وضع داكن
24-04-2024
Logo
الدرس : 6 - سورة الفتح - تفسيرالآيات 11-17 الله عز وجل عالم بخبايا الأنفس و ما يعتلجها من خواطر
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

أيّ عذر يقدِّمه الإنسان لربه الله جلَّ جلاله يعلم حقيقته:


 أيها الأخوة الكرام؛ مع الدرس السادس من سورة الفتح، ومع الآية الحادية عشرة، وهي قوله تعالى: 

﴿ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)﴾

[ سورة الفتح ]

الذين هم حول المدينة المنورة، القبائل التي سَكَنَتْ حول المدينة المنورة دَعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليذهبوا معه إلى العمرة التي انتهت بصلح الحديبية، ﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا﴾ هذا عُذْرُهُم، هم مشغولون بأموالهم وأهليهم، والحقيقة أن الأمر خلاف ذلك، لكنك إذا تعاملت مع الله يجب أن تعلم علم اليقين أن الله يعلم السرَّ وأخفى، خواطِرُك التي في ذهنك يعلمها الله؛ الخواطر، الصراعات، التوقُّعات، التمنِّيات، كل ما خطر في بالك فهو عند الله مكشوف، هؤلاء الأعراب حينما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليخرجوا معه قالوا: ﴿شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا﴾ والإنسان في حقيقته إذا أراد شيئاً تجاوز كل المعوِّقات، لو أراد شيئاً دنيوياً ألغى كل المواعيد، ألغى كل المشاغل، أما أن يحتجَّ الإنسان بمشاغله وأمواله وأولاده فهذه حجَّةٌ واهية لا تُقبَل عند الله عزَّ وجل.

يقول لك مثلاً أحدهم: أنا لا أستطيع أن أستيقظ على صلاة الفجر، لماذا إذا كان هناك رحلة لا تنام الليل؟ لماذا؟ فأية حجَّةٍ، وأي عذرٍ يقدِّمه الإنسان لربه الله جلَّ جلاله يعلم حقيقته، فهؤلاء الأعراب الذين دُعوا إلى الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: ﴿شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا﴾ .

 

طلب الجنة من غير عملٍ ذنبٌ من الذنوب:


هذا طلب الجنة من غير عملٍ ذنبٌ من الذنوب، وربنا سبحانه وتعالى غفورٌ رحيم لكن مغفرته مقيدةٌ بتوبة العبد.

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)﴾

[ سورة الزمر ]

لكن متى؟ 

﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54)﴾

[ سورة الزمر ]

﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)﴾

[ سورة الحجر ]

آياتٌ كثيرةٌ في القرآن الكريم تؤكِّد أن الله يغفر ولكن متى؟ 

﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(119)﴾

[ سورة النحل  ]

فكلمة استغفر لنا من دون توبةٍ صادقة، من دون إنابةٍ إلى الله عزَّ وجل، نوعٌ من الاستهزاء، ﴿شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا﴾ .

 

من اشتغل بالخسيس عن النفيس فهو خاسر لا محالة:


يا أيها الإخوة الأكارم؛ إذا كنت مشغولاً عن معرفة الله، إذا كنت مشغولاً بدنياك عن طلب العلم، إذا كنت مشغولاً بدنياك عن أداء واجباتك الدينية، إذا كنت مشغولاً بدنياك عن الأعمال الصالحة، إذا كنت مشغولاً بدنياك عن القُرُبات إلى الله عزَّ وجل، ينبغي أن تعلم علم اليقين أنك خاسرٌ كبير لأنك اشتغلت بالتافه، بالخسيس عن النفيس، اشتغلت بالشيء الرخيص عن الشيء الثمين، ﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا﴾ وربنا سبحانه وتعالى يقول: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(9)﴾

[ سورة المنافقون  ]

ربنا عزَّ وجل فضح هؤلاء: ﴿يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ الإنسان كما قلت لكم سابقاً لأَن يسقط من السماء إلى الأرض فَتَنْحَطِمُ أضلاعه أهون من أن يسقط من عين الله، الإنسان إذا كذب على الله يسقط من عينه، تقول: مشغول؟! لماذا أنت مشغول؟ لماذا إذا أردت الدنيا لا يشغلك عنها شيء؟

 

على الإنسان أن يطيع الله لأن الله هو الأقوى:


﴿ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)﴾

[ سورة الفتح ]

إذا أراد الله أن يوقِع عقاباً بهذا الإنسان، هذا الإنسان الذي كذب على الله من يستطيع أن يمنع عنه هذا الضر؟ لا أحد، لا تنسوا أن أحد ولاة البصرة كان إلى جانبه الحسن البصري التابعي الجليل وقد تلقى توجيهاً من يزيد بن معاوية، يبدو أن هذا التوجيه لا يرضي الله عزَّ وجل، وقع هذا الوالي في حيرة، إن نفَّذ توجيه يزيد أغضب الله عزَّ وجل، وإن لم يُنفِّذ توجيهه أغضب يزيد، فسأل الحسن البصري: ماذا أفعل؟ هذا هو التوجيه، فقال الحسن البصري كلمةً خالدةً، قال له: إن الله يمنعك من يزيد ولكن يزيد لا يمنعك من الله، ودائماً وأبداً قِس على هذه المقولة.

لو أجبرك إنسان أن تعصي الله عزَّ وجل، لو أراد الله أن يوقع ضراً بهذا الإنسان، هذا الذي أرضيته وعصيت الله لا يستطيع أن ينقِذك من الله، أما إذا أرضيت الله وعصيت زيداً ولو كان قوياً فإن الله سبحانه وتعالى يمنعُك من زيد، فهذا هو العقل والمنطق أن تطيع الأقوى، الأقوى هو الله، لهذا عن عائشة أم المؤمنين:

(( من التمس رِضا اللهِ بسخَطِ الناسِ رضِيَ اللهُ عنه وأرْضى عنه الناسَ، ومن التَمس رضا الناسِ بسخَطِ اللهِ، سخِط اللهُ عليه وأسخَط عليه الناسَ. ))

[ صحيح الترغيب :  خلاصة حكم المحدث : صحيح لغيره : أخرجه الترمذي ]

 

على الإنسان أن يتفادى سخط الله برضوانه وعقابه بالعمل الذي يرضيه:


﴿يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا﴾ الإنسان –كنت أقول هذا الكلام دائماً- في قبضة الله، من يمنع هذه الخلايا في جسم الإنسان من أن تتكاثر تكاثراً عشوائياً؟ لو أن إنساناً تلقى خبراً أنه يوجد ورم خبيث أي جهة في الأرض تمنع هذه الخلايا من التكاثر؟ الله يمنعها، وتوجد حالات كثيرة جداً تمَّ شفاؤها ذاتياً دون تدخل طبي، لكنك إذا أرضيت زيداً أو عبيداً، أو فلاناً أو علاناً وعصيت خالقك، لو أن الله عزَّ وجل شاء لهذه الخلايا أن تنمو في أماكن حسَّاسة من يمنعه؟ من يملك القلب؟ من يملك الكليتين؟ من يملك الكبد؟ هذه الأعضاء النبيلة الحسَّاسة التي إذا تعطَّلت خسِر الإنسان حياته الدنيا ووقع في ألمٍ شديد، فالإنسان يجب أن يشعر أنه في قبضة الله، وأن كل أعضائه، وأن كل أجهزته، وأن كل من حوله، وأن كل من فوقه، وكل من تحته، بيد الله عزَّ وجل، فالذي يجترئ على الله ويعصيه لا يملك من الله شيئاً لو أراد الله أن يؤدِّبه، كلَّما كَبُرَ العقل ازداد الخوف من الله، لاحظ الطبيب يغسل الخضار ويبالغ في غسلها لماذا؟ لأنه يرى كل يومٍ بعينه في المستشفى الأمراض الوبيلة من جراء العدوى وانتقال الجراثيم، وكلَّما ازداد علم الطبيب ازداد خوفه، وكلَّما ازداد علم الإنسان بالقوانين ازدادت حيطته، والخوف يتنامى مع العلم، والذي لا يخاف لا يعلم، ﴿قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ هل هناك جهةٌ تحول بين الله وبين أن يعالج الإنسان؟ هل هناك جهة في الأرض مهما كانت قويةً تمنع عنك قضاء الله عزَّ وجل؟ لذلك لا ملجأ من الله إلا إليه، لا تستطيع أن تتفادى عقاب الله إلا بطاعته، لا تستطيع أن تتفادى سخط الله إلا برضوانه، لا تستطيع أن تتفادى عقاب الله إلا بالعمل الذي يُرضيه، والله سبحانه وتعالى بابه مفتوح لكل عباده، يكفي أن تقول: يا رب، ليقول الله لك: لبَّيك يا عبدي، بل إنه قد ورد في الأثر أن العبد إذا قال: يا رب وهو راكع، قال الله: لبَّيك يا عبدي، فإذا قال العبد: يا رب وهو ساجد، قال: لبَّيك يا عبدي، فإذا قال العبد العاصي: لبَّيك يا رب وهو عاصٍ، يقول الله عزَّ وجل: لبيك، ثم لبيك، ثم لبيك.

﴿ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)﴾

[ سورة النحل ]

الابن الشارد المنحرف العاق لو أقبل على أبيه تائباً يدخل على قلب الأب من السرور ما لا يوصَف بخلاف ابنه المستقيم، لأن رحمة الله عزَّ وجل هي التي تجعل فرح الله بهذا العبد العائد إليه. 

 

لحظة الرجوع إلى الله لحظة لا توصف:


لذلك: إذا رجع العبد إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنِئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله.

إخواننا الكرام؛ الإنسان يشتري بيتاً ويأتيه المهنئون، يقولون له: تهانينا، ينال شهادة عُليا يأتيه المهنِّئون، يتزوَّج يأتيه المهنِّئون، يُنْجِبُ ولداً يأتيه المهنئون، ولكن أيها الإخوة الكرام والله الذي لا إله غيره التهنئة الحقيقية ذات المعنى لا تُقال إلا لمن اصطلح مع الله، وتاب إليه، وسار على منهجه، فأنزل الله عليه سكينته، وأسعده، وحفظه، وأيَّده، ونصره، لحظة الرجوع إلى الله لا توصف، أن تشعر أن خالق الكون يحبُّك، أن خالق الكون يرضى عنك، أن خالق الكون أنت بعينه:

﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)﴾

[ سورة الطور ]

 

ربنا جلَّ جلاله يعرف خبايا النفس البشرية وما يعتلج فيها من خواطر:


﴿قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ خبير غير بصير، أي ربنا جلَّ جلاله يعرف خبايا النفس البشرية، أعماق أعماقها، ما يعتلج فيها من خواطر، من هموم، من أحزان، فالله عزَّ وجل هو الخالق، هو الخبير، وقال تعالى: 

﴿ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)﴾

[ سورة فاطر ]

 أنت مكشوف عند الله عزَّ وجل، حينما تُقْبِل على الله عزَّ وجل هذه الهموم تُبدَّد، هذه المُقلِقات تزول، هذا الخوف ينمحي، هذا الشعور بالضياع يذهب، تجد ذاتك، ﴿بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ وربنا عزَّ وجل خبير بالنفوس.

﴿ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)﴾

[ سورة الفتح ]

هذا هو السبب الحقيقي، تَخَلَّف هؤلاء الأعراب عن رسول الله لظنِّهم أن النبي لن يرجع إلى المدينة، إنه يذهب إلى أُناسٍ حاربوه مرَّاتٍ عديدة ولابدَّ أنهم سيحاربونه الآن، وربما أبادوا أصحابه ولن يعود إلى المدينة، انظروا إلى هذا الظن!!  


من كان مع الله كان الله معه:


في حياتنا المعاصرة أحياناً نرى مؤمناً مستقيماً مخلصاً لله عزّ وجل، يحاط ببعض الأخطار، أهل الدنيا يقولون لك: انتهى، لن تقوم له قائمة، خَسِرَ دنياه، خسِر منصبه، لا، هذا ظن الإنسان الذي لا يعرف الله عزَّ وجل، الله جلَّ جلاله لا يتَخَلَّى عن عباده المؤمنين، أحياناً الإنسان يجري حسابات كلَّها مادِّية، ويتغافل عن وجود الله عزَّ وجل، وعن أن الأمر كلَّه بيد الله، يتغافل عن أن الله مع المستقيم، مع الطائع، مع المُنيب، مع المخلص، فربما هذا الإنسان المؤمن قد يكون فقيراً يقول له: أنت لن تتزوج أبداً بحياتك، على حسابات الآلة الحاسبة هذا صحيح لا يوجد أمل، دخله أربعة آلاف لا يكفونه طعاماً وشراباً، أنىّ له أن يشتري البيت وأن يدفع المهر؟ لكن شاباً مؤمناً مستقيماً على أمر الله أيتخلى الله عنه؟ أهل الدنيا حساباتهم كلَّها مادِّية، يتغافلون عن أن الله موجود، وأن الأمر كلَّه بيدِ الله، وأن الله هو الرزَّاق، وهو الموَفِّق، وهو الحافظ، وهو الناصر، وهو المؤيِّد، وهو الستِّير، وهو الرزاق، يتغافلون عن هذا، لا مانع من أن يدرس الإنسان الأمور دراسة موضوعية، ولكن يجب ألا ينسى أن الله موجود، وأن الله لا يتخلَّى عن عباده المؤمنين، وأن الله لا يسمح لأهل الدنيا أن يستطيلوا عليهم، هو يحفظهم، وينصرهم، ويؤيدهم ويرزقهم، وخلاف هذا الظن جهلٌ بالله عزَّ وجل، ﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ﴾ قريش قوية جداً وهي في مكة، في عُقْرِ دارها، معها الرجال، معها الفُرسان، معها الأسلحة، معها المراكب، معها كل شيء، ومعها العرب جميعاً، والنبي عليه الصلاة والسلام هذا الذي خرج من مكة خائفاً أُهْدِرَ دمه، وضعت مئتا ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً، مع أصحابه الضعاف، هؤلاء سيذهبون إلى مكة ليعتمروا تحت سَمْعِ قريشٍ وبصرها؟! هؤلاء المنافقون بحسابات أرضية، بحسابات مادّية، أيقنوا أن النبي صلى الله عليه وسلَّم وأصحابه الكرام لن يرجعوا إلى المدينة لذلك تنصَّلوا، انسحبوا، اعتذروا، الحقيقة أن الله فضحهم، قال: ﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا﴾ ظننتم أنهم هالِكون، ظننتم أن قريشاً ستبُيدهم، أين الله؟ ﴿قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى﴾ فرعون.

﴿ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)﴾

[ سورة طه ]

ويجب أن تكون هذه الآية في ذهن كل مؤمن، إنني معك يا عبدي أسمع وأرى، كن معه ولا تبالِ، كن مع الله ترَ الله معك، أخلِص له، استقم على أمره، اطلب رضاه ولا تخش أحداً، إذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكَّل على الله، وإذا أردت أن تكون أكرم الناس فاتقِ الله، وإذا أردت أن تكون أغنى الناس فكن بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك.

 

ارتفاع معنويات المؤمن مهم جداً لأنّ همّ الكفار أن يضعضعوا ثقة المؤمن بربه:


أعود وأقول: الحسابات المادية، تجد إنساناً مؤمناً، فقيراً، ضعيفاً، في بداية حياته، لا يوجد معه شيء، بالتعبير الدارج: منتوف، لكنه مستقيم، لكنه مخلص، لكنه يحب الله ورسوله، لكنه يخاف أن يعصي الله عز وجل، هذا الله يوفقه، ويكرمه، ويحفظه، ويرقيه، ويسمو به، أريد من هذا الكلام أن يثق المؤمن بربه لأن ارتفاع معنويات المؤمن مهم جداً، الكُفَّار دائماً همهم أن يُضعضِعوا المؤمنين، أن يُضعِفوا ثقتهم بالله عزَّ وجل، أن يقيِّموهم بما في أيديهم، سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام عندما جاء إليه عدي بن حاتم قال له: "لعله يا عَدِي إنما يمنعك من دخولٍ في هذا الدين ما تَرى من حاجتهم-أي من فقر أصحابه، لأن أصحابه كانوا فقراء- وَايمُ الله ليوشكنَّ المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلَّه إنما يمنعك من دخولٍ في هذا الدين أنَّك ترى أن المُلك والسلطان في غيرهم، وَايمُ الله ليوشكن أن تسمع بالمرأة البابلية تحج البيت على بعيرها لا تخاف أحداً-يستتبُّ لهم الأمر في طول البلاد وعرضها- ولعله إنما يمنعك من دخولٍ في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوِّهم، والذي نفس محمدٍ بيده ليوشكن أن ترى القصور البابلية مفتَّحةً لهم" ، وعاش عدي بن حاتم حتى رأى كل ذلك بعينه.

سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام في الهجرة وقد تبعه سُراقة ليأتي به إلى قريش وينال المئتي ناقة، عندما ساخت قدما فرس سُراقة في الرمال، والتجأ إلى النبي عليه الصلاة والسلام المرَّة الأولى، والثانية، والثالثة قال له: يا سُراقة كيف بك إذا لبست سِواري كسرى؟ هذه تعرفونها من السيرة لكن حلّلوها، النبي ملاحق، النبي مهدور دمه، أي إنسانٍ يأتي بالنبي يأخذ مئتي ناقة، ومع ذلك قال عليه الصلاة والسلام: يا سُراقة كيف بك إذا لبست سِواري كسرى؟ ماذا يُفهم من هذا الكلام؟ يُفهم منه أن النبي عليه الصلاة والسلام سيصل إلى المدينة، وسيكون في المدينة مع المؤمنين، يكون لهم كيان، وهذا الكيان بداية المجتمع الإسلامي، وسوف يُحاربون قريشاً، وسوف تدين الجزيرة العربية لهم جميعاً، وسوف يَنْطَلقون لفتح البلاد الأخرى، وسوف يصلون إلى أكبر دولةٍ في حينه-دولة كسرى- وسوف يهزمونها، وسوف يأتون بسِواري كسرى مع الغنائم ويا سُراقة كيف بك إذا لبست سِواري كسرى؟ وهذا الذي حصل، حينما جاءت الغنائم لو أن أحداً رفع رُمْحَهُ وأحداً آخر في الطرف المقابل رفع رمحه لما رأى الأول الآخر، كلّها غنائم؛ سِواري كسرى، تاج كسرى، قميص كسرى، كل ما في القصور قد جيء به إلى المدينة، تذَكَّر عمر رضي الله عنه سُراقة ووعْد النبي له، قال: أين سُراقة؟ ألبسه سِواري كسرى فكبَّر الصحابة، فقال: أُعيرابيٌّ يلبس سِواري كسرى!! لقد صدق رسول الله.

 

الله عز وجل مع المؤمن بالنصر والتأييد والحفظ والتوفيق:


أنا الذي أريده أنه إذا آمنت بالله، واستقمت على أمره، وتقرَّبت إليه، يجب أن تشعر أن الله لن يتخلى عنك، وأنه معك، وأنه سينصرك، وأنه سيؤيِّدُك، وأن الله سبحانه وتعالى يقول في آياتٍ كثيرة:

﴿ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)﴾

[ سورة الأنفال ]

﴿مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ تعني أنه معهم بالنصر، والتأييد، والحفظ، والتوفيق، ﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ نرتاح منهم، انظر إلى المنافق!!

 

المنافق كالأرض البور لا خير فيه إطلاقاً:


لذلك أيها الإخوة؛ أرجو الله سبحانه وتعالى أن تكون هذه الحقيقة واضحة لكم، إذا أخوك المؤمن أصابه خير وتضايقت، والله مشكلة، والله مشكلة كبيرة جداً، أخوك المؤمن تزوَّج، نال شهادة، اشترى بيتاً، دعا إلى الله وفقه الله في الدعوة، فطعنت به، وحسدته، وتمنَّيت له أن يُخفِق في عمله، وإذا أصابه مكروه ارتحت لهذا المكروه، يجب أن تعلم علم اليقين أنَّك مع المنافقين هكذا، هذا قرآن يُتلى إلى يوم القيامة، ﴿وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُم﴾ فرحتم، الآن يذهب ليعتمر فتحاربه قريش وتقضي عليه، وتبيده مع أصحابه، ونرتاح من هذه الدعوة بقضِّها وقضيضها، ﴿وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا﴾ كالأرض البور لا تُمْسِك ولا تنبت، لا يوجد فيه خير إطلاقاً، تجد إنساناً كلَّه أذى، كلَّه انتقاد، كلَّه حسد، كلَّه غيبة، كله تطلّع لما عند الآخرين، أناني أنانية مفرطة، حريص على مصالحه، على أن يكون المال كلّه له، على أن يأكل وحده، على أن ينام وحده، على أن يسكن في البيت وحده، على أن يركب هذه المركبة وحده، يحب ذاته، لا يحب أحداً، هذا البور، لا يتحرَّك إلا بأجر وأجر باهظ، وإذا كان متمكناً ذبح الآخرين من الوريد إلى الوريد، بالأسعار المرتفعة يستغل، إذا علِم أن الناس بحاجةٍ إلى سلعةٍ بين يديه رفع سعرها رفعاً جنونياً ليقنصَهُم قنصاً، هؤلاء الذين يتمحورون حول مصالحهم، وحول المال يأخذونه جشعاً ونهباً، وحول الشهوات ينغمسون فيها إلى قمَّة رؤوسهم، ولا يعنيهم من أمر الناس ما يعنيهم، هؤلاء وصفهم الله عزَّ وجل بأنهم قومٌ بور، أرضٌ بور قاحلة لا ماء فيها، ولا نبات فيها، ولا زهرة فيها تُسَبِّح الله عزّ وجل، ﴿وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا﴾ .

 

المؤمن كلّه خير:


تجد المؤمن كلّه خير، كلّه أعمال صالحة، إذا تكلَّم ذكر الله، وإذا تحرَّك نفع الناس، وإذا صَمَتَ فكَّر بآيات الله، هكذا النبي علَّمنا، قال: "أمرت أن يكون صمتي فكراً، ونطقي ذكراً، ونظري عبرة" ، إذا مات المؤمن بَكَتْ عليه السماوات والأرض بدليل أن الكفار إذا ماتوا: 

﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)﴾

[ سورة الدخان ]

لا تبك عليهم، بالعكس تستريح منهم، النبي عليه الصلاة والسلام: عن أبي قتادة:

(( مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ - لم يفهم أصحاب النبي ماذا قال النبي- قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ: الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ. ))

[ صحيح البخاري ]

﴿وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ﴾ بالله عزَّ وجل ﴿وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا﴾ لا خير فيكم. 

 

حجم الإنسان عند الله بحجم عمله الصالح:


الإنسان يعيش ستين أو سبعين سنة، أربعين أو خمسين، ثلاثين أو أربعين، سبعين أو ثمانين، يعيش عمراً، إما أن يكون هذا العمر كلّه خيراً، حتى أن الله سبحانه وتعالى أقسم بعمر النبي فقال:

﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)﴾

[ سورة الحجر  ]

وكل واحد منَّا يسأل نفسه أنا ماذا قدَّمت للإسلام؟ أنا ماذا فعلت؟ ما نوع عملي؟ حجمك عند الله بحجم عملك الصالح، ماذا نفعت؟ هل دعوت إلى الله؟ هل أمرت بالمعروف؟ هل نَهَيْتَ عن المنكر؟ هل أعنت المسكين؟ هل أطعمت الفقير الجائع؟ ماذا فعلت؟ 

﴿ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13)﴾

[ سورة الفتح ]

الدرس الماضي أشرت إلى معنى هذه الآية، الإنسان إذا لم يؤمن بالله موجوداً، وكاملاً، وواحداً، وبالتالي لم يؤمن بمنهجه؛ بكتابه، وسنة رسوله، سيتفلت من هذا المنهج، وحينما يتحرَّك الإنسان حركة عشوائية سوف يعتدي على الآخرين، وسوف يأخذ ما ليس له عندئذِ يستحق النار، ﴿وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا﴾ .

 

باب التوبة مفتوح أمام كل إنسان:


لكن رحمة الله عزَّ وجل وتربيته تُشير إلى أن هذا الإنسان الشارد باب التوبة مفتوح أمامه، الشيء اللطيف في القرآن الكريم أنه كلَّما وصف الله أهل النِفاق أو أهل الكفر، كلَّما وصف الله مشاهد يوم القيامة يأتي باب التوبة ليُفتَح، قال:

﴿ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)﴾

[ سورة الفتح ]

قال: هذه المُلكية أعلى أنواع المُلكية خَلقْاً، وتصرُّفاً، ومصيراً. 

معمل طائرات يصنع طائرةً ويبيعها، صنعها وانتهى الأمر، أما الآن هي في يد جهة أخرى تتصرَّف بها، ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ الله عزّ وجل:

﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)﴾

[ سورة الزمر  ]

﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)﴾

[ سورة الأعراف  ]

 

ملك الله عزَّ وجل ملك خلقٍ ومُلك تصرُّفٍ ومُلك مصيرٍ:


إذاً معنى ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ خلقاً، وتصرُّفاً، ومصيراً، قد تملك ولا تنتفع، وقد تنتفع ولا تملك، وقد تملك وتنتفع والمصير ليس لك، لكن ملك الله عزَّ وجل مُلكٌ، ملك خلقٍ، ومُلك تصرُّفٍ، ومُلك مصيرٍ، هذا معنى قول الله عزَّ وجل: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ قد نقرب هذا المعنى لأذهان الإخوة الكرام؛ هناك مرض، يوجد طريق للشفاء طريق غير جراحي، طريق أدوية، وهناك طريق جراحي، فالإنسان إذا استجاب لله عزَّ وجل يَشْفَى من أمراضه دون أن يدفع الثمن باهظاً، أما إذا ركب رأسه ولم يستجب لله عزَّ وجل عندئذِ يُغْفَر له ولكن متى؟ بعد عذابٍ شديد، فإما أن يُغفَر لك بالدعوة البيانية واستجابتك لهذه الدعوة، وإما أن يُغفَر لك بعد معالجةٍ مرَّة سببها عدم استجابتك لأمر الله، أحياناً طبيب يقول لمريض بشكل بسيط: ترغب بالحمية أو بعملية جراحية؟ إذا كان هناك حمية عندك إرادة قوية، الحمية تكفي وتشفى من هذا الالتهاب في المعدة ، أما إذا لم تبالِ بالممنوعات، غلبتك نفسها وأكلتها عندئذ لابد من عملية جراحية، لابد من فتح البطن عندئذ، وهناك أخطار، نحن مخيرون بين أن يُغفر لنا بعد استجابة لدعوة بيانية وبين أن يغفر لنا بعد عقاب شديد بسبب عدم استجابتنا للدعوة البيانية:

﴿ قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)﴾

[ سورة الفتح ]

تعذيب تأديب، تعذيب معالجة.

 

العطاء الإلهي نوعان:


﴿ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(14)﴾

[ سورة الفتح ]

كل أفعاله تنطلق من حرصه على مغفرة ذنوب عباده، ثم رحمته بهم، المغفرة تنظيف، هناك تخلية وهناك تحلية، هناك تنظيف وهناك عطاء، العطاء الإلهي نوعان: نوع سلبي يغفر، يُطهِّر، والنوع الثاني يمنح، فربنا عزَّ وجل غفور رحيم، غفور يُطهر الإنسان من ذنوبه، ورحيم يتجلى عليه، هذه الآية تُشير إلى أن هؤلاء الأعراب الجُفاة الذين تخلَّفوا عن رسول الله، والذين ظنوا بالله ظن السوء، والذين زُيِّنَ لهم أن النبي لن يعود إلى المدينة، مع كل ذنوبهم وانحرافهم ومع ذلك باب التوبة مفتوحٌ أمامهم.

 

الله عزَّ وجل لا يُعطي إلا بعد أن يمتحن:


﴿ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)﴾

[ سورة الفتح ]

بعد صلح الحديبية توجَّه النبي إلى خيبر ليفتحها، وخيبر فيها غنائم كثيرة، المنافقون بحاسَّتهم السادسة شعروا أن هناك في هذه الغزوة مغانم كثيرة، حينما غَلَبَ على ظنّهم أن النبي لن يعود تخلوا عنه، اعتذروا، ﴿شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا﴾ وحينما غلب على ظنّهم أن هناك مغانم كثيرة من خَيْبَر قالوا: ﴿ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ﴾ نحن معكم ﴿سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ﴾ الله عزَّ وجل لا يُعطي إلا بعد أن يمتحن، فالإنسان إذا رَسَب في الامتحان لا يُعطى شيئاً، الإمام الشافعي سُئل: أندعو الله بالتمكين أم بالابتلاء؟ فأجاب إجابةً رائعة، قال: "لن تُمكَّن قبل أن تبتلى" تظن نفسك ذكياً جداً، الأخطار تلافيتها، والمغانم سعيت إليها، هذا شيء لا يكون.

 

الله عزَّ وجل نهى نبيه الكريم عن أن يقبل معه المنافقين:


حينما غَلَبَ على ظنِّهم أن النبي لن يعود إلى المدينة وأنه مقتول هو وأصحابه قالوا: ﴿شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا﴾ أما حينما غلب على ظنهم أن هذه الغزوة ناجحة، وهناك مغانم كثيرة فقالوا: ﴿ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ﴾ وهذا الكلام ينطبق على معظم الناس، إذا بالدين يوجد تكاليف ليس هنا، إذا كان هناك مغانم فهو أول واحد، إذا كان هناك عمل شاق يتنصل، يغيب، يتوارى عن الأنظار، أما إذا هناك مغانم فتراه في المقدِّمة، وهذا الإنسان يُظن أنه ذكي، لا، ليس ذكياً، هو يريد الجنَّة بلا ثمن، يريد الدنيا بلا ثمن، وهذا شيء مستحيل، هذا خلاف سنة الله عزَّ وجل، خلاف سنن الله في خلقه، قل: لن تذهبوا معي أبداً هكذا قال الله عزَّ وجل، المنافقون نهى الله نبيه عن أن يقبل معه المنافقين، لن تذهبوا معي أبداً، ولن تقاتلوا معي عدواً أبداً. 

 

الغُنمُ بالغُرمِ:


يوجد رأي آخر أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى نبيه أن الصحابة الكرام حينما فاتهم فتح مكة فوعدهم بغنائم خيبر حصراً لمن كان مع النبي في الحديبية، على كلٍّ التوجيه الأول قرآني والثاني نبوي، هؤلاء المنافقون يريدون أن يبدِّلوا كلام الله، أي يبتعدون عن المغارم ويقبلون على المغانم، والقاعدة الشهيرة: "الغُنمُ بالغُرمِ" أندعو الله بالتمكين أم بالابتلاء؟ قال: لن تُمكَّن قبل أن تبتلى، والمؤمن يريد مغانم الإسلام فقط، الإسلام فيه جهاد، الإسلام فيه ضبط بالجوارح، ضبط الأعضاء، الإسلام فيه بذل، فيه صدقة، فيه ضبط الشهوات، بعد ضبط الشهوات، والمجاهدة، وضبط الدخل، وضبط الإنفاق، الله عزَّ وجل يُعلي قدر الإنسان، يرفع ذكره، أما يريد أن يُرفع ذكره بلا ثمن، يتحطَّم، ﴿سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا﴾ أي أنتم أنانيون تريدون هذه الغنائم لكم وحدكم؟! ﴿بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ قولوا ما شئتم لن تتبعونا. 

 

الله عز وجل يفتح باب التوبة دائماً لعباده:


لكن ربنا عزَّ وجل رحيم، هؤلاء الذين أرادوا أن يأخذوا المغانم دون المغارم، أرادوا أن يتبعوا النبي في فتحه لخيبر، وأن يبتعدوا عنه في الحديبية، هؤلاء الذين ظنوا أنهم أذكياء يُقبلون على المغانم ويتنصَّلون من المغارم، هؤلاء أنفسهم الله لا يتخلى عنهم يقول: 

﴿ قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)﴾

[ سورة الفتح ]

 توجد عندكم فرصة ثانية، إذا أقبلتم على بذل الجُهْد بعد هذا الجهد غنيمةٌ تأخذونها، ﴿تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ كل ما الله عز وجل إذا نحن شعرنا أن هذا الإنسان منته، منافق، منافق مُصر على نفاقه، ويبحث عن مصالحه، وعن المغانم وحدها ربنا عزَّ وجل يفتح باب التوبة، توجد فرصة ثانية.

نحن كلنا في رمضان، هذه فرصة للقرب من الله، لو شخص لم يحصل له هذا القرب، السنة كلها فرصة ثانية، هناك يُروى أن رجلاً رأى نملةً صعدت ونزلت ووقعت أربعين مرَّة، وكان عمره أربعين سنة، في الأربعين طلب العلم وتعلَّم القراءة والكتابة، وحفظ كتاب الله عزَّ وجل، ولم يمت إلا وهو شيخ الأزهر، قال: علَّمتني نملة، وقعت أربعين مرة. 

 

الله عزَّ وجل حينما يعلم من الإنسان الصدق يأتيه بنفحة ينسى بها كل متاعبه:


أنت استقم، وتُب إلى الله، واقرأ القرآن، وغض بصرك، وحرر دخلك، ونفسك تفلّتت فارجع وجرب محاولة ثانية، محاولة ثالثة، رابعة، وخامسة، المؤمن مذنب توَّاب، كثير التوبة والأوبة إلى الله عزَّ وجل، فلا يستسلم الإنسان إذا زلَّت قدمه مرَّة، وغلط مرَّة، وانحجب مرَّة، خلص انتهى، يبرك، هذا إنسان جبان، أيعقل أن تكون النملة أشد تصميماً منك؟ نملةٌ علَّمت رجلاً فصار شيخ الأزهر، الثبات والتصميم.

أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته        ومدمن القرع للأبواب أن يلجا

[ محمد بن حازم الباهلي ]

* * *

اجلس كل يوم اذكر الله عزَّ وجل، ما شعرت بشيء، أطل بالك، هل هي لمسة نبي؟ باليوم الثاني، الثالث، أول أسبوع، الثاني تشعر بالراحة، أراد الله أن يمتحن صدقك، اقرأ القرآن كل يوم، لم اشعر بشيء، ستأتيك ساعة تأتيك نفحة تنسيك التعب كلَّه، إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرَّضوا لها، أنت عرِّض نفسك للنفحة، اقرأ القرآن، صلِّ صلاة متقنة، اذكر الله عزَّ وجل، استغفر، ادعُ، أنت بهذا تعرِّض نفسك لنفحةٍ إلهية، وربنا عزَّ وجل حينما يعلم منك الصدق تأتيك النفحة فتنسى بها كل المتاعب السابقة.

 

عُذران دائمان وعذرٌ مؤقَّت هذه الأعذار التي يمكن أن تُقبل عند الله:


﴿ قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)﴾

[ سورة الفتح ]

أما هؤلاء الذين عذرهم الله عزَّ وجل في عدم خروجهم مع رسول الله فقال:

﴿ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)﴾

[ سورة الفتح ]

هذا عذر دائم، الأعمى والأعرج، ﴿وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾   عذر مؤقَّت ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ يعذِّبه عذاباً تأديبياً، تعذيباً ليتوب إلى الله عزَّ وجل، إذاً: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾ عُذران دائمان وعذرٌ مؤقَّت، هذه الأعذار التي يمكن أن تُقبل عند الله، أما: ﴿شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا﴾ فهذا عذر غير مقبول، أخي لماذا لم تكن معنا؟ يقول لك: والله مشغول، لو قال لك: مريض، انتهى، والله يجب أن نزورك، يجب أن نعودك، توجد أعذار مقبولة عند الله وعند الناس، توجد أعذار غير مقبولة كالتكاسل.

أرجو الله سبحانه وتعالى أن نتابع هذه الآيات في الدرس القادم بدءاً من قوله تعالى:

﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)﴾

[ سورة الفتح ]

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور