وضع داكن
29-03-2024
Logo
فقه السيرة النبوية - الدرس : 40 - إعادة بناء الكعبة - بعض أخلاق وشمائل النبي
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.

مقدمة عن بناء الكعبة:

 أيها الإخوة الكرام، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية، وألفنا في الدروس السابقة أن نعود إلى المرحلة المكية، ونأخذ من سيرة النبي ما نحن في أمسّ الحاجة إليه في علاقتنا، وفي طموحاتنا، وفي فهما لهذا الدين.
واليوم الحديث عن بناء الكعبة، لأنه في النهاية هناك ملمح خطير نحن في أمسّ الحاجة إليه، فالخمس وثلاثون سنة من مولده صلى الله عليه وسلم قامت قريش ببناء الكعبة، والله عزوجل يقول:

﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ﴾

( سورة آل عمران ).

الكعبة هي الوسط الهندسي للقارات الخمس:

 سيدنا إبراهيم جدد بناء الكعبة، لكن الكعبة أول بيت لله في الأرض، بل إن علماء الجغرافيا يؤكدون أن الكعبة هي الوسط الهندسي للقارات الخمس، كيف ذلك ؟
 لو أخذنا العالم القديم، آسيا، وأوربا، وإفريقيا، واستراليا، هذا العالم القديم، ووصلنا بخطوط بين كل النهايات لهذا العالم القديم، إن هذه الخطوط تتقاطع في مكة المكرمة، إذاً الكعبة هي الوسط الهندسي للعالم القديم يعني بين مكة، وبين أي طرف من أطراف العالم القديم، 8500 كيلومتر بالضبط، فإن أضفنا العالم الجديد أمريكا تكون مكة المكرمة أيضاً وسطاً هندسياً للعالم الجديد، فبين مكة وأطراف العالم الجديد 13 ألف كيلومتر.
 إذاً: ولا يقابل الكعبة مكان يابس في الطرف الآخر، بل يقابل الكعبة المحيط الهادي، في أماكن في اليابسة مكان يقابله مكان في الطرف الآخر، إلا أن الكعبة لا تقابلها يابسة في الطرف الآخر، فالكعبة هي الوسط الهندسي للعالم القديم والعالم الحديث، هذا من حيث الجغرافيا.
ومن حيث القرآن الكريم:

﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ﴾

 الآن السؤال: ما معنى أنّ الله في كل مكان ؟ ألم يقل الله عزوجل:

 

﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾

( سورة الحديد الآية: 4 ).

 ما معنى أن يتخذ بيتاً في مكان ما ؟ الجواب: أنه تمشياً مع الجانب المادي للإنسان اتخذ الله له بيتاً في الأرض، أنت في دمشق، الله عزوجل قال:

﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴾

( سورة آل عمران الآية: 97 ).

 أنت في الصلاة تصلي في بيتك، وفي مسجدك، وأنت مقيم بين أهلك وأولادك وفي مكتبك وعملك، والصيام كذلك، والزكاة كذلك، والنطق بالشهادة كذلك، لكن أداء فريضة بالحج لا بد من أن تغادر بلدك، وأن تترك وطنك، وأن تغادر بيتك، ومكتبك وزوجتك، وأولادك، هذه العبادة تحتاج إلى تفرغ تام، وكل إنسان حينما يسافر، ويتجشم مشاق السفر، ويدفع النفاق الكبيرة، ويحرم من بيته، من فراشه الوثير، من أهله، ممن حوله، من أولاده، ليكون مسافراً إلى مكان بعيد، بهذه الطريقة يشعر الإنسان أنه تجشم مشاق السفر من أجل تلبية دعوة الله عزوجل.
لذلك يقول الحاج: لبيك الله لبيك، كأنه يجيب الذات الإلهية أن يا عبدي، تعال إلي، تعال وزرني في بيتي، تعال، وذق طعم القرب مني، تعال، وأعلن توبتك عندي، تعال، واستغفرني، تعال، وأقبل علي، اخلع عنك كل الأقنعة المزيفة، ارجع إنساناً واحداً، لا تستطيع بثياب الحج أن تفخر بثيابك، ولا برتبك، ولا بتجارتك، ولا بمنصبك، حاج، إزار، ورداء، ولا شيء غيرهما، لذلك اتخذ الله له بيتاً، وجعل علامة الصدق في طلبه زيارة هذا البيت، وجعل هذه الزيارة تعبيراً حقيقياً عن شوق العبد إلى ربه، لذلك مستحيل وألف ألف مستحيل أن تزوره في بيته الحرام ولا يكرمك، ومن وقف في عرفات فلم يغلب على ظنه أن الله غفر له فلا حج له، أتيته تائباً، أتيته طائعاً، من دون أن تعود بشيء ؟ تعود بالمغفرة، وتعود بالسكينة، وتعود بالحكمة، وتعود بالتأييد، وتعود بالتوفيق، وتعود بالنصر، هذه حكمة أن الله اتخذ بيتاً له، هو الكعبة المشرفة في بيت الله الحرام.

 

الشروع في بناء الكعبة وجمع الأموال الطيبة لذلك:

 فقريش لخمسٍ وثلاثين سنة من مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم قامت ببناء الكعبة، وذلك لأن الكعبة كانت ردماً فرق القامة، ارتفاعها ضئيل جداً، ارتفاعها تسعة أذرع، من عهد إسماعيل عليه السلام، ولم لكن لها سقف، فسرق نفر من اللصوص كنزها، كان فيها كنز سرقه اللصوص، وكانت مع ذلك تعرضت باعتبارها أثراً قديماً للعوادي التي هدت بنيانها، وصدعت جدرانها، وقبل بعثته صلى الله عليه وسلم بخمس سنين جرف سيل مكة بعض أحجارها، وتصدعت جدرانها، فأوشكت الكعبة على الانهيار، فاضطرت قريش إلى تجديد بنائها حرصاً على مكانتها، واتفقوا ألا يدخلوا في بنائها إلا طيباً.
 هؤلاء الأناس الصادقون، الأطهار هم يسهمون في بناء الكعبة، لذلك بعض العلماء الأجلاء وقد توفاهم الله عزوجل كان في مكة المكرمة، وفي أثناء التوسعة ساهم، وهو في السبعين من عمره بحمل التراب، والخشب، والحجارة، وساهم في بناء بيت الله الحرام، هذا شرف أيها الإخوة، خدمة بيت الله شرف.
مرة التقيت بخادم جامع في أحد جوامع دمشق، لكن هذا الجامع شهد الله، فيه نظافة تفوق حد الخيال، وكأنه بيت سيدته عندها وسواس نظافة، النظافة غير معقولة ، السجاد دائماً ينظف بالمواد، يلمع، المرافق العامة كأنها من يوم بُنيت ز
مرة التقيت به وقد توفاه الله عزوجل قال لي: نحن عملنا بالقرآن، قلت له: أين في القرآن ؟ قال لي:

﴿ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ ﴾

( سورة البقرة الآية: 125 ).

 سيدنا إبراهيم أبو الأنبياء، أمره الله أن يطهر بيت الله الحرام، أرأيت إلى هذه الآية ؟ هذه غطت خُدام المساجد، لذلك خدمة المساجد عمل عظيم، وقربة إلى الرب الكريم.

 

فوائد جليلة من مشروع بناء الكعبة:

 

1 - الفطر السليمة تعرف الأعمال الصالحة:

 واتفقوا أيضاً ألا تكون النفقة على بنائها إلا من مال حلال، هذا قبل بعثة النبي معنى ذلك أن منهج الله مركوز في فطر الإنسان، بل لكلمة المعروف والمنكر ملمح دقيق جداً، سمى الله العمل الصالح معروفاً، كيف ؟ كلمة تبدو بلا معنى، معروف، من يعرفه ؟ ما هو حتى يكون معروفا ؟ لأن الفطر السليمة تعرف الأعمال الصالحة بفطرتها، بجبلتها ، بأصل خلقها، والفطر السليمة بجبلتها، وبأصل خلقها، تعرف المنكر، فالفطر السليمة تعرف المعروف وتنكر المنكر، لذلك الآن في بعض البلاد عندهم في القضاء نظام المحلفين، المحلفون أناس من قارعة الطريق، يؤخذون إلى المحكمة، وتعرض عليهم جريمة، هم على فطرهم، وعلى بديهتهم، ومن دون ضغوط، ومن دون طمع، ينطقون بالحق، هذه الفطرة السليمة.
 ومرة في الساحل السوري، جاءت رياح عاتية فاقتلعت 150 بيتاً زراعياً، مرة كنت هناك، الذي لفت نظري، وأثار إعجابي أن معظم الناس على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم وطوائفهم، أجمعوا على أن صاحب للبيت سيئ فدُمر بيته، بفطرهم، ولو أصغى الإنسان إلى صوت فطرته لعرف الحق.
فأردوا أن يقوم أناس أطهار ببنائها، وأن تكون النفقة من مال حلال، وأنت بفطرتك تعرف المال الحلال من المال الحرام، وتعرف الكسب المشروع من الكسب غير المشروع، وتعرف ما إذا كنت مستقيماً أو منحرفاً، صادقاً أو كاذباً، لأن الله عزوجل يقول:

﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾

( سورة القيامة ).

 فاتفقوا ألا تكون النفقة على بنائها فيها مهر بغي، أيْ امرأة بغي، مالها حرام ، ولا بيع رباً، ولا مظلمة لأحد من الناس، فاتفقوا على أن تكون النفقة على بناء الكعبة بعيدة عن كل شبهة، ليس فيها مهر بغي، ولا بيع رباً، ولا مظلمة أحد من الناس.

 

2 – تعظيم شعائر الله ومشاعره:

 

 لقد كانوا يهابون هدمها، للكعبة قدسية كبيرة، فابتدأ بها الوليد بن المغيرة المخزومي، فأخذ المعول، وقال: اللهم لا نريد إلا الخير، ثم هدم ناحية الركنين.
بالمناسبة:

﴿ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾

( سورة الحج ).

 بقدر تقواك تعظم شعائر الله، تعظم القرآن، تعظم المساجد، تعظم أهل العلم، فهدم الركنين الوليد بن المغيرة المخزومي، ولم يصبه شيء، هو أراد الخير، أراد بناءها ، لكنه مركوز في أعماق النفوس أن الذي يهدمها يقصمه الله عزوجل لذلك:

 

(( إنما الأعمال بالنيات ))

 

[ متفق عليه عن عمر ]

 لذلك تبعه الناس في الهدم في اليوم الثاني، مادام هدم ركنين ونام، واستيقظ وما مات معناها ممكن نتابع الهدم يعني جربوا به، ولم يزالوا في الهدم حتى وصلوا إلى قواعد إبراهيم، ثم أرادوا الأخذ بالبناء فجزؤوا الكعبة وخصصوا لكل قبيلة جزءاً منها، فجمعت كل قبيلة حجارة على حدا، وأخذوا يبنونها، وتولى البناء بناء رومي اسمه " باقون ".
الآن يجب أن تروا من هو محمد عليه الصلاة والسلام، أتاه الله الحكمة، هناك خلاف بين علماء الدين حول عصمة الأنبياء قبل الرسالة، أو بعدها، والأرجح أنهم معصومون قبل الرسالة وبعدها.

 

3 – حكمة النبي عليه الصلاة والسلام قبل البعثة:

 ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضع مكانه الحجر الأسود، من ينال شرف أن يمسكه، وأن يحمله، وأن يضعه في مكانه، واستمر النزاع أربع ليالٍ أو خمساً، واشتد حتى كاد يتحول إلى حرب ضروس في أرض الحرم.
سامحوني، كلما ابتعد الإنسان عن تطبيق جوهر الدين، يتعلق بالشكليات، امرأة سافرة، لكنها تحرص على صيام السابع والعشرين من رجب، سافرة سفورًا كليًّا ‍‍‍!!! إذا تفلت الإنسان من منهج الله يحرص على الشكليات، وكأنه بهذه الشكليات يجبر نقصه، أو يرمم، أو يعوض، لاحظ إنسانًا لا يكتب، وعلى صدره أربعة أقلام دون أن يشعر، والذي لا يقرأ يقتني بعض الكتب في بيته، وقد يضعها بعكس الاتجاه الصحيح نحو الأسفل، هذه حالة اسمها التعويض، الإنسان الذي ينقصه شيء هناك يعوضه بشيء آخر.
فلذلك كادت القبائل تقتتل في أرض الحرم، كادت الدماء تسيل، من ينال شرف أن يمسك بالحجر الأسود، وهو يعبدون أصناماً آلهة.
 هناك تناقض أيها الإخوة كبير جداً، من جهة يحرص على شيء، ومن جهة يضيع أشياء، وفي شخصية المسلم المعاصر مثل هذه التناقض، يحرص على أن يكون صيامه صحيحاً، ويخاف أنه إذا كان بين أسنانه حبة سمسم، ويخشى أن يكون قد أفطر، وهو يفعل المنكرات ولا يعبأ، هذه الشخصية المهزوزة شخصية التناقض، شخصية تتبع الصغائر، وتتساهل بالكبائر، هذه شخصية مرفوضة، حرب ضروس، ودماء تسيل، كادت بسبب من ينال شرف حمل الحجر الأسود، ووضعه في محله.
 إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومي عرض أن يحكموا فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجد، فارتضوا، هذا أسلوب قديم، أول إنسان يدخل عليهم من باب المسجد يحكموه في هذا الموضوع، وشاء الله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتها، كان محمد بن عبد الله هو أول داخل، فلما رأوه هتفوا، وقالوا: هذا الأمين، النبي عليه الصلاة والسلام ما عبد صنماً، ولا شرب خمراً، ولا أكل مالاً، ولا انتهك عرضاً، ولا سفك دماً، هذا الأمين رضيناه، هذا محمد ، فلما انتهى إليهم، وأخبروه الخبر طلب رداء، فوضع الحجر وسطه، وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعاً بأطراف الرداء.
 الآن يقول لك: مائدة مستديرة، لو أنها مستطيلة من يجلس في هذا المكان ؟ هذا أوجه مكان، المكان هنا غير وجيه، فلئلا يكون هذا النزاع تكون المائدة مستديرة، وأنت حينما تقيم عقد قران، ويأتيك ضيوف كثر، وأنت محرج جداً من ضيف له قيمة ليس له مكان في الصف الأول، هذه تقاليد وعادات.
أما النبي الكريم كيف حل هذا الموضوع ؟

 

 

(( إذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك ))

 

[ الشمائل المحمدية]

 كيف حل موضع، تفضل لا تفضل، قال: تيامنوا، يدخل على اليمين، كيف حل موضوع الضيافة ؟ ابدأ بيمين القوم، فالنبي عليه الصلاة والسلام جلس إلى يمينه غلام صغير، فلما جاءت الضيافة قال له: يا غلام، إلى جانبه الصديق، أتأذن لي أن أسقي الصديق قبلك ؟ قال: لا والله على لا آذن لك، هذا حقي، انظر إلى النظام، تشجيع الضيافة بدءاً من اليمين، مطلق اليمين، بدخول الأشخاص إلى مكان من اليمين، بخلاف حول شيء بالقرعة، شيء رائع جداً، عندك أولاد اختلفوا على من ينام على السرير الذي جانب النافذة، فيها إطلالة جميلة، اختلفوا، تقاتلوا، حل الموضوع بالقرعة، أنت بحاجة إلى أن تأخذ معك واحداً إلى هذه النزهة اختلفوا، حل الموضوع بالقرعة، كان عليه الصلاة والسلام يستخدم القرعة بين نساءه.
فلما انتهى إليهم، وأخبروه الخبر طلب رداءاً فوضع الحجر وسطه، وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعاً بأطراف الرداء، وأمرهم أن يرفعوه حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده فوضعه في مكانه، وهذا حل حصيف رضي به القوم.
 حينما تطبق تعليمات النبي تنتهي المنازعات إطلاقاً، إلا أن هناك ملمحًا دقيق جداً في بناء الكعبة، أن قريش قصرت بها النفقة، فالمال الذي جُمع لم يكن كافياً، قصرت بها النفقة الطيبة، ما اتفقوا أن كل إنسان ماله فيه شبهة، مهر بغي، مال فيه رباً، هذا مال ممنوع أن يسهم في بناء الكعبة، لذلك فأخرجوه من الجهة الشمالية نحو من ستة أذرع، وهي التي تسمى بالحجر والحطيم، إن أكرمكم الله بعمرة أو بحج الكعبة بالجهة الشمالية فيها قوس، هي الكعبة في الأساس مستطيلة، لكن النفقة قصرت بهم فوقفوا عند هذا المكان، وهذا القوس تابع للكعبة، والذي يطوف حول البيت، ويدخل بين القوس، والكعبة طوافه باطل، لأن الطواف حول الكعبة، فهذا من الكعبة.

 

4 – مراعاة الرأي العلم:

 لكن الملمح الدقيق الدقيق هو أن النبي عليه أتم الصلاة والتسليم، قال للسيدة عائشة: لولا أن قومك، بعد أن جاءت البعثة، وبعد أن أصبح النبي رسول الله، وبعد أن دعا إلى الله، وهو يعلم علم اليقين أن حدود الكعبة وراء الحطيم، لكن لئلا يثور عليه الناس قال لعائشة رضي الله عنها:

 

 

(( لولا أن قومك حديثو عهد بالإسلام لأتممت بناء الكعبة ))

 

[ الترمذي، والنسائي]

 هذا أهم ملمح أريده في هذا اللقاء، أنت حينما تراعي الرأي العام، حينما تراعي الجو العام، حينما تراعي التوجهات الجديدة، من دون أن تدفع هذا من دينك، يمكن لإنسان دعاك إلى طعام، وإنسان تعرفه، ويعرفك، من الداعي ؟ فلان، أنا فلان لا أثق بدخله، لا تثق بدخله، أنت مكلف أن تأتي إلى هذه الدعوة، هناك أشخاص يقيمون الدنيا ولا يقعدونها على سبب تافه، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان بإمكانه أن يتم بناء الكعبة، ولكن خشي من أن يأتيه نقد شديد، فرجح خيراً على خير، من هنا يقول سيدنا عمر: << ليس بخيركم من عرف الخير، ولا من عرف الشر، ولكن من عرف الشرين وفرق بينهما، واختار أهونهما >>.
والنبي عليه الصلاة والسلام قال:

 

(( دع خيراً عليه الشر يربو ))

 

[ ورد في الأثر]

 أنت مأمور أن تصل رحمك، لكن لك خالة بناتها متفلتات، يستهزئون بدينك، فإذا ذهبت إليها جلسوا معك بثياب فاضحة، يتطاولون عليك، لأنك من سنّهم، فهذه الزيارة لا تريحك، إذاً:

 

(( دع خيراً عليه الشر يربو ))

 ودرء المفاسد أهم من جلب المنافع .

 

 

(( مَنْ دُعِيَ فلَمْ يُجِبْ فَقَدْ عَصَى الله وَرَسُولَهُ ))

 

[ رواه أبو داود عن أبان بن طارق ].

 أما دعوة إلى فلان لا ترضي الله، أنا لا أذهب، عدم ذهابي شر، وذهابي أشر ، أنا أتلافى أسوأ الشريين بأقلّ الشرين، هذا واضح، هذا من فقه الإنسان.
قال لها:

 

(( يا عائشة، لولا أن قومك حديثو عهد بالإسلام لأتممت بناء الكعبة ))

 وصارت الكعبة بعد انتهاء بنائها ذات شكل مربع تقريباً، يبلغ ارتفاعه 15 م، وطول ضلعه الذي فيه حجر الأسود والمقابل له عشرة أمتار، والحجر موضوع على ارتفاع متر ونصف من أرضية المطاف، والضلع الذي فيه الباب، والمقابل له 12 م، وبابها على ارتفاع مترين من الأرض، ويحيط بها من الخارج قصبة من البناء، وهذه تسمى بالشادروان، وهي من أصل البيت، لكن قريشاً تركتها.

 

 

5 – الحق قديم:

 

 إذاً: نستفيد أن الحق قديم، وأن الباطل والحق، والخير والشر، والحرام والحلال مزروع في أصل خلق الإنسان، وأن الإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان، وأن النبي عليه أتم الصلاة والسلام كان حكيماً في أنه راع الظروف العامة، وكان منطقياً في أنه ما أراد أن تثور حول دعوته ثورة.

سيرة النبي عليه الصلاة والسلام في مكة:

1 – الفكر الصائب والنظر السديد:

 الآن نتحدث عن سيرة النبي الإجمالية في مكة، كان عليه الصلاة والسلام قد جمع في نشأته خير ما في طبقات الناس من ميزات، وكان طرازاً رفيعاً من الفكر الصائب ، والنظر السديد، ونال حظاً وافراً من حسن الفطنة، وأصالة الفكرة، وسداد الوسيلة والهدف وكان يستعين بصمته الطويل.
إخواننا الكرام، بلا مبالغة، ما من شيء يؤثر في الناس كالخُلق الحسن، والكلمة الرائعة التي قالها ابن القيم رحمه الله تعالى: " الإيمان هو الخُلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الإيمان ؟.
النبي عليه أتم الصلاة والسلام مع أن معه وحي السماء، ومع أنه أوتي المعجزات، ومع كل ميزاته، قال الله له:

﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾

( سورة آل عمران الآية: 159 ).

 فمؤمن يصلي، ويدعي أنه قوي الإيمان، ويتعامل مع الناس بغلظة ؟! أو بقسوة ؟! أو بشدة ؟! أو بعدم حكمة ؟! أو أن يؤدي العبادات وينتهك الحرمات ؟! أو أن يأخذ ما ليس له ؟! إذاً كان عليه الصلاة والسلام طرازاً رفيعاً من الفكر الصائب، والنظر السديد.

 

2 – أهمية الفكر الصائب والنظر السديد في حياة المسلم:

 بالمناسبة: الفكر الصائب، والنظر السديد هدية الله للمؤمن، أما الذي انقطع عن الله عزوجل قال عنه تعالى:

 

 

﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾

( سورة محمد ).

 قد يرتكب الذكي حماقة ما بعدها حماقة، فالفكر السديد، والموقف السليم والحكمة هذه هدية الله للمؤمن، قال تعالى:

 

﴿ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ﴾

( سورة البقرة الآية: 269 ).

 ونال حظاً وافراً من حسن الفطنة، وأصالة الفكرة، وسداد الوسيلة والهدف كيف ؟

 

3 – حكمة النبي عليه الصلاة والسلام:

 

 إنسان ثارت حوله مشكلة، وهو النبي الكريم، جاءه زعيم الأنصار، وقال: يا رسول الله، إن قومي وجدوا عليك في أنفسهم، من هذا الفيء الذي منعته من الأنصار فقال: يا سعد، أين أنت من قومك ؟ فقال سعد: ما أنا إلا من قومي، فقال: اجمع لي قومك ، الآن هناك مشكلة، دققوا في حكمة النبي قال:

(( يا معشر الأنصار، بلغتني عنكم وجدة وجدتموها علي في أنفسكم من أجل لعاعة تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم ))

 الآن دققوا: النبي عليه الصلاة والسلام بعد فتح مكة، وقد دانت له الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها، كيف عاملهم ؟ كان بإمكانه كما يفعل الأقوياء، أن ينهي وجودهم، وكان بإمكانه أن يهدر كرامتهم، وكان بإمكانه أن يهملهم، وكان بإمكانه أن يعاتبهم، قال:

 

(( أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصُدِّقتم به، أتيتنا مكذبا فصدقناك، وفقيراً فأغنيناك، وطريدا فآويناك ))

 ذكرهم بفضلهم عليه، أحياناً تقول للطرف الآخر: أنا أخطأت، سامحني، انتهت المشكلة، وأحيانًا تدخل المحاكم 18 سنة، ولا تنام الليل كل يوم، وتدفع كل أموالك للمحاميين، لأنك أخطأت، وما اعتذرت، هناك حكمة، كلمة لطيفة تنهي مشكلة، حتى بين الزوجين، ارتكبت خطأ لا تقل أنت مخطئة، قل لها: أنا أخطأت، سامحيني، انتهت العملية كلها، فذكرهم بفضلهم عليه، هو قوي جداً، دانت له الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها، قال:

 

 

(( أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصُدِّقتم به، أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فأغنيناك ))

 ألم تكونوا أعداء فألف بين قلوبكم، ألم تكونوا فقراء فأغناكم الله.

 

 

(( أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون بالنبي إلى رحالكم ))

 

[ أخرجه مسلم عن عبد الله بن زيد بن عاصم ].

(( لو سلك الناس واديا، وسلك الأنصار شعبا، لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار ))

[ رواه قتادة عن انس بن مالك ].

 فبكوا حتى سال الدمع من لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظا، إن كنت مع الله فأنت حكيم، وإن لم تكن معه ارتكبت حماقة تجرك إلى الويل والخراب.

 

4 – نفور النبي عليه الصلاة والسلام قبل البعثة من المحرمات والأوثان:

 

 إذاً: نال حظاً وافراً من حسن الفطنة، وأصالة الفكرة، وسداد الوسيلة، وكان يستعين بصمته الطويل على طول التأمل، وإدمان الفكرة، واستهناك الحق، وطالع بعقله الخصب، وفطرته الصافية صحائف الحياة، وشؤون الناس، وأحوال الجماعات، فعافى ما سواها من خرافة، ونأى عنها، ثم عاشر الناس على بصيرة، من أمره وأمرهم فما وجد حسناً منهم فشاركهم فيه، وإلا عاد إلى عزلته العتيدة، فكان عليه الصلاة والسلام لا يشرب الخمر، ولا يأكل مما ذُبح على النصب، ولا يحضر للأوثان عيداً ولا احتفالا، بل كان من أول نشأته نافراً من هذه المعبودات الباطلة حتى لم يكن شيء أبغض إليه منها، وحتى كان لا يصبر على سماع الحلف باللاة والعزة.
 قبل أن تأتيه البعثة، فطرته سليمة، فطرته تأبى أن يعبد صنماً، أو أن يُحلف بإله، أو أن يشرب خمراً، لذلك للنبي عليه الصلاة والسلام ملامح رائعة، يقول:

(( خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام ))

[ رواه البخاري عن أبي هريرة ].

 فإذا أسلم أحد الجاهليين، وكان معروفاً بالشجاعة والكرم، وتلبية حاجات الناس يقول له يا فلان:

 

(( أسلمت على ما أسلفت من خير ))

 

[ متفق عليه ].

 ولا شك أن الله سبحانه وتعالى أحاطه بالحفظ، فعندما تتحرك نوازع النفس لاستطلاع بعض متع الدنيا، وعندما يرضى بإتباع بعض التقاليد غير المحمودة تتدخل العناية الإلهية للحيلولة بينه وبينها.
 وكان عليه الصلاة والسلام يمتاز بقومه بخلال عذبة، وأخلاق فاضلة، وشمائل كريمة، فكان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأعزهم جواراً، وأعظمهم حلماً وأصدقهم حديثاً، وألينهم عريكة، وأعفهم نفساً، وأكرمهم خيراً، وأبرهم عملاً، وأوفاهم عهداً، وآمنهم أمانة، حتى سماه قومه الأمين، لما جمع فيه من أحوال الصالحة، والخصال المرضية، وكان كما قالت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها: يحمل الكل، ويكسب المعدوم، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق.

 

5 – مركوز في أعماق الإنسان أن الله لا يضيع مؤمنا:

 

 أعود إلى الفطرة، السيدة خديجة رضي الله عنها قبل أن تأتي البعثة حينما جاءه الوحي، وجاء إلى بيتها، أو إلى بيته، وقال: زملوني زملوني، دثروني دثروني، والله يا ابن العم لا يخزيك الله أبدا، إنك تقري الضيف، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق، قبل أن يأتي القرآن، قبل أن يتحدث النبي العدنان، مركوز في أعماق الإنسان أن الله لا يضيع مؤمنا.
لذلك أيها الإخوة، أنا أخاطب الشباب، الذين في مقتبل حياتهم، الله عزوجل يقول:

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾

( سورة النحل الآية: 97).

 وقال:

 

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ﴾

( سورة الجاثية الآية: 21 ).

كلمة موجهة للشباب:

 أنا أقول للشباب، إن كنت مستقيماً، محباً، مقبلاً، صادقاً، يجب أن توقن يقيناً قطعياً أن الله لن يضيعك، ولن يخزيك، يعني من سابع المستحيلات أن يعامل المستقيم كالمنحرف، والصادق كالكاذب:

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ﴾

﴿ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾

( سورة الجاثية ).

﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ ﴾

( سورة السجدة ).

﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾

( سورة القلم ).

﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾

( سورة القصص ).

 أيها الإخوة، المؤمن متفائل، والمؤمن يعتقد اعتقاداً جازماً أن الله لن يضيعه، قول السيدة خديجة مذهل: يا ابن العم، والله لن يخزيك الله أبداً، إنك تقري الضيف، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق، فأقر عينك بهذا.
أنا أخاطب الشباب الحياة صعبة، فرص العمل قليلة، تأمين البيوت صعب، الزواج صعب، أنت عليك أن تكون مستقيماً وعلى الله الباقي، لأن الله أنشأ لك حقاً عليه، قال: حق المسلم على الله أن يعينه إذا طلب العفاف.
أيها الإخوة، في السيرة ملامح رائعة جداً، أن السيدة خديجة لم يأتِ الوحي بعد، لم يأتِ القرآن بعد، لم يتكلم النبي بعد، مركوز في أعماق أعماقها أن المستقيم لن يضيعه الله عزوجل.
 والله مرة أخ من إخوتي الكرام استيقظ صباحاً على صوت امرأته تولول، مالك ؟ قالت: ابنتي أصيبت بالشلل، قال كلمة تأثرت لها: والله ما كان الله ليفعل بي ذلك ، له ثقة بالله، ثم ثبت أن هناك مرضاً يشبه الشلل بعد ساعات يزول، له ثقة بالله عزوجل.
أنا أتمنى عليكم أن تثقوا بالله، لا يضيعك الله، كن معه، كن لي كما أريد كن لك كما تريد، كن لي كما أريد ولا تعلمني بما يصلحك.

 

(( من جعل الهموم هما واحدا، هم آخرته، كفاه اللَّه هم دنياه ))

 

[عن ابن مسعود ]

 اعمل لوجه واحد يكفك الوجوه كلها، هم في مساجدهم والله في حوائجهم.

 

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور