وضع داكن
29-03-2024
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 046 - المحاسبة - 2 أدوات المحاسبة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه, وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه, وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.

 

منزلة المحاسبة -2- .


أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس السادس والأربعين من دروس مدارج السالكين, في منازل إياك نعبد وإياك نستعين، ومنزلة اليوم هي منزلة المحاسبة، وقد سبقَ أن عولِجَت هذه المنزلة قبل درسين، واليوم نأخذ الجزء الثاني منها.

 

أدوات المحاسبة :


بيَّنـتُ في الدرس السابق من المحاسبة, أنَّ أدوات المحاسبة كثيرة, من أبرزها العِلم، فأنت بالعِلم تُحاسبُ نفسكَ، فحينما تقرأ نصًّا باللُّغة العربيَّة، هل تستطيع من دون أن تكون عالمًا باللُّغة أن تعرف أخطاءك؟ مستحيل، إن درسْتَ العربيَّة، ودرستَ قواعد العربيّة، وقرأت نصاً عربياً، حينها تكشف الأخطاء التي تقع بها أثناء القراءة .

فالعِلم هو الوسيلة الأولى، والأداة الأولى لِمُحاسبة النَّفس .

إن كنتَ تعرف الحلال والحرام، وما ينبغي وما لا ينبغي، وما يجوز وما لا يجوز، إن كنتَ تعرف الفرائض والواجبات والسُّنَن والتَّحسينات, وإن كنت تعرف المحرَّمات وتعرف المكروهات والمندوبات والمباحات, عندها تُحاسب نفسَك، أما هذا الذي لم يطلب العلم، كيف يُحاسب نفسهُ؟ وأكبر دليل: أنَّك لو قرأْتَ نصًّا أمام إنسان غير متعلّم ، لو سألته عن القراءة لقال لك: ممتازة، وقد ترتكب مئة خطأ, فهو لا يستطيع أن يكشف الخطأ, فهذه واحدة. 

الشيء الثاني: سوء الظنّ بالنّفس أحدُ أدوات المحاسبة .

فهذا الذي يمْدحُ نفسهُ  ويتملّقها، ويتوهم أنَّه على صوابٍ دائمًا، وأنّ الناس جميعًا مُخطئون, هذا إنسان بعيد عن محاسبة النَّفس، فلا بدّ مِن أن تُحاسب نفسكَ حِسابًا دقيقًا عن طريق سوء الظنّ بها، لذلك المُوَفَّقون في حياتهم يُحسِنون الظنّ بِأخوانهم، ويُسيئون الظنّ بأنفسهم, وغير المُوَفَّقين في حَياتهم يُسيئون الظنّ بِأخوانهم دائمًا، ويُحْسِنون الظنّ بِنُفوسهم.

سيّدنا عمر عملاق الأعلام -رضي الله عنه- كان يخْطُب، وفجأةً قطَع الخُطبة، وقال: كنتَ عُمَيراً, فأصبَحْتَ عمر، وأمير المؤمنين، وكنتَ ترعى غُنَيْماتٍ لِبَني مخزوم على دُرَيهمات, -هذا الكلام لا علاقة له بالخطبة- ولما نزل من على المنبر, قال له أصحابهُ: ما علاقة ما قلت بالخطبة؟! فقال رضي الله عنه: جاءَتني نفسي, فقالتْ لي: ليس بينك وبين الله أحد, -أيْ أنتَ قِمَّة المجتمع الإسلامي! فليس المعنى أنَّه قِمّة المجتمع لِقوَّته! لا، قِمّة المجتمع الإسلامي في الدِّين، وفي القُرْب من الله عز وجل.

فقال-: أردْتُ أنْ أُعرِّفها أنَّني كنتُ عُمَيْرًا، وأصْبحتُ عمر، وكنتَ أرعى غُنيماتٍ لِبَني مخزوم , أردت أن أعرف نفسي.

فالمُوَفَّقون في حياتهم يسيئون الظن بأنفسهم، ويُحاسبون أنفسهم حسابًا عسيرًا، دَعْكَ من التَّمَلُّق لِنَفْسِك، لا تُزَكِّيها.

دائمًا: الحقيقة المُرَّة أفضل ألف مرَّة من الوهم المريح ، أكثر الناس يقول لك: أنا إيماني أكثر منك وهو لا يُصَلِّي, ويفعل كلّ الموبقات، كلام شيطاني أن تقول: أنا مؤمن وأنت لسْت كذلك.

الشيء الثالث: تمييز النِّعمة من الفتنة .

كم إنسان ذي نِعمةٍ مُسْتَدْرجٍ بها؟ إذًا هي فتنة، وكم من إنسانٍ متميِّزٍ بِنِعمةٍ مُكَرَّمٍ بها؟ المال قد يكون لإنسان نعمة ولآخر نقمة، إذا جَمَعَك المال على الله فهو نعمة، فإذا جمعَكَ على معْصِيَة فهو فتنة, وكذا القوَّة إنْ أوْصَلتْك إلى الله فهي نعمة، وإن أبْعَدَتْك عنه فهي فتنة. 

وشيءٌ آخر: لا بدّ من أن تُميِّز بين المِنَّة والحجَّة .

فالله سبحانه وتعالى إذا أعطاك فهو مِنَّة، فإن أنْفقْت الذي أعطاكه في معْصِيةٍ, كان هذا الذي أخذْتَهُ من الله تعالى حجَّة عليك، فأنت دائمًا بين أن يكون الشيء حجَّة لك أو حجَّة عليك.

الآن: كلُّ قوَّة ظاهرة وباطنة صَحِبها تنفيذٌ لِمَرضاة الله عز وجل وأوامره فهي مِنَّة، وكلّ قوَّة ظاهرة وباطنة صَحِبها بُعْدٌ عن الله عز وجل فَهِي حجَّة، وكلّ مال اقْترَنَ بِطاعة الله تعالى فهو مِنَّة، وكلّ مال أنْفق في معصِية الله عز وجل فهو حجَّة، وكلّ فراغٍ اقْترن بِعملٍ صالح فهو نعمة, وإن اقْترنَ بِعَمل سيِّء فهو فتنة، وكلّ قَبُولٍ من الناس, وتعظيم لهم, ومحبة لهم لك, اتَّصل به خضوع الربّ وذلّ وانْكِسار، ومعرفة بعين النفس والعمل، وبذْل النَّصيحة للخلق فهو مِنَّة، وإلا فهو حجَّة، وكلّ حال مع الله تعالى أو مقامٍ اتَّصل به السَّيْرُ إلى الله فهو مِنَّة, إن صَحِبهُ الوقوف عنده والرِّضا به فهو من لذَّة النَّفس ورعوناتها.

أيها الإخوة ؛ هذا ملخص الدرس الماضي, أردْتُ أن أجعله بين أيديكم, كي نبني عليه شيئًا جديدًا، فلا بدّ مِن أن تُمَيِّز ما لك وما عليك، وأن تُعْطِيَ كلّ ذي حقّ حقّه, وكثيرٌ من الناس يجعل كثيراً ممَّا عليه من الحق من قِسْم ما له، لا مِن قِسْم ما عليه، فيتحيَّر بين فِعْلِهِ وترْكِهِ، وإن فعلهُ رأى أنَّه فضْلٌ قام به، لا حق أداء عليه أن يؤديه, فما الذي لك؟ وما الذي عليك؟.

أُناسٌ كثيرون إزاء هذا التقسيم, يظنّ أن ترْك المباحات حق عليه، لا, تَرْكُ المباح ليس حقًّا عليك، ولكن مسْموحٌ لك أن تدَعَهُ، فلو أنَّ الإنسان تعبَّد الله تعالى بِتَرْك النِّكاح، فهل هذه العبادة صحيحة؟ هذه ليْسَت لك كي تنفقها، هذه حقّ لك، فما لك ليس لك أجرٌ إذا صرفْتَهُ عنك، لك أن تتزوّج, ولك أن تغتسل، وأن ترتدي ثيابًا نظيفة، ولك أن تأكل وتنام, فالذي لك لا يمْكنُ أن يكون عليك أن تؤدِّيَهُ, لذلك: إنَّ نفرًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم سألوا عن عبادته في السرّ، فكأنَّهم تقالُّوها.

فعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِي اللَّه عَنْهم قال: 

(( جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا, فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا, وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ, وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا, فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا, أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ, لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ, وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ, وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ, فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ))

فالذي لك ليس لك أجر بإنفاقه، فأنت لك أن تتزوّج، فليس لك أجر بترك الزَّواج، وأن تعمل ولكن ليس لك أجر بِتَرْك العمل، ولك أن تنام ولكن ليس لك أجر بِتَرك المنام، فلو أنّ الإنسان الآن أراد أن يُسافر على الأقدام, هل له أجر؟! لأنَّ المشقة في الإسلام ليْسَت مطلوبةً لِذاتها, فحينما تفرض عليك مرحبًا بها، أما أن تطلبها لِذاتها فهذا ليس من الدِّين في شيء.

 

نقطةٌ في المحاسبة جديدة: الكثير والقليل .


قبل كلّ شيء يقول تعالى:

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) ﴾

[ سورة النساء ]

وقال تعالى: 

﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ(269) ﴾

[ سورة البقرة ]

ومهما أكثرت من الحكمة فهي تحتاج إلى أكثر من ذلك، أما المال يُعَدُّ قليله كثيرًا  وكثيرهُ قليلاً، يُعَدُّ قليله كثيرًا إذا مات الإنسان ذهب ماله, ويُعدُّ قليله كثيرًا إذا أُنْفقَ المال في طاعة الله كان كثيرًا عند الله عز وجل.

يقول العلماء: أرباب العزائم والبصائر أشدُّ ما يكونون اسْتِغفارًا عَقِبَ الطاعات لِشُهودهم تقصيرهم فيها، وترْك القيام لله بها كما يليق بِحلاله كما يليق بِجَلاله وكِبْريائه، وأنَّه لولا الأمر لما أقْبل أحدهم على مِثل هذه العبوديَّة ولا رضِيَها لسَيِّدِه.

يقول الله تعالى: 

﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ(198) ﴾

[  سورة البقرة  ]

ما علاقة الاستغفار بِعَرفات؟! فأنت كنتَ في عِبادة، وفي انْقِطاعٍ لله عز وجل، فلِمَ الاسْتِغفار؟! قال العلماء: كلَّما عظُمَ الله عندك, رأيْتَ عِبادتك له لا تليق به، فينبغي أن تستغفر، وقال تعالى: 

﴿ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ(17) ﴾

[  سورة آل عمران ]

فهم يقومون الليل ثمّ يستغفرون.

قال: الاستغفار يَجِبُ أن يأتيَ عَقِبَ عبادة دينِيَّة مديدة.

وكان عليه الصلاة والسلام إذا سلم من الصَّلاة اسْتغفرَ ثلاثًا, ثمَّ قال: 

اللهمّ أنت السلام, ومنك السَّلام, تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام 

وأمرهُ الله تعالى بالاستغفار بعد أداء الرِّسالة، والقيام بها وبأعبائها، وقضاء فرْض الحجّ واقْتراب أجله، فقال في سورة النصر: 

﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً(3)  ﴾

[ سورة النصر ]

عَقِبَ النَّصْر الكبير استغفر، وعَقِب الحجّ اسْتَغْفِر، وكذا عقِبَ الصِّيام استغفر.

كان النبي عليه الصلاة والسلام في خاتمة عباداته يقول: 

سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، اللهمّ اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهِّرين

وقال بعض العارفين: متى رضيتَ عن نفسِكَ وعملك, فاعْلَم أنَّه غير راضٍ عنك، ومن عرف أنَّ نفسهُ مأوى كلّ عَيبٍ وشرّ، وعمله عُرضةٌ لِكُلّ آفة ونقْص، كيف يرضى لله نفسه وعمله؟!.

وأحد العلماء يقول: من تحَقَّق بالعُبوديَّة, نظر في أفعاله بِعَين الرِّياء, وأحواله بِعَين الدَّعوة، وأقواله بِعين الافْتِراء، وكلَّما عَظُم المطلوب في قلبك, صَغُرَت نفسُكَ عندك، وتضاءَلَتْ القيمة التي تبذُلها في تحصيلهِ.

أيها الإخوة؛ يَجِبُ أن تتّهِم نفسَك، وتعرف ما لك وما عليك، ويَجِب أن تعرف ما القليل وما الكثير، ولا يكْمُل هذا المعنى إلا أن تربأ بِنَفسك عن تعْيير المقصِّرين.

ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنَّ الذَّنب شؤْم على غير صاحبه, إن ذكرهُ فقد اغتابَهُ، وإن رضِيَ به فقد شاركهُ في الإثم، وإن عيَّرَهُ ابْتُلِيَ به.

فإن كنت مستقيمًا, ولم تقم بِذَنب, وارتكب أخوك ذَنباً، وأنت عيَّرْتَهُ، هنا سَتُبتلى به, وإن ذكرتَهُ فقد اغْتَبتَهُ، وإن أقْررْتَهُ فقد شاركْتهُ في الإثم، لذلك ينبغي أن لا تزدري البطيء، وأن لا تُدِلّ بطاعتك، فلا تحتقرُ من يعصي الله فلعلَّهُ يتوب ويسْبِقُك, وأن لا تمنّ بِعَملك الصالح على الله عز وجل، قال تعالى: 

﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(17)﴾

[ سورة الحجرات ]

قال: ينبغي أن تربأ بِنَفسك عن تعييرِ المقصِّرين، فلعلّ تَعييرك لأخيك بِذَنبهِ أعظمُ إثمًا من ذنبه، وأشدُّ من معصِيتِهِ، لما فيه من صَولة الطاعة, وتزكِيَة النَّفس وشُكرها، والمناداة عليها بالبراءة من الذَّنب، وأنَّ أخاك باء به، ولعلَّك كسرْتهُ بِذَنبِهِ، وما أحْدثت له شيئًا، فلا تزدري البطيء في طريق الإيمان، ولا تذلّ بالمتفوِّق في طريق الإيمان، أعْطِ كُلاً حقَّه.

هذا الذي يدلّ بِعَمله على الله, قال: ما أمْقتَهُ عند الله, فذَنبٌ تذلّ به لديه أحبّ من طاعة تُدلّ بها عليه, وإنَّك إن تبيتَ تائبًا ونائمًا وتُصبِحَ نادمًا خير لك من أن تبيتَ قائمًا، وتُصبِحَ معجبًا فإنّ المعْجب لا يصعدُ له عمل, وإنَّك إن تضْحك وأنت معترف خير من أن تبكي وأنت مذلّ، وأنين المُذنبين أحبّ إلى الله تعالى من زجل المسبِّحين المذِلِّين، ولعلّ الله عز وجل أسقاه بِهذا الذَّنب دواءً استخْرج به داء قاتلاً هو فيك وأنت لا تشعر, فازْدِراء البطيء والإذلال فيه إثم.

أهل البصائر يعرفون منها بِقَدْر ما تناله معارفُ البشر، ووراء ذلك ما لا يطَّلِعُ عليه الكرام الكاتبون.

وقد قال عليه الصلاة والسلام: 

إذا زنَت أمة أحدكم, فلْيقم عليها الحدّ ولا يثرِّب ، من قول يوسف عليه السلام: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم

الميزان بيَدِ الله، والحكم لله، والسَّوط الذي ضُربَ به هذا العاصي بيَدِ مقلِّب القلوب، والقصْد إقامة الحدّ لا التَّعْيير ولا التثريب، فالإسلام حينما يكون في أوّله قد ينشأ في بيئةٍ غير مطبِّقة له, فإقامة الحدّ شيءٌ عظيم, ينبغي أن يكون واضِحاً في أذهاننا، قال تعالى: 

﴿ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً(74) ﴾

[ سورة الإسراء ]

وقال تعالى: 

﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)﴾

[ سورة يوسف  ]

 أرأيتم إلى هذا الأدب؟. وقال بعضهم: لا يأمنُ القدَر وسطْوتَهُ إلا أهل الجهل بالله.

وأنا في سفري حينما عُدْت، قالوا لي: أتَدري من تُوُفِّي؟ فقلتُ: لا، قال: فلان, شابٌّ في ريعان الشَّباب, عنده محلّ تِجاري كبير، وله دَخْلٌ وفير، ومن روَّاد المسجد، وفيما أعتقد أنَّه صالح، ولا أُزَكِّي على الله أحدًا، وتوفِّي في حادث هو وزوجتهُ وأُمُّه وأولادهُ, فالإنسان لا يعلم إن كان يعيش إلى الستِّين أم أن يأتيه الموت في الثلاثينات, هذا شيءٌ مُخيفٌ جدًّا، ويا ترى: هل هيَّأ نفسه أم لا؟!.

قال تعالى: 

﴿ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً(74) ﴾

[ سورة الإسراء ]

وكان عامّة يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا مقلّب القلوب ثبِّت قلوبنا على دينك.

عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاص, أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

(( إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ, ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ ))

 

الخاتمة .


أيها الإخوة؛ هذه نِهاية المنزلة التي بدأناها قبل حين؛ منزلة المُحاسبة, فالأداة الأولى فيها: العِلم، والأداة الثانية: أن تُفرِّق بين النِّعمة والنِّقمة, والأداة الثالثة: أن تعرف ما ينبغي فعْلُهُ  وما لا ينبغي فعْلُهُ، وأن تعرف أنَّ طلب العِلْم فرضُ عَينٍ على كلّ مسلمٍ ومسلمة.

وفي درس آخر إن شاء الله, نُتابِع موضوعًا آخر من موضوعات مدارج السالكين, في منازل إياك نعبد وإياك نستعين.

و الحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور