وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 24 - سورة الأنفال - تفسير الآيتان 65 - 66 ، القوة سلاح للمؤمن
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

 

الله عز وجل لم يخاطب النبي باسمه إطلاقاً إنما خاطبه بمرتبته النبوية :


أيها الإخوة الكرام ؛ مع الدرس الرابع والعشرين من دروس سورة الأنفال ، ومع الآية الخامسة والستين وهي قوله تعالى : 

﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) ﴾

أيها الإخوة الكرام ؛ الله عز وجل لم يخاطب النبي باسمه إطلاقاً كما خاطب بقية الأنبياء :

﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) ﴾

[ سورة مريم ]

﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) ﴾

[ سورة آل عمران ]

﴿ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) ﴾

[ سورة هود ]

لكن خاطبه بمرتبته النبوية :  ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ﴾ ، وأحياناً :

﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)﴾

[ سورة المائدة ]

فالأمر إذا كان متعلقاً بالدعوة ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ ﴾ الرسالة منصب دعوي ، وإذا كان الأمر متعلقاً بمعرفة الله عز وجل ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ﴾ .

هنا ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ﴾ معنى حرض أي حثّ ، حثهم على القتال ، أو حرض أي أَثِرْ حماستهم ، أو أغرهم بالقتال ، أي قتال هذا ؟ 

 

خطاب الله يتجه تارة إلى قلب الإنسان وتارة إلى عقله وتارة إليهما معاً :


إخواننا الكرام ؛ الإنسان عقل وقلب ، من أجل أن تحدث فيه قناعة ينبغي أن تخاطبه بالعلم ، ومن أجل أن تحدث عنده موقفاً ينبغي أن تخاطب قلبه ، فالإنسان عقل يدرك ، وقلب يحب ، فالخطاب تارة يتجه إلى العقل ، وتارة يتجه إلى القلب ، وقد يتجه معاً إلى العقل والقلب معاً .

﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) ﴾

[ سورة الانفطار ]

يخاطب القلب .

﴿ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) ﴾

[ سورة الانفطار ]

يخاطب العقل ، فالله سبحانه وتعالى يأمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يحرض المؤمنين على القتال ، لماذا ؟ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق النفوس ، وهو الذي يعلم حقيقتها ، فالإنسان من دون ردع ينحرف ، الردع أي الحق يحتاج إلى قوة ، إلا أن الحق عند الآخر هو أن تكون قوياً ، أما عند المؤمنين الحق ما جاء به الوحي السماوي ، والحق الذي جاء به الوحي السماوي يحتاج إلى قوة ، فرق كبير بين أن تعد الحق هو القوة - ومنطق هذا العصر إذا كنت قوياً فأنت على حق- الحق أن تكون قوياً وأن تفرض ثقافتك على الآخر لأنك قوي .

 

الباطل إن لم نقف أمامه تتسع دوائره ويضيق على الحق دوائره :


حينما تعيش البشرية أن القوي ، أي قوي هو صاحب الحق ، وأن الضعيف هو المبطل ، عندئذٍ البشرية تسير في طريق الهاوية ، أي القوي يحتل البلاد ، ينهب الثروات ، يقتل الشباب ، قد يقتل مليوناً ، ويعيق مليوناً ، ويشرد خمسة ملايين من أجل الحرية ، والديمقراطية ، وحقوق الإنسان ، ما من عصر انتهكت فيه حقوق الإنسان كهذا العصر ، تحت مسميات فارغة ، تحت طروحات باطلة ، فالمسلم مادام ضعيفاً يوم يذوب قلب المسلم في جوفه مما يرى ولا يستطيع أن يغير ، إن سكت استباحوه ، وإن تكلم قتلوه .

(( عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لَتُمْلَأَنَّ الأرضُ ظلمًا وعدوانًا  ، ثُمَّ لَيَخْرُجَنَّ رجلٌ مِنْ أهلِ بيتِي ، حتَّى يملأَها قِسْطًا وعدلًا ، كما مُلئَتْ ظلمًا وعدوانًا ))

[  صحيح الجامع  الصفحة أو الرقم  : 5074 | خلاصة حكم المحدث  : صحيح ]

فالباطل إن لم تقف أمامه ، إن لم تشعره أنك قوي ، تتسع دوائره ، ويضيق على الحق دوائره ، وهذا ما يجري في العالم .

مثلاً : فتاة في أمريكا ارتدت ثياب السحاقيات ، والسحاق ؛ شذوذ بين الإناث ، محرم قطعاً في الشرائع الإلهية ، وفي القوانين الأرضية ، فتاة بمدينة نيويورك بمدرسة ثانوية ارتدت هذه الثياب ، يبدو أن المدير على بقية مروءة ففصلها ، أقام أبوها دعوى على المدير وربح الدعوى وكلفه بمبلغ كبير ، لأنه اعتدى على حرية الفتاة ، واضح ؟ هذا في نيويورك .

في باريس فتاة وضعت على رأسها خرقة تنفيذاً لدين يدين به ربع سكان الأرض قامت الدنيا ولم تقعد ، لا يوجد منطق أبداً .

طائرة سقطت في لوكربي ، دُفع دية كل راكب خمسمئة مليون بالليرة السورية ، مجموع الركاب ملياران وسبعمئة مليون دولار ، مئات القتلى يموتون كل يوم عندنا ، مئات يومياً ولا شيء ! 


  الحق قوة والباطل ضعف :


لذلك الحق إذا كان ضعيفاً التطاول ، والاحتلال ، ونهب الثروات ، وسحق المنجزات ، وتدمير كل شيء ، هذا الذي يجري في البلاد الإسلامية ، خمس دول إسلامية محتلة ، هناك دولة تملك أكبر احتياطي نفط في العالم ، 450 مليار برميل ، وهذا البلد أرخص بلد في العالم بتكلفة استخراج البرميل ، خمسة وثمانون سنتاً ، في بلاد أخرى ثمانية ونصف دولار كلفة استخراج البرميل ، ثروات طائلة ، بلاد شاسعة ، مركز جغرافي مذهل ، فالحق ضعيف ، الأقوياء يحتلون ، ويسفكون الدماء ، وينهبون الثروات لأن الحق ضعيف ، يجب أن يكون الحق قوياً ، لكن إن كنت قوياً ليس معنى هذا أنك على حق ، أما عندهم مادمت قوياً فأنا على حق ، مايك مترايت ، ما دمت أنت قوي فأنت على حق .

 

من لم يكن متفوقاً في دنياه فلن يحترم دينه :


لذلك : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ﴾ أي استعد للمواجهة ، دولة أحياناً تكون نووية ، قد تمضي خمسون عاماً قادمة ، ومئة عام قادمة ، ولا تحتاج أن تستخدم هذا السلاح ، لكنها لأنها دولة نووية مرهوبة الجانب ، هذا المعنى ، لذلك قال تعالى : ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ﴾ لماذا ؟ ﴿ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ الإرهاب هنا في الآية من أجل ألا يكون الإرهاب على المسلمين .

أيها الإخوة ؛ هذا معنى قول الله عز وجل ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ﴾ يوجد بلد في أوروبا سويسرا ، كل مواطن هو عنصر في الجيش السويسري ، سلاحه عنده وبأي إشارة يصبح الشعب كله مسلحاً ، مع أن سويسرا بلد مسالم ، ما دخلت الحرب العالمية الثانية ، لماذا يكون هذا المجتمع مرهوب الجانب ؟ إذا كان قوياً ، كأن الآية تقول : أيها المؤمنون كونوا أقوياء ، لأن وحي السماء يحتاج إلى قوة ، دعك من القوة العسكرية ، أنت كطالب إذا تفوقت لك قيمة في الجامعة ، وعند أهلك ، ومع من حولك ، التفوق في الدراسة قوة ، التفوق في التجارة قوة ، في الصناعة قوة ، التفوق مطلوب ، أقول لكم هذا الرأي وأنا واثق من صوابه : ما لم تكن الآن متفوقاً في دنياك لا يحترم دينك .

 

إعداد القوة التي أمر الله بها موجهة إلى أعداء الله وإلى من أنكر أحقية هذا الدين :


﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ﴾ أي استعد ، ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾ القوة مطلقة ، الخيل في عهد النبي هو القوة ، بعد حين المنجنيق هو القوة ، المدرعات هي القوة ، الآن الطائرات هي القوة ، قد تدمر الطائرات البنية التحتية لبلد ما تدميراً كاملاً ، فما لم يكن لك سلاح جو قوي لن تستطيع أن تحمي منشآتك ، كأن الله عز وجل ما أراد المؤمنين أن يكونوا ضعافاً أرادهم أن يكونوا أقوياء ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ﴾ قتال من ؟ قال : ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ أي منطلق دفاعي ، وليس هجومياً .

﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) ﴾

[ سورة البقرة  ]

هناك دول الآن كبيرة جداً ، لم تدخل حرباً من الخمسينات ، لكنها مرهوبة الجانب ، لا أحد يفكر أن يعتدي عليها .

شيء آخر ؛ ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾ هذا الجهاد البنائي ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ - من ؟ -عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ هذه القوة موجهة إلى أعداء الله ، إلى من أنكر أحقية هذا الدين ، من أنكر الدار الآخرة ، من عاش لشهواته ، من أراد إفساد الخلق .

 

القراءات في القرآن الكريم :

 

1 ـ قراءة البحث والإيمان :

أساساً أيها الإخوة الله عز وجل حينما قال :

﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) ﴾

[ سورة العلق  ]

هذه قراءة البحث والإيمان .

2 ـ قراءة الشكر والعرفان :

﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) ﴾

[ سورة العلق  ]

ربك الأكرم هذه قراءة الشكر والعرفان . 

3 ـ قراءة الوحي والإذعان :

﴿ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) ﴾

[ سورة العلق  ]

هذه قراءة الوحي والإذعان . 

4 ـ قراءة العدوان والطغيان :

﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) ﴾

[ سورة العلق  ]

هذه قراءة العدوان والطغيان ، هناك قراءة الإيمان ، وقراءة الشكران ، وقراءة الوحي والإذعان ، وقراءة الطغيان .

 

قوم عاد نموذج للأقوام المستعلية التي طغت في الأرض :


حينما يستخدم الإنسان العلم ليطغى به ، ليفرض إباحيته على شعوب الأرض ، ماذا فعلت عاد ؟ قال :

﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)﴾

[ سورة الفجر  ]

عاد تفوقت في شتى الميادين ، وما أهلك الله قوماً إلا وذكرهم أنه هلك من هو أشد منهم قوة إلا عاداً حينما أهلكها قال :

﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)﴾

[ سورة فصلت ]

تفوقت في العمران :

﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) ﴾

[ سورة الشعراء  ]

وتفوقت في الصناعة :

﴿ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) ﴾

[ سورة الشعراء  ]

وتفوقت في الناحية العسكرية :

﴿ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) ﴾

[ سورة الشعراء  ]

وتفوقت في العلم :

﴿ وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمَ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)﴾

[ سورة العنكبوت  ]

ومع التفوق العمراني ، والعلمي ، والعسكري ، كانوا متغطرسين ، وقالوا : من أشد منا قوة ؟ ماذا فعلوا ؟

﴿ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) ﴾

[ سورة الفجر ]

الطغيان بالقصف ، والفساد بالأفلام .

﴿ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)﴾

[ سورة الفجر ]

 

المؤمن القويُّ خيْر وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف :


أيها الإخوة ، إذاً ينبغي أن تكون قوياً ، ما علاقة المؤمنين بهذه الآية ؟ إذا كنت طالباً في الجامعة ينبغي أن تكون متفوقاً ، فإذا كنت متفوقاً وديّناً اقتنع الناس بالدين ، أما إذا كنت كسولاً وديّناً ربطوا بين الدين وبين الكسل ، إذا كنت متفوقاً في التجارة أقنعت الآخر بأن يكون تاجراً مؤمناً مستقيماً ، أما إذا تخلفت في التجارة عزوا تخلفك إلى دينك .

لذلك الآن ما لم تكن متفوقاً في الدنيا لا يحترم دينك ، أو ما لم تكن قوياً لا يحترم دينك ، من هنا عن أبي هريرة رضي الله عنه  ، قال عليه الصلاة والسلام :

(( المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ من المؤمنِ الضعيفِ وفي كلٍ خيرٌ ))

[ أخرجه مسلم ]

هذا كله تحت قوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ﴾ أي العدو الطرف الآخر الذي شرد عن الله ، لا ينضبط بقيم ، ولا بمبادئ ، لكن يتحرك وفق مصلحته ، فإن رآك ضعيفاً احتل أرضك ، ونهب ثرواتك ، هذا الذي يحصل .

 

الله تعالى أعطى المؤمن قوة تحمل كبيرة فإذا حارب يفوز بإحدى الحسنيين :


لذلك أيها الإخوة البلاد الإسلامية التي اُحتلت ، والتي قامت فيها مقاومة كبيرة جداً ، ثلاثون دولة احتلوا دولة بالمقياس الحضاري متخلفة ، هؤلاء المقاتلون واجهوا ثلاثين دولة واستطاعوا أن يحتلوا 74% من بلادهم ، وأعادوها إلى حوزتهم ، لذلك الطرف الآخر يعد للمليون الآن قبل أن يقرر أن يحتل بلداً إسلامياً آخر ، هذا إنجاز كبير ، هذه المقاومة .

يقول أحد كبار الموظفين في دولة عملاقة في الناحية العسكرية ، قال : ماذا نفعل بحاملة الطائرات والصواريخ العابرة للقارات وليس هناك دولة على وجه الأرض تجرؤ أن تحاربنا؟ لكن ماذا نفعل بهذا الإنسان الذي أراد أن يموت باختياره ليهز كياننا ؟ هذا ليس له حل . 

﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ﴾ يبدو أن الله سبحانه وتعالى أعطى المؤمن قوة تحمل كبيرة جداً ، أي إياك أن تتوهم أن المؤمن يصلي فقط ، المؤمن إنسان آخر بقيم ، بمبادئ ، برؤية ، بمنطلقات ، بأخلاق ﴿ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾  هناك أسباب ، المؤمن موحد ، لا يرى مع الله أحداً ، المؤمن يستعين بالله عز وجل ، المؤمن الله عز وجل يوفقه ، يلهمه الصواب ، يرفع معنوياته ، يعلي قدره ﴿ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ﴾ والمؤمن إذا حارب يفوز بإحدى الحسنيين ، إما أن ينتصر ، أو أن يستشهد ، وفي كلا الحالين فهو رابح . 

﴿ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)  ﴾

[ سورة التوبة  ]

إما الشهادة أو النصر .

 

المؤمن رقم صعب لا يباع ولا يُشترى :


﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ﴾ مؤدى الآية : أيها المؤمن يجب أن تكون قوياً .

ومرة ثانية أخاطب الإخوة الشباب ، معنى أن تكون قوياً أنت أن تكون متفوقاً ، الطالب الأول ، الموظف الأول ، المهندس الأول ، الطبيب الأول ، المدرس الأول ، المحامي الأول ، الصانع الأول ، التاجر الأول . 

أقول لكم دائماً : لِمَ ترضى أيها الأخ الكريم أن تكون رقماً بسيطاً من دهماء الناس؟ من عامتهم ؟ من سوقتهم ؟

مرة سألت طلابي : من يذكر اسم تاجر كبير عاش في دمشق عام ألف وستمئة و ثلاثة وثمانين وله علامة تامة ؟ الطلاب فكروا ، فكروا ، فكروا ، لم يستطع أحد الإجابة ، قلت لهم : وأنا لا أعلم ، لكن من منا ينسى صلاح الدين الأيوبي ؟ من منا ينسى عمر بن الخطاب؟ هؤلاء القادة العظام الذين فتحوا البلاد ، العلماء الكبار ، لِمَ ترضى أن تكون رقماً بسيطاً ؟ لِمَ لا تكون رقماً صعباً ؟ 

أقول لكم هذه الكلمة : لك قناعة معينة ، إذا غيرت مقابل مبلغ من المال انتهيت عند الله ، هناك إنسان يغير قناعته بمئة ليرة ، وإنسان بألف ليرة ، وإنسان بمئة ألف ، وإنسان بمليون ، لو غيرت قناعتك بمئة مليار انتهيت عند الله ، معنى هذا أنت إنسان لك رقم تُشترى به وانتهيت ، أما المؤمن رقم صعب .

(( عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة : والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في شمالي ، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله ، أو أهلك دونه  . ))

[ فقه السيرة ليس له إسناد ثابت ، من الأحاديث الضعيفة ]

 

العلاقة بين الحرية والقوة علاقة متداخلة :


أيها الإخوة ؛ لأن المسلمين يعانون ما يعانون من ضعفهم ، من تفرقهم ، من شتاتهم ، من خصوماتهم ، بأسهم بينهم شديد ، وسلمهم لأعدائهم ، يشترون كل شيء .

ويل لأمة تأكل ما لا تزرع ، ويل لأمة تلبس ما لا تنسج ، ويل لأمة تستخدم آلة لا تصنعها ، بل ويل لأمة تشتري السلاح . 

كنت مرة في مصر فقال أحد العلماء في الخطبة - كنا في مؤتمر - قال : إذا أردت أن يكون قرارك من رأسك فلا تأكل إلا من فأسك ، إذا كان هناك اكتفاء ذاتي ، الثروات صنعناها ، الأراضي استصلحناها ، اكتفينا من الناحية الغذائية ، آلاتنا من صنعنا ، عندئذٍ لنا قرار ، أنت حر بقدر ما أنت قوي ، وأنت قوي بقدر ما أنت حر ، العلاقة بين الحرية والقوة علاقة متداخلة ، أنت قوي إذا كنت حراً ، وأنت حر إذا كنت قوياً ، أقول لكم هذا الكلام من معاناة ، المسلمون يعانون ما يعانون ، لأنهم ضعاف ، ولأن بأسهم بينهم ، ولأن سلمهم لأعدائهم ، ولأنهم متفرقون ، ولأنهم يتنازعون ،﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ ، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ .

 

المؤمن مع خالق السماوات والأرض الذي يؤيده وينصره ويلقي في قلبه الثبات :


إخواننا الكرام ، صدقوا ولا أبالغ أنه من يتابع الإعلام المعادي في حرب غزة يفاجأ أن الذي يقع في أيديهم من الأسرى يسألونهم : ماذا يرتدي جنودكم ؟ يقولون : المبرقع ، قالوا : لا ، أنتم تكذبون ، ترتدون ثياباً بيضاء ، هي الملائكة بنص القرآن الكريم ، أي إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟ الطرف الآخر جبان يخاف ، المؤمن شجاع ، لأن الموت الذي ينخلع له قلب الطرف الآخر هو محبب عند المؤمن .

﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ أنتم ترون في بعض مدن الألعاب السيارات الكهربائية ، تجد معركة بين الصغار في هذه السيارات ، لكن صاحب هذه المنشأة بالضغط على مفتاح يعطل الكهرباء فيتوقف كله ، فإذا كنت مع صاحب هذه المنشأة أمرك سهل جداً .

أي المؤمن مع خالق السماوات والأرض ، الله عز وجل يؤيده ، ينصره ، يلقي في قلبه الثبات ، يلقي في قلب عدوه الخوف .

﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)﴾

[ سورة آل عمران  ]

هناك قصص مؤداها أنه يستحيل أن يُنتصر على المسلمين في الحرب إذا كانوا مؤمنين طبعاً .

لذلك هناك ملك فرنسي وقع أسيراً في المنصورة في عام ألف ومئتين وخمسين ، قال هذه الكلمات وهي محفوظة في المتحف في باريس ، قال : لا يمكن أن ننتصر على المسلمين في الحرب ، ولكن ذكر الفرقة ، والفساد ، والرشوة ، والنساء ، والنزاعات الداخلية ، بهذا ينتصرون علينا ، أما في الحرب فالمؤمن قوي .

والدليل العدو خلال حربين عام 2006 ، و 2008 ، أي حرب جنوب لبنان ، وحرب غزة ، انتقلت أهدافه من الأمن إلى البقاء ، كان الحديث عن الأمن فقط ، الآن الحديث في الصحف صحف العدو عن البقاء ، وصار هناك توازن رعب ، كانت حروبهم نزهة ، أما نحن نضطرب ، ندخل الملاجئ ، الآن يَقصفون ويُقصفون ، نخاف ويخافون ، ننطلق إلى الملاجئ وينطلقون ، هذا اسمه : توازن رعب ، لم يكن من قبل ، والحسم انتهى ، هم يبدؤون الحرب وهم ينهونها ، الآن لا ، يبدؤونها أما النهاية ليست بيدهم ، إلا بتدخل أجنبي لصالحهم طبعاً.

أيها الإخوة ، المقاومة فكر وليست أشخاصاً .

 

قضية لغوية دقيقة جداً تُحرض المسلمين على أن يكونوا أقوياء :


إخواننا الكرام ، هناك قضية لغوية دقيقة جداً ، عندنا أفعال إذا شدّدنا وسطها ، أي وضعنا شدة على الحرف الوسطي بها ، أو أضفنا لها همزة ينعكس معناها ، مثلاً : قشّر التفاحة أي أزال قشرها ، القشر ملازم الفاكهة ، قشّرتها أي أزلت قشرها ، مرّض جلب المرض أم أزال المرض ؟ أزال المرض ، بالشدة ، مَرِض أي أصابه المرض ، مرّض شفاه من مرضه ، نص من دون تشكيل ، أو من دون تنقيط ، هذا نص معجم ، أي مبهم ، أعجمه أي أزال عجمته ، السن باء ، والسن الثاني نون ، هذه تاء مربوطة ، عندما نقطناه كان مبهماً أعجماً فبالتنقيط أزلنا عجمته .

إذاً يوجد عندنا أفعال حينما نضعف وسطها ، أو نضيف عليها همزة ينعكس معناها ، صار المعنى مناقضاً لأصل اشتقاقها ، أوضح مثل قشّر ، أي أزال القشرة ، مرّض ؛ أزال المرض ، أعجم ؛ أزال العجمة ، أقسط . 

﴿ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) ﴾

[ سورة الجن  ]

الظالمون ، أقسط عدل أي أزال الظلم ، الآن :

﴿ قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) ﴾

[ سورة يوسف  ]

أي حتى تهلك نفسك ، حَرَضاً ؛ أي هالكاً ، حرّض أبعد الهلاك ، أي إذا كنتم أيها المؤمنون ضعافاً فأنتم هالكون كما حالنا اليوم ، متى يزول هلاككم ؟ إذا كنتم أقوياء .

﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ﴾ واضح ؟ أفعال كثيرة ، قشّر ؛ أزال القشرة ، مرّض ؛ أزال المرض ، أقسط ؛ أزال الظلم ، ﴿ تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً ﴾ أي هالكاً ، فحرّض ؛ أزال شبح الهلاك ، أي أيها المسلمون ! أيها المؤمنون ! إن لم تكونوا أقوياء فأنتم هالكون ، لأن العدو لا يرحمكم ، تسعون بالمئة من ثروات الأرض بيد عشرة بالمئة من أهلها ، فالمسلم يجب أن يكون قوياً ، والدليل :

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه  ، قال عليه الصلاة والسلام : المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ من المؤمنِ الضعيفِ وفي كلٍ خيرٌ . ))

[ أخرجه مسلم ]

 

فرص العمل الصالح المتاحة أمام القوي لا تعد ولا تحصى :


بل إنني أقول لكم : إذا كان طريق القوة سالكاً وفق منهج الله ينبغي أن تكون قوياً ، ينبغي بل يجب ، لأن فرص العمل الصالح المتاحة أمام القوي لا تعد ولا تحصى ، والقوة أنواع ثلاث ، قوة المنصب ، فأنت بجرة قلم تحق حقاً وتبطل باطلاً ، توقيع . وقوة العلم ، فأنت بالعلم تبدد الظلام ، تبدد الجهل ، تبعد الخرافات ، الترهات ، الأباطيل ، الضلالات . وقوة المال ، أنت بالمال تبعد شبح الفقر .

(( عن أنس بن مالك  : وكاد الفقر أن يكون كفراً وكاد الحسدُ أن يكونَ سَبَقَ القَدَرَ ))

[ ضعيف الجامع في سنده يزيد الرقاشي ؛ ضعيف ]

وكاد الفقر أن يكون إرهاباً ، وكاد الفقر أن يكون جريمة ، وكاد الفقر أن يكون لا مبالاة ، فلذلك بالمال الحلال تبعد شبح الفقر ، والفقر والتخلف ، والفقر والجريمة متلازمان .

 

على الإنسان أن يكون قوياً لا على حساب مبادئه و قيمه بل وفق منهج الله : 
 لذلك أيها الإخوة الكرام ، حينما قال الله عز وجل : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ * الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً﴾ في عهد الصحابة العشرة تغلب مئة ، العشرون يغلبون مئتين ﴿ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)﴾ .

 ملخص هذا الدرس ينبغي أن تكون قوياً ، لكن أن تكون قوياً لا على حساب مبادئك ، ولا على حساب قيمك ، أن تكون قوياً إذا كان طريق القوة سالكاً وفق منهج الله ، لكن من يمنعك أن تكون قوياً في علمك ؟ هل يمنعك أحد ؟ لا ، من يمنعك أن تكون قوياً في بيتك ؟ بيت مسلم مؤمن ، من يمنعك أن تكون قوياً في عملك ؟ لا أحد ، فكأن علاقتنا بهذه الآية علاقة مفهوم القوة بأوسع معانيه ، يحب أن تكون قوياً .

 

الصدق والأمانة والعفة صفات تلفت نظر الآخر إلى الدين الإسلامي :


أنا أذكر أن أحد الإخوة الكرام كان طالباً يحضر هذه الدروس ، وكان أبوه يعارضه معارضة كبيرة جداً ، فلما نجح بتفوق في الشهادة الإعدادية قال لأخيه : خذ أخاك معك إلى المسجد ، اختلف الوضع ، عندما رآه متفوقاً قال : خذ أخاك معك إلى المسجد .

أنا أقول لكم أيها الإخوة ؛ ما دمت منتمياً إلى مسجد ينبغي أن تكون قوياً بدراستك ، بتجارتك ، باختصاصك ، طبيب مسلم لك مسجد ينبغي أن تكون الطبيب الأول ، لأنك عندئذٍ تقنع الناس بالدين ، أنت لا يمكن أن تقنع بالدين إذا رأيت المتدين ضعيفاً ، خنوعاً ، متكلاً ، غير متقن لعمله ، لا تقنع بالدين ، أي إذا رأيت إنساناً له ديانة أرضية من شرق آسيا ، قذر ، يتسول ، هل يخطر في بالك لساعة واحدة أن تشتري كتاباً عن ديانته فتقرأها ؟ مستحيل ! ما الذي يلفت النظر في المسلم ؟ قوته ، أمانته .

لذلك : عن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها : 

(( مَّا نزَلْنا أرضَ الحَبَشةِ جاوَرْنا بها خَيرَ جارٍ ، النَّجاشيَّ ، أمِنَّا على دِينِنا ، وعَبَدْنا اللهَ لا نُؤْذى ، ولا نَسمَعُ شَيئًا نَكرَهُه ، فلمَّا بلَغَ ذلك قُرَيشًا ائْتَمَروا أنْ يَبعَثوا إلى النَّجاشيِّ فينا رَجُلَيْنِ جَلْدَيْنِ وأنْ يُهدوا النَّجاشيَّ هدايا ممَّا يُستَطرَفُ مِن مَتاعِ مكةَ ، وكان مِن أعجَبِ ما يأتيهِ منها إليه الأدَمُ ، فجَمَعوا له أدَمًا كَثيرًا ، ولم يَترُكوا مِن بَطارِقَتهِ بِطريقًا إلا أهدَوْا له هَديَّةً ، ثم بَعَثوا بذلك مع عَبدِ اللهِ بنِ رَبيعةَ بنِ المُغيرةِ المَخزوميِّ وعَمرِو بنِ العاصِ بنِ وائلٍ السَّهْميِّ ، وأمَّروهما أمْرَهم ، وقالوا لهما : ادفَعوا إلى كُلِّ بِطريقٍ هَديَّتَه قَبلَ أنْ تُكَلِّموا النَّجاشيَّ فيهم ، ثم قَدِّموا لِلنَّجاشيِّ هداياه ، ثم سَلوهُ أنْ يُسَلِّمَهم إليكم قَبلَ أنْ يُكَلِّمَهم . قالت : فخرَجا ، فقَدِما على النَّجاشيِّ ونحن عِندَه بخَيرِ دارٍ ، وعِندَ خَيرِ جارٍ ، فلم يَبقَ مِن بَطارِقَتِه بِطريقٌ إلا دفَعا إليه هَديَّتَه قَبلَ أنْ يُكَلِّما النَّجاشيَّ ، ثم قالا لِكُلِّ بِطريقٍ منهم : إنَّه قد صَبا إلى بَلَدِ المَلِكِ مِنَّا غِلمانٌ سُفَهاءُ فارَقوا دِينَ قَومِهم ، ولم يَدخُلوا في دِينِكم ، وجاؤوا بدِينٍ مُبتَدَعٍ لا نَعرِفُه نحن ولا أنتم ، وقد بعَثَنا إلى المَلِكِ فيهم أشرافُ قَومِهم؛ لِيَرُدَّهم إليهم ، فإذا كَلَّمْنا المَلِكَ فيهم فتُشيروا عليه بأنْ يُسَلِّمَهم إلينا ، ولا يُكَلِّمَهم؛ فإنَّ قَوْمَهم أعلى بهم عَيْنًا ، وأعلَمُ بما عابوا عليهم . فقالوا لهما : نَعَمْ . ثم إنَّهما قَرَّبا هَداياهم إلى النَّجاشيِّ ، فقَبِلَها منهما ، ثم كَلَّماهُ ، فقالا له : أيُّها المَلِكُ ، إنَّه قد صَبا إلى بَلَدِكَ مِنَّا غِلمانٌ سُفهاءُ ، فارَقوا دِينَ قَومِهم ، ولم يَدخُلوا في دِينِكَ ، وجاؤوا بدِينٍ مُبتَدَعٍ ، لا نَعرِفُه نحن ولا أنتَ ، وقد بعَثَنا إليكَ فيهم أشرافُ قَومِهم مِن آبائِهم وأعمامِهم وعَشائِرِهم؛ لِتَرُدَّهم إليهم؛ فهم أعلى بهم عَيْنًا ، وأعلَمُ بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه . قالت : ولم يَكُنْ شَيءٌ أبغَضَ إلى عَبدِ اللهِ بنِ أبي رَبيعةَ وعَمرِو بنِ العاصِ مِن أنْ يَسمَعَ النَّجاشيُّ كَلامَهم . فقالت بَطارِقَتُه حَولَه : صَدَقوا أيُّها المَلِكُ ، قَومُهم أعلى بهم عَيْنًا ، وأعلَمُ بما عابوا عليهم؛ فأسْلِمْهم إليهما ، فليَرُدَّاهم إلى بِلادِهم وقَومِهم . قال : فغَضِبَ النَّجاشيُّ ، ثم قال : لا ها اللهِ ايْمُ اللهِ إذَنْ لا أُسَلِّمُهم إليهما ، ولا أكادُ قَومًا جاوَروني ، ونَزَلوا بِلادي واختَاروني على مَن سِوايَ حتى أدعُوَهم فأسألَهم ما يَقولُ هذان في أمْرِهم ، فإنْ كانوا كما يَقولانِ أسلَمْتُهم إليهما ، ورَدَدتُهم إلى قَومِهم ، وإنْ كانوا على غَيرِ ذلك مَنَعتُهم منهما ، وأحسَنتُ جِوارَهم ما جاوَروني . قالت : ثم أرسَلَ إلى أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ، فدَعاهم ، فلمَّا جاءَهم رَسولُهُ اجتَمَعوا ، ثم قال بَعضُهم لِبَعضٍ : ما تَقولونَ لِلرَّجُلِ إذا جِئتُموهُ . قالوا : نَقولُ واللهِ ما عَلِمْنا وما أمَرَنا به نَبيُّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ، كائنٌ في ذلك ما هو كائنٌ . فلمَّا جاؤُوهُ وقد دعا النَّجاشيُّ أساقِفَتَه فنَشَروا مَصاحِفَهم حَولَه ، سألَهم ، فقال : ما هذا الدِّينُ الذي فارَقتُم فيه قَومَكم ، ولم تَدخُلوا في دِيني ولا في دِينِ أحَدٍ مِن هذه الأُمَمِ؟ قالت : فكان الذي كَلَّمَه جَعفَرُ بنُ أبي طالِبٍ ، فقال له : أيُّها المَلِكُ ، كُنَّا قَوْمًا أهلَ جاهِليَّةٍ ، نَعبُدُ الأصنامَ ، ونأكُلُ المَيْتةَ ، ونأتي الفَواحِشَ ، ونَقطَعُ الأرحامَ ، ونُسيءُ الجِوارَ ، يأكُلُ القَويُّ مِنَّا الضَّعيفَ ، فكُنَّا على ذلك حتى بعَثَ اللهُ إلينا رَسولًا مِنَّا ، نَعرِفُ نَسَبَه وصِدقَهُ وأمانَتَه وعَفافَهُ ، فدَعانا إلى اللهِ لِنُوَحِّدَه ، ونَعبُدَه ، ونَخلَعَ ما كُنَّا نَعبُدُ نحن وآباؤنا مِن دُونِه مِنَ الحِجارةِ والأوثانِ ، وأمَرَنا بصِدقِ الحَديثِ ، وأداءِ الأمانةِ ، وصِلةِ الرَّحِمِ ، وحُسْنِ الجِوارِ ، والكَفِّ عنِ المَحارِمِ والدِّماءِ ، ونَهانا عنِ الفَواحِشِ ، وقَولِ الزُّورِ ، وأكْلِ مالِ اليَتيمِ ، وقَذْفِ المُحصَنةِ ، وأمَرَنا أنْ نَعبُدَ اللهَ وَحْدَه ولا نُشرِكَ به شَيئًا ، وأمَرَنا بالصَّلاةِ والزَّكاةِ والصِّيامِ . قالت : فعَدَّدَ عليه أُمورَ الإسلامِ ، فصَدَّقْناهُ ، وآمَنَّا به ، واتَّبَعْناهُ على ما جاءَ به ، فعَبَدْنا اللهَ وَحْدَه فلم نُشرِكْ به شَيئًا ، وحَرَّمْنا ما حَرَّمَ علينا ، وأحلَلْنا ما أحَلَّ لنا ، فعدا علينا قَوْمُنا ، فعَذَّبونا ، وفَتَنونا عن دِينِنا؛ لِيَرُدُّونا إلى عِبادةِ الأوثانِ مِن عِبادةِ اللهِ ، وأنْ نَستَحِلَّ ما كُنَّا نَستَحِلُّ مِنَ الخَبائِثِ ، فلمَّا قَهَرونا ، وظَلَمونا ، وشَقُّوا علينا ، وحالوا بَينَنا وبَينَ دِينِنا ، خرَجْنا إلى بَلَدِكَ واختَرْناكَ على مَن سِواكَ ، ورَغِبْنا في جِوارِكَ ، ورَجَوْنا ألَّا نُظلَمَ عِندَكَ أيُّها المَلِكُ . قالت : فقال له النَّجاشيُّ : هل معكَ ممَّا جاءَ به عنِ اللهِ مِن شَيءٍ؟ قالت : فقال له جَعفَرٌ : نَعَمْ . فقال له النَّجاشيُّ : فاقْرَأْه علَيَّ . فقَرَأَ عليه صَدْرًا مِن {كهيعص} ، قالت : فبَكى واللهِ النَّجاشيُّ حتى أخْضَلَ لِحيَتَه ، وبَكَتْ أساقِفَتُه حتى أخْضَلوا مَصاحِفَهم حين سَمِعوا ما تَلا عليهم ، ثم قال النَّجاشيُّ : إنَّ هذا واللهِ والذي جاءَ به موسى لَيَخرُجُ مِن مِشكاةٍ واحِدةٍ ، انطَلِقا فواللهِ لا أُسْلِمُهم إليكم أبَدًا ، ولا أُكادُ . قالت أُمُّ سَلَمةَ : فلمَّا خرَجا مِن عِندِه قال عَمرُو بنُ العاصِ : واللهِ لَأُنَبِّئَنَّه غَدًا عَيْبَهم عِندَه ، ثم أستأصِلُ به خَضراءَهم . قالت : فقال له عَبدُ اللهِ بنُ أبي رَبيعةَ ، وكان أتْقى الرَّجُلَيْنِ فينا : لا تَفعَلْ؛ فإنَّ لهم أرحامًا وإنْ كانوا قد خالَفونا . قال : واللهِ لَأُخبِرَنَّه أنَّهم يَزعُمونَ أنَّ عيسى ابنَ مَريَمَ عَبدٌ . قالت : ثم غَدا عليه الغَدَ ، فقال له : أيُّها المَلِكُ ، إنَّهم يَقولونَ في عيسى ابنِ مَريمَ قَولًا عَظيمًا ، فأرْسِلْ إليهم فاسألْهم عمَّا يَقولونَ فيه . قالت : فأرسَلَ إليهم يَسألُهم عنه ، قالت : ولم يَنزِلْ بنا مِثلُها ، فاجتَمَعَ القَومُ ، فقال بَعضُهم لِبَعضٍ : ماذا تَقولونَ في عيسى إذا سألَكم عنه؟ قالوا : نَقولُ واللهِ فيه ما قال اللهُ ، وما جاء به نَبيُّنا ، كائِنًا في ذلك ما هو كائِنٌ . فلمَّا دَخَلوا عليه قال لهم : ما تَقولونَ في عيسى ابنِ مَريمَ؟ فقال له جَعفَرُ بنُ أبي طالِبٍ : نَقولُ فيه الذي جاء به نَبيُّنا؛ هو عَبدُ اللهِ ، ورَسولُهُ ، ورُوحُه ، وكَلِمَتُه ألْقاها إلى مَريمَ العَذراءِ البَتولِ . قالت : فضرَبَ النَّجاشيُّ يَدَهُ إلى الأرضِ ، فأخَذَ منها عُودًا ، ثم قال : ما عدا عيسى ابنُ مَريمَ ما قُلتَ هذا العُودَ . فتَناخَرَتْ بَطارِقَتُه حَولَه حين قال ما قال ، فقال : وإنْ نَخَرتُم واللهِ ، اذهَبوا فأنتُم سُيُومٌ بأرضي -والسُّيُومُ : الآمِنونَ- ، مَن سَبَّكم غُرِّمَ ، ثم مَن سَبَّكم غُرِّمَ ، فما أُحِبُّ أنَّ لي دَبْرًا ذَهَبًا وأنِّي آذَيتُ رَجُلًا مِنكم -والدَّبْرُ بلِسانِ الحَبَشةِ : الجَبَلُ- ، رُدُّوا عليهما هداياهما؛ فلا حاجةَ لنا بها ، فواللهِ ما أخَذَ اللهُ مِنِّي الرِّشوةَ حين رَدَّ علَيَّ مُلْكي فآخُذَ الرِّشوةَ فيه ، وما أطاعَ الناسَ فيَّ فأُطيعَهم فيه . قالت : فخرَجا مِن عِندِه مَقبوحَينِ مَردودًا عليهما ما جاءا به ، وأقَمْنا عِندَه بخَيرِ دارٍ ، مع خَيرِ جارٍ . قالت : فواللهِ إنَّا على ذلك إذْ نَزَلَ به -يعني : مَن يُنازِعُه في مُلكِهِ- قالت : فواللهِ ما علِمْنا حُزْنًا قَطُّ كان أشَدَّ مِن حُزْنٍ حَزِنَّاه عِندَ ذلك؛ تَخَوُّفًا أنْ يَظهَرَ ذلك على النَّجاشيِّ ، فيَأتيَ رَجُلٌ لا يَعرِفُ مِن حَقِّنا ما كان النَّجاشيُّ يَعرِفُ منه ، قالت : وسارَ النَّجاشيُّ وبَينَهما عُرضُ النِّيلِ . قالت : فقال أصحابُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ : مَن رَجُلٌ يَخرُجُ حتى يَحضُرَ وَقعةَ القَومِ ، ثم يأتينا بالخَبَرِ؟ قالت : فقال الزُّبَيرُ بنُ العَوَّامِ : أنا . قالت : وكان مِن أحدَثِ القَومِ سِنًّا ، قالت : فنَفَخوا له قِربةً ، فجَعَلَها في صَدرِهِ ، ثم سبَحَ عليها حتى خرَجَ إلى ناحيةِ النِّيلِ التي بها مُلتَقى القَومِ ، ثم انطَلَقَ حتى حضَرَهم ، قالت : ودَعَوْنا اللهَ لِلنَّجاشيِّ بالظُّهورِ على عَدوِّه والتَّمكينِ له في بِلادِهِ ، واستَوسَقَ عليه أمْرُ الحَبَشةِ ، فكُنَّا عِندَه في خَيرِ مَنزِلٍ ، حتى قَدِمْنا على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو بمَكةَ . ))

[ اسناده صحيح أخرجه أحمد (1740) باختلاف يسير ، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/115) مختصراً ]

لذلك إن أردت أن تكون داعية صامتاً فكن قوياً ، بأوسع معاني القوة التي لا تحتاج إلى عنف ، كن قوياً بعلمك ، كن قوياً باختصاصك ، قوياً في بيتك ، قوياً بإرادتك ، قوياً بالتفوق. 

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور