وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 18 - سورة النحل - تفسير الآية 90 ، عن عالم الغيب
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الثامن عشر من سورة النحل، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:

﴿  إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(90) ﴾

[ سورة النحل  ]


إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ


قيمة الأمر من قيمة الآمِر :

 أيها الإخوة المؤمنون، قيمة الأمر من قيمة الآمر، فكلما كان الذي يأمرك عظيم الشأن، رفيع القدر، قوياً، غنياً، كان أمره كذلك، فلذلك هذه الآية مُصدَّرة بلفظ الجلالة:

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ﴾ انتبه، الأمر أمر الله، والله صاحب الأسماء الحسنى، والصفات الفضلى، خالق الأكوان، رافع السماوات بغير عمد، مَنْ إليه المصير؟ من بيده مقاليد كل شيء، هو ذاته يأمرك، لذلك قال بعضهم: "لا تنظر إلى صغر الذنب، ولكن انظر على من اجترأت"، فقد تكون المعصية طفيفة، ولكنك اجترأت بها على الله عز وجل، فخطورة المعصية لا لأنها صغيرة، ولكنك عصيت بها خالقك، ومربيك، ومن خلقك من قبل، ولم تكن شيئاً، فربنا عز وجل يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ﴾ .


الأمر القرآني يقتضي الوجوب :


 والأمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب، وقد يتوهم بعض الناس أن أوامر الله سبحانه وتعالى هي الصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، هذه أركان الإسلام، ولكن كل أمر في كتاب الله عز وجل يقتضي الوجوب، على وجه الإلزام، ولا خيار لك في ذلك.

﴿  وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا(36)  ﴾

[  سورة الأحزاب  ]


ما هو العدل ؟


 ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ ما هو العدل؟ العدل من المعادلة، والعِدل: المساوي، ومعنى العَدل؛ أن تعطي الناس حقوقهم، أن يأخذ الإنسان حقه، أن يأخذ أجراً يساوي جهده، أن تُعامَل الزوجة معاملة تساوي مهمتها ومكانتها، العدل من المساواة، والعدل ضد الظلم، والعدل أن تعطي ذي كل حقٍ حقه، لا تصلح الحياة من دون العدل، لن تستمر المجتمعات إلا بالعدل، لن يستقر البناء إلا بالعدل، لن تستمر العلاقة بين الزوجين إلا بالعدل، لن تستمر العلاقة بين الشريكين إلا بالعدل، لن يسود السلام الأرض إلا بالعدل، لن تطمئن إلا بالعدل، العدل يسع الجميع، وأساس بناء المجتمع.

 فلذلك الزوج له حقوق، والزوجة لها حقوق، والعدل يقتضي أن تعطي الزوجة زوجها حقوقه، وأن يعطي الزوج زوجته حقوقها: أن يطعمها مما يأكل، أن يلبسها مما يلبس، ألا يضرب الوجه، ولا يهجر في الفراش، من حق الزوج على زوجته، أن تحفظه إذا غاب عنها، وأن تنفذ أمره إذا أمرها، أن تطيعه إذا أمرها، وألا تمتنع عنه، وأن لا تخرج إلا بإذنه، وأن تحفظ ماله، هذا هو العدل، من حق الابن على أبيه؛ أن يحسن تربيته، وأن يوفر له حاجاته ـ ضمن إمكانات الأب ـ ومن حق الأب على ابنه؛ أن يرد الجميل بالجميل، أن لا يناديه باسمه، أن لا يمشي أمامه، أن لا يستسبه ـ أن يسبّب له السباب ـ هذا من حق الأب على ابنه.


لا تقوم الحياة إلا بالعدل :


 الحياة لن تقوم إلا بالعدل، وأي مجتمع مهما كان قوياً حينما يلقي عرض الطريق بقيم العدل، فإن هذا المجتمع لابدَّ من أن ينهار، بقاء المجتمعات مرهون بالعدل، بقاء الأفراد مرهون بالعدل، صحة العلاقة بين اثنين أساسها العدل، حق الأخ الأكبر على إخوته الصغار كحق الأب على أبنائه، هذا هو العدل، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يَقُولُ: جَاءَ شَيْخٌ يُرِيدُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَبْطَأَ الْقَوْمُ عَنْهُ أَنْ يُوَسِّعُوا لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

((  لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا.  ))

[ الترمذي وأحمد ]

 حق المتعلم على المعلم أن يصبر عليه، وأن يتواضع له، وأن يكون رحيماً به، وأن يأخذ بيده كلما عثر، حق الأجير على صاحب العمل؛ أن يقبض أجره قبل أن يجف عرقه، أن يأخذ ما يستحق، ألاّ تكلفه مالا يطيق، حق صاحب العمل على الأجير، أن يكون أميناً، صادقاً، ألاّ يؤذيه بالعمل، ألاّ يهمل، ألاّ يقصر، ألاّ يعتدي، حق الجار على جاره؛ إن استقرضك أقرضته، وإن استنصرك نصرته، وإن مرض عدته، وإن أصابه خير هنّأته، وإن أصابته مصيبة عزيته، وإن مات شَيّعته، ولا تستطل عليه بالبناء، فتحجب عنه الرياح إلا بإذنه، وإذا اشتريت فاكهة فاهدِ إليه منها، فإن لم تفعل فأدخلها سراً، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ ولده، ولا تؤذه بقتار قدرك، إلا أن تغرف له منها، حق الجار على جاره، والأربعون دارًا كلهم جيران؛ شرقاً، وغرباً، وشمالاً وجنوباً، وارتفاعاً ..

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ حق الصديق على صديقه، حق الأخ المؤمن على أخيه، ألاّ يغتابه، ألاّ يذكر عورته، ألاّ يشهر به، ألاّ يسرع بالحكم عليه . 

﴿  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ(6)﴾

[  سورة الحجرات ]

 حق الأخ على أخيه؛ ألاّ يحقره، ألّا يغشه، ألّا يحتال عليه، أن يحفظ ماله، أن يحفظ عرضه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

((  لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا، وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ.  ))

[ متفق عليه ]

 حق الأخ على أخيه؛ أن تعامله كما تعامل نفسك، عامل الناس كما تحب أن يعاملوك، هذا هو العدل، كل مشكلاتنا، كل متاعبنا، كل مآسينا بسبب ترك مبدأ العدل، لو أن الزوج عَدَلَ مع زوجته، وعدلت هي مع زوجها.

((  انصرفي أيتها المرأة، وأعلمي من وراءك من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها، وطلبها مرضاته، واتباعها موافقته يعدل ذلك كله  ))

[ الألباني عن أسماء بنت يزيد الأنصارية وهو ضعيف  ]

 أي: يعدل الجهاد في سبيل الله. ما شكت امرأة زوجها، ولا شكا زوج امرأته. 

﴿  وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)  ﴾

[  سورة الأحزاب  ]

 هذا هو العدل.


 حق الأمير على رعيته أن يطيعوه في غير معصية لله عز وجل.


 وحق الرعية على أميرهم، قال سيدنا عمر رَضِي اللَّه عَنْه يمتحن أحد الولاة: << ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارق أو ناهب؟ قال: أقطع يده، قال: إذاً فإن جاءني من رعيتك من هو جائع أو عاطل، فسأقطع يدك، إن الله قد استخلفنا عن خلقه، لنسد جوعتهم، ونستر عورتهم، ونوفر لهم حرفتهم، فإذا وفينا لهم ذلك تقاضيناهم شكرها، إن هذه الأيدي خلقت لتعمل، فإذا لم تجد في الطاعة عملاً، التمست في المعصية أعمالاً، فاشغلها بالطاعة، قبل أن تشغلك بالمعصية >> .

 أيها الأب: أيها العم، صهرك له عليك حق؛ أن تترفق به، ألّا تكلفه مالا يطيق، أن تأمر ابنتك أن تطيعه، لا أن تحرّضها على أن تعصيه، أن تمنعها من مغادرة بيتها من غير إذنه، لا أن تجلبها إلى البيت لتغيظه، أيها الصهر، واجبك تجاه والد زوجتك أن تعرف قدره، وأن تقدر جميله، ربّى ابنته، حتى إذا بلغت أشدها قدمها إليك هدية لطيفة، هل تعرف قدره؟ هذا هو الحق.

 حق المالك في ملكه ؛ ألّا يتعسّف في استعمال هذا الحق، ألاّ يضيق على الناس، ألّا يحملهم على أن يحتالوا عليه، أن يترأف بهم، حق المالك على من في مُلكه، حق الشريك على شريكه، ألّا يقطع أمراً دونه، أن يستشيره، أن يبذل جهداً مكافئاً لجهده، ألّا يستأثر بشيء له، أن لا ينافسه في عمله، في العمل نفسه.

 حق المقترض على من أقرضه ؛ أن يؤدي له القرض بالتمام والكمال في الوقت المحدد، لا أن يماطل، حق المُقرِض على من اقترض منه، ألّا يحمله مالا يطيق، ألّا يكلفه أن يدفع فائدة مركبة، إن هذا ليس من العدل.

حق الشريك المضارب ؛ ألّا يدخر وِسعاً في بذل كل الجهد، كي يحقق لرأس المال ربحاً جيداً، وحق صاحب المال ألّا يستبد بما أتاه الله به، يجعله مبذولاً بين الناس كي ينتفعوا به وينفعوه.

 حق المشتري؛ أن يدع مجالاً ليربح منه البائع، كيف يعيش إذاً؟ لا تزال تضيّق، وتفاصل، وتمحّص، إلى أن يضجر فيبيعك برأس ماله، وحق المشتري على البائع ألّا يغشه، وألّا يربح عليه أضعافاً كثيرة، لو كُشف رأس المال هل يرضى هذا المشتري؟ البيع الشرعي ما كان عن تراضٍ بين المتبايعين، هذا هو العدل.

 حق المقتول خطأ أن تُدفَع له الدية.

 حق الزوجة التي خطبتها، وعقدت عليها ، وبقيت تزور أهلها أشهراً ثلاثة؛ أن تعطيها نصف المهر، لا أن تبلغ أهلها، أنه يجب أن تسامحوني بكل شيء، وأن تعطوني كل ما قدمته من هدايا حتى أطلقها، هذا هو الظلم، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

((  الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.  ))

[  البخاري  ]


حقوق الناس أمر عظيم يقصم الظهر :


 أيها الإخوة المؤمنون، مع سيدنا عمر الحق في أن يقول: << ليت أم عمر لم تلد عمر >> ، ليتها كانت عقيمة؛ وَمعه الحق أن يقول: << ليتني أقدم على الله لا لي ولا عليّ >>، وَمعه الحق أن يقول: << وَاللَّهِ لو أن بغلة في العراق تعثرت لحاسبني الله عنها، لمَ لم تصلح لها الطريق يا عمر؟ >> .

 وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هو لو تأملتم بالحقوق المترتبة عليكم، وأنا معكم لوجدتموها شيئًا يقصم الظهر، هل أديت حقك تجاه زوجتك؟ هل كنت متعسفاً في استعمال حق الزوج؟ هل دللتها على الله عز وجل؟ أم استمتعت بها وكفى؟ هل عرّفتها بخالقها؟ لها حق عليك، خدمتك، وحبست نفسها من أجلك، أفلا ينبغي أن تعرفها بربها؟ أفلا ينبغي أن تقودها إلى الجنة؟ هل أديت حق أولادك؟

 الحقوق شيء مخيف يوم القيامة؛ يوم تقف بين يدي الله عز وجل، ماذا فعلت في حق أمك؟ هل عاملتها؟ هل كافأتها بإحسانها إحساناً؟ أم التفتّ إلى زوجتك ونسيتها؟ ورأيتها عبئاً ثقيلاً؛ شيئاً قديماً؟ ليتها تموت ونرتاح منها! أهذا هو حقها عليك؟!

 هل عرفت حق أبيك؟ تأكل ما لذَّ وطاب، وأبوك محتاج إلى الدرهم والدينار، ولا تزوره إلا أياماً قليلة بالشهر أو بالعام؟ تقول له: أنا مشغول، أنسيت يوم كنت صغيراً؟ محتاجاً إليه؟

 امرأة جاءت إلى رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تشكو زوجها، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ:

((  تَبَارَكَ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ كُلَّ شَيْءٍ، إِنِّي لَأَسْمَعُ كَلَامَ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ، وَيَخْفَى عَلَيَّ بَعْضُهُ، وَهِيَ تَشْتَكِي زَوْجَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ تَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكَلَ شَبَابِي، وَنَثَرْتُ لَهُ بَطْنِي، حَتَّى إِذَا كَبِرَتْ سِنِّي، وَانْقَطَعَ وَلَدِي ظَاهَرَ مِنِّي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ، فَمَا بَرِحَتْ حَتَّى نَزَلَ جِبْرَائِيلُ بِهَؤُلَاءِ الْآيَاتِ: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ  ))

[ ابن ماجه، النسائي ]

من فوق سبع سماوات. مرة عمر رَضِي اللَّه عَنْه وهو راكب بغلته مر بهذه المرأة فنزل عن دابته تأدباً معها، ووقف معها طويلاً تكلمه، فقيل له: أتكلم امرأة ضعيفة؟ فقال: كيف لا أكلمها؟ وكيف لا أستمع لها، وقد استمع لها الله من فوق سبع سماوات ؟

 عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:

((  أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ  ))

[ متفق عليه ]

 وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هو؛ لو ظلمت مجوسياً، لو ظلمت ملحداً، لحاسبك الله حساباً عسيراً، أليس هو عبداً لله؟ 

(( أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس ))

[ رواه الطبراني ]

من قال لك: إنه يباح لك أن تفعل ما تفعل مع من لم يكن من دينك؟ أهذا هو الدين؟

(( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده. ))

[ صحيح البخاري ]

(( من غش فليس منا. ))

[ الترمذي ]

إطلاقاً، ولو غششت أي إنسان، هذا هو العدل. 

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ في بيتك، مع أولادك، مع جيرانك، مع من هم أعلى منك، مع من هم أدنى منك، مع أمك، مع أبيك، مع أقاربك، مع شريكك، مع كل من له علاقة معك، هذا هو العدل، والعدل قسري، بمعنى أنه ليس لك اختيار فيه، إما أن تفعله فتنجو، وإما أن تقصر فيه فتهلك. 


إذا ضاق العدل اتّسع الإحسان :


 ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ فإن ضاق العدل اتسع الإحسان، اشترى منك البضاعة، اشترى منك هذه السلعة، ولم يفتحها، ولم يُجرِ فيها أي تعديل، وأصابه ندم على شرائها، وكان البيع صحيحاً مئة بالمئة، السعر معتدل، وتم الإيجاب والقبول، وتم التسلم والتسليم، ثم جاءك يرجوك أن تُقيله من بيعته.

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ أنت مأمور بالإحسان، كما أنك مأمور بالعدل.

 رجل من عامة الناس يسكن أحد أحياء دمشق القديمة -هذه القصة قديمة جداً- له جار إمام مسجد، معروف بالتقى والصلاح، هذا الإمام رأى رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام، قال: يا فلان، بلغ جارك فلانًا أنه رفيقي في الجنة، من هو هذا الشخص؟ شخص من عامة الناس، لا يُؤبَه له، إن حضر لم يُعرف، وإن غاب لم يُفتقَد، فذهب إليه ليبلغه البشرى، دخل إلى بيته، وقال: لك عندي بشرى من رسول الله، والذي نفس محمد بيده لا ألقيها على مسامعك حتى تقول لي ماذا فعلت مع ربك حتى بشرك النبي عليه الصلاة والسلام أنك رفيقه في الجنة؟ فأبى، ثم أبى، فلما ألح عليه قال: وَاللَّهِ تزوجت امرأة، وفي الشهر الخامس من الزواج كانت في شهرها التاسع من الحمل، فكان بإمكاني أن أطلقها، وبإمكاني أن أسحقها، وبإمكاني أن أفضحها، جئت بقابلة سراً وولدتها، وحملت المولود تحت عباءتي، وذهبت به إلى المسجد، وانتظرت حتى ينوي الإمام، دخلت، ولم يرني أحد، وضعت المولود خلف الباب، ونويت الصلاة، فلما انتهت الصلاة بكى المولود، تحلق الرجال حوله، دخلت بينهم، وكأن الأمر لا يعنيني، قلت: ما هذا؟ قالوا: تعال انظر، لقيط وُضع هنا، قال: هاتوه، أنا أكفله، فأخذه، وأعاده إلى أمه، وسترها، فقال عليه الصلاة والسلام في الرؤيا: أبلغ جارك فلانًا أنه رفيقي في الجنة، هذا إحسان، وليس عدلاً، العدل أن تطلقها.

 الإحسان أنت مأمور به، مأمور به تماماً، أقمت دعوة إخلاء على المستأجر، وصدر قرار بالإخلاء، والمستأجر لا يقوى أن يستأجر بيتاً آخر، ليس له الحق أن يأخذ منك شيئاً، أعطيته مبلغاً من المال كي يدبر أمره به؛ هذا إحسان. 

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ باب الإحسان واسع جداً، لا يُحصَر في كلمات، لا يعرف في ساعات. 


المحسن محمود عند الله ممدوح في القرآن :


 الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿  وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)  ﴾

[  سورة العنكبوت ]

 الله عز وجل بعظمته، بقوته، بكمالاته مع المحسن .. 

﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ (56) ﴾

[ سورة الأعراف ]

﴿  إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ(128)  ﴾

[  سورة النحل  ]

﴿  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(8)  ﴾

[ سورة المائدة ]

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ الإحسان مع الزوجة؛ لا أن تعطيها حقها، أن تحتمل الأذى منها؛ قيل لرجل من الصالحين، وكانت له زوجة سيئة الخلق: طلقها يا فلان، قال: وَاللَّهِ لا أطلقها فأغشّ بها المسلمين! هذا إحسان، بإمكانك أن تطلقها، ولكني لا أطلقها فأكسرها، لأن كسر المرأة طلاقها، وما عُبِدَ اللهُ في الأرض بأفضل من جبر الخواطر، لا أطلقها، لا أفرق بين اثنين، لا بين أخوين، أو شريكين، أو قريبين، أو جارين. 


علامة إحسانك :


﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ اسأل نفسك، هل أنت محسن في البيت؟ علامة إحسانك أن من حولك يتمنون دوام حياتك، وعلامة الإساءة أن أقرب الناس إليك يتمنى أن ترحل عنهم، فإذا جاء الطبيب ليفحص الأب، وقال الطبيب: حالته طفيفة، يتألم الأهل ألماً شديداً، ليته قال: حالته خطيرة، يتوقعون أن يموت في هذا المَرض، سيعيش أيضاً؟ معنى ذلك أن هذا الأب غير محسن، كن محسناً ترَ الناس جميعاً مقبلين عليك، لا تبنِ مجدك على أنقاضهم، لا تأخذ مالهم، لا تعتدِ عليهم، لا ترتفع، ويُنخفضون، لا تغتنِ ليفتقروا، لا تسعد ليشقوا، كن محسناً، بث فيهم السلام .


من الإحسان إِيتَاء ذِي الْقُرْبَى حقوقهم :


﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ من الإحسان إيتاء ذي القربى، فلماذا ذكرها الله عز وجل؟ من الإحسان أن تؤتي ذوي القربى حقهم، أو المعونة لهم، قال العلماء: لقد خصت بالذكر لعظم شأنها، لا انطلاقاً من العصبية العائلية، لا، ولكن انطلاقاً من مبدأ التكافل الاجتماعي، فإذا عرف كل إنسانٍ حق قريبه انتهى الأمر، كل إنسان له قريب، لو رعى كل قريب قريبه رعاية مادية، ومعنوية، واجتماعية، وإصلاحية، ودينية، لحُلَّت مشكلات الأمة، لماذا خصّ الله سبحانه وتعالى بالذكر أولي القربى؟ لأن تحقيق هذا المبدأ يعني تحقيق التكافل الاجتماعي، لا ترى في المجتمع جائعاً، ولا فقيراً، ولا عرياناً ولا مضطهداً، ولا محروماً.

﴿وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ لذلك إذا أزمع الإنسان أن يدفع زكاة ماله فعليه قبل كل شيء أن يبحث عن أقربائه، عن رحِمِهِ، لعلهم محتاجون، أدرى الناس بهم أنت. 

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ أن تؤتي ذوي القربى، لك أخت بحاجة إلى مساعدة، لك عمة أرملة، لك خالة بائسة في حي بعيد، تجشّم المشاق، واذهب إليها، تفقّد أحوالها، أعطها من مالك، أو من زكاة مالك.


وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ


الفحشاء :

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ﴾ الفحشاء؛ العمل الشنيع الذي تفوح منه رائحة نتنة، من يزني بحليلة جاره، من يغرر بفتاة، من يعتدي على أعراض الناس.

 من يجعل بينهم هوة كبيرة، من العداوة والبغضاء، الفحشاء كل شيء تمجّه الفطرة السليمة، كل شيء ينكره المجتمع الإنساني، في أي زمان ومكان، قيمة مطلقة، أي إنسان، من أي لون، أو أي عرق، أو أي دين، يأبى ذلك، من يقابل الإحسان بالإساءة، هذه فحشاء، من يسيء إلى أمه وأبيه، هذه فحشاء، من يخون زوجته هذا فحشاء، العمل الفاحش؛ الذي تمجه الطبيعة البشرية، وتسري أنباؤه في الناس باشمئزاز شديد، واحتقار كبير، وترفع بليغ.

المنكَر :

 ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ﴾ المنكر ما أنكره الشرع، قد تُطمَس الفطرة، قد يشيع بين الناس أكل الربا، فإذا أكلت الربا لا أحد ينتقدك، لكن الربا أنكره الشرع، الفحشاء؛ ما تعارف الناس عليه، والمنكر ما أباه الشرع، في عهود الازدهار الديني تتطابق أعراف الناس مع قواعد الشرع، وفي عهود التخلف الديني يصبح المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، يصبح الخير شراً، والشر خيراً، يأمر الناس بالمنكر، وينهون عن المعروف، يصبح الكذب ظرفاً، والخيلاء تيهاً، يصبح الأمر بالمعروف حمقاً، والنهي عن المنكر وقاحة، يصبح النفاق لباقة، والكذب ذكاءً، والعدوان على الأعراض دماً خفيفاً! تنعكس القيم!

 إذا كنا في عصر انقلبت فيه القيم عندئذٍ المنكَر ما أنكره الشرع، أن يدخل الإنسان في مجتمع مليء بالكاسيات العاريات، المائلات، المميلات، ويسمى إنساناً لبقاً، لطيفاً، مهذباً، يمتع عينيه بهن؟! يعتدي عليهن اعتداء معنوياً، ويسمى لطيفاً، مهذباً، لبقاً، حضارياً، مثقفاً! المنكر ما أنكره الشرع.

﴿  قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(30) ﴾

[  سورة النور  ]

 فالفحشاء تدور مع الأعراف، والتقاليد، والعادات، ولكن المنكر يدور مع أحكام الشرع . 

﴿  يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ(276)  ﴾

[  سورة البقرة  ]

البغي :

  ﴿وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ﴾ البغي العدوان، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:

((  يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ، لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ ـ أي الزنا ـ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ.  ))

[ ابن ماجه ]

 قبل أيام قرأت أن كل عشرة مصابين بمرض الإيدز في العالم الغربي، منهم تسعة شاذون أخلاقياً، وواحد موزع بين النساء العاهرات، وبين مدمني المخدرات، متى ظهرت الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم؟

هذا مرض جديد لم يكن في الأسلاف، يهدد العالم الغربي الآن، يعد في العالم الغربي العدو الأول، هكذا قال بعضُ ساستهم، مرض الإيدز العدو الأول، ما أسبابه؟ الفحشاء، أما دقة الحديث فقوله: (حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا) تابعت قراءة الخبر، قال: وفي أمريكا وحدها مليونان ونصف مليون شاذ شذوذًا أخلاقيًّا، تعرفونهم من هم، مسجلون في نوادٍ رسمية! والمسجل من معهم بطاقات، لذلك فشا فيهم مرض الإيدز، ولقد أُعلِن قبل شهر أو أكثر أن كل المساعي، وكل البحوث العلمية، وكل الإمكانات باءت بالإخفاق، إن كل هذه الأدوية لم تستطع أن تقف في وجهه، الرقم الأخير أن هناك مليونين يحملون هذا المرض، ومئات الألوف قد فتك بهم، والأمر يتفاقم باستمرار! ربما انتقل المرض إلى اليابان وإلى أوروبا الغربية، وإلى بعض البلاد النامية التي فيها فاحشة :

(وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ، لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ ـ أي شدة الفقر ـ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ) . قال تعالى: 

﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(112)  ﴾

[  سورة النحل ]

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ البغي العدوان، أن تأخذ ما في أيدي الناس، أن تأخذ أموالهم بالباطل، إما أن تأخذها بقوتك، أو بحيلتك، قد يكون الرجل ذكياً وضعيفاً، فيسلب أموال الناس لا بقوته بل بحيلته، وقد يكون غبياً قوياً، فيأخذ أموالهم بقوته، هذا كله عدوان وبغي. 

﴿وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ﴾ أيّ معصية تفوح رائحتها النتنة بين الناس ينهى الله عنها، فإذا طُمست فطرة الناس هناك مقياس الشرع، أي شيء ينهى عنه الشرع فهو محرم، والبغي؛ هو أن تعتدي على أموال الناس، وعلى أعراضهم، وعلى ممتلكاتهم.


أحاديث عظيمة فافهموها واعرفوا قدْرها :


 أيها الإخوة المؤمنون، دققوا في هذا الحديث، النبي عليه الصلاة والسلام حديثه كما يصفه علماء الأصول وحي غير متلو، لقوله تعالى:

﴿  وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى(3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4)  ﴾

[  سورة النجم ]

 لذلك أمرُ النبيِّ عليه الصلاة والسلام يقتضي التطبيق، والوجوب. 

﴿  وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(7)  ﴾

[  سورة الحشر  ]

 عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ الْخَثْعَمِيَّةِ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

((  بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ تَخَيَّلَ وَاخْتَالَ، وَنَسِيَ الْكَبِيرَ الْمُتَعَالِ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ تَجَبَّرَ، وَاعْتَدَى، وَنَسِيَ الْجَبَّارَ الْأَعْلَى، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ سَهَا، وَلَهَا، وَنَسِيَ الْمَقَابِرَ وَالْبِلَى، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ عَتَا، وَطَغَى، وَنَسِيَ الْمُبْتَدَا وَالْمُنْتَهَى، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ يَخْتِلُ الدُّنْيَا بِالدِّينِ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ يَخْتِلُ الدِّينَ بِالشُّبُهَاتِ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ طَمَعٌ يَقُودُهُ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ هَوًى يُضِلُّهُ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ رَغَبٌ يُذِلُّهُ.  ))

[ الترمذي ]

 تخيل نفسه عظيماً، واختال على الناس، النبي الكريم مر على أحد الأشخاص يضرب غلامه، أحياناً الإنسان يتجبر على غلام عنده، على صانع، قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ:

((  كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي بِالسَّوْطِ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِي: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، فَلَمْ أَفْهَمْ الصَّوْتَ مِنْ الْغَضَبِ، قَالَ: فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، قَالَ : فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِي، فَقَالَ: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ، قَالَ: فَقُلْتُ: لَا أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا.  ))

[ مسلم ]

((  بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ تَخَيَّلَ وَاخْتَالَ، وَنَسِيَ الْكَبِيرَ الْمُتَعَالِ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ تَجَبَّرَ، وَاعْتَدَى، وَنَسِيَ الْجَبَّارَ الْأَعْلَى، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ سَهَا، وَلَهَا، وَنَسِيَ الْمَقَابِرَ وَالْبِلَى، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ عَتَا، وَطَغَى، وَنَسِيَ الْمُبْتَدَا وَالْمُنْتَهَى، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ يَخْتِلُ الدُّنْيَا بِالدِّينِ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ يَخْتِلُ الدِّينَ بِالشُّبُهَاتِ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ طَمَعٌ يَقُودُهُ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ هَوًى يُضِلُّهُ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ رَغَبٌ يُذِلُّهُ.  ))

[ الترمذي ]

 شيء مخيف أن تنطبق إحدى فقرات هذا الحديث على واحد منا (بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ تَخَيَّلَ وَاخْتَالَ، وَنَسِيَ الْكَبِيرَ الْمُتَعَالِ بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ تَجَبَّرَ، وَاعْتَدَى، وَنَسِيَ الْجَبَّارَ الْأَعْلَى، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ سَهَا، وَلَهَا، وَنَسِيَ الْمَقَابِرَ وَالْبِلَى، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ عَتَا، وَطَغَى، وَنَسِيَ الْمُبْتَدَا وَالْمُنْتَهَى، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ يَخْتِلُ الدُّنْيَا بِالدِّينِ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ يَخْتِلُ الدِّينَ بِالشُّبُهَاتِ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ طَمَعٌ يَقُودُهُ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ هَوًى يُضِلُّهُ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ رَغَبٌ يُذِلُّهُ) أيها الإخوة المؤمنون، لا زلنا في آية : 


هذه هي علة النهي عن هذه الأشياء : يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ


 ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ لعلكم تذكرون مهمتكم في الدنيا، لعلكم تذكرون شرع الله، لعلكم تذكرون يوم الحساب.

﴿  يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(6)  ﴾

[  سورة المطففين ]

 يوم تقف البنت يوم القيامة تقول: يا رب، لا أدخل النار حتى تدخل أبي قبلي، لأنه أطلقني هكذا، لأنه لم يرعَ حقي، لم يعلمني، أطلقني على سجيتي، أنا جاهلة، فجئت إلى هذا المكان لأحاسَب عن أعمالي كلها، وكان أبي هو السبب، لا أدخل النار حتى أدخل أبي قبلي.

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور