وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 35 - سورة البقرة - تفسيرالآيتان 87 - 88، نظام السببية
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الأخوة المؤمنون مع الدرس الخامس والثلاثين من دروس سورة البقرة.

كثرة الأنبياء التي أرسلها الله إلى بني إسرائيل ليست شهادةً لهم بل شهادة عليهم:

 مع الآية السابعة والثمانين والتي بعدها، يقول الله عزَّ وجل في القرآن الكريم:

﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) ﴾

 أيها الأخوة الكرام، كثرة أنبياء بني إسرائيل ليست شهادةً لهم ؛ بل هي شهادة عليهم، لأن الطالب المقصِّر يحتاج إلى عددٍ كبيرٍ من المدرِّسين، ولأن صاحب المرض المستعصي يحتاج إلى عددٍ كبيرٍ من الأطبَّاء، فكثرة الأنبياء التي أرسلها الله إلى بني إسرائيل ليست شهادةً لهم بل هي شهادةٌ عليهم.
 الشيء الآخر هو: أنه من لوازم كمال الله عزَّ وجل ألا يدع عباده من دون توجيه، من دون تكليف، من دون تبيين، قال الله عزَّ وجل:

﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى(12) ﴾

( سورة الليل )

 (على) إذا جاءت مع لفظ الجلالة تفيد الإلزام الذاتي، فكأن الله عزَّ وجل قال: يا عبادي عليّ أن أهديكم.

لا يمكن أن تتناقض إرادة الله عزَّ وجل:

 ما دام الله عزَّ وجل يقول:

﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى(12) ﴾

( سورة الليل )

 لا يمكن أن تتناقض إرادة الله عزَّ وجل، هذه حقيقة مهمَّة جداً، ما دام الله عزَّ وجل قال:

 

﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27)﴾

( سورة النساء: الآية "27" )

 وقال:

﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى(12) ﴾

( سورة الليل )

 إذاً لا يمكن أن يكون من إرادته الأخرى ما يمنع الهُدى، إنسان بسيط، طموحه أن يكون ابنه متعلِّماً، هذا طموح الأبٍ، هل يعقل أن يمنع ابنه من تأدية الامتحان ليرسُب ؟ مستحيل، ما دام طموح هذا الأب وأمله أن يكون ابنه متعلِّماً، والابن يدرس، هل يعقل أن يمنع الأب ابنه أن يؤدِّيَ الامتحان ؟ تناقضت إرادة الأب، أراد له أن يكون متعلِّماً، ثمَّ أراد أن يمنعه من دخول الامتحان، تناقضت الإرادات، فهذا لا يُقْبَل بحقِّ الإنسان فهل يُقْبَل بحق الواحد الديَّان ؟ مستحيل، لا تتناقض إرادة الله عزَّ وجل

﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ﴾

نظام الكون أساسه السببيَّة:

 قال تعالى:

 

﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾

( سورة هود: الآية "119" )

 خلقنا ليرحمنا، يستحيل أن يريد بنا العذاب، أراد لنا السعادة، والسلامة، والجنَّة، فأن يريد غير ذلك معناه أنه تناقضت إرادة الله عزَّ وجل، وهذا مستحيلٌ في حقِّ الله عزَّ وجل، إذاً:

 

﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ (87) ﴾

 بيَّنت لكم في الدرس الماضي ـ وهو مركز ثِقَلٍ في هذا الدرس ـ أن مشيئة الله شاءت أن يكون لكل شيءٍ سبب، نظام الكون أساسه السببيَّة، بل إن عقل الإنسان بُنِيَ على نظام السببيَّة، أنت لا تفهم شيئاً بلا سبب، كما أنك لا تفهم شيئاً بلا هدف، كما أنك لا تقبل التناقض هذا هو العقل، العقل جهاز مَعرفي، جهاز إدراكي، لا يفهم إلا وفق هذه المبادئ، وقعت في دمشق مثلاً جريمة، واتُهِمْ بها إنسان، لو أثبت هذا الإنسان بالدليل اليقيني أنه كان في حلب فهو برئ، لأنه لا يُعْقَل أن يكون الإنسان في دمشق وحلب في وقتٍ واحد، هذا هو العقل، هو يرفض التناقض.
 العقل يرفض أن يحدث شيء بلا سبب، إنسان يغادر منزله ويغلق أبواب البيت ويطفئ الكهرباء، فإذا رجع بعد أيَّام ووجد أن الكهرباء متألِّقة لماذا يضَّطرب ؟ لماذا ينفعل ؟ لماذا يقلق ؟ لو أنه عندما عبَّر عن قلقه قالت له زوجته: أطفئ المصابيح وأطفأها، لما انتهى مصدر قلقه لأن القضيَّة أخطر من ذلك، القضية من دخل إلى البيت في غيابنا ؟ لا يقبل أن تتألَّق المصابيح من دون فاعل، هذا هو العقل، العقل لا يقبل شيئاً من دون سبب، لا يقبل شيئاً من دون هدف.

 

أساس نظام عقل الإنسان السببيَّة:

 يرى الإنسان أحياناً ظواهر لا تعنيه، ولا تتصل بحياته إطلاقاً، ولا تتعلَّق بكل مصالحه ؛ فقد تجد شاحنة تحمل وقوداً سائلاً، وتجر سلسلة من الحديد وراءها، لماذا ؟ أنت موظَّف ليس لك علاقة بالنفط إطلاقاً، ولا بالشاحنات، ولا بالميكانيك، لماذا تبحث عن العلَّة وعن الهدف ؟ فإذا قيل لك: هذه من أجل أن تفرِّغ الصواعق، قد تأتي صاعقة فتحرق هذه المركبة، فإذا كان لها اتصال مع الأرض تُفَرَّغ هذه الصاعقة دون أن تتأذَّى المركبة، فالآن فُهِم الشيء، الإنسان أحياناً تحل مشكلته الماديَّة، لكن لا تحل مشكلته العقليَّة.
 كنت مرَّة أضرب هذا المثل: إذا وضعت قُرْصاً من البلور المقاوم للحرارة في إناءٍ فالحليب لا يفور، المشكلة حُلَّت، ضع هذا القرص في قعر الوعاء، وأوقد النار تحته، واذهب، فالحليب لا يفور أبداً، المشكلة حُلَّت، ولكن كيف ؟ حلت عن طريق العقل ؟ فقد عرفت أن هذا القرص يجمِّع الفُقَاعات ويخرجها من مكانٍ ضيِّق باندفاعٍ شديد، فتثقب هذه الطبقة التي هي السبب في فوران الحليب، توضَّح الأمر.
 هذا العقل أعظم منحة إلهيَّة للإنسان، هو أداة معرفة الله، خُلِقَ هذا الإنسان، وأعطي هذه القوَّة الإدراكيَّة ليتعرَّف إلى الله بها، فأساس نظام عقل الإنسان السببيَّة.
 مرَّة ثانية: أنت لا تفهم شيئاً بلا سبب، ولا تفهم شيئاً بلا هدف، أحد العلماء الغربيين آمن وكان أحد أسباب إيمانه بالله البقرة، قال: هذا الحليب الذي تعطيه البقرة، تعطي كمية حليب أضعافاً مضاعفة عما يحتاجه وليدها، يحتاج وليدها إلى كيلوين من الحليب في اليوم، وهي تعطينا أربعين كيلواً، معنى ذلك أن هذا الحليب خُلِق من أجل الإنسان، إن الذي خلق البقرة هو الذي خلق الإنسان، وهذا هو الغذاء الكامل، ولا بد أن يتوفر للإنسان مما يفيض عن حاجة وليدها.
 لو فكَّر الإنسان عن طريق نظام التغذية، أو عن طريق مبدأ الغاية، أو عن طريق مبدأ عدم التناقض لوصل إلى الله عزَّ وجل، فعندما تقتني سيارة، وتكون في أقصى مكان في العالم، وتحتاج سيارتك قطعة من الشركة الصانعة، هذه القطع تأتي إلى بلدك بعد حين، تضعها في المكان المناسب، فما دام المصنع واحداً فالقياسات كلها واحدة.
 طبيب يدرس الطب في أمريكا، والدواء مصنَّع في كندا، والمريض في اليابان يأخذ هذا الدواء فيسكن ألمه، لولا أن بنية الأشخاص في العالم واحدة، مكان الأجهزة واحد، مكان الشرايين واحد، مكان الأعصاب واحد، ليس هناك معنى لتدريس الطب في العالَم هناك وحَدَة وهناك تباين، من حيث البُنية هناك تطابق تام بين كل البشر، لو أن شركة صنعت مليون سيارة، فكل الأجهزة وقطع الغيار واحدة في أي مكان فإذا اشتريت منه تأتي في المكان الصحيح لأن الصانع واحد، فالقياسات كلها واحدة، إذاً قضية مبدأ السببيَّة، ومبدأ الغائيَّة وعدم التناقض، هذه بُنية العقل البشري.

ربنا جلَّ جلاله من حينٍ إلى آخر عن طريق المعجزات يعطِّل الأسباب أو يُلغيها:

 لماذا خلق الله في هذا العقل البشري نظام السببيَّة ؟ من أجل أن تصل إليه، لو أن عقلك يقبل شيء من دون سبب لقبل الكون من دون إله، لو أن نظام العقل يقبل أن يوجد شيء بلا سبب من باب أولى أن تقبل هذا الكون من دون إله، لكن لأن عقلك لا يقبل شيئاً من دون سبب إذاً أنت لا تقبل الكون من دون مكوِّن، ولا خَلْقَاً من دون خالق، ولا نظاماً من دون منظِّم، ولا حكمةً من دون مُحْكِم، ولا علماً من دون عالِم، هذا الذي أراده الله عزَّ وجل، إذاً كل شيء له سبب.
 لكن هناك منزلق خطير وهو: أن تظن أن السبب هو خالق النتيجة، استغنيت عن الله عزَّ وجل، فهذا المبدأ من أجل أن تصل إلى الله، لكن يمكن أن ينحرف الإنسان فيؤلِّه السبب، إذا ألَّه السبب استغنى عن المسبِّب، لذلك فإن ربنا جلَّ جلاله من حينٍ إلى آخر عن طريق المعجزات يعطِّل الأسباب، أو يُلغي الأسباب، السبب موجود ولا توجد نتيجة، أو هناك نتيجة بلا سبب، سيدنا عيسى عليه وعلى نبيِّنا أفضل الصلاة والسلام كانت ولادته معجزة، من أمٍ بلا أب، معنى ذلك أن السبب يرافق النتيجة ولا يخلقها، مشكلة العالَم في كلمتين ؛ فريقٌ في الغرب ألَّه الأسباب فأشرك، وفريقٌ في الشرق لم يأخُذ بالأسباب فعصى، الغربيِّون أخذوا بالأسباب وألَّهوها فعبدوها من دون الله، ظنوا أنهم إذا كانوا أقوياء إذاً فالمستقبل لهم ولم يعبؤوا بالدين، عصوا، وفجروا، وظلموا، وطغوا، وبغوا، لأن معهم قوَّة، القوَّة سبب، والسبب له نتيجة السيطرة، فلماذا طاعة الله عزَّ وجل ؟ وفي الشرق من توكَّل تواكلاً غير شرعي، لم يأخذ بالأسباب، فوقع في معصية عدم الأخذ بالأسباب:

 

﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً(83)إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً(84)فَأَتْبَعَ سَبَباً(85) ﴾

( سورة الكهف)

 الموقف الكامل الذي ذكرته في الدرس الماضي والمسلمون اليوم في أمسِّ الحاجة إليه: أن يأخذوا بالأسباب وكأنَّها كل شيء، وأن يتوكَّلوا على الله عزَّ وجل وكأنَّها ليست بشيء، لئلا يقعوا في وادي الشرك حينما تؤلَّه الأسباب، ولئلا يقعوا في وادي المعصية حينما لا يؤخذُ بالأسباب، القضيَّة الكبرى في وجود سيدنا عيسى هي خلقه من دون أب، ليعلمنا الله عزَّ وجل أن السبب ليس هو الخالق، الخالق هو الله.

 

معاكسة شهوتك ثمن جنَّة ربِّك:

 العقيدة الصحيحة هي أن السبب يترافق مع النتيجة فقط، من أجل تنظيم الحياة، ومن أجل الوصول إلى الله، لكن السبب لا يخلق النتيجة إطلاقاً، فسيدنا عيسى ولِد من دون أب، وحوَّاء ولِدَت من دون أم، وأحياناً أب وأم يُنجبان، وأحياناً أخرى زوج شاب وزوجته شابَّة ولا ينجبان، جعلهما الله عقيمَين، إذاً لدينا ثلاث حالات: سبب بلا نتيجة، نتيجة بلا سبب، سبب بنتيجة:

 

﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ (87) ﴾

 قال علماء التفسير: كان جبريل عليه السلام معه دائماً، مؤيده:

 

﴿ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) ﴾

 هناك مشكلة، المشكلة هي أن ثمن الجنَّة هو التناقض بين التكليف والطَبع، الإنسان يشتهي أن ينام، والتكليف يأمره أن يستيقظ، فإذا عاكس رغبته في النوم وصلَّى الفجر يرقى عند الله، طبع الإنسان يقتضي أن يملأ عينيه من محاسن النساء، والتكليف يأمره بغض البصر، فإذا عاكس شهوته وغضَّ بصره يرقى عند الله، يقتضي طَبع الإنسان أن يأخذ المال، والتكليف يأمره أن ينفق المال، فإذا عاكس شهوته وأنفق المال يرقى عند الله، أن تعاكس شهوتك هو ثمن جنَّة ربِّك، بدليل قول الله عزَّ وجل:

 

﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى(40)فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى(41) ﴾

( سورة النازعات)

أنواع المعاصي:

 قال تعالى:

 

﴿ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) ﴾

 طبعاً التكذيب جريمة، إنسان معه دليل، إنسان أرسله الله ليسعدك، لينقذك من الشقاء، ليجعلك معافىً سليماً سعيداً في الدنيا والآخرة فكذَّبته، وأشد من التكذيب القتل:

 

﴿ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) ﴾

 المعاصي نوعان: معاصي استكبار، ومعاصي غَلَبَةَ:

(( الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار))

[الجامع الصغير عن ابن عبَّاس رضي الله عنه ]

 العبد عبدٌ والرب رب، ليس من شأن العبد أن يستكبر، ليس من شأن العبد أن يُعَظَّم، فمن رأى نفسه عظيماً واستكبر أن يطيع الله عزَّ وجل فقد وقع في ضلال كبير، إنسان مثقَّف ثقافة عالية جداً، يحتل مركزاً علمياً مرموقاً، لا يصوم رمضان، هو أرقى من أن يصوم مثلاً، لا يصلي هذا منعه الكبر أن يصلي، كنَّا مرَّة في تشييع جنازة، وطبيب من ألمع أطبَّاء دمشق، وهو شخص يحتل منصباً رفيعاً في الجامعة لم يدخل ليصلي، هو أكبر من أن يصلي لله عزَّ وجل ؟! هكذا يرى نفسه !!!

 

﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ﴾

( سورة الإنسان )

 هل يذكر يوم كان طفلاً صغيراً في بطن أمِّه، يوم خرج لا يفقه شيئاً:

﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً ﴾

(سورة النحل: الآية " 87 " )

 بعد أن ارتقى، وحمل شهادة عالية أهو أكبر من أن يصلي في مسجد ؟!

قد يخطئ الإنسان أما حينما يستكبر فهو قد قطع ما بينه وبين الله :

 قال تعالى:

﴿ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) ﴾

 وقال:

 

﴿ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ (87) ﴾

 لذلك أيها الأخوة أضرب لكم هذا المثل الذي ضربته لكم كثيراً: إنسان جاءه ضيوف وعنده كيلو لبن، والضيوف كُثُر، يمكن أن يضيف لهذا الكيلو من اللبن خمسة كيلو من الماء، ويجعله شراباً طيباً مستساغاً بارداً في الصيف، لكن هذا الكيلو من اللبن لو أضفت له قطرة من زيت الكاز يفسد، يتحمَّل خمسة أضعافه ماء ولا يتحمَّل قطرة نفط أبداً، تلقيه في المُهملات، لذلك قد يخطئ الإنسان أما حينما يستكبر فهو قد قطع ما بينه وبين الله، حينما يستكبر سار في طريقٍ مسدود.

 

حينما يفتقر الإنسان إلى الله يأتيه من الله المَدَد:

 أخواننا الكرام، لدينا درس بليغ جداً، درس بدر ودرس حنين، والذين وقع عليهم الدَرسان أصحاب رسول الله، في بدر قال:

﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ﴾

(سورة آل عمران: الآية " 123 " )

 إذا قلت مستغيثاً: يا الله، يقول لك الله: لبَّيك يا عبدي، فأنت حينما تفتقر إلى الله يأتيك من الله المَدَد، وحينما تفتقر إلى الله يمنحك الله قوَّته وهو القوي، وحينما تفتقر إلى الله يمنحك الله غناه وهو الغني، وحينما تفتقر إلى الله يمنحك الله حكمته وهو الحكيم، وحينما تفتقر إلى الله يمنحك الله رحمته وهو الرحيم، أما حينما تقول: أنا، أنا ابن فلان، أنا أحمل الشهادة الفُلانيَّة، نقطة دم لا تزيد عن حجم رأس دبوس لو تجمَّدت في مكان ما من دماغك لنسيت كل معلوماتك، وأصبح مكانه في مشفى الأمراض العقلية، حينما تقول: أنا، تخلَّى الله عنك، مَنْ الذين تخلَّى الله عنهم إلى حين ؟ أصحاب رسول الله:

﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ(25) ﴾

( سورة التوبة )

 أصحاب النبي وهم الذين بذلوا أرواحهم رخيصةً في سبيل الله، تخلَّى الله عنهم لأنهم قالوا: نحن.

كلمات مهلكات وردت في القرآن الكريم:

 قال العلماء: أربع كلمات مهلكات، أنا، ونحن، ولي، وعندي، قال إبليس:

 

﴿ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ﴾

( سورة الأعراف: الآية "12" )

 وقال قوم سبأ:

 

﴿ نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ ﴾

( سورة النمل: الآية " 33 " )

 فأهلكهم الله، وقال فرعون:

﴿ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ﴾

( سورة الزخرف: الآية " 51 " )

 فأهلكه الله، وقال قارون:

﴿ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ﴾

( سورة القصص: الآية " 78 " )

 فأهلكه الله عزَّ وجل ؛ فكلمة أنا، ونحن، ولي، وعندي، كلماتٌ مُهْلِكَات، إذا قلت: الله، تولاَّك، وإذا قلت: أنا، تخلَّى الله عنك، لذلك أكبر معصية الكبر، أن تستكبر، أن تنسى أنك من حوينٍ منويٍ، تستحي به لو أنه على ثوبك، نسيت أنك خرجت من عورة، ودخلت في عورة، وخرجت من عورة، نسيت أنك خُلِقْت من ماءٍ مهين.

(( بئس العبدُ عبد عَتَا وطَغَى، ونسَيَ المبتدأ والمنتهى ))

[الترمذي عن أسماء بنت عميس ]

حجمك عند الله بحجم عملك:

 نسي الإنسان أنه سوف يوضَع في حفرةٍ كائناً من كان، يدخل إلى هذه الحفرة أغنى أغنياء الأرض، وأقوى ملوك الأرض، وأحكم حكماء الأرض، وأذكى أذكياء الأرض في النهاية، وسيُشَّيع إلى مثواه الأخير، يوضَع في القبر لا يقال له: يا صاحب الجلالة، يقال له: يا عبد الله، سمعتم هذا بآذانكم، هكذا مصير الإنسان: عبدي رجعوا وتركوك، وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك ولم يبقَ لك إلا أنا وأنا الحيُّ الذي لا يموت.
 أعقل إنسان فينا من يعمل لهذه الساعة التي لا بد منها، آتيةٌ لا ريب فيها، آتيةٌ وكأنَّك وصلت إليها، يقول الله عزَّ وجل ـ دقِّقوا في هذه الآية ـ:

 

﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾

(سورة النحل: الآية " 1 " )

 معنى هذا أنه لم يأتِ بعد، ما معنى هذه الآية:

﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾

 أي نحن محكومون جميعاً بالموت مع وقف التنفيذ، كنت قبل يومين أمشي في أحد أسواق دمشق المزدحمة، قلت لصاحبي: أرأيت إلى كل هؤلاء الناس، بعد مئة عام لن تجد واحداً منهم فوق سطح الأرض، بل في مقبرة باب الصغير، أو في الجبل، تقرأ على الشاهدة المرحوم توفَّاه الله يوم كذا، الفاتحة، كلُّنا هكذا، هذا الجَمع في هذا المسجد بعد مئة عام، والله أعلم لن نجد واحداً منهم على سطح الأرض، سنصير كلُّنا أخباراً.
 قرأت مرَّة كتاباً عن قَصَص العرب، مؤلَّف من أربع أجزاء، كتاب ممتع جداً، بعد أن انتهيت من قراءته كانت لي منه موعظةٌ كبيرة، أن هؤلاء الذين عاشوا قبل مئات السنين، الأقوياء ماتوا، والملوك ماتوا، والضعفاء ماتوا، والكفار ماتوا، والأغنياء ماتوا، والفقراء ماتوا، والحكماء ماتوا، والحمقى ماتوا، كل هؤلاء الذين قرأت عنهم في أربعة أجزاء الكتاب هم تحت أطباق الثرى، لا ينفعهم إلا عملهم فقط، فحجمك عند الله بحجم عملك لذلك:

 

﴿ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) ﴾

كل إنسانٍ خلقه الله عنده استعدادٌ كامل أن يهتدي إلى الله وأن يسعد في الدنيا والآخرة:

 آية اليوم:

 

﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ (88) ﴾

 أيها الأخُ الكريم، حينما تعتقد أو تتوهَّم أن الله خلق إنساناً وجعله لا يهتدي فهذا خطأٌ شنيعٌ في العقيدة، كل إنسانٍ خلقه الله، خلقه وعنده استعدادٌ كامل أن يهتدي إلى الله وأن يعرفه، وأن يسعد في الدنيا والآخرة، أما أن الله قد خلق الإنسان كافراً فهذا مستحيل، إذا خلق الله عزَّ وجل الإنسان كافراً فلمَ يعذِّبه ؟ ما ذنبه ؟

ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له:  إياك إِياك أن تبتل بالماء
***

 إذا قدَّر عليه المعصية فلمَ يعذِّبه ؟ إذا خلقه مؤمناً فلمَ يدخله الجنَّة ؟ نحن في أنظمة حياتنا الدنيا هل من الممكن أن نعطي طالباً الأسئلة، قبل يومين، أو نعطيه أوراق الإجابة مكتوباً عليها الجواب الكامل بخط الأستاذ، ونقول له: اكتب اسمك ورقمك، فأخذ الدرجة الأولى على كل طلاَّب البلد، ثم أقمنا له حفلاً تكريميَّاً عظيماً لأنه نال الدرجة الأولى على كل الطُلاَّب، ليس لهذه الحفلة معنى إطلاقاً، هو لم يدرس إطلاقاً، قدَّم الأوراق مكتوبةً بخط الأستاذ، فنال الدرجة الأولى، فأُقيم له حفلٌ تكريمي، هذا الحفل لا معنى له إطلاقاً، شيء مضحك.
 طالب آخر مُنِع من أداء الامتحان فوبَّخناه أشدَّ التوبيخ، هذا التوبيخ لا معنى له، إنسان من بني البشر يترفَّع أن يفعل ذلك، مدير مدرسة جمع الطلاَّب في أول يوم من أيام العام الدراسي، وقرأ عليهم أسماء الناجحين في آخر العام سلفاً، وأسماء الراسبين، وقال: انطلقوا وادرسوا، فلن يدرس أحد، ولم يعد للدراسة معنىً عندئذٍ.
 حينما تؤمن أن الله خلق فيك الهدى من دون سببٍ منك، فأنت إذاً لا تعرف الله أبداً، أنت وصفت الله عزَّ وجل بما لا يليق به .

 

خلل كبير أن تعتقد أن الله أجبرك على الطاعة أو على المعصية:

 إذاً:

 

﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ (88) ﴾

 غُلف، نحن لم نهتد، أخواننا الكرام هذا ما يقوله معظم المسلمين: الله سبحانه لم يكتب لي الهدى، فلماذا ؟ يقول لك: سبحان الله، الله خلقنا ليعذبنا، وأيضاً يسبح الله عليها.

 

﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ (88) ﴾

 من قال لك كذلك ؟ لماذا شربت الخمر ؟ قال: والله يا أمير المؤمنين إن الله قدَّر عليَّ ذلك، ليس بيدي ـ طاسات معدودة بأماكن محدودة، ترتيب سيدنا ـ هكذا يقول لك. فقال سيدنا عمر: " أقيموا عليه الحد مرتين، قال له: مرةً لأنك شربت الخمر، ومرةً لأنك افتريت على الله، ويحك إن قضاء الله لم يخرجك من الاختيار إلى الاضطرار ".
 الله لم يجبرك، لو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب، ولو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب، ولو تركهم هملاً لكان عجزاً في القُدرة، إن الله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلف يسيراً، ولم يكلف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يعصَ مغلوباً ولم يطع مكرهاً.
 الخلل الكبير لمجرد أن تعتقد أن الله أجبرك على الطاعة أو على المعصية، عفواً لا يقول الناس إن الله أجبرنا على الطاعة، بل يقول أحدهم: أنا أطعت الله، أما متى يعتقدون بالجبر ؟ حينما يعصون الله عزَّ وجل، فيقول: الله ما أراد لي الهدى، كلام شيطان، كلام يتناقض مع القرآن.

 

آيات من القرآن الكريم تبين أن الله أمر عباده تخييراً ونهاهم تحذيراً:

 قال تعالى:

 

﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) ﴾

( سورة الإنسان)

 وقال:

 

﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ (148) ﴾

( سورة البقرة )

 وقال:

﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) ﴾

( سورة الأنعام )

 الخَرَصُ أشد أنواع الكذب، هذا الذي يقول: إن الله لم يشأ لي الهداية، يكذب على الله:

﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ﴾

( سورة النساء: الآية " 27 " )

 وقال:

 

﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ﴾

( سورة الليل )

 وقال:

 

﴿ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ﴾

( سورة النحل: الآية " 9 " )

 أي على الله بيان سبيل القَصد.

إذا عزي الإضلال إلى الله عزَّ وجل فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلالٍ اختياري:

 الإنسان حينما يعزو ضلاله إلى الله عزَّ وجل فقد ضل سواء السبيل، فإذا وجدت في القرآن آيةً يُستَدلُ منها أن الله أضل الإنسان فهذا هو الإضلال الجزائي المبني على ضلالٍ اختياري، لا بد من توضيح المثل:
 طالب في الجامعة لم يداوم إطلاقاً، ولم يؤدِّ امتحاناً، ولم يلتقِ بالأستاذ، والجامعة قدَّمت له عشرات الكتب التي تدعوه فيها إلى أن يعود إلى الجامعة، لم يداوم، ولم يؤدِّ امتحاناً، ولم يشترِ كتاباً، ولم يستجب للإنذارات، فَرُقِّن قَيده، وبعد أن رُقِّنَ قيده قال: إن هذه الجامعة أرادت لي ألا أدرس، ترقين قيدك في الجامعة تجسيدٌ لرغبتك تنفيذٌ لإرادتك، هذا هو المعنى فقط.
 لذلك إذا عزي الإضلال إلى الله عزَّ وجل فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلالٍ اختياري .

 

﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ (88) ﴾

 أي نحن لا نهتدي، فرد عليهم: لا، ولكن قال تعالى:

 

﴿ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ (88) ﴾

 هناك ثلاث آيات مهمات جداً، أساس هذه الآية:

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ(67) ﴾

( سورة المائدة)

 وقال:

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(51) ﴾

( سورة المائدة)

 وقال:

 

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(6) ﴾

( سورة المنافقون)

 من تلبَّسَ بالفسق لا يهديه الله عزَّ وجل، لأن فسقه حجابٌ بينه وبين الله، ومن تلبَّس بالظلم فالله عزَّ وجل لا يهديه لأن ظلمه حجابٌ بينه وبين الله، ومن تلبَّس بالكفر فالله عزَّ وجل لا يهديه لأن كفره حجابٌ بينه وبين الله.

 

الله عزَّ وجل يسيِّر كل المخلوقات عدا الإنس والجن :

 قال تعالى:

﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ (88) ﴾

 أي أبعدهم بكفرهم، وهذه الباء باء السببية، بسبب كفرهم، أي أن الإنسان إذا ابتعد عن الكفر، وابتعد عن الظلم، وابتعد عن الفسق، فهو معرضٌ لهداية الله عز وجل .
 أيها الأخوة الكرام حقيقةٌ مهمة جداً في هذه الآية وهي: أن الإنسان مخيَّر، هذه هويَّته عند الله، هو مخلوق مخيَّر، فلو أن الإنسان اختار الكفر لا يجبره الله عزَّ وجل على الإيمان، ولكن يدعوه إلى الإيمان، دون أن يجبره لأنه مخير، تصور أن صيدلياً أتى بطالب وظيفة ليعمل في صيدليَّته، أراد أن يمتحنه، هل هو أهل ليبيع أدوية ؟ وضع له بعض الأدوية على الطاولة، وقال له: وزِّع هذه الأدوية حسب الخزانات، هنا مثلاً أدوية معيَّنة للسُعال، هنا أدوية مضادة للإنتان، هنا أدوية سُمِّية، هنا أدوية معينة، فالآن يمتحنه، الآن الطور طور امتحان، فلو أمسك طالب الوظيفة هذا دواء سُمِّياً ووضعه مع دواء مثلاً من نوع آخر، إذا منعه من الحركة فهو لم يمتحنه، هو الآن في طور الامتحان، الممتحن حُر، هل من الممكن أن يقف مراقب فوق كل طالب ويقول له: غلط، اكتب هكذا ؟ هذا لم يعد امتحاناً معنى امتحان أن معه ورقة وقلم ويكتب ما يشاء، فإما أن ينجح أو أن يرسب.
 كثيرون لا يستوعبون قضية الاختيار، لو أن الإنسان اختار الكفر فإن الله عزَّ وجل لا يجبره على الإيمان، ولو أجبره لم يعد إنساناً، صار خشبة، لأن الله عزَّ وجل يسيِّر كل المخلوقات ما عدا الإنسان، والمَلَك يسيره، أما الإنسان مخيّر وحده مع الجن، إذا اختار الفسق لا يجبره على الاستقامة، لكن الله يدعوه إلى الاستقامة، يزينها له، يرَغِّبه فيها، يبين له ثمارها الطيبة، ولكن لا يجبره عليها، إذا اختار الإنسان الظلم لا يجبره الله عزَّ وجل على العدل، يقول الله عز وجل:

﴿ كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) ﴾

( سورة الإسراء )

لو أراد الله تعالى أن يجبرنا على شيءٍ لأجبرنا على الهدى:

 خلقنا الله عزَّ وجل مخيَّرين، لو أراد أن يجبرنا على شيءٍ ما لما أجبرنا إلا على الهدى، ولو شئنا أن نجبركم، وأن نلغي اختياركم لآتينا كل نفسٍ هداها، فعندما تريد الجامعة أن تنجِّح كل الطلاب فالقضية سهلة جداً، تعطيهم أوراقاً مطبوعاً عليها الجواب الكامل، فقط اكتب اسمك ورقمك، فالنتيجة: نجح كل الطلاب، الكل امتياز، هذا النجاح ليس له قيمة إطلاقاً، لا عند رئاسة الجامعة ولا عند الناس ولا عند الطلاب أنفسهم، هذا نجاح مضحك.

 

﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ (13) ﴾

( سورة السجدة)

 أنت مخيَّر، ولأنك مخير لك أن تفعل أو ألا تفعل، لك أن تصلي أو ألا تصلي، لك أن تكون صادقاً أو كاذباً، لك أن تؤمن أو تكفر، لك أن تستقيم أو تفسق، لك أن تُنفق أو أن تظلم، افعل ما تشاء، كل شيء بثمنه، العظمة في الجامعة لا أن ينجح كل الطلاَّب، لا أبداً، العظمة في الجامعة أن تأتي النتائج وفق المُقدمات، أن ينجح المتفوق وأن يحتل منصباً رفيعاً في الجامعة، وأن يطرد الكسول من الجامعة، روعة الجامعة تناسب النتائج مع المقدمات فقط، فالله عز وجل خلق الخلق ودعاهم إليه، وأمرهم أن يؤمنوا به، ورغَّبهم في الإيمان، وحذرهم من الكفر، وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، هم مخيَّرون.

 

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا (46) ﴾

( سورة فصلت)

 وقال:

 

﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) ﴾

( سورة الإنسان)

الهدى بيد الله لا يمنحه لظالم ولا لفاسق ولا لكافر:

 الإنسان مخيَّر ولو ألغي اختياره ما عاد إنساناً، فالله عزَّ وجل يقول الهدى موجود، ولكن شاءت حكمة الله عزَّ وجل أن يقول لك: الهدى بيدي، لكن لا أمنحه لا لظالمٍ ولا لفاسقٍ ولا لكافر.

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ(67) ﴾

( سورة المائدة)

 وقال:

 

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(51) ﴾

( سورة المائدة)

 وقال:

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(6) ﴾

( سورة المنافقون)

 يهدي من يشاء، يشاء من ؟ من لم يكن ظالماً يهديه الله عزَّ وجل، من لم يكن كافراً يهديه الله عز وجل، من لم يكن ظالماً يهديه الله عزَّ وجل.

﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ (88) ﴾

 يقول بعضهم: نحن لسنا مُهيَّئين للهدى، ما خلقنا الله مهتدين، هذا كلام الشيطان الرجيم، كلام الجهل، كلام الحُمق، كلام الغباء.

 

﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ (88) ﴾

 كفرهم سبب لعنهم، واللعن هو الإبعاد:

 

﴿ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ (88) ﴾

 في درس قادم إن شاء الله نتابع هذه الآيات:

 

﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) ﴾

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور