمس سنوات ظهر في الجريدة خبر طوله أربع سنتمترات أنزل كل سيارة ثلاثمئة ألف ليرة، خبر صغير، انظر إلى الناس، إنهم يصدقون بعضهم، صدقت أنت، وفعلاً هذا التصريح صحيح، خالق الكون يقولك لك هناك جنة ونار وحساب وموت وغض بصرك، وحرر دخلك، واستقيم على أمره، وكن صادقاً، وتب إلى الله:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً﴾

 

[ سورة التحريم: الآية 8 ]

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾

[ سورة التحريم: الآية 6 ]

  هذه دعوات لك، أين تعيش أنت ؟ أين أنت من كلام الله عز وجل ؟ أنت المعني بهذا الكلام:

((إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ))

  يمكن أن تفهم كتاب الله، وتردّ مليون قصة، كلك طمأنينة، أنت معك تعليمات الصانع، ومعك توجيهات خالق الكون، ومعك حقائق قطعية الثبوت والدلالة،

((إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ))

  تسمع قصة فيها ظلم متألم، قال ربك:

 

﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾

 

[ سورة الكهف: الآية 49 ]

 الله أصدق من هذه القصة، هذه القصة فيها فصل وثان وثالث، فعلاً فيها ظلم شديد، ولكن ظلم ظاهري، ولكن لو تعلم الفصل الرابع والخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع لا إله إلا الله، يوجد عدالة مطلقة، بفصل أو اثنين أو ثلاثة هناك ظلم، قد يكون في تسعة فصول ظلم شديد اقرأ الفصل العاشر يكون هناك عدل، وربنا قال:

 

﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾

 

[ سورة الكهف: الآية 49 ]

  الظالم صوت الله ينتقم به، ثم ينتقم منه:

 

﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾

 

[ سورة الأنعام: الآية 129 ]

﴿وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾

[ سورة النساء: الآية 77 ]

 لا ظلم اليوم، أي يوم القيامة:

﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾

[ سورة الروم: الآية 9 ]

  مستحيل أن يظلم الله أيّ مخلوق، هذا نفي الشأن، هناك نفي الحدث، وهناك نفي الشأن، نفي الحدث: فلان لا يسرق، وقد يكون أكبر سارق، ولكن هذه لم يسرقها، تقول: فلان لم يسرق، هذا نفي الحدث، أما إذا قلت: ما كان له أن يسرق فقد نفيت الحدث ونفيت رغبته وطموحه وإمكانته ورضاه، بعض علماء اللغة عدوا هذه الصيغة تنفي اثني عشر فعلاً نفي الشأن، وربنا قال:

 

﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾

 

[ سورة الروم: الآية 9 ]

  مستحيل أن يظلمهم الله، فتسمع قصة فيها ظلم لا تصدقها، قل: الله أصدق منك، قل له: الله أصدق منك، أنت لا تسمع، لا ظلم:

 

﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾

 

[ سورة الروم: الآية 9 ]

((إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ))

  كلام خالق الكون المصداقية مئة في المئة، بل إن الذي يدعوك إلى أن تؤمن بكتاب الله عز وجل أن الأحداث تأتي مصدقة له، مثلا قال الله عز وجل:

 

﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾

 

[ سورة البقرة: الآية 276 ]

  ترى المرابي يزداد غنى، وكلما ازداد غنى تضعضعت ثقتك بالآية، فجأة يخسر كل ثروته، في ثلاث ساعات يصبح متسوِّلاً:

 

﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾

 

[ سورة البقرة: الآية 276 ]

  لأن الأموال موضوعة في البنوك، وربنا قال:

 

﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾

 

[ سورة البقرة: الآية 279 ]

 حرب من الله، الله له أساليب كثيرة في إظهار آياته، إذن:

((إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ))

  لا تصدق قصة، أو رواية، أو فكرة، أو مقالة، أو كلامًا، أو كتابًا تقرأه إذا آمنت بالله إيمانًا تحقيقياً، لو أن الناس جميعاً كفروا بالله فلا تكفر، وآمنت بأن هذا القرآن حق، وصدق إيمانًا تحقيقيًّا الآن الذي أخبرك به القرآن، فتؤمن به إيماناً تصديقياً، لذلك المؤمن لديه مقياس دقيق، يسمع قصة، يعرضها على كتاب الله، ليس هذا صحيحاً، الله لا يظلم أحداً، يقرأ قصة ثانية، يرى أنها مخالفة لكتاب الله، مثلاً لدينا مشكلة خطيرة جداً، إنسان راق جداً، أخلاق، وأكابر، ولطيف، لين العريكة، لكن لا يوجد لديه دين، فأنت تكذب، كل هذه الكلام معناه أن الدين ليس له لزوم، سمعت هذا كثيراً، شخص لطيف، ذكي، أكابر، ذو ذوق، حاشيته رقيقة، لين العريكة، يفهم، لكن لا يوجد لديه دين، فقلت: صاحب دين ! معناه أنه يمكن أن يكون الإنسان أخلاقه عالية، ولكن لا يوجد دين، فالدين ليس ضرورياً، بل هو تحصيل حاصل، هذا كلام غير صحيح، اسمعوا ماذا قال الله عز وجل:

 

﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)﴾

 

[ سورة الماعون ]

﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾

[ سورة القصص: الآية 50 ]

  النبي الكريم يقول:

((الناس رجلان، بر تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله))

  كيف لك أن تقنعني أن فلاناً أخلاقه عالية، ولين العريكة، ودمث الأخلاق، وذكي، ويفهم، و ذو ذوق، وأكابر، ولكن لا يوجد لديه دين، معنى ذلك أن الدين ليس له لزوم، هذا الكلام خلاف كلام الله عز وجل:

 

﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْداً إِذَا صَلَّى (10)﴾

 

[ سورة العلق ]

  انظروا إليه، انظر إلى أخلاقه، إلى غدره، خيانته شحه، أنانيته، انظر إلى مواعيده، إلى علاقاته مع أهله، وعلاقته مع نساء أصدقائه، كيف يغدر، ويخون هذا الذي ينهى عبداً إذا صلى:

 

﴿أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى﴾

 

[ سورة العلق: الآية 11 ]

  انظر إلى أخلاقه، إلى ورعه، إلى عفته، إلى كمال، إلى حرصه، إلى أدبه، طبعاً إذا أردت أن تمدح رجلاً ليس لديه دين فهذا المدح غير صحيح، هذا مديح مبالغ فيه، ولكن يوجد إنسان ذكي جداً، يحب أن يستقطب الناس إليه بذكائه، ويكون له أخلاق تجارية أساسها المصلحة، هذه واردة، أما المؤمن فأخلاقه عالية، طاعته لله عز وجل، وليس بقصد أن ينال شيئاً من الدنيا.

((إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ))

 هذا الحديث طويل، وإن شاء الله في درس قادم نتابع شرح الحديث.
  الآن لدينا قصة صحابي جليل، أنا أعرف أني قرأته عليكم سابقاً قبل سنوات تزيد على خمسٍ، ولكننا بحاجة ماسة إلى قراءة قصته عليكم، هذه القصة قصة أبي سفيان بن الحارث.
 قلّ أن اتصلت الأسباب بين شخصين، وتوثقت العرى بين اثنين كما اتصلت وتوثقت بين محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وأبي سفيان بن الحارث، فالعلاقة بين النبي الكريم قبل البعثة وأبي سفيان بن الحارث علاقة من النوع الخيالي، هذا أبو سفيان في سن رسول الله وترباً من أترابه، فقد وُلدا في زمن متقارب و نشأا في أسرة واحدة، هذا أول عامل، العامل الثاني و كان ابن عم النبي اللصيق، ابن عمه اللزم، فأبوه الحارث، وعبد الله والد النبي الكريم أخوان ينحدران من عبد المطلب، ثم إنه كان أخاً للنبي من الرضاعة، فقد غذتهما السيدة حليمة السعدية من ثدييها معاً، أخ من الرضاعة وابن عمه، وكان بعد ذلك صديقاً حميماً للنبي صلوات الله عليه قبل النبوة، وأغرب من هذا كله كان أشد الناس شبهاً برسول الله، فهل رأيت أو سمعت قرابة أقرب، أو أواصر أمتن من هذا الذي كان بين النبي عليه الصلاة و السلام وأبي سفيان ؟ لذا كان يظن أن أبا سفيان أن يكون أسبق الناس إلى تلبية دعوة النبي عليه الصلاة والسلام، وأسرعهم مبادرة إلى اتباعه، لكن الأمر جاء على خلاف كل ما هو متوقع، ما كان النبي عليه الصلاة والسلام يظهر دعوته، وينذر عشيرته حتى شبت نار الضغينة في أبي سفيان، فاستحالت الصداقة إلى عداوة، والرحم إلى قطيعة، والأخوة إلى فض وإعراض، شيء عجيب، كان أبو سفيان يوم صدع الرسول بأمر ربه فارساً من أنبه فرسان قريش، وشاعراً من أعلى شعرائها، ماذا فعل بعد أن صدع النبي بالدعوة ؟ وضع سنانه ولسانه لمحاربة الرسول، بالرمح وباللسان، ومعاداة دعوته، وجند طاقاته كلها للنكاية بالإسلام والمسلمين، فما خاضت قريش حرباً ضد النبي إلا كان مسعرها، ولا أوقع بالمسلمين أذى إلا كان له فيه نصيب كبير، شيء غريب، ولقد أيقظ أبو سفيان شيطان شعره، وأطلق لسانه في هجاء النبي، فقال فيه كلاماً مقذعاً فاحشاً موجعاً، وطالت عداوة أبي سفيان للنبي عليه الصلاة والسلام حتى قاربت عشرين عاماً، عشرين سنة في هجائه بأقذع العبارات وأفحشها، وفي قتاله بكل أسلحته، فارس وشاعر.
 لم يترك خلالها ضرباً من ضروب الكيد بالنبي إلا فعله، ولا صنفاً من صنوف الذل للمسلمين إلا اجترحه وباء بإثمه، وقُبيل فتح مكة بقليل كتب لأبي سفيان أن يسلم، وكان لإسلامه قصة مثيرة وعتها كتب السير، وتناقلتها أسفار التاريخ، فلنترك للرجل نفسه ـ لأبي سفيان ـ الحديث عن قصته فشعوره بها أعمق شعور، ووصفه لها أدق وصف، الآن الكلام لأبي سفيان، اسمعوا ماذا قال أبو سفيان:
 قال: لما استقام أمر الإسلام، وقرّ قراره، وشاعت أخبار توجه النبي إلى مكة ليفتحها، ضاقت عليّ الأرض بما رحبت، وقلت: إلى أين أذهب ؟ عداوة عشرين سنة ومن أصحب ؟ ومع النبي الكريم يقول: من أكون ؟ إذا أردت إنفاذ أمر تدبر عاقبته قبل أن تعادي ؟ قبل أن تقطع، قبل أن تهجو، قبل أن تنتقد، قال: من أصحب ؟ إلى أين أذهب ؟ ومع من أكون ؟ ثم جئت زوجتي وأولادي، وقلت تهيؤوا للخروج من مكة، فقد أوشك وصول محمد، وإني لمقتول لا محالة، عشرين سنة في قتال وهجاء، إن أدركني المسلمون، فقالوا لي: أما آن لك أن تبصر أن العرب والعجم قد دانت لمحمد بالطاعة، واعتنقت دينه، وأنت ما تزال مصراً على عداوته، وكنت أولى الناس بتأييده ونصره، أحياناً تكون الزوجة أوعى من الزوج، الإنسان لا يحتقر الإنسان، فالإنسان يتقبل النصيحة من طفل صغير أحيانا، ما آن الأوان، إلى متى ؟العرب والعجم لانت له بالطاعة، وأنت مصر على عداوته، وما زالوا يعطفونني على دين محمد، ويرغبونني فيه حتى شرح الله صدري للإسلام، لذلك عندي رغبة للإسلام، بعد حين قمت من توي، وقلت لغلام مذكور: هيئ لي نوقًا وفرسًا، وأخذت معي جعفر، وجعلنا نسير نحو الأبواء بين مكة والمدينة، فقد بلغني أن محمداً قد نزل فيه، الآن الطريق إلى مكة انفتح، ولما اقتربنا منها تنكرت حتى لا يعرفني أحد فأقتل،عدو لدود قبل أن أصل إلى النبي، وأعلن إسلامي بين يديه.
 أنا أردت من القصة أن يكون هناك مفاتيح لهذه القصص يتعرف إلى الله، يحضر مجالس علم، يستفيد، يأتي ظرفاً صعباً جداً يظن أنه متوهم بأنه في أي لحظة يرجع، لكل وقت له تدبير، كل وقت له موقف، قال: ومضيت أمشي على قدمي نحو ميلاً، وطلائع المسلمين تمضي ميممة شطر مكة جماعة إثر جماعة، فكنت أتنحى من طريقهم خوفاً من أن يعرفني أحد من أصحاب محمد، وفيما أنا كذلك إذ طلع الرسول في موكبه، وظن أنه إذا أعلن إسلامه سوف يفرح به النبي فرحاً كثيراً النبي فتصديت له، ووقفت لقاءه، وحسرت عن وجهي، ما إن ملأ عينيه مني، وعرفني حتى أعرض عني، إذا أنا آتيه من الناحية الأخرى، فتحولت إلى ناحية وجهه، فأعرض عني، وحول وجهه نحو الجهة الثانية، حتى فعلت هذا مراراً، ما أجمل أن يقول النبي: إني أحبك، والله يا معاذ، إني أحبك، وأحيانا يرى إنسان رسول الله في المنام يقبّله، أو يناديه باسمه، أو يطمئن عليه، والله الذي لا إله إلا هو ينفض في قلب الإنسان سعادة لو يعلم أهل الأرض ما هي لذابت نفوسهم، نبي الله يقول لك: إني أحبك، أما هنا فأعرض عني، قال: كنت لا أشك وأنا مقبل على النبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف يفرح بإيماني، كنت أحسب نفسي أقضي غرضاً بعد عشرين سنة عداوة، وأن أصحابه سيفرحون لفرح النبي، لكن المسلمين حينما رأوا إعراض رسول الله صلى الله عليه وسلم عني تجهموا لي، وأعرضوا عني جميعاً، لقد لقيني أبو بكر فأعرض عني أشد الإعراض، نظرت إلى عمر بن الخطاب نظرة لكي استميل به قلبه فوجدته أشد إعراضاً، بل إنه أغرى بي أحد الأنصار، فقال لي: يا عدو الأنصار، أنت الذي كنت تؤذي رسول الله، وتؤذي أصحابه، وقد بلغت في عداوة النبي مغارب الأرض ومشارقها، ومازال هذا الأنصاري يرفع صوته والمسلمون يقتحمونني بعيونهم، ويسرون مما ألاقي، عند ذلك أبصرت عمي العباس، قال في نفسه: إن الحل بيده فلجأت إليه، وقلت: يا عم قد كنت أرجو أن يفرح رسول الله بإسلامي لقرابتي منه، ولشرفي في قومي، وقد كان منه ما تعلم، فكلمه فيّ لكي يرضى عني، فقال العباس: لا والله لا أكلمه كلمة أبداً بعد الذي رأيته من إعراضه عنك، إلا إذا سنحت الفرصة، فإنني أجل رسول الله، وأهابه، ما ترك أحداً، إلى من تكلني في إسلامي ؟ فقال: يا ليت لي عندك غير ما سمعت، فتملكني الهم، وركبني الحزن، ولم ألبث إلا رأيت ابن عمي علي بن أبي طالب فكلمته في أمري، فقال لي مثل ما قال لي عمي العباس، عند ذلك رجعت إلى عمي العباس، وقلت: يا عم إذا كنت لا تستطيع أن تعطف علي قلب رسول الله فكف عني ذلك الرجل الذي يشتمني، ويغري الناس بشتمي، فقال: صفه لي، فوصفته له، فقال: ذلك نعيمان بن الحارث النجاري، فأرسل إليه، وقال له يا نعيمان: إن أبا سفيان ابن عم النبي، وابن أخي، وإن يكن رسول الله غاضبًا عنه اليوم فسيرضى عنه غداً، فكف عنه، ومازال به حتى رضي أن يكف عنه، وقال له: لا أعرض له بعد الساعة، ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجحفة جلست على باب منزله ومعي ابني جعفر، فلما رآني وهو خارجٌ أزاح عني بيده، ليست كل الفرص مسموحة دائما، فلم أيأس لاسترضائه، وجعلت كلما نزل في المنزل أجلس على بابه، وأقيم ابني جعفرًا قائماً، فكان إذا أبصرني أعرض عني، وبقيت على ذلك زماناً، فلما اشتد علي الأمر، وضاق قلت لزوجتي: والله ليرضين عني رسول الله، أو لآخذن بيدي ابني، ولنذهبن هائمين على وجهينا في الأرض حتى نموت جوعاً وعطشاً، فلما بلغ ذلك رسول الله رقّ لي، ولما خرج من خطبته نظر إلي نظرةً ألين من ذي قبل، ولكن لم يبتسم، الابتسامة بلا ثمن ؟ لها ثمن، إن كان لك مودة مع المؤمنين، يحبونك، فهذه نعمة كبيرة جداً، ولكنه لم يبتسم في وجهه، ثم دخل النبي مكة، فدخلت في ركابه، وخرج إلى المسجد، وخرجت أسعى بين يديه لا أفارقه على حال، تريد صبراً، تريد إصراراً، تريد رغبة، ولما كان يوم حنين جمعت العرب لحرب النبي ما لم تجمع قط، وأعدت للقائه ما لم تعد من قبل، وعزمت على أن تجعلها القاضية على الإسلام والمسلمين، وخرج النبي للقائهم في جموع من أصحابه، وخرجت معه، ولما رأيت جموع المشركين قلت: والله جاء الوقت لأُكَفرن اليوم على كل ما سبق من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليرني النبي من أثري ما يرضي الله، وما يرضيه، ولما التقى الجمعان اشتدت وطأة المشركين، فدب فيهم الوهن والإخفاق، وجعل الناس يتفرقون عن النبي، وكاد أن تحل بنا الهزيمة المنكرة، فإذا بالنبي فداه أبي وأمي يثبت في قلب المعركة على بغلته الشهباء، كأنه الطور في الجبل، ويخرج سيفه، ويجالد عن نفسه، وعمن حوله، كأنه الليث عادياً، عند ذلك وثبتُ عن فرسي، وكسرت غمد سيفي، والله يعلم أني أريد الموت دون رسول الله، وأخذ عمي العباس بلجام بغلة النبي، ووقف بجانبه، وأخذت أنا مكاني من الجانب الآخر، وفي يميني سيفي أذود به عن رسول الله، أما شمالي فكانت ممسكة بركابي، الآن التضحية كبيرة، نوى الموت، فلما نظر النبي إلى حسن بلائه عرفه أنه أبو سفيان، قال لعمي: من هذا ؟ اللهم صل على النبي ؟ إرضاؤه ليس سهلاً، حتى يرضى الله عنك لقضية ليست سهلة، فقال: هذا أخوك وابن عمك سفيان بن الحارث فارض عنه يا رسول الله، فقال: قد فعلت، وغفر الله له كل عداوة، فاستطار فؤادي فرحاً برضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبلت رجله في الركاب، ثم التفت إلي، وقال: أخي لعمري تقدم، قال له: أخي، أول كلمة يكلمه بها اللهم صل عليه، ألهبت كلمات النبي صلوات الله عليه من حماستي فحملت على المشركين حملة أزلتهم عن مواضيعهم، وحمل معي المسلمون حتى طردناهم، وفرقناهم في كل وجه.
 ظل أبو سفيان بن الحارث بعد حنين ينعم، إذا كان لك صلة بالله فالله يحبك، وهو راضٍ عنك، يحبك المؤمنون، علاقتك طيبة معهم، لك مكانة عندهم، هذا نعيم والله، ينعم بجميل رضى النبي عنه، ويسعد بصحبته، ولكنه لم يرفع نظره إليه أبداً، ولم يثبت بصره في وجهه أبداً حياء منه وخجلاً من ماضيه معه، لم ينظر إليه أبداً، دائماً يغض النظر، وقد جعل أبو سفيان يعض أصابعه ندماً على الأيام السود التي قضاها في الجاهلية محجوباً عن نور الله، محروماً من كتابه، حتى أكب على القرآن ليله ونهاره يتلو آياته، ويتفقه في أحكامه، ويتأمل من عظاته، وأعرض عن الدنيا، وأقبل على الله بكل جارحة من جوارحه، حتى إن النبي صلوات الله عليه وسلامه رآه ذات مرة يتلو فقال لعائشة رضي الله عنها:

(( أتدرين من هذا يا عائشة ؟ قالت: لا، قال: إنه ابن عمي أبو سفيان، انظري، إنه أول من يدخل المدينة، وآخر من يخرج منها، ولا يفارق بصره فراق نعله))

  أول داخل وآخر خارج، ونظره في فراق نعله، هذا ما نحب.
 ولما لحق النبي عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى حزن أبو سفيان أشد الحزن، حزن الأم على وحيدها، وبكاه بكاء الحبيب على حبيبه، كان أكبر عدو، هجاه بأشد الكلمات، هذا الإسلام لا يترك عداوة، الإيمان طاهر نقي، ورثاه بقصيدة من غرر، كان شاعرًا تفيض مشاعره لوعة، وتذوب حسرة وأنينًا، وفي خلافة الفاروق أحس أبو سفيان ببلوغ أجله فحفر لنفسه قبراً بيده، ولم يمض على ذلك ثلاثة أيام حتى توفي، كأنه مع الموت على ميعاد، والتفت إلى زوجته وأهله وأولاده فرآهم يبكون فقال: لا تبكوا، لا تبكوا علي أبداً، والله ما تعلقت بخطيئة بعد أن أسلمت.
 إذا تاب الرجل توبة نصوحًا، وما كذب ولا كذبة، ما غش ولا مرة، ما نظر ولا إلى أية امرأة، ما ترك فرض صلاة، ما ترك مجلس علم، ما ترك فقيراً إلا ساعده، كيف يخاف من الموت، الموت لقاء مع الله، الموت عرسه، لا تبكوا علي، قال: والله ما تعلقت بخطيئة منذ أسلمت، ثم فاضت روحه الطاهرة، فصلى عليه الفاروق رضوان الله عليه، وحن لفقره هو وأصحابه الكرام، وعدّ موته خطباً جليلاً حل بالإسلام.
 هناك عشرات الاستنباطات تستنبط من هذه القصة، أنت في أول حياتك وشبابك أقبل على الله عز وجل، أقبل على مجالس العلم، أقبل على تلاوة القرآن، أقبل على فهمه، فإذا نعمت برضاء الله رضاء رسول الله ورضاء أهل الحق والمؤمنين فأنت في نعيم كبير، أما إذا كنت في سخط الله فمهما علوت ينزلك الله في ساعة، يجعله متسولاً في لحظة، قد يكون كثير المال، قد يكون بمكانة عالية، قد يكون حجمه كبيراً، يضعه تحت رحمة الله، لم يعد معه ولا قرش، فالعبرة أن تكون في رضوان الله، لا أن تكون في سخطه، العبرة أن يحبك الله ورسوله، العبرة أن تكون مستقيماً على أمر الله، الدين ليس صومًا وصلاة فقط، إقامة، ورع، أمانة، صدق، فالإنسان لا يضيع مجال العلم، لا يضيع سيرة القرآن الكريم، لا يجعله وراء ظهره، يقرأ، يتمعن، يسعد في الدنيا والآخرة.
 هذه القصة مع أني ذكرتها لكم، لكنها مفيدة جداً في أن نقتدي في هؤلاء الأصحاب، عدو لرسول الله شاعر وصفه بأفظع الصفات، وحاربه، ومع ذلك تاب الله عليه.
 وملخص الكلام كله: إذا رجع العبد العاصي إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنؤوا فلاناً فقد اصطلح مع الله، تريد الحقيقة كل التهاني والله الذي لا إله إلا هو لا تصح إلا لمن اصطلح مع الله، تزوج تهانينا، ولكن يوجد بعد ذلك الموت، صار غنياً تهانينا، يوجد بعد ذلك فقر، فكلمة تهانينا هنيئًا لك، والله لا تصح إلا لمن عرف الله، ولمن استقم على أمره.

 

إخفاء الصور