وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 22 - سورة النساء - تفسير الآيات 40-42 ، عدل الله سبحانه وطاعة رسوله
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

العقل البشري لا يستطيع أن يحيط بعلم الله عز وجل وعدله :

 أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس الثاني والعشرين من دروس سورة النساء، ومع الآية الأربعين، وهي قوله تعالى:

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً﴾

 أيها الأخوة، الله سبحانه وتعالى الذات الكاملة، صاحب الأسماء الحسنى والصفات الفضلى، والله عز وجل في كل أسمائه الحسنى مطلق، الإنسان نسبي، قد يقضي القاضي بمئة حكم، تسعة وتسعون منها أحكام عادلة، وفي أحكامه حكم واحد فيه ظلم يسمى عند الناس قاضياً عادلاً، لكن الله سبحانه وتعالى كماله مطلق، فلا يمكن أن يكون من الله عز وجل أي ظلم، ولو بدا صغيراً، الإنسان لا يستطيع أن يدرك عدل الله بعقله، لأن عقله محدود، وعقله مرتبط بمكان وزمان معينين، وعقله مرتبط بمعطيات محددة، لكن في حالة واحدة افتراضية يمكن أن تدرك عدل الله بعقلك إذا كان لك علم كعلم الله، ولأن هذا مستحيل وألف ألف مستحيل لا تستطيع أن تدرك عدل الله بعقلك، قد تجد شعوب غارقة في الفواحش والآثام، وشعوب أخرى تعاني ما تعاني، قد تسأل لمَ هؤلاء في بحبوحة وهؤلاء في ضنك؟ العقل البشري لا يستطيع أن يحيط بعلم الله عز وجل، قاصر لكن الله أخبرنا في قرآنه بآيات كثيرة جداً بأن الله سبحانه وتعالى لا يظلم:

﴿ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴾

[ سورة النساء: 77 ]

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ﴾

[ سورة العنكبوت: 40 ]

﴿ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيراً ﴾

[ سورة النساء: 124 ]

 لا قطمير، ولا فتيل، ولا نقير، وهذه الأسماء مشتقة من حياة العرب في صحرائهم، النواة لها رأس مأنف كإبرة تماماً، اسمه نقير، وبين فلقتيها خيط اسمه فتيل، ولها غلاف رقيق اسمه قطمير، لا تظلمون لا نقيراً، ولا قطميراً، ولا فتيلاً، (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ).

 

على عقلنا أن يقبل من الله أنه أخبرنا عن عدله :

 قال تعالى:

﴿ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ﴾

[ سورة غافر: 17 ]

 آيات كثيرة جداً تخبرنا عن عدل الله، فعقلنا ينبغي أن يقبل من الله أنه أخبرنا عن عدله.
 أخواننا الكرام، هناك تسلسل في علم العقيدة، يمكن أن تؤمن بوجود الله ووحدانيته وكماله من خلال عقلك، ومن خلال هذا الكون الذي كله آيات دالة على عظمة الله، وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد، ولك أن تؤمن بالقرآن الكريم من خلال عقلك أيضاً لأن فيه إعجازاً كثيراً، آيات الإعجاز في القرآن الكريم كثيرة جداً، ففي أدلة قطعية أنه لا يعقل، ولا يمكن، ومستحيل، وألف ألف مستحيل أن يكون هذا القرآن من صنع بشر، ثم إنك تستطيع أن تؤمن أن الذي جاء بهذا القرآن هو رسول الله أيضاً بعقلك، بعد أن آمنت بوجود الله ووحدانيته وكماله بعقلك، وبعد أن آمنت بأن هذا القرآن الكريم كلام الله بعقلك، وبعد أن آمنت أن الذي جاء بهذا القرآن الكريم هو رسول الله بعقلك انتهى دور العقل، وبدأ دور النقل أخبرنا الله عز وجل بأنه لا يظلم، هذا دليل أن هناك آية تكفي، ما دمت قد آمنت بالله بأنه هو الصادق، هو الكامل، هو الحكيم، هو الرحيم، هو القوي، هو المتين، هو الرزاق، ما دمت قد آمنت بأسمائه الحسنى من خلال هذا الكون ينبغي أن تصدق إخبارك بأنه لا يظلم، فأنا أعجب من هؤلاء الذين يبحثون عن أدلة عقلية بعدل الله عز وجل، قد تجد إنسان غارق في المعاصي والآثام، ويعيش حياةً مديدة بصحة طيبة، ويموت بهيئة راقية، من قال لك إن الدنيا هي دار جزاء، من قال لك ذلك؟ إنما هي دار ابتلاء فقط، فإذا عاقب الله بعض المسيئين يعاقبهم ردعاً للباقين، وإذا أكرم الله بعض المحسنين يكرمهم تشجيعاً للباقين، ولكن الدنيا ليست دار جزاء إنما هي دار ابتلاء، وليست دار تكريم إنما هي دار تكليف، التشريف في الآخرة والتكليف في الدنيا، الجزاء في الآخرة، والعمل في الدنيا، إذاً وطن نفسك على أنك في مرحلة ابتلاء.

 

آيات من القرآن الكريم تبين أن الدنيا ليست دار جزاء إنما هي دار ابتلاء :

 قال تعالى:

﴿ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾

[ سورة المؤمنون: 30 ]

 لا يقلقك أن ترى إنساناً كافراً يتمتع بالحياة الدنيا تمتع البهائم، يأكل، ويشرب، ويرتدي أجمل الثياب، ويسكن في أجمل البيوت، ويركب أجمل المركبات.

﴿ لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ*مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾

[ سورة آل عمران: 196-197]

﴿ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ﴾

[ سورة النساء: 77 ]

﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ﴾

[ سورة الإنسان: 27]

﴿ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ* فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ* عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ﴾

[ سورة المدثر: 8-10 ]

على الإنسان أن يؤمن بعدل الله من خلال آياته وكلامه :

 حينما تعتقد أو تتوهم أن هذه الدنيا دار جزاء وقعت في خطأ فاحش، لأنك سوف تفاجئ أنه قد تجد إنساناً كافراً منحرفاً غارقاً في المعاصي، وهو في أبهى زينة، وفي أكبر ثروة، وفي أجمل بيت، وقد تجد إنساناً حريصاً على طاعة الله حرصاً لا حدود له، ويعاني ما يعاني، إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي، لا شك أن المؤمن يحب أن يوقن أن الله كامل، عادل، رحيم، حكيم، قوي، متين، بيده كل شيء، هذه المعاني ترتاح لها النفس، لذلك حقائق الدين متوافقة مع الفطرة، فأنت حينما تتمنى أن يكون عدل الله مطلقاً فمعك الحق، هذه فطرتك، ولكن لا تسلك طريقاً لم يسمح الله لك به أن تسلكه، ينبغي أن تؤمن بعدله من خلال كلامه، قال لك:

﴿ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴾

[ سورة النساء: 77 ]

﴿ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ﴾

[ سورة غافر: 17 ]

﴿ وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾

 

[ سورة الأنبياء: 47 ]

 

عدل الله عز وجل :

 آيات كثيرة جداً، لكن أيها الأخوة في مشكلة أتمنى أن تكون واضحة لديكم أنت تعيش في مجتمع، وفي هذه المجتمع الغني والفقير، والصحيح والمريض، والقوي والضعيف، والوسيم والدميم، والمعمر وقصير العمر، ما الذي يحدث؟ ترى أن زيداً من الناس قد أصيب بمرض عضال، أنت اطلعت على قصة في آخر فصل من فصولها، ولأنك لا تدري بقية الفصول تقع في حيرة، لمَ يفسر هذا المرض؟ والذي مرض إنسان مسلم مؤمن مستقيم فيما تعلم، قد تجد إنساناً آخر في أشد حالات المعصية والانحراف، ومع ذلك في بحبوحة وجسمه قوي، أيضاً أنت اطلعت على قصة في آخر فصل من فصولها، ولم تطلع على بقية الفصول، لكن ما منا واحد أيها الأخوة إلا وعنده بعض القصص، وقد تكون قليلة يعرف كل فصولها من أولها إلى أخرها، يرى عدل الله مطلق، يرى حكمته المطلقة، والله أيها الأخوة لولا أن الوقت لا يسمح، وأن مقام تفسير القرآن لا يتسع لقصص كثيرة، لكن والله عندي عشرات بل بضع عشرات، بل مئات من القصص إن سمعت فصولها كلها من أولها إلى أخرها ينبغي أن تخر ساجداً لله عز وجل، لعدالته المطلقة، لكن العقل البشري لا يستطيع أن يعرف كل شيء، الإنسان بحكم أقربائه ومن حوله، من يتعامل معهم قد يطلع على بعض القصص، فيرى عدل الله المطلق، ولكن آلاف القصص أنت لا تطلع عليها، تطلع على آخر فصل من فصولها، فربما لا تفهمه، قد تحار به، لذلك حينما يقول الله عز وجل:

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ﴾

 لا يمكن أن يبخس لك عملك الصالح، ضحيت، بذلت وقت، بذلت جهد، وبالمقابل لا يمكن أن تنال ما لا تستحق، لا يمكن أن يبخس لك عملك الصالح، كما أنه لا يمكن أن تنال منه ما لا تستحق، هذا عدل الله عز وجل.
 كل إنسان في علاقته مع الله يرى رأي العين أن الله عادل، على مستوى علاقتك مع الله، كم من إنسان أصيب بشيء ثم أدرك أن هذا الشيء يقابل هذا الشيء.

((ما من عثرة، ولا اختلاج عرق، ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم، وما يغفر الله أكثر))

[رواه ابن عساكر عن البراء تصحيح السيوطي ]

الإنسان يمكن أن يظلم أما الله جل جلاله فلا يمكن لذاته الكاملة أن يظلم :

 إن الله لا يظلم، والإنسان يحتاج إلى أن يظلم، لأنه فقير أحياناً فيأخذ ما ليس له، لأنه قوي، وعنده أحقاد فيأخذ ما ليس له، لكن الله جل جلاله لا يمكن لذاته الكاملة ولأسمائه الحسنى وصفاته الفضلى أن يظلم، لذلك:

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ﴾

 لو أنك نزعت من المسجد قشةً لا يزيد طولها عن سنتيمتر هذا العمل سوف تكافأ عليه، لذلك في بعض الأحاديث أنه:

((يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان. ))

[متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه]

 لكن الآية الكريمة والله تملأ النفس راحة:

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾

[ سورة الجاثية: 21 ]

هل يعقل ذلك؟ هل يقبل ذلك؟ هل يصدق ذلك؟

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾

[ سورة الجاثية: 21 ]

 حدثني أخ كريم قال: ذهبنا إلى بلد غربي لشراء سيارتين وبيعهما في سورية، فذهبا إلى هناك بالطائرة، وعادا بهاتين السيارتين، في بلد أوربي أظن بولونيا، ناما في أحد فنادقها، بعد منتصف الليل طُرِق باب كليهما من قبل امرأة، واحد فتح الباب، وعصى الله، والثاني قال: معاذ الله، إني أخاف الله رب العالمين، الموقف واحد، واحد فتح، والثاني ما فتح، عادا إلى الشام واحد في صعود، والثاني في انهيار، بشر الزاني بالفقر ولو بعد حين.

 

أدلة تُبين أن الله عز وجل لا يضيع ولا مثقال ذرة :

 أيها الأخوة الكرام، أحياناً تتأمل أفعال الله لا تملك إلا أن تخر ساجداً لله، لا يضيع عليك ولا مثقال ذرة، لو تكلمت كلمة، لو أكرمت شيخاً لسنه لا بد أن يُسَخِّر الله لك من يكرمك عند سن هذا الشيخ:

((ما أكرم شاب شيخاً لسنه إلا قيض اللَّه له من يكرمه عند سنه))

[التِّرْمِذِيّ عن أنس رضي الله عنه]

 حدثني أخ قال لي: رجل في بلد عربي من الدرجة الوسطى من حيث أخلاقه ودينه، وأقل من الوسط، وله أولاد ليسوا أبراراً، علاقتهم عادية جداً مع أبيهم، أصيب الأب بمرض عضال، قام أولاده على خدمته بطريقة لا يتصورها العقل، اهتمام، وبذل، وتضحية، لا الأب يستحق هذه الخدمة الراقية جداً، ولا الأولاد عهد منهم أنهم أبرار، ما السبب؟ لأن هذا الذي وقع في المرض كان باراً لوالديه، فهيأ الله له هؤلاء الأولاد مع أنهم ليسوا على المستوى المطلوب ليبروه عند مرضه، فعل الله واضح جداً، لكن أنا أتمنى على كل إنسان أن يقف عند أفعال الله، أن يتأملها، أن يحللها، يجد العجب العجاب، يجد رحمة، يجد عدلاً، يجد إنصافاً، يجد حكمة، يجد لطفاً أحياناً:

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ﴾

 سيدنا عمر جاءه شارب خمر، فقال: أقيموا عليه الحد، فقال هذا الإنسان: والله يا أمير المؤمنين الله قدر علي ذلك، فقال: أقيموا عليه الحد مرتين، مرة لأنه شرب الخمر، ومرة لأنه افترى على الله، قال: ويحك يا هذا، إن قضاء الله لم يخرجك من الاختيار إلى الاضطرار، أنت مخير:

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُنْ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا﴾

 قد تضع لقمة في فم زوجتك تود دلالها، ورحمة بها، تجدها عند الله يوم القيامة كجبل أحد.

﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً ﴾

[ سورة البقرة: 245 ]

من يتاجر مع الله يأتيه الأجر أضعافاً مضاعفة :

 قدم معونات لأخوانك المؤمنين، واسِ مرضاهم، تفقد فقرائهم، خذ بيدهم إلى الله، الوقت الذي تبذله معهم محسوب عند الله، والجهد الذي تبذله محسوب عند الله، والمال الذي تبذله محسوب عند الله، وقد تمشي مع أخيك في خدمته، وقد قال عليه الصلاة والسلام:

((لئن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف شهراً في مسجدي هذا ))

[ عن ابن عمر وأخرجه البخاري ]

 تعمل عملاً صالحاً بإخلاص تودداً من الله عز وجل ثم لا تجد الأجر الذي تستحقه؟ مستحيل:

 

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُنْ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا﴾

 أضعاف مضاعفة، كأن الله سبحانه وتعالى ينتظرنا أن نتاجر معه.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ *تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾

[ سورة الصف:10-11]

﴿ وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً﴾

لا يليق بنا كبشر أن نكون لغير الله لذلك أعظم تجارة هي التجارة مع الله :

 لو أنك عملت لإنسان ماذا يعطيك؟ والله أيها الأخوة، كلمة دقيقة: لا يليق بك كإنسان أن تكون لغير الله، وإذا كنت لغير الله غير الله ماذا يعطيك؟ يعطيك بيتاً في الحياة الدنيا، يعطيك مركبةً، من الذي بإمكانه أن يعطيك جنةً عرضها السماوات والأرض؟ إنه الله.
 يروى أن أحد خلفاء بني العباس، وأظنه هارون الرشيد كان في الحرم المكي أيام الحج، رأى عالماً جليلاً زاهداً، قال له: سلني حاجتك، قال: والله إني أستحي أن أسأل غير الله في بيوت الله، فلما رآه خارج الحرم المكي قال له: سلني حاجتك، قال: والله ما سألتها ممن يملكها، فكيف أسألها ممن لا يملكها، فلما ألح عليه، قال له: حاجتي أن تدخلني الجنة، وأن تنقذني من النار، قال له: هذه ليست لي، قال له: إذاً ليست لي عندك حاجة، يعني لا يليق بك كإنسان أن تكون لغير الله، أنت حينما ترفض أشياء كثيرة ترفضها احتقاراً لها، قد ترفض بيتاً ثمنه كبير، وحجمه صغير، قد ترفض تجارةً متعبة، وربحها قليل، قد ترفض فتاةً لا تعجبك، ومهرها كبير، أنت أحياناً ترفض أشياء كثيرة، ترفضها احتقاراً لها، إلا أنك إذا رفضت دين الله عز وجل فإنك تحتقر نفسك.

﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ﴾

[ سورة البقرة: 130 ]

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً﴾

 لذلك أعظم تجارة هي التجارة مع الله:

(( يا علي لأن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس ))

[ أخرجه الحاكم عن أبي رافع ]

كل مكتسبات الإنسان في الدنيا لا وزن لها في الآخرة :

 هناك شركات حجم رأسمالها يزيد عن ميزانيات دول، إحصائية ربما لا تصدقونها، شركة واحدة من الشركات العملاقة دخلها السنوي يزيد على الدخل القومي لبلد يبلغ تعداد شعبه خمسين أو ستين مليوناً، هذه الشركات لو أنك تملك واحدة منها مثلاً، قال: يا علي لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من الدنيا وما فيها.

(( خير لكَ من حُمْرِ النَّعَم ))

[أخرجه أبو داود عن سهل بن سعد الساعدي ]

 خير لك مما طلعت عليه الشمس، سيدنا موسى حينما سقى الفتاتين ابنتي سيدنا شعيب قال:

﴿ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾

[ سورة القصص: 24]

 حتى إنه في بعض الأدعية ورد أن:

(( لا بورك لي بطلوع شمس يوم لم أزدد فيه علماً يقربني إلى الله))

[ورد في الأثر]

 لذلك المؤمن همه الأوحد أن يقدم أعمالاً صالحة خالصةً لله عز وجل، يبتغي بها وجه الله، هذا أغنى إنسان، لو إنسان فرضاً يملك مليارات من عملة معينة، فذهب إلى بلد لا يعترف بهذه العملة، إذاً هو فقير هناك، ربما لا يملك ثمن طعام، كل ما يملك من عملة غير مقبولة هناك، لذلك كل مكتسبات الإنسان في الدنيا لا وزن لها في الآخرة، هناك الوزن لعمل الصالح، الوزن لعمل صالح ابتغي به وجه الله، والعمل الصالح أيها الأخوة لا يقبله الله إلا إذا كان خالصاً وثواباً، خالصاً ما ابتغي به وجه الله، وثواباً ما وافق السنة.

 

﴿ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ ﴾

[ سورة النمل: 19 ]


 العمل الصالح لا يُقبَل إلا إذا رضيه الله عز وجل، مقيد برضا الله عز وجل، ورضا الله عز وجل يتحقق أن يكون وفق سنة رسول الله.

﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾

[ سورة آل عمران: 31 ]

 تعمل حفلة غنائية وريعها يرصد للأيتام، لا يصح هذا العمل، يانصيب خيري؟ يجب أن تعمل عملاً صالحاً وفق منهج الله، وتبتغي به وجه الله، هذه هي الثروة الحقيقية، هذا الذي يرفعك عند الله، والعمل الصالح يرفعك.

 

الله جل جلاله ألزم نفسه بهداية العباد :

 ثم يقول الله عز وجل:

﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ﴾

 أي كل أمة أرسل الله لها نبياً ورسولاً يشهد لها منهج الله، وعدل الله، ورحمة الله، وقد أخبرها أن هناك يوماً آخر فيه يحاسب الناس، فيه تسوى الحسابات، لأن الله عز وجل لا يمكن أن يدع عباده من دون رسول، من دون إرشاد، لقوله تعالى:

﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ﴾

[ سورة الليل: 12 ]

 الهدى على الله، وكلمة (على) مع لفظ الجلالة تفيد أن الله ألزم نفسه بهدى العباد، الله جل جلاله ألزم نفسه بهداية العباد:

﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ﴾

[ سورة الليل: 12 ]

﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ﴾

 (شهيد) صيغة مبالغة على وزن فعيل، أي نبي كريم يتقن لغة قومه، فصيح، كامل، معصوم، يبين، يوضح في أعلى درجة من الفطانة، والحكمة، والبيان، والفصاحة:

﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ﴾

الله تعالى لعلمه بالغيب جعل سنة رسوله متداولة في شتى بقاع الأرض :

 تروي بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من ابن مسعود أن يتلو أمامه القرآن، فقرأ له سورة النساء، فلما وصل عبد الله بن سعود إلى قوله تعالى:

﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيداً﴾

 قال له: حسبك، فقال ابن مسعود: فنظرت إلى رسول الله فإذا عيناه تذرفان.
 أخواننا الكرام، سنة رسول الله بين أيدينا، لأن النبي خاتم الأنبياء، وخاتم الرسل، وكأن الله سبحانه وتعالى لعلمه للغيب جعل هذه السنة متداولة في شتى بقاع الأرض، والله ذهبت إلى أقصى مكان في الدنيا، سيدني، إذاعات إسلامية، الأحاديث، والقرآن، والتفسير، وقد تنبأ النبي بذلك، قال:

(( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ))

[ من حديث أبي ثعلبة الخشني مرفوعا أخرجه الحاكم وصححه ورده الذهبي ]

 يعني أي مكان في الأرض فيه ليل ونهار، هذا الحق سوف يصل إليه، الآن لو ذهبت إلى معظم أقطار الدنيا، في أي مكان العلم الإسلامي مبذول في أي مركز إسلامي، عن طريق الأشرطة، وعن طريق المحاضرات، وعن طريق الضيوف، والمؤتمرات، فالنبي صلى الله عليه وسلم يشهد يوم القيامة أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهد في الله حق الجهاد، وهدى العباد إلى سبيل الرشاد، الحجة قائمة علينا، ما من مشكلة على وجه الأرض إلا وفيها شرح أن هذه المشكلة سبب حصولها مخالفة منهج الله عز وجل، أبداً، لو كنت محللاً اجتماعياً، في أي بيت، في أي عمل، بين صديقين، بين شريكين، بين زوجين، ما من مشكلة إلا بخطأ ارتكبه أحد الطرفين، أو كلاهما:

﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيداً*يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً﴾

العبرة بالنهاية :

 مشكلة الناس اليوم أيها الأخوة، أنهم يعيشون لحظتهم، ولو عاشوا مستقبلهم لارتعدت فرائصهم، لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً، وفي بعض الروايات أن روح الميت ترفرف فوق النعش، تقول: يا أهلي، ويا ولدي، لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي، جمعت المال مما حل وحرم، فأنفقته في حله، وفي غير حله، فالهناء لكم، والتبعة عليّ.
 حينما يدرك الإنسان أنه لا بد من أن يموت، والناس ماذا يفعلون؟ يعدون أعمارهم عداً تصاعدياً، والأولى أن يعدوا أعمالهم تنازلياً، ليسأل كل منا نفسه: كم بقي لي؟ ثم سؤال آخر: هل بقي بقدر ما مضى؟ والإنسان إذا تجاوز الأربعين أغلب الظن أنه لم يبق بقدر ما مضى، فإذا كان الذي مضى مَضى بلمح البصر، والذي بقي أيضاً يمضي كلمح البصر، وما من واحد منا وحوله أشخاص توفاهم الله عز وجل، كانوا أشخاصاً، وكان لهم بيوت وزوجات وأولاد، تجارة أو منصب، وله عاداته وتقاليده، وله مكانته، له أنماط حياة خاصة، يحب بعض الأكلات يستمتع ببعض الأشياء، فجأة أصبح نعياً على الجدران، بعد حين أصبح تحت التراب، ملف وانتهى، كل مخلوق يموت، ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت.

والليل مهما طـــال  فلا بد من طلوع الفجر
و العمر مهما طــال  فلا بد من نـزول القبر
* * *
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته  يوم على آلة حدباء محمول
فإذا حملت إلى القبور جنــازة  فاعلم بأنك بعدها مـحمول
* * *

﴿ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الْأَرْضُ ﴾

 العبرة أيها الأخوة بالنهاية، العبرة من يضحك آخراً، الناس اليوم يضحكون قليلاً حينما يغتنمون بعض الغنائم، يقتنصون بعض الشهوات حينما يحققون بعض مباهجهم في الدنيا، يضحكون، ولكنهم يضحكون قليلاً، فإن لم يكونوا على حق في كسبهم للمال، إن لم يكونوا على حق في اقتناصهم للشهوات فسوف يبكون كثيراً، لكنك إذا كنت بطلاً تضحك آخراً، تضحك حينما ترى مقامك في الجنة، تضحك حينما تموت على الإيمان، وا كربتاه يا أبت، قال: لا كرب على أبيك بعد اليوم، غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه.

 

النبي صلى الله عليه وسلم وحده يطاع استقلالاً :

 أخواننا الكرام، ما لم تؤمن باليوم الآخر إيماناً حقيقياً، وما لم تنقل إليه كل اهتماماتك، وما لم يكن عملك الصالح موجه إلى الدار الآخرة مع الإخلاص الشديد فأنت لا تعيش الحياة التي أرادها الله لك، لذلك يقولون: في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، إنها جنة القرب، إنها جنة الطاعة، إنها جنة العمل الصالح:

﴿ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الْأَرْضُ ﴾

 ما قال: وعصوا الله:

﴿ وَعَصَوْا الرَّسُولَ ﴾

 لأن الرسول أمرنا الله عز وجل أن نطيعه، يطاع رسول الله استقلالاً، يطاع الله في قرآنه، ويطاع النبي في سنته.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾

 لكن أولي الأمر يطاعون تبعاً، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، أولو الأمر هم العلماء، وأولو الأمر هم الأمراء، العلماء يعلمون الأمر، والأمراء ينفذون الأمر، لكن طاعتهم مرتبطة بطاعة رسول الله، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، لكن النبي صلى الله عليه وسلم وحده يطاع استقلالاً، لقوله تعالى:

﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾

[ سورة الحشر: 7 ]

السنة الشريفة هي في حقيقتها تبيان لما في القرآن الكريم :

 الآن أيها الأخوة، هناك موجة تجتاح العالم الإسلامي، هذه الموجة تكتفي بالقرآن، يقولون: حسبنا القرآن، فلو قبلنا معك هذه النظرية، أين تجد في القرآن عدد الصلوات، وعدد الركعات؟ وأين تجد في القرآن أنصبة الزكاة، أين تجدها؟ القرآن فيه كليات، أما التفاصيل ففي السنة الشريفة، بل إن السنة الشريفة هي في حقيقتها تبيان لما في القرآن الكريم، من هنا قال الله عز وجل:

﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾

[ سورة النساء: 80 ]

 طاعة رسول الله عين طاعة الله، وطاعة الله تقتضي أن تطيع رسول الله والدليل:

﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ﴾

[ سورة القصص: 50 ]

 هؤلاء الذين كفروا، وعصوا الرسول يتمنون يوم القيامة لو تسوى بهم الأرض، (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً)، الإنسان معه معلومات، إذا أدلى بها يخاف أن يقطع رزقه، أو يخسر منصبه، لذلك يكتمها، هذا الذي يسكت عن الحق شيطان أخرس.
 أيها الأخوة، في درس قادم إن شاء الله ننتقل إلى قوله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور