وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 4 - سورة الرعد - مكرر تم اخفاءه السيستم لا يقبل الحذف –
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

 أيها الإخوة المؤمنون... وصلنا في الدرس الماضي في سورة الرعد إلى قوله تعالى : 

﴿  قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ(16)  أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) ﴾ 

[ سورة الرعد ] 

 الواحد القهَّار هو الذي ﴿أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ .


أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا


كلُّ شيء في الكون بقدر وميزان :

 الأودية هي السيول، والأودية مَجْرَى السيول، ربنا -سبحانه وتعالى- حكيمٌ عليم، الأمطار بقَدَر، والأنهار بقدر، والينابيع بقدر:

﴿  إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ(49)  ﴾ 

[ سورة القمر  ] 

 ما من شيءٍ في الأرض إلا لو زاد عن حدِّه انقلب إلى ضدِّه؛ بُعْدُ الأرض عن الشمس، بُعْدُ الأرض عن القمر، بُعْدُ الشمس عن بقيَّة المجرَّات، نِسَبُ الهواء، طبيعة الماء، عتَبة الحواس، نِسَبُ الأغذية في الفواكه والثمار، ما من شيءٍ إلا والله -سبحانه وتعالى- يخلقه بقدَر ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ فهذه الأمطار تنزل من السماء بِقَدْرِ الأودية التي تسيل فيها ﴿أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً﴾. 

هذا الماء من الله :

 مَنْ فاعل أنزل؟ الواحد القهَّار، أنت كمؤمن حينما ترى المطرَ تنهمر كيف تفهم المطر؟ أن هناك منخفضاً جوياً متمركزاً فوق قبرص؟ توجَّه نحو الشرق الأدنى؟ أم ترى أن الله -سبحانه وتعالى- أنزل من السماء ماءً؟ لا يتعارض التفسير العلمي والتفسير الديني للظواهر الطبيعيَّة، لا يتعارضان، ولكنَّهما يتكاملان، إذا فَهِمْتَ أن المطر بفعل المنخفضات الجويَّة فهذا شركٌ بالله -عزَّ وجل-، أما إذا رأيت أن الله -سبحانه وتعالى- هو الذي أنزل المطر عن طريق هذه الأسباب، وهو مُسَبِّب الأسباب فهذا هو التوحيد، أن ترى أن الله -سبحانه وتعالى- أنزل، الواحد القهَّار أنزل من السماء ماءً، ماءً طهوراً .

هذه هي خصائص الماء :

 الماء لا لون له، ولا طعم له، ولا رائحة له، سريع التبخُّر، سريع الذوبان، بمعنى أن أي شيءٍ يُوضَع فيه يذوب عدا بعض العناصر، أي أن قابليَّته لذوبان المواد فيه، هذه كلُّها خصائص لو ألغيت واحدةً منها، لو أن للماء طعماً لأصبحت جميع المأكولات بهذا الطعم، لكرهت الماء وكرهت كل شيء، لو أن للماء رائحةً لما احتملت الماء، لو أن له لوناً لأصبح كل شيءٍ بهذا اللون لأن الماء داخلٌ في كل شيء ..

﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ  (30)﴾ 

[  سورة الأنبياء  ] 

 ما دام الماء أحمر اللون وهو داخلٌ في تركيب الفواكه كلِّها، إذاً جميع الفواكه ترونها حمراء اللون، لو أن للماء رائحةً وهو داخلٌ في جميع المواد الحيويَّة لرأيت هذه الرائحة مشتركة، لكرهت الماء، لو أن له طعماً، لا لون له، ولا طعم له، ولا رائحة له . 

 لو أن الماء يتبخَّر بدرجة مائة، إذا نظَّفت البيت بالماء فإن هذا البيت لا يجفُّ أبداً إلا إذا سَلَّطت عليه ناراً، لكنَّ الماء يتبخَّر بدرجة أربع عشرة فقط، سريع التبخُّر، سريع الانسياب، يدخل الماء في أدقِّ المَسام، لو لم يكن كذلك أي لو أنه لزج كالقَطر مثلاً كيف ننظِّف به؟ كيف يكون هذا الماءُ ماءً طهوراً؟ مستحيل، يجب أن تنظِّف الأشياء من الماء عندئذٍ . 

﴿أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً﴾  بهذه الخواص، لا لون له، لا طعم له، لا رائحة له، سريع التبخُّر، قابليَّته لذوبان العناصر فيه، انسيابه في أَدَقِّ المسامات، هذا كلُّه من خواص الماء. 


فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا 


ما هو الزبد ؟

﴿أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا﴾  أي على وجه السيل زبدٌ، حشائش، أشياء كثيرة تعلو، وتكبر حتى تحجب عن الناظر منظر الماء، قال عليه الصلاة والسلام : 

((  يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ فَقَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ قَالَ : حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ  )) 

[  أبو داود عن ثوبان  ] 

 فهذا الشيء الذي يعلو سطح السيل هو الزبد، أو هو الغثاء، في هذه الآية سمَّاه الله -سبحانه وتعالى-: ﴿زَبَدًا رَابِيًا﴾  يعني عالياً، نامياً، كثيراً، كبيراً قد يحجُب عنك منظر الماء، وسمَّاه النبي عليه الصلاة السلام: (غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ)  لا قيمة له، لا وزن له، لا ثمن له، لا ينفع الناس، لا يستخدمه الناس، لا يعبأ به الناس، لا يُعْنَوْنَ به. 


وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ


أهمية تخليص الذهب والحديد من الشوائب :

﴿فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ﴾  أي فلزات الذهب وفلزات الفضَّة إذا وُضِعَت في الأفران العالية من أجل أن تتميَّز الشوائب عن الذهب الخالص، وكذلك ابتغاء حليةٍ أي الذهب والفضَّة.

﴿أَوْ مَتَاعٍ﴾  أي الحديد، أي أن هذه المعادن لو أن الله -سبحانه وتعالى- جعلها في الأرض على شكل سبائك صافية، لو أن جبلاً من الحديد تصوَّر أنه يستحيل استخدام هذا الحديد، لكنَّ الله -سبحانه وتعالى- لحكمةٍ بالغة جعل الحديد على شكل فلزات مع التُراب، تحفر التراب، وتنقل التراب، تضع التراب في الأفران العالية، ينصهر الحديد، يرسو في قعر الفرن، ويبقى الزَّبَد في الأعلى، بهذه الطريقة يمكن استخدام هذه المعادن النافعة التي أوجدها الله على شكل فِلْزات مختلطة بالتراب .

﴿وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ﴾  لو نظرت إلى الفرن العالي لرأيت الشوائب، والتراب، والأجسام الغريبة التي لا علاقة لها بالحديد تعلو، وقد تنتفخ، وقد تربو حتى لتحجب عنك منظر الحديد نفسه، أو منظر الذهب نفسه، أو منظر الفضَّة نفسها. 

﴿وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ﴾  زبد السيل وزبد المعادن الثمينة.

مضرِب المثل :

 ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ﴾  الحقُّ كالماء، الحقُّ كالذهب، الحقُّ كالفضَّة، الحقُّ كالحديد، والباطل كالزبد الذي يعلو الماء، وكالزبد الذي يعلو الحديد والفضَّة والذهب. 

يذهب الزبد ويبقى المعدن :

 ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً﴾  يُلْقَى، يزهد الناس فيه، لا ينتبهون له، لا يُباع ولا يُشترى، لا قيمة له، لا ثمن له. 

﴿وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾  يبقى الماء الذي يُنْبِتُ النبات، يبقى الحديد الذي فيه منافع للناس، يبقى الذهب كوسيلةٍ لتقييم المواد، أي يبقى الذهب والفضَّة نقدان تُقَيَّمُ بهما المواد، ولحكمةٍ بالغة الله -سبحانه وتعالى- جعل الحديد كثيراً، وجعل الذهب والفضَّة قليلاً! فلو عُكِسَتْ الآية لاختلَّ الأمر، هذا الذي يُستخدَم كنقدٍ يجب أن يكون قليلاً، ولو أنه كان كثيراً لما كان صالحاً أن يُستخدم نقداً أو حليةً، له صفاتٌ عالية. 

أما الحديد فلأنَّ استعماله كثير يدخل في كل شيءٍ إذاً كان كثيراً، والحديد يصدأ، وصدأه نعمةٌ كبرى، لأن الحديد لولا أنه يصدأ لَمَا عشنا نحن، الحديد يدخل في تركيبنا، يدخل في تركيب الكُريات الحمراء في دمنا، كيف يدخل؟ أملاح الحديد، لولا أنه يتفاعل مع الأكسجين لما كان للحديد أي فائدة لجسم الإنسان، الحديد داخلٌ في مجموعةٌ كبيرة من المواد الغذائيَّة، فالعَدَسُ غنيٌّ بالحديد، التفَّاح والسفرجل غنيَّان بالحديد والدليل: أنك لو قطعت تفَّاحةً وعرَّضتها للهواء تفاعل أكسجين الهواء مع الحديد في التفَّاحة فاسودَّت، اسودادها واسوداد السفرجل، واسوداد أي فاكهةٍ فيها حديد دليل وجود الحديد، وكذلك بعض الخضراوات، إذاً تأكسده نعمةٌ كبرى من نِعَم الله -سبحانه وتعالى- . 


كذلك يذهب الباطل ويبقى الحق شامخا :


 ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً﴾  أي أن الباطل له جولةٌ ثمَّ يضمَحِلّ، الباطل مؤقَّت، الباطل طارئ، الباطل عارض، الباطل يأتي ويذهب، لكنَّ الحق مستقر ومستمر، الحقُّ يأخذ صفة الديمومة، الحق يأخذ صفة الاستمرار، الحق لا يتبدَّل، ولا يتغيَّر، ولا يقبل التعديل، ولا الحذف، ولا الإضافة، ولا التبديل، من علامات الحق أنه يَحِقُّ أي؛ يستقر . 

﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾  هنيئاً لمن كان مع الحق، والويل لمن كان مع الباطل، لأنك إذا ربطت نفسك بالحق فالحقُّ أبديٌّ سرمدي، وإذا ربطت نفسك بالباطل فالباطل مؤقَّتٌ زائل .. 

﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) ﴾ 

[  سورة الإسراء  ] 

 من صفاته الأساسية المُلازمة له التي إذا فُقدت أُلغي الباطل أنه سريع الزُّهوق، سريع الزوال، وشيك التحوُّل، سرعان ما ينكشف خلله، سرعان ما ينكشف خَطَلُهُ . 

 آيةٌ ثانية : 


لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ الْحُسْنَى


يا سعادة من آمن لله :

﴿ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَىٰ ۚ  وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) ﴾ 

[ سورة الرعد ] 

يا الله، الذي استجاب لله، سارع إلى تطبيق أمره، سارع إلى تنفيذ شرعه، الذي قرأ القرآن فعمل به، الذي سمع الحق فوعاه، الذي التزم الحق، الذي سمع مُنادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمن، هؤلاء الذين استجابوا، دعاهم الله فاستجابوا، دعاهم إلى ما ينفعهم فاستجابوا، دعاهم إلى ما يسعدهم فاستجابوا .

ما هي الحسنى ؟

 ﴿لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ الْحُسْنَى﴾  ما تعريف الحُسنى؟ قال بعض المفسِّرين: " خير الدنيا والآخرة، السعادة في الدنيا والآخرة ".

الحسنى هكذا على إطلاقها، الحسنى في صحَّتك، الحسنى في بيتك، الحسنى في عملك، الحسنى في نفسيَّتك؛ طمأنينة، واستقرار، وثقة، وتفاؤل، الحسنى في دخلك، الحسنى في سمعتك، الحسنى في كرامتك، الحسنى في عزَّتك.

﴿لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ الْحُسْنَى﴾  والحُسنى في الدنيا قبل الآخرة، وعلامة صدق إيمانك، دقَّة استقامتك، ومن نتائج استقامتك سعادتك في دنياك ..

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً  ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾ 

[  سورة النحل ] 

﴿  وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124)  ﴾ 

[ سورة طه ] 

﴿  فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنْ الْمُعَذَّبِينَ(213)  ﴾ 

[  سورة الشعراء  ] 

﴿  فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ(79)  ﴾ 

[  سورة النمل  ] 

﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا  ۖ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) ﴾ 

[  سورة الطور  ] 

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا  ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) ﴾ 

[  سورة الحج  ] 

﴿  إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَانُ وُدًّا(96)  ﴾ 

[  سورة مريم  ] 

هكذا ..

﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) ﴾ 

[  سورة التوبة  ] 

﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) ﴾ 

[  سورة القصص ] 

﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) ﴾ 

[ سورة الروم  ] 

﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)  ﴾ 

 

[ سورة الأنبياء  ] 

﴿  فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ(87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ(88)  ﴾ 

[  سورة الأنبياء  ] 

﴿ مِن دُونِهِ ۖ  فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ(55)إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(56)  ﴾ 

[  سورة هود  ] 


من السعادةِ الطمأنينةُ وعدمُ الخوف :


 هذه الآيات ومدلولاتها إذا آمنت بها فهي في حدِّ ذاتها صحَّة، صحَّةٌ لجسدك لأن أحدث البحوث الطبيَّة أن معظم أمراض القلب، وأمراض الشرايين، وأمراض الكليتين، وأمراض الجهاز الهضمي، وأمراض الجهاز العصبي، معظم هذه الأمراض سببها نفسي، القلق، الخوف، الهَم، الحَزَن، التشتُّت، التبعثر، الخوف .

 " أنت من خوف الفقر في فقر، أنت من خوف المرض في مرض، توقُّع المصيبة مصيبةٌ أكبر منها "   

 هذا الخوف المدمِّر الذي دمَّر حياة إنسان القرن العشرين، هذا القلق المدمِّر علاجه الإيمان بالله -عزَّ وجل-، تستقر، الإيمان بالله بحدِّ ذاته صحَّة، قال لي طبيبٌ في هذا الأسبوع: إن ضغط الدم يجب أن يسمَّى ضغط الهم لا ضغط الدم، ارتفاع ضغط الدم يعني -على رأي الأطبَّاء- أن عمر الإنسان يتناقص، لابدَّ من استعمال أدويةٍ بشكلٍ مستمر، أما أحدث الكشوف فإن الاسترخاء والراحة النفسيَّة، والثقة والتفاؤل هذه الحالات النفسيَّة كافيةٌ وحدها أن تعيد ضغط الدم إلى مستواه الطبيعي، وأن تعيد ضربات القلب السريعة إلى وضعها المُعتدل .


الإيمان بالله صحة ، والشرك عذاب :


 أيها الإخوة الأكارم، الإيمان بالله صحَّة، صحَّةٌ لهذا الجسم لأن ضغط الهموم، ضغط المُقْلِقَات، الخوف، الشرك بالله، الرغبة في إرضاء الناس كلِّهم، هذا بحدِّ ذاته يسبِّب قلقاً، وحزناً، وهمًّا يضغط على الأجهزة فيصيبها بالعطب والعَطَل، لذلك الزُهد راحة، والتوكُّل راحة، والاستسلام لله راحة، والثقة برضاء الله راحة، والراحة صحَّة، فلو أن الإنسان آمن إيماناً صحيحاً لَصَحَّ جسده ﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنْ الْمُعَذَّبِينَ﴾  والعذاب سببٌ لمجموعةٍ كبيرةٍ من الأمراض الوبيلة .

﴿لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ الْحُسْنَى﴾  يكفي أن تؤمن أن لك عند الله أجلاً لا ينقُص ولا يزيد، هذا الإيمان يَهَبُكَ راحةً ما بعدها راحة، لي عند الله أجل لن يتقدَّم ثانيةً واحدة، ولن يتأخَّر ثانيةً واحدة . 

 الإمام مالك رأى في المنام ملك الموت فقال: " يا ملك الموت كم بقي لي في حياتي؟ " فقال ملك الموت: " وأشار له بهكذا، أي خمسة "، فلمَّا أفاق زادت حيرته أهي خمس سنوات؟ أم خمسة أشهر؟ أم خمسة أسابيع؟ أم خمسة أيَّام؟ أم خمس ساعات؟ أم خمس دقائق؟ فلمَّا سأل الإمام ابن سيرين عن تفسير هذه الرؤيا قال له: " يا إمام، إن سؤالك هذا من خمسة أشياءٍ لا يعلمها إلا الله"، كلمة الحق لا تقطع رزقاً ولا تقرِّب أجلاً "، الآمر هو الضامن ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ 

﴿لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ الْحُسْنَى﴾ يجب أن تُحِسَّ بالحُسنى، يجب أن تشعر بالحسنى، يجب أن تذوق الحسنى، ذاق طعم الإيمان، الإيمان له طعم .


وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ


المعرضون خضعوا لأهوائهم وأفكارهم :

 ﴿وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ﴾ أعرضوا عن الدين، أعرضوا عن كتاب الله، رفضوا هذا الشرع جملةً أو رفضوه تفصيلاً، أو رفضوه جملةً وتفصيلاً، هؤلاء الذين لم يستجيبوا له، قالوا: هذا الدين لا يصلُحُ لهذه الأيَّام، قالوا: هذا الدين يطرح طُروحاتٍ غيبيَّة، قالوا: هذا الدين لا يتناسب مع عصر العلم، هؤلاء الذين لم يستجيبوا له ..


لا ينفع المعرضين فديةٌ ولو كانت ملء الأرض ذهبا :


 ﴿لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ﴾  لو أنَّ واحداً يملك مائة مليون وقال: ادفعوها كلَّها وأنقذوني من هذه الورطة، كم هي الورطة كبيرة؟ كم هي كبيرة لو قال لك واحد: خذ ثروتي كلَّها وأنقذني من هذه الورطة؟ يجب أن تعلم أنت علم اليقين أنه في ورطةٍ كبيرة، لو أن لهؤلاء الذين لم يستجيبوا لله عزَّ وجل ﴿مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾  شركات الأرض التجارية الرابحة كلها له، والأسواق الرائجة في العواصم الكبرى كلها له، والفنادق الكبرى في الأرض كلها له، وكل البيوت له. تصوَّر لو أن للإنسان شارعاً بأكمله على الصفَّين، كم هو غني! لو أنه يملك مائة شركة في العالم من الشركات الرائجة التي تبيع بضاعتها في كل أنحاء العالَم، كم هي ثروته ! 

﴿وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾  ثروات البحار كلِّها، ثروات النفط كلِّها، ثروات المعادن كلِّها، شركات الطيران كلها، الفنادق كلُّها، الأراضي كلها، القصور كلها، البيوت كلها، الذهب والفضَّة كلها، المعادن الثمينة كلها، الماس كلُّه، قطعة ماسٍ واحدة ثمنها مائة ألف، لو أن ماس العالَم كله له ..

﴿وَمِثْلَهُ مَعَهُ﴾  ضرب اثنين، لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه وافتدوا به لن يُقْبَل منهم ذلك، فكم هم في ورطة، " إن أهل النار يبكون ، وإنهم ليبكون الدم ، ولو أن السفن جرت في دموعهم لجَرَتْ فيها "، أي أن السفن تجري في دموعهم، هذا العذاب ألا يُتَّقى، نعيش للدنيا فقط؟ نعيش لسنواتٍ معدودة تمضي سِراعاً؟ نعيش ليومنا؟ نعيش لحظتنا، كما قال الوجوديّون: " نعيش لحظتنا فقط "، هذا هو الحُمْقُ بعينه، هذا هو الغباء بعينه، أن تعيش من دون أن تنظر إلى الأمام، ما العقل؟ أن تصل إلى الشيء قبل أن تصل إليه .

 هذه السمكات الثلاث التي مرَّ بها صيَّادان فتواعدا أن يرجعا ومعهما شباكهما ليصيدا ما فيه من السمك، فسمع السمكات قولهما، أما أكيسهن فإنها ارتابت وتخوَّفت وقالت: " العاقل يحتاط للأمور قبل وقوعها "، ثم إنها لم تَعْرُج على شيءٍ حتى خرجت من المكان الذي يدخل منه الماء من النهر إلى الغدير فَنَجَتْ، وأما الكيِّسة -الأقلُّ عقلاً، الأقلُّ ذكاءً- فبقيت في مكانها حتى عاد الصيادان، فذهبت لتخرج من حيث خرجت رفيقتها فإذا بالمكان قد سُدْ فقالت: " فرَّطت وهذه عاقبة التفريط "، غير أن العاقل لا يقنط من منافع الرأي ، ثم إنها تماوتت فطَفَتْ على وجه الماء فأخذها الصياد ووضعها على الأرض بين النهر والغدير، فوثبت في النهر فَنَجَتْ، وأما العاجزة فلم تزل في إقبالٍ إدبارٍ حتى صيدت .

 الناس كَيِّسٌ، وكَيِّسٌ جداً، وعاجز ، فالكَيِّس العاقل يحتاط للأمور قبل وقوعها، والأقل عقلاً يحتاط لها في أثناء وقوعها، والغبي لا يحتاط لها لا قبل وقوعها ولا في أثناء وقوعها، فلم تزل تخطو يمنةً ويسرةً حتى أخذها الصيادان وأكلاها.


يجب أن تذوق طعم الإيمان :


 ﴿لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ الْحُسْنَى﴾  يجب أن تذوق طعم الإيمان، يجب أن تقول لمن سألك: الحمد لله أنا من أسعد الناس، والله قال لي رجل كان في الحج وسعد بحجَّته، قال لي: والله الذي لا إله إلا هو ليس في الأرض من هو أسعد مني إلا أن يكون أتقى مني.

وأنتم أيها الإخوة الأكارم، إذا استقمتم على أمره، واتجهتُم إليه، وجلستم في مجالس العلِم، وقرأتم كتابه، واتصلتم به، وذقتم حلاوة القرب، وحلاوة المناجاة، وحلاوة الشعور بأن الله معكم، وحلاوة الشعور بأن الله يدافع عنكم، وحلاوة الشعور بأن لكم عنده مقعد صدق، هذه المشاعر إذا ذقتموها تماماً تقولون كما قال بعض العارفين: " والله لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليها بالسيوف ".

 علامة إيمانك أنك سعيدٌ بإيمانك، علامة إيمانك أنك تحس أنك سبقت الناس جميعاً إن لم يؤمنوا.

﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا  وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)﴾ 

[  سورة القصص  ] 

﴿أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾  بعذابها المادي، بحريقها، لا يُخفَّف عنهم العذاب، لا يُفَتَّر عنهم العذاب .

﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) ﴾ 

[ سورة البروج  ] 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ  ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) ﴾ 

[  سورة النساء  ] 


أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى


العاقل يختار السعادة الأبدية :

﴿ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ  ۚ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) ﴾ 

[ سورة الرعد ] 

أحياناً تُخيَّر بين شيئين متقاربين، بين سيَّارتين، أو بين بيتين متقاربين في السعر فتقع في حيرةٍ من أمرك، لكنَّك إذا خُيِّرت أن يُهدى لك سيارةٌ أم درَّاجة، هل تقع في حيرةٍ من أمرك؟ هل تبقى طول الليل ساهراً أيهما أختار؟ هذا غير معقول، إذا خُيِّرت بين شيئين متقاربين فلابدَّ من الحيرة، لكنك إذا خُيِّرت بين شيءٍ زهيد الثمن وشيءٍ باهظ الثمن ما أن ينتهي الذي يُخيُّرك من كلامه حتى تقول: سيَّارة ـ بديهية ـ إذا خُيِّرْتَ بين الشقاء الأبدي والسعادة الأبديَّة، بين أن تسعد إلى أبد الآبدين، وبين أن يكون الإنسان في جهنَّم وبئس المصير 

﴿ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ  (88) ﴾ 

[  سورة آل عمران ] 

﴿  وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ(77) ﴾ 

[  سورة الزخرف  ] 

﴿  رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ(107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ(108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ(109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) ﴾ 


[  سورة المؤمنون ] 

﴿  تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ(104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ(105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ(106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ(107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ(108)﴾ 

[  سورة المؤمنون  ] 


الإنسان كالآلة لابد من اتباع تعليمات الاستعمال :


 ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى﴾  آلةٌ ثمينة معها نشرة استعمال، هذا الذي يقرأ النشرة، ويستعمل هذه الآلة ِوْفَق تعليمات الشركة، فاستعملها، واستفاد منها، وربح منها أرباحاً طائلةً، وبقيت هي هي يصونها ويعتني بها، كمن يستعمل هذه الآلة من دون تعليمات فأعطبها؟ وخسر ثمنها؟ وفات عليه ربحها؟ هذا كهذا ؟

أخٌ كريم قال لي: صفقةٌ عُقِدَت مع شركةٌ أجنبيَّة لتوريد بعض الآلات الدقيقة العالية المستوى، الآلات وردت ولم ترد معها نشرات الاستعمال، إلى أن وردت النشرات عُدَّت الشركة متخلِّفَةً عن تسليم الأجهزة في وقتها المناسب، لأن الأجهزة لا قيمة لها من دون هذه التعليمات، والإنسان لا قيمة له من دون هذه التعليمات، دفعت الشركة غراماتٍ طائلة لأن التسليم باطل، وصلت الآلات في الوقت المحدَّد، ولكن التعليمات لم تصل، واستخدام هذه الآلات من دون التعليمات مستحيل، إن استخدمناها من دون التعليمات عطبناها، فعُدَّت الشركة متخلِّفةً عن تسليم الآلات .

هذا الإنسان من أعقد الآلات، يسعد أو يشقى، ينفع أو يؤذي، يكون مصدر خير أو مصدر شر، إن طَبَّق التعليمات يصبح مصدر خير، وإن خالفها يصبح مصدر شر، هذه التعليمات ألا ينبغي أن تُقْرَأ؟ هذه هي بين أيديكم ، كتابٌ كريم ..

﴿ لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ  ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) ﴾ 

[  سورة فصلت  ] 

﴿ تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ  (2) ﴾ 

[ سورة السجدة  ] 


العالم بصير والجاهل أعمى :


 ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى﴾  معنى هذا أن الذي يعلم مبصر، وأن الذي لا يعلم أعمى .

﴿  وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ(19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ(20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ(21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ  ۚ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ ۖ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ(22) ﴾ 

[  سورة فاطر  ] 

 آيةٌ دقيقةٌ جداً ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾  المؤمن بصير، والكافر أعمى. 

﴿وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ﴾  الحق نور، والباطل ظلمات بعضها فوق بعض.

﴿وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ﴾  الحق مُسْعِد كأنه ظلٌ ظليل، والباطل مشقي كأنه نارٌ ملتهبة.

﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ﴾  في النهاية المؤمن حي، والكافر ميِّت.

﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ۖ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) ﴾ 

[  سورة النحل ] 

﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ 

﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا  ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) ﴾ 

[  سورة الجمعة  ] 

 " يا كُمَيْل، العلم خيرٌ من المال، لأن العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، والمال تُنْقِصُهُ النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق، يا كُمَيْل مات خُزَّان المال وهم أحياء " ، وهم في أوج حياتهم ميِّتون، وهم في شبابهم وقوَّتهم، وغناهم، وفي شأنهم العالي في المجتمع، أموات لأنهم ما عرفوا الله -سبحانه وتعالى- .

 " ابن آدم، اطلبني تجدني، فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإذا فتُّك فاتك كل شيء، وأنا أحبُّ إليك من كل شيء "  .

 " مات خُزَّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة " ، هذا هو العلم يحيي القلب، ما من رتبةٍ في الأرض أعلى من رتبة العلم، رتبة العلم أعلى الرُتَب .

 " إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم "  ، "إن الله عالمٌ يحبُّ كل عالم "  ، " ما اتخذ الله وليَّاً جاهلاً لو اتخذه لعلَّمه "  .. " يظل المرء عالماً ما طلب العلم فإذا ظنَّ أنه قد علِم فقد جهِل، العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلَّك فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً "  ..

﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(14)  ﴾ 

[  سورة القصص  ] 

 هذا عطاء الأنبياء حُكماً وعلماً، ماذا أوتي فلان؟ بيتاً ومالاً زائلان، مالك ما لك، المال سُمِّي مالاً لأنه ما لك، أي ليس لك.

﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾  أصحاب العقول الراجحة، هؤلاء :

﴿  الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ(20)  ﴾ 

[ سورة الرعد ] 


الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ


أهل العلم والعقول الراجحة يوفون بعهد الله :

 عهد الله في هذه الآية أي يلتزمون أوامره، وينتهون عن نواهيه، عهد الله هذا الكتاب الذي بين أيدينا، شرع الله عَهِدَ إلينا به أن نطبِّقه، أوامر الله عهد إلينا بها أن نطبِّقها، هذا هو عهد الله، فالذي يطيع الله -عزَّ وجل- يلتزم عهد الله أي ينفِّذ هذا العهد .

 وهناك معنى آخر: أن عهد الله هو العهد الذي وثَّقته مع أي جهةٍ وكان وَفْقَ الشرع، حُسْن العهد من الإيمان.

((  لا إِيمَانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ وَلا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ  )) 

[  مسند أحمد عن أنس بن مالك  ] 

 هؤلاء أولوا الألباب الذين يوفون بعهد الله من دون إكراه، يؤدُّون ما عليهم من دون حكم قضائي، يفي بعهد الله، الوفاء بعهد الله من صفات المؤمن، والذي يُخِلُّ بعهد الله يدخل في شعبةٍ من شُعَبِ النِفاق .

((  آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ  )) 

[  صحيح البخاري عن أبي هريرة  ] 

 من كان فيه خصلةٌ من هذه الخصال كان فيه شعبةٌ من شُعَب النِفاق، كان السلف الصالح يقول له: " اسمح لي أن أذهب إلى البيت لأودِّع أهلي وأولادي، وأكتب وصيَّتي، ولك عهد الله أن أرجع "، يرجع إلى الموت ليفي بعهد الله !!! هكذا كانوا، هكذا كان المؤمنون الصادقون، المؤمن إذا عاهد وفى .

أهل العلم والعقول الراجحة لا ينقضون عهد الله :

 ﴿وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ﴾ الميثاق الذي واثقَنا الله به، الميثاق أن نأتي إلى الدنيا فنستقيم على أمر الله، الميثاق أن نعتصم بحبل الله، الميثاق أن نقتفي أثر النبي -عليه الصلاة والسلام-، الميثاق أن نلتزم حدود الشرع .

أهل العلم والعقول الراجحة يصلون ما أمر الله به أنْ يوصل :

﴿  وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ(20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ  وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)﴾ 

[ سورة الرعد ] 

﴿ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ  ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (15) ﴾ 

[  سورة لقمان ] 

 أمرٌ إلهي ﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾ اتصل به، احضر مجالسه، كن معه، كن عوناً له.

﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا  (28) ﴾ 

[  سورة الكهف  ] 

 هذا يبتعد عنه ، وذاك يتصل به .


الصلة التي أمر الله بها عامة ومتعددة :


 ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ أمرك الله أن تصل رحمك، أمرك الله أن تصل من قطعك، أمرك الله أن تكون مع الذين صدقوا، أن تكون مع المؤمنين.

﴿  يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ(119) ﴾ 

[  سورة التوبة  ] 

 هذا هو الأمر الإلهي، حتى إن بعض المفسِّرين قال معنى قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ كل شرع الله يجب أن تصله بالطاعة. 

أهل العلم والعقول الراجحة يخشون ربهم :

 ﴿وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾  لا يخشون في الله لومة لائم، إن أتاحت له وظيفته أن يبطش بأخيه يبطش به، ولا يرقبُ فيه إلاَّ ولا ذمَّة، إلا إذا خاف الذي أعلى منه عندئذٍ يبتعد عن إيذائه.

كيف تخشى العبد ولا تخشى الرب ؟

 يا الله، تخشى إنساناً ولا تخشى ربَّ العالمين؟! هذا الذي دخل إلى بيت.. 

 قُمِعَت بعض الفتن في العصور السالفة، فأباح أمير الجند لجنوده المدينة، دخل أحد الجنود إلى بيتٍ من بيوتها فرأى امرأةً وزوجها، قتل الزوج، وقال للمرأة: أعطني كل ما عندك، أعطته سبعة دنانير، فأمسك أحد أطفالها وذبحه، وقال: أعطني كل ما عندك، فلمَّا رأته جادَّاً في قتل الثاني أعطته درعاً مُذْهَبَة، فلمَّا أمسكها أعجبته ورآها ثمينةً جداً، تأمَّلها فإذا عليها بيتان من الشعر 

إذا جــار الأميــر و حاجباه  وقاضي الأرض أسرف في القضاء

فويــلٌ ثمَّ ويــلٌ ثمَّ ويــلٌ      لقاضي الأرض من قاضي السـماءِ

[ محمد الشوكاني ] 

 أتخشى إنساناً ولا تخشى الله ربَّ العالمين؟! الذي قلبُك بيده، ورئتاك بيده، وكليتاك بيده، والشرايين كلها بيده، والدم كلُّه بيده، لو جمَّد نقطة دمٍ كرأس الدبوس في بعض شرايين المخ لأصيب الإنسان بالشلل، في مكان آخر يصاب بالعمى، بمكان ثالث يصاب بالصمم، بمكان رابع ينام في مستشفى المجانين، بمكان خامس يفقد ذاكرته، هذا الذي بيده كل شيء؛ بيده صحَّتك، وأجهزتك، وحياتك، وموتك، بيده الجراثيم، بيده من حولك، بيده من هو أعلى منك، من هو أدنى منك، بيده رزقك، تعصيه ولا تستحي منه ؟! .

 واحد سأل أحد العارفين قال: إنني أريد أن أعصي الله، قال: " لا بأس عليك اعصِهِ عدا بعض الملاحظات: إذا أردت أن تعصيه فلا تسكن أرضه، قال: وأين أسكن إذاً؟ قال: تسكن أرضه وتعصيه! أنت على أرضه وتعصيه، قال: هات الثانية، قال: إذا أردت أن تعصيه فلا تأكل رزقه، قال: وماذا آكل إذاً؟ قال: تسكن أرضه وتأكل رزقه وتعصيه!! قال: هات الثالثة، قال: إذا أردت أن تعصيه فاجهد أن تعصيه في مكانٍ لا يراك فيه، قال: 

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ  (4)﴾ 

[ سورة الحديد  ] 

 قال: تسكن أرضه وتأكل رزقه وتعصيه وهو يراك ؟!

تعصي الإله و أنت تظهر حبَّه  ذاك لعمري فـي المقال بديعُ

لو أن حبَّك صـادقاً لأطعـته  إنَّ المحبَّ لمـن يحبُّ يطيعُ

[ الشافعي ] 

أما تستحي من الله ؟ 

أما تستحي منَّا ويكفيك ما جرى  أما تختشي من عتبنا يوم جمعنا

أما آن أن تُقْلِع عن الذنب راجعاً  وتنظر مـا بـه جاء وعــدنا

[ علي بن محمد بن وفا ] 

إلى متى أنت في اللذَّات مشغولُ  وأنـت عن كل ما قدَّمت مسـؤولُ

[ البوصيري ] 

أيا غافلاً تبدي الإساءة والجهل  متى تشكر المولى على كل ما أولى


عليك أياديه الكرام وأنت لا ترا  هـا كـأن العيـن عميـاء أو حولى

لأنت كمزكومٍ حوى المسك جيبه  ولكـنَّـه المـحـروم ما شمَّه أصلا

***


هذا هو الله الخالق الذي يجب أن تخشاه :


 قبل يومين سمعت أن حيوان الدلفين يعيش على شواطئ البحار، وهو من أذكى الحيوانات قاطبةً، وأنه حيوانٌ أليفٌ جداً صديق الإنسان، وأنه حيوانٌ اجتماعي يعيش جماعاتٍ جماعات، وأن هذا الحيوان سخَّره الله لإنقاذ الغرقى على شواطئ البحار، فما إن يشعر هذا الحيوان أن سابحاً أدركه الغَرَق حتى يأتي اثنان فيرفعانه إلى أن يصيب الهواء، وينقلانه إلى الشاطئ، أما تستحي من هذا الفضل؟ أي شيءٍ في الكون فيه نقصٌ ؟!

﴿  سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى(1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى(2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى(3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى(4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى(5)  ﴾ 

[  سورة الأعلى  ]  

﴿  لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ(4)  ﴾ 

[ سورة التين  ] 

 هل تعلم أن قناة الدمع لو سُدَّت لأصبحت الحياة لا تُطاق، قناةٌ دمعيَّةٌ دقيقةٌ دقيقة لو سُدَّت لصار الدمع مُخَرِّشاً للخد، ولاحتجت إلى كل دقيقةٍ أن تمسح الدموع من على خدِّك، لو أن المثانة بلا عضلات لاستغرق تفريغها عشر دقائق وأنت في بيت الخلاء، لكن مع العضلات في خلال دقيقة واحدة، أو نصف دقيقة .

 لو أن الكليتين اتصلتا مباشرةً بمخرج البول، كل عشرين ثانية تحتاج إلى أن تذهب إلى المرحاض، كل عشرين ثانية نقطتا بول، أو تحتاج إلى فوط، هذه المثانة أليست من فضل الله علينا؟ هذه الحركات، هذه المفاصل، لولا هذا المفصل كيف نأكل؟ لابدَّ من أن نضع الصحن على الأرض وننبطح ونأكله بفمنا مباشرةً، لولا هذا المفصل .

 هذا الشعر، ربع مليون شعرة، لكل شعرةٍ عصبٌ، وشريانٌ، ووريدٌ، وغدَّةٌ دهنية، وغدّةٌ صبغيَّةٌ، وعضلةٌ، لكل شعرة، هذا الدماغ فيه مائة وأربعين مليار خليَّة سمراء لم تُعْرَفُ وظيفتها بعد.

 العين فيها مائة وثلاثون مليون مخروط من أجل أن ترى رؤيةً دقيقةً ملوَّنةً بالحجم الطبيعي، أما المصوِّر فيقول لك: تعالَ غداً لنحمِّض لك الصورة، أما أنت فتحميض فوري، تنظر فترى الشيء بألوانه الدقيقة، أنت بهذه العين ترى مائة لون حنطي، أما في الآلة التصويريَّة فالألوان كلها متقاربة، عينٌ دقيقة، أذنٌ مُرهَفة، أنفٌ جميل، لسانٌ ناطق.

﴿  الرَّحْمَنُ(1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ(2) خَلَقَ الْإِنسَانَ(3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ(4)  ﴾ 

[  سورة الرحمن  ] 

 وجهٌ جميل، أعضاءٌ، جلدٌ، شعرٌ، عضلات، أوردة، شرايين، زوجة، أولاد، كل هذا لا يكفي أن تلتفت إليه ؟!

﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ مطلق أوامر الله .. 


يوم الحساب لا يبرح ذاكرة المؤمن :


 ﴿وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ﴾  إنّ المؤمن لا تبرح ذاكرته هذه الساعة . 

﴿  فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ(8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ(9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ(10)  ﴾ 

 

[ سورة المدثر  ] 

 فإذا مات الإنسان وتوجَّه فريقٌ إلى طبع النعي، وفريقٌ آخر إلى تسيير معاملة الدفن، وفريقٌ ثالث إلى تأمين الطعام ومستلزمات التعزية مساءً، وتوجَّه فريقٌ رابعٌ إلى المقبرة، واشترى قبراً، وتوجَّه الحفَّار ليحفر هذا القبر ﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ* فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ﴾  الميِّت مُسَجَّى في غرفته، ومكتب دفن الموتى أرسل السيارة لتجهِّز الميت، والقبر يُحْفَر هذه هي الساعة العصيبة التي ينسى فيها الإنسان كل ملذَّات الدنيا، كل أيامٍ قضاها في الدنيا مسروراً ..

﴿  إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا(13)  ﴾ 

[  سورة الانشقاق  ] 

 كان، أما الآن ليس مسروراً، الآن يتمنَّى أن تُسَوَّى به الأرض، يتمنَّى أن يكون تراباً تدوسه الأرجل، لا ﴿وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ﴾ .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور