وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة الفتح - تفسير الآيات 11 - 18 - صلح الحديبية 1-3 المفاوضات مع رسل قريش وبيعة الرضوان
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

معرفة سيرة رسول الله فرضُ عين على كل مسلم: 


أيها الأخوة الكرام؛ مع الدرس الثاني من سورة الفتح.

أيها الأخوة؛ ذكرت لكم في الدرس الماضي أن آيات سورة الفتح لها أسباب نزول، إنّ هذه الأسباب كامنة في صلح الحديبية وفتح مكَّة، وبعض آيات القرآن الكريم المتعَلِّقة بأسباب نزولٍ خاصَّة لا تتبدى، ولا تتضح، ولا تنكشف حقيقتها، ولا تظهر أبعادها إلا إذا عرفت الأسباب التي نزلت بسببها، فلذلك أردت أن بكون هذا الدرس والذي يليه إن شاء الله تعالى في صلح الحديبية، وسوف أَرَكِّز على السيرة لأنني أعتقد اعتقاداً جازماً أنَّ معرفة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضُ عين، والدليل ما قاله علماء الأصول: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض، وما لا تتم السنَّة إلا به فهو سنَّة" ، الصلاة فرض لكن لا تتم إلا بالوضوء، فالوضوء إذاً فرض، الله جلَّ جلاله يقول:

﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)﴾

[ سورة الحشر ]

 

معرفة السنَّة فرض عين بِشِقَّيها القولية والعملية:


كيف أعرف ما أمرني به رسول الله وما نهاني عنه إلا أن أقرأ سيرته القولية؟ إذاً معرفة سنة رسول الله القولية أي الأحاديث فرض عين لأن السنة مُبَيِّنَة، حينما قال الله عزَّ وجل:

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)﴾

[  سورة الأحزاب ]

كيف يكون النبي عليه الصلاة والسلام أُسْوَةً حسنةً لنا إن لم نقف على حقيقة مواقفه وسيرته وأفعاله؟ إذاً يجب أن نعتقد بادئ ذي بدء أن معرفة السنَّة فرض عين بِشِقَّيها القولية والعملية.

كنت في ندوة قبل قليل طُرِح سؤال: ألا نكتفي بالقرآن الكريم؟ فكان جوابي إن الذي يكتفي بالقرآن الكريم ولا يعبأ بالسنة فإنه يُخالف القرآن الكريم، لأن القرآن الكريم يأمرك أن تأخذ ما أمرك به النبي، وأن تنتهي عما نهاك عنه النبي، وأن يكون النبي لك أسوة حسنة، إذاً معرفة الأحاديث شيء طبيعي جداً، لكن يجب أن تألفوا أيضاً أن قراءة السيرة بدقةٍ وإحكام جزءٌ من الدين، جزءٌ من عقيدتك، لأن هذا الإنسان الكامل الذي هو النبي عليه الصلاة والسلام معصومٌ عن أن يخطئ؛ لا في أقواله، ولا في أفعاله، ولا في إقراره، هذا الإنسان الكامل حياته كلّها بكل ما فيها  تشريع، أقواله تشريع، أفعاله تشريع، إقراره إذا سكت، صحابي تكلَّم كلاماً أمامه، سكوت النبي إقرار، هذا الكلام كلام الصحابي من السنة لأنه عليه الصلاة والسلام لا يسكت عن الخطأ.

(( عَنْ أُمِّ الْعَلَاءِ امْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ بَايَعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اقْتُسِمَ الْمُهَاجِرُونَ قُرْعَةً فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ، وَغُسِّلَ، وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ - النبي موجود، لو سكت كان كلامها صحيحاً- فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ؟ فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ؟ فَقَالَ: أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي ؟ قَالَتْ: فَوَ اللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا.))

[ صحيح البخاري ]

 

حياة النبي ليست أحداثاً عفويةً إنما هي مُقَدَّرَةٌ لحكمةٍ بالغةٍ:


ثمَّ إني ذكرت في الدرس الماضي أن في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام دلالاتٌ تشريعية، وأن النبي عليه الصلاة والسلام حياته ليست أحداثاً عفويةً، وما جرى في حياته من مواقف، ومن أزمات، ومن أحداث، إنما هي مُقَدَّرَةٌ لحكمةٍ بالغةٍ بالغةٍ بالغة، موقفه عليه الصلاة والسلام من هذه الأحداث أيضاً تشريع، لذلك يمكن أن ترى التشريع في كلام الله، ويمكن أن ترى التشريع في أقوال رسول الله، ويمكن أن ترى التشريع في أفعال رسول الله، ونظراً لأن في سورتَي محمدٍ صلى الله عليه وسلم والفتح توجد آياتٌ كثيرة متعلقة بصلح الحديبية وفتح مكَّة، وهذه الآيات لا تُفْهَم، ولا تتضح، ولا تنجلي على حقيقتها، إلا إذا درسنا صلح الحديبية وفتح مكَّة دراسة وَعْي واستنباط.

أيها الإخوة؛ قالوا: الكون قرآنٌ صامت، والقرآن كونٌ ناطق، والنبي عليه الصلاة والسلام قرآنٌ يمشي، لأن السيدة عائشة كانت تقول: " كان خلقه القرآن" عليه أتمّ الصلاة والسلام.  


كلَّما كانت الرؤيا واضحةً وذات دلالة فهي إعلامٌ من الله مباشر لهذا المؤمن: 


النبي عليه الصلاة والسلام أخبر أصحابه الكرام أنَّه رأى في النوم أنه دخل مكَّة، من أجل أن تعرفوا ملابسات هذا الصلح، الإنسان يتعلَّق ببلده، فمكة بلد النبي عليه الصلاة والسلام، فيها أهله، وأقرباؤه، وأنسباؤه، وبنو رَحِمه، وقد ابتعد عن مكَّة سنواتٍ طويلة، وناصبته العِداء، حروب وعداوات، وتنكيل وإخراج وقتل، شيء يُنهِك الطرفين، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام أخبر أصحابه أنه رأى في المنام أنه دخل مكة هو وأصحابه:

﴿ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)﴾

[ سورة الفتح ]

وأنه دخل البيت وأخذ مفتاحه، وطاف مع أصحابه واعتمر، هذه رؤيا النبي، ورؤيا الأنبياء حقّ، سيدنا إبراهيم قال:

﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)﴾

[ سورة الصافات ]

لم يقل له: افعل ما ترى، قال له: ﴿افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ فحينما رأى النبي عليه الصلاة والسلام أنه دخل مكة، واعتمر مع أصحابه، هذه الرؤيا حق وهذه بِشارة، وأحياناً المؤمن يرى رؤيا واضحةً كَفَلَقِ الصبح، كلَّما كانت الرؤيا واضحةً وذات دلالة فهي إعلامٌ من الله مباشر لهذا المؤمن، لذلك ورد في الأحاديث: عن أبي سعيد الخدري:

(( الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّة. ))

[ صحيح البخاري ]

أي طريقة إعلام مباشر، لكن هذا الدين المنام لا يجوز أن تُتاجر به، ولا أن تستنبط منه أحكاماً تشريعية، المنام لك وحدك بِشارةٌ أو تحذير، لك وحدك، لا يُروى، ولا يُتاجر به، ولا يُتحدَّى به الناس، إنما هو من أجل تطمينك أو تحذيرك. 

 

تلبية النبي عند خروجه للعمرة تنطوي على دعوة أن تعال إليَّ يا عبدي:


طبعاً حينما أخبر النبي أصحابه فرحوا فرحاً شديداً، ثم أعلمهم أنه يريد الخروج للعمرة فتجهَّز المسلمون للسفر، وخرج عليه الصلاة والسلام معتمراً ليأمن أهل مكَّة ومن حولهم من حَرْبِهِ، وليعلموا أنه صلى الله عليه وسلم إنما خرج زائراً للبيت، ومعظِّماً له ليس غير، هذه لست غزوة وليست حرباً إنما هي محض عمرة لوجه الله عزَّ وجل، وكانت تلبية النبي عليه الصلاة والسلام: "لبَّيك اللهمَّ لبَّيك، لا شريك لك لبَّيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك" ، وهذه التلبية تنطوي على دعوة، أي تعال إليَّ يا عبدي، الله عزَّ وجل تمشياً مع طبيعة الإنسان المادِّية اتخذ بيتاً في الأرض، ودعاك إليه، من أجل أن يُكرِمك فيه، إن بيوتي في الأرض المساجد، وإن زوارها هم عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني، وحُقّ على المزور أن يكرم الزائر، واستعمل النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة عبد الله بن أم مكتوبٍ على الصلاة، وهذا من نظام النبي، دائماً يستخلف حينما يغزو أو يسافر من ينوب عنه في إدارة شؤون المدينة، هذا تنظيم إداري أيضاً، واستنفر النبي العرب ومن حوله من أهل البوادي ممن أسلم من غِفار، وقبيلة أَسْلَم، ومُزَينة، وجُهَيْنة. 

 

تخلف المنافقين عن الرسول خوفاً من العاقبة:


تخلَّف بعض الأعراب المنافقين، المنافق كسول، المنافق مُثَبِّط، المنافق يتخلَّف، المنافق يُنفق وهو كاره، المنافق يقوم إلى الصلاة كَسْلان، المُنافق يفرح بمصيبةٍ ألمَّت بمؤمن، الْمُنَافِقِ:

(( آيةُ المنافقِ ثلاثٌ؛ إذا حدَّثَ كذبَ، وإذا وعدَ أخلفَ، وإذا اؤتمنَ خانَ ، وفي رواية إذا حدَّثَ كذبَ وإذا عاهدَ غدرَ وإذا خاصمَ فجرَ. ))

[ ابن كثير المصدر:تفسير القرآن العظيم: حكم المحدث: صحيح ]

وإذا دعي إلى القتال أو إلى الحَجِّ والعمرة توانى وتكاسل، ماذا قال الله عزَّ وجل؟ قال:

﴿ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)﴾

[ سورة الفتح  ]

أراد النبي أن يخرج هو وأصحابه ومَنْ حول المدينة من المسلمين ولو كان إسلامهم حديثاً، أن يخرجوا جميعاً معتمرين، بل إنَّ بعض الأعراب ظنَّوا –دقق الآن- أن النبي لن يرجع إلى المدينة، سيقتل هناك، قريش بينها وبين النبي دماء وحروب، فإذا خرج النبي وأصحابه إلى مكَّة معتمراً توقع هؤلاء وهم سيئو الظن أنه لا بدَّ من أن تنشأ معركةٌ حاسمةٌ ينتصر فيها الكفَّار.

 

المؤمن عليه أن يتفاءل لا أن يستسلم ويضعُف لأن الأمر بيد الله:


 لذلك قال تعالى:

﴿ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)﴾

[ سورة الفتح  ]

الحقيقة هذا شيء مستمر، المنافق يقول لك: لن تقوم للمسلمين قائمةٌ بعد اليوم، لماذا؟ يقول لك: لأن العالَم كلَّه أجمع على حربهم، وعلى تفتيتهم، وعلى إضعافهم، وعلى إفقارهم، لا يرى أن الله عزَّ وجل بيده الأمر، لا يرى أن الله يحكم ولا مُعَقِّب لحكمه، لا يرى أن الله إذا أراد شيئاً كان هذا الشيء، المؤمن عليه أن يتفاءل، عليه أن يرجو رحمة الله ، عليه أن ينتظر وعده، لا عليه أن يستسلم، ولا أن يستخزي، ولا أن يضعُف، ولا أن يهون، ﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ﴾ بالله، هل الله يتخلى عن نبيِّه؟! يتخلى عن المؤمنين؟! وهذا الكلام دائم وكذلك لا يتخلى عن المؤمن،  يعالجه ولا يتخلى عنه، يؤدبه، يضيِّق عليه، لكن المؤمن ضمن دائرة العناية المشددة. 

 

حكمة النبي الكريم من تقليد الهدي وعدم حمل الدروع عند خروجه من المدينة:


غادر النبي عليه الصلاة والسلام المدينة بعد أن اغتسل ببيته، ولبس ثوبين، وركب راحلته القصواء، وخرجت معه أم سلمة من زوجاته، ومعه الأنصار والمهاجرون ومن لحق بهم من العرب، وساق معه من الهدي سبعين بدنة- أي ناقة- وأشعر رسول الله بعضها، لطَّخ جنبها الأيمن بالدَّم إشعاراً أنها هديٌّ لبيت الله الحرام- لله عزَّ وجل- وجعل في عنقها قلادةً إشعاراً بأن هذا هديٌّ لله عزَّ وجل- هذا تقليد جاهلي أقرَّه النبي- أي الغنم الذي يُساق للذبح تقرباً إلى الله عز وجل يشعره أصحابه بلطخة دم على جنبه الأيمن وبقلادة توضع في عنقه، وبذلك قطع النبي صلى الله عليه وسلم على قريشٍ كل حجَّة عندما جلَّل الهَدي وأشعره وقلَّده، ولم يحمل المسلمون من السلاح إلا السيوف في القُرَب، سلاح شخصي فردي، لا توجد دروع، أي أشعر قريشاً أنه جاء معتمراً ليس غير، لذلك من عادة العرب في الجاهلية أن الذي يصُدّ الناس عن بيت الله الحرام يسقط من نظر الناس، والنبي لحكمةٍ بالغة حينما جلَّل الهدي، وأشعره، وقلَّده، ولم يحمل الدروع، واكتفى بالسلاح الشخصي، أراد أن يُحرج قريشاً، أنا جئت معتمراً فإن منعتموني سقطتم أنتم.

وكان المسلمون ألفاً وأربعمئة رجل، ليس معهم سلاحٌ إلا السيوف ولا دروع مع مئتي فرس، سيدنا عمر رضي الله عنه وهو عملاق الإسلام قال: يا رسول الله ألا تخشى من أبي سفيان وأصحابه ولم تأخذ للحرب عُدَّتها؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "لست أحبّ حمل السلاح معتمراً" .

 

الإسلام قوة وحكمة:


 دققوا في خطة النبي، قيل: "المؤمن كيسٌ فطِنٌ حذر" ، ماذا فعل النبي؟

أرسل بشر بن سفيان الخُزاعي عيناً إلى مكَّة، الآن المعلومات أخطر شيء في اتخاذ القرارات، وكل إنسان معلوماته غير صحيحة فإن قراره غير حكيم، لا تستطيع أن تتخذ قراراً حكيماً إلا بمُعطيات صحيحة، فالنبي على أن الأمور كانت بدائية لكنه عاقل وحكيم، أرسل من يخبره عن أهل مكَّة، وعن أحوالهم، وعن موقفهم من عمرة النبي عليه الصلاة والسلام، أرسل بشر بن سفيان الخزاعي عيناً له إلى مكَّة، وعاد بشر وقال -الآن دققوا في موقف قريش-: يا رسول الله هذه قريشٌ قد سَمْعَت بخروجك، واستنفروا من أطاعهم من الناس، وأجلبت ثقيف معهم، ومعهم النساء والصبيان، ومعهم العود المطافيل-أي النياق مع وليداتها- أي استعدوا استعداداً كبيراً جداً، وساقوا معهم نساءهم وأطفالهم لئلا يتراجعوا، وساقوا معهم زادهم ونوقهم كي يمدّوهم بالطاقة، ولبسوا جلود النمر مظهرين العداوة والحقد، ونزلوا بذي طوى يعاهدون الله ألا يدخلها عليهم عنوةً أبداً، أنت تلاحظ أحياناً أن الكافر عداوته غير معقولة، عداوته شديدة جداً، عداوته ليس فيها اعتدال، لم يفعل النبي شيئاً، أراد أن يعتمر فقط، هل يحتاج هذا الأمر إلى كل هذا الاستعداد؟! خيول، ونوق، ونساء، وولدان، ولبسوا جلود نمور؟

سيدنا خالد لم يكن قد أسلم بعد، قد قدِم إلى كراع الغميم حول المدينة بمئتي فرس، فأمر النبي الكريم رداً على هذا الاستفزاز عبَّاد بن بشر فتقدَّم بخيله فأقام إزاءَه، الحياة مُعَقَّدة جداً، إن لم تكن قوياً أكلك الأقوياء، إن لم تكن حكيماً غلبك الحكماء، إن لم تكن مستعداً غلبك من استعد، فالإسلام ليس معنى هذا موقفاً بسيطاً ساذجاً، فلما قريش أرسلت سيدنا خالد -وقتها كان مشركاً- إلى ظاهر المدينة بمئتي فارس النبي أرسل من يقف أمامه، عبّاد بن بشر وجعلت قريشاً على الجبال عيوناً ترقب حركات المسلمين، فالإنسان هو الإنسان، والوسائل مختلفة، أما الحقائق فواحدة، الآن بالأقمار الصناعية تُرصد حركاتنا، وقتها أرسلت قريشٌ رجالاً وقفوا على رؤوس الجبال عيوناً على تحرُّكات المسلمين، ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم أن قريشاً تريد منعه من بيت الله الحرام قال: أشيروا عليَّ أيها الناس؟ الله أمره: 

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)﴾

[ سورة آل عمران ]

حينما يسأل الإنسان يأخذ أفكاراً جديدة، سيدنا عمر كان يستشير الصِغار أحياناً لحِدَّة ذكائهم، يستشير النساء في أمر النساء، يستشير السيدة حفصة في المدة التي تتحمَّلها المرأة بعيدة عن زوجها، استشار السيدة عائشة في حياة النبي الخاصَّة، فالمشاورة أمر إلهي، وكل إنسان يستبدّ برأيه مخالف لمنهج الله عزَّ وجل، وقالوا: "من استشار الرجال استعار عقولهم" ، والله عزَّ وجل أمر النبي أن يشاور، فمن أنت؟ ووصف المؤمنين فقال:

﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)﴾

[ سورة الشورى ]

فالنبي قال: أشيروا عليَّ أيها الناس أتريدون أن نَؤمَّ البيت فمن صدَّنا عنه قاتلناه؟ فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله خرجت عامراً لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرباً فتوجَّه له فمن صدَّنا عنه قاتلناه، ما دام خرجت فَسِر على بركة الله من صدنا عنه قاتلناه، وحزن النبي الكريم أشدَّ الحزن لموقف قريشٍ ومبالغتها في الخُصومة، هناك دم، هناك قرابة، هناك نسب، وكان يتمنى أن تكون الرحمة والمودة مكان هذه الخصومة، فقال عليه الصلاة والسلام: فامضوا على اسم الله وعلى بركته فساروا، وقال النبي الكريم: يا ويح قريش نَهَكتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلَّوا بيني وبين سائر العرب فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوه، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، أي ماذا يمنعهم لو خَلّوا بيني وبين الاعتمار ببيت الله الحرام؟ قال عليه الصلاة والسلام: فلا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة. 

 

المؤمن سليم الصدر طيِّب الطوية أما الكافر فموقفه عدائي:


كلكم يعلم عندما عرضوا عليه الغنى، والمال، والنساء الجميلات، قال: والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يُظهره الله أو أهلك دونه.

سار النبي وأصحابه ووصلوا إلى مكانٍ قرب الحديبية، فبركت ناقته القصواء، فقال الناس: خلأت ناقة رسول الله -أي حرنت فألحوا عليها أن تنهض مصوتين لها: حل حل- فقال عليه الصلاة والسلام: عن المسور بن مخرمة:

(( ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل.  ))

[ صحيح البخاري ]

فيل أبرهة أحجمت عن اقتحام الكعبة، ووقفت ناقته صلى الله عليه وسلم أمام بيت أبي أيوب الأنصاري بالهجرة، قال: ولكن حبسها حابس الفيل، والذي نفس محمدٍ بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خصلةٍ يسألون فيها صلةَ الرحِمِ إلا أعطيتُهُم إياها، والله أيها الأخوة هذه حقيقة، تجد المؤمن سليم الصدر، طيِّب الطوية، رحيماً، متسامحاً، لا يوجد عنده حقد أبداً، لا يوجد عنده مشكلة، أما الكافر فموقفه عدائي، يستنفر، يرعد، يربد، يفور، يهمد، يضطرب، يعلو صوته، يتكلم كلاماً قاسياً، لم كل هذه العداوة؟ النبي الكريم وصف الفاجر: 

(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو   أَنَّ النَّبِيَ قَالَ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ». ))

[ صحيح البخاري ]

إذا خاصم فجر، قال: والله والذي نفس محمدٍ بيده لا تدعوني قريشٌ اليوم إلى خصلةٍ يسألون فيها صلة رحِمٍ إلا أعطيتهم إياها. 

 

موقف قريش العدائي من النبي عليه الصلاة والسلام:


أول شيء بعد أن وصل النبي إلى الحديبية واستقرَّ بها، أرسلت قريشٌ بعض الرسُل من هؤلاء الرسل بُديل بن ورقاء الخُزاعي وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم: جئناك من عند قومك كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد استنفروا لك الأحابيش ومن أطاعهم، معهم العود المطافيل، والنساء والصبيان، يقسمون بالله لا يُخَلّون بينك وبين البيت حتى تبيد خضراءهم، أي جاء رسول من قريش يخبره أن قريشاً أخذت عُدتها وأُهبتها وهي تُقسِم أنها لن تسمح لك بدخول البيت، فقال عليه الصلاة والسلام: إنّا لم نأت لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرَّت بهم، فإن شاؤوا ماددناهم مدَّةً ويخلّوا بيني وبين الناس، فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإن أبوا فلهم ذلك ، هذا الرسول عَلِم علم اليقين أن النبي صلى الله عليه وسلَّم سمع منه ورأى بعينه أنه لم يأت يريد حرباً، إنما جاء معتمراً زائراً معظِّماً حرمة هذا البيت الحرام، فقال هذا الرسول: سأبلغهم ذلك، فانطلق حتى أتى قريشاً فقال: إنا جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولاً فإن شئتم أن نعرض عليكم فعلنا، فقال سفهاء قريش: لا حاجة لنا أن تُخبِرنا عن شيء، وقال ذو الرأي: هات ما سمعته، فحدثَّهم بُديل بما قاله النبي، وقال: يا معشر قريش إنكم تعجلون على محمد، وإن محمداً لم يأت لقتالٍ، وإنما جاء زائراً هذا البيت، فقالت قريش: إن كان جاء لا يريد قتالاً فوالله لا يدخلها علينا في جنوده معتمراً، تسمع العرب أنه دخل علينا عنوةً وبيننا وبينهم من الحرب ما بيننا، والله لا كان هذا أبداً وفينا عينٌ تطرف، أول رسول سمع من النبي، رأى الوضع طبيعياً، بلَّغ قريشاً فلم تتحرَّك ولم تلن قَنَاتُها.

أرسلت قريش رسولاً آخر، هذا الرسول ماذا رأى؟ قال: اسمه الحليس، قال: إن هذا من قوم يتألهون- أي يعظِّمون الله عزَّ وجل- ويعظمون البدن والهدي، ابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه، طبعاً رأى كل ذلك وقال: إنما القوم أتوا عمَّاراً، فقال عليه الصلاة والسلام: أجل يا أخا بني كنانة ، وعاد الحُلَيْس إلى قريش وأخبرهم بما رأى وقال لهم: إني رأيت ما لا يحلُّ منعه، رأيت الهدي في قلائده قد أكل أوباره، والرجال قد شَعُثوا، فقالوا له: اجلس فإنما أنت أعرابي ولا علم لك، إنما رأيت من محمدٍ مكيدةً، فغضب الحُلَيْس من ذلك وقال: يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، يُصدّ عن بيت الله الحرام من جاءه معظِّماً؟ والذي نفس الحُلَيْس بيده لتخلّون بين محمدٍ وما جاء به أو لأنفرنّ بالأحابيش نفرة رجلٍ واحد. 

 

المبالغة في محبة الرسول الكريم وتوقيره من قِبل أصحابه الكرام:


انكشف موقف قريش، موقف عدائي، أول رسول قنع، والثاني قنع، أما الثالث فاسمعوا ماذا قال، له قولٌ بليغ، الثالث قال: هم ليوث غاباتٍ، وغيوث جدباتٍ، ما في عهودهم خورٌ، ولا في صفوفهم كدرٌ، ولا في خدودهم ثُغُرٌ، ولا في عيونهم خَزَرٌ- صغر- ولا في صدورهم وَغَرٌ، ولا في حديثهم زَوَرٌ، ولا في قولهم خَلْفٌ- هذه صفة أصحاب النبي- قال عروة: يا معشر قريش إني جئت كِسْرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، ما رأيت ملكاً في قومه قَطُّ مثل محمدٍ في أصحابه، لقد رأيت قوماً لا يسلمونه أبداً، فانظروا رأيكم فإن عرض عليكم رُشداً فاقبلوا ما عرض عليكم فإني لكم ناصح مع أني أخاف ألا تُنصروا عليه، وهذا دليلٌ على جودة عقله وتفطُّنه لما كان عليه الصحابة من المبالغة في محبة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وتوقيره، ومراعاة أموره، هؤلاء الرسل رأوا من هو النبي، ومن أصحاب النبي، وما هذا الحب الشديد، وما هذا التعاون المُعْجِز بين النبي وأصحابه، هذا كله رآه الرسل، فقالت قريش لهذا الرسول الثالث: لا تتكلَّم بهذا يا أبا يعفور ولكن نردَّه عامنا هذا ويرجع إلى قابل، لانوا قليلاً، معك الحق أن هذا العام لا يكون اعتماراً بل العام القادم.

 

بيعة الرضوان:


أرسل النبي عليه الصلاة والسلام رسولاً اسمه خِراش بن أمية، بعثه إلى قريش، وحمله على بعيرٍ له يُقال له ثعلب، ليبلِّغ أشرافهم عنه ما جاء له، ماذا فعلت قريش؟ عقروا جمل النبي الكريم، عقره عكرمة بن أبي جهل، وعكرمة بن أبي جهل صار من كبار الصحابة، الذي عقر الناقة لشدة العداوة والبغضاء والحقد هو عكرمة بن أبي جهل، عقر ناقة رسول الله والذي عليها رسوله الخاص، وأرادوا قتل الرسول، منعه الأحابيش فخلَّوا سبيله حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلَّم وأخبره بما لقي.

ما بقي إلا أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلَّم سيدنا عثمان بن عفَّان سفيراً له إلى قريش، النبي مع أصحابه في الحديبية وأول سفير من قريش والثاني والثالث، والثلاثة رأوا واقع النبي، أعجبوا وتمنوا لو تسمح قريش للنبي الكريم وأصحابه بالاعتمار، لكن قريشاً ركبت رأسها وأصرت على منع النبي، أما مع الرسول الثالث فقد لان موقفها قليلاً وقالت: هذا العام لا نسمح له، في العام القادم ممكن، دخل عثمان بن عفَّان رضي الله عنه مكَّة مع عشرةٍ من المسلمين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ليزورا أهاليهم، فلقيه أَبَان بن سعيد بن العاص فأجار عثمان حتى يبلِّغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وهم يردُّون عليه: إن محمداً لا يدخلها علينا أبداً، ولما فرغ عثمان من تبليغ رسالة النبي قالوا له: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف أنت وحدك، فقال رضي الله عنه: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله، أنا لا أطوف وحدي، قال بعض المسلمين: لقد خَلَصَ عثمان إلى البيت فطاف به دوننا، فقال عليه الصلاة والسلام: ما أظنّه طاف بالبيت ونحن محصورون ، النبي يَعْرِفُ قَدْر عثمان، قال: هذا لا يفعلها، أما سيِّئو الظن فقالوا: الآن سوف يطوف بالبيت، حلّ مشكلته الخاصة، قالوا: وما يمنعه يا رسول الله وقد خلص إليه؟ صار قريباً، فقال عليه الصلاة والسلام: ذلك ظنِّي به ألا يطوف بالكعبة حتى نطوف ولو مكث سنةً ما طاف بها حتى أطوف ، وقريش حَبَسَت سيدنا عثمان ثلاثة أيام، فبلغ النبي الكريم أن عثمان قد قُتِل وقُتِل معه العشرة الذين رافقوه، فقال النبي الكريم عند بلوغه ذلك: لا نبرح حتى نُناجز القوم ، ما دام أول رسول كادوا أن يقتلوه، وعقروا الناقة، والثاني قتلوه مع أصحابه العشر، الآن: لا نبرح هذا المكان حتى نناجز القوم ، وكانت بيعة الرضوان. 

 

مبايعة الصحابة الكرام النبي عليه الصلاة والسلام على الفتح أو الشهادة:


قال سلمة بن الأكوع: بينما نحن جلوسٌ عند رسول الله قائلون إذ نادى منادي رسول الله وهو عمر بن الخطَّاب: أيها الناس البيعة البيعة، فسِرنا إلى النبي الكريم وهو تحت الشجرة فبايعناه -في الطريق القديم بين مكة والمدينة في المنتصف يوجد مسجد البيعة- وبايعه الناس على عدم الفِرار، وأنه إما الفتح وإما الشهادة، ولم يتخلَّف منا أحدٌ إلا الجِدَّ بن قيس، قال ابن الأكوع: لكأني أنظر إليه لاصقاً بإبط ناقته يستتر بها، وكان من المنافقين، فما بايع، وكان سيد بني سلمة في الجاهلية، ولما سألهم النبي من سيِّدكم؟ قالوا: الجد بن قيس على بخلٍ فيه، فقال النبي الكريم: وأي داءٍ أَدْوَأ من البخل؟ هذا أكبر داء في الإنسان، فكيف هو سيدكم؟ بل سيدكم عمرو بن الجموح.

أخر شيء: طبعاً الصحابة الكرام بايعوا واحداً واحداً، تخلَّف هذا المنافق، والنبي الكريم بايع عن عثمان، وضع يده على يده وقال: هذه عن عثمان، "اللهمَّ هذه عن عثمان فإنه في حاجتك وحاجة رسولك فأنا أبايع عنه" ، فإذا كان الإنسان في حاجة الله ورسوله، في خدمة الخلق، في إكرامهم، في الإحسان إليهم، في الدعوة إليه، فإن هذا عملٌ عظيم، قال: اللهمَّ هذه عن عثمان فإنه في حاجتك وحاجة رسولك فأنا أبايع عنه ، فضرب بيمينه على شماله، وهذا يَدُلُّ على علم رسول الله بعدم صحة نبأ مقتل عثمان، لكن كانت هذه البيعة شحذاً لهمة الصحابة، ورفعاً لمعنوياتهم، وتزاحم الصحابة على بيعة رسول الله، بدأ البيعة أحد الصحابة وقال: إني أبايعك على ما في نفسك، هكذا قال الصحابي وهو سنان بن أبي سنان الأسدي، فقال النبي: وما في نفسي؟ أي كيف عرفت ما في نفسي؟ قال: أضرب بسيفي بين يديك حتى يُظهرك الله أو أُقتل، فصار الناس يقولون: نبايعك على بيعة سِنان، واحد واحد، واحد منهم بايع ثلاث مرَّات من شدة تعلقه برسول الله، طبعاً كان أُبَيِّ بن سلول كبير المنافقين معهم، فجاء ابنه عبد الله وهو من الصحابة الكرام، وهو أدرى بنفاق أبيه وقال: يا أبت أذكِّرك الله ألا تفضحنا في هذا الموقف، تطوف ولم يطف رسول الله، قم فبايع النبي، طبعاً صار هناك وضع آخر.

أيها الأخوة؛ هذه البيعة رضي الله عنهم بها جميعاً، والآية الكريمة: 

﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)﴾

[ سورة الفتح ]

إن شاء الله في درسٍ قادم نتابع هذا الصلح الذي سمَّاه القرآن الكريم: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)﴾ .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور