وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 5 - سورة الرعد - تفسير الآيات 25 – 29 الحكمة من وصف المؤمنين والكافرين
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 أيها الإخوة المؤمنون، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى :

﴿  وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ(25)﴾

[ سورة الرعد ]


الحكمة من وصف الله المؤمنين والكافرين في القرآن :


 الله -سبحانه وتعالى- في القرآن الكريم يصف تارةً المؤمنين، ويصف تارةً الكفار، سؤالٌ يُطرَح عليكم: ما الحكمة من وصف المؤمنين؟ وما الحكمة من وصف الكافرين؟ هذه الصفات التي ذكرها الله للمؤمنين إنما ذكرها لتكون مقياساً نقيس بها إيماننا، فإن لم نكن كذلك، إنما ذَكَرَهَا لتكون هدفاً نسعى إليه، فصفات المؤمنين التي أُدْرِجَت في كتاب الله إنما جعلت مقياساً لنا أو هدفاً نسعى إليه.

﴿  إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(2)﴾

[  سورة الأنفال  ]

 نحن كذلك، مقياسٌ أو هدف.

﴿  قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ(1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ(2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ(3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ(4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ(5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(6)﴾

[  سورة المؤمنون  ]

 المؤمن كذلك؟ يُعْرِضُ عن اللغو؟ في صلاته خاشعٌ؟ إلى الزكاة مُسْرِعٌ؟ في الزلازل وقورٌ؟ في الرخاء شكورٌ؟ هكذا المؤمن؟ فحيثما ورد في كتاب الله -سبحانه وتعالى- أو في السنة المطهرة وصفٌ دقيق للمؤمن فهذا مقياسٌ لك، كن جريئاً مع نفسك، قِس نفسك بهذا المقياس. 

﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ أأنت متوكلٌ عليه؟ أم قلبك فارغٌ كقلب أم موسى، راضٍ بقضائه؟ مستسلمٌ لمشيئته؟ تقول كما قال الإمام الغزالي: " ليس في الإمكان أبدع مما كان " 

 تقول: الحمد لله في السرَّاء والضرَّاء، في الصحة والمرض، في القوة والضعف، في إقبال الدنيا أو إدبارها؟ 


من صفات المؤمنين :


صلة ما أمر الله بصلته :

 قال ربنا -عزَّ وجل- :

﴿ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)﴾

[ سورة الرعد ]

 أية صلةٍ أمرها الله -سبحانه وتعالى- يصلونها ﴿وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ﴾ .

خشية الله والخوف عند القيام بين يديه :

 هل يأتي على المؤمن خواطر يوم القيامة؟ خواطر الوقوف بين يدي الله -عزَّ وجل-؟ هل يتصور في كل عملٍ يعمله أنه سَيُسْأَل عنه؟ ﴿وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ﴾  

﴿ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ(22) ﴾

[ سورة الرعد ]

الصبر وطاعة الله:

 صبروا على الطاعات، وصبروا عن المعاصي، وصبروا على البلاء.

﴿  وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ(22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ(23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ(24) ﴾

[ سورة الرعد  ]


من صفات الكافرين :


 تم شرح هذه الآيات في الدرس الماضي، بالمقابل : ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ﴾

نقض عهد الله :معنى نقض العهد :

 عهد الله: جئت إلى الدنيا وعاهدته أن تطيعه، فإذا عصيته فقد نقضت عهد الله.

معنى نقض العهد :

 ما معنى: ﴿يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ﴾ أي يعصونه، لأنهم حينما جاؤوا إلى الدنيا عاهدوه على الطاعة، فإذا عصوه فقد نقضوا عهدهم معه، ولأن يسقط الإنسان من السماء إلى الأرض فتنكَسِرَ أضلاعه أهون من أن يسقط من عين الله، قد تكون فقيراً وأنت كبيرٌ في عين الله، قد تكون مريضاً وأنت كبير في عين الله، يحبك الله، يتجلَّى عليك، يوفِّقُكَ، يفتح لك أبواب رحمته، وقد تكون قوياً، وقد تكون غنياً، وقد تكون ذا صيتِ عريض، ونَجْمٍ متألِّق، وقد يكون هذا الإنسان ساقطاً من عين الله، لذلك أكبر نجاحٍ يحققه الإنسان على وجه الأرض أن ينال رضاء الله -عزَّ وجل- .

 هناك أناسٌ داسوا بأقدامهم أرض القمر، وهناك مخترعون اخترعوا أجهزةً عجيبة، هناك مخترعون اخترعوا أسلحةً فتَّاكة، هناك من يصنع القنابل الجرثومية، هناك من يصنع السلاح الكيميائي، هناك من صنع القنبلة النووية، ومع ذلك ساقطون من عين الله، والمؤمن إذا عرف الله -سبحانه وتعالى- واستقام على أمره، وتقرَّب إليه بالعمل الصالح، فهو مُقَرَّبٌ عند الله، له مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر ..

﴿  إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ(54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ(55)﴾

[  سورة القمر  ]

﴿  إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا(96)﴾

[  سورة مريم  ]

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) ﴾

[  سورة الحج ]

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)﴾

[ سورة المائدة ]

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده أبو بكر الصديق، وعليه عباءة قد خلها في صدره بخلال، فنزل جبريل، فقال: ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال؟! فقال: أنفق ماله علي قبل الفتح، قال: فإن الله يقول: اقرأ عليه السلام، وقل له: أراضٍ أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يقرأ عليك السلام، ويقول لك: أراضٍ أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟" فقال أبو بكر رضي الله عنه: أأسخط على ربي عز وجل إني عن ربي راض، إني عن ربي راض.

(( وذكر القرطبي الحديث بزيادة وهي: قال: "فإن الله يقول لك: قد رضيت عنك كما أنت عني راض، فبكى أبو بكر، فقال جبريل عليه السلام: والذي بعثك يا محمد بالحق لقد تخللت حملة العرش بالعبي منذ تخلل صاحبك هذا بالعباءة. ))

[ رواه البغوي في تفسيره وهو ضعيف الإسناد ]

هذا مقام ..

 فيا أيها الإخوة الأكارم، ما من نجاحٍ على وجه الأرض أثمن من أن تفوز برضاء الله -سبحانه وتعالى-. 

﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) ﴾

[  سورة آل عمران  ]

﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (58) ﴾

[  سورة يونس  ]

 برحمة الله، بطاعة الله، بمعرفة الله . 

﴿ خِتَامُهُ مِسْكٌ ۚ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) ﴾

[  سورة المطففين  ]

﴿  لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ(61)﴾

[  سورة الصافات  ]

﴿  قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ(58)﴾

[  سورة يونس ]

﴿  وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ(158)﴾

[  سورة آل عمران  ]

 هؤلاء ينقضون عهد الله، يعصونه، يعصون الله، ولا يأبهون لهذه المعصية، يعصون الله جِهاراً، يفتخرون بالمعصية، يتبجَّحون بها ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾.

قطع ما أمر الله بوصله :

 أمرهم الله أن يصلوا أرحامهم فقطعوها، أمرهم الله أن يعطفوا على الفقراء والمساكين فقاطعوهم، أمرهم الله أن يستقيموا فانحرفوا، أيّ شيءٍ أمرهم الله به يخالفونه ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ 

الإفساد في الأرض :

الفساد واسع ومتعدّد المجالات :

 ﴿ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ والفساد في الأرض واسعٌ جداً، إفساد العَلاقة بين اثنين من صفات الكفار، قد تفسد هذه العلاقة بكلمة، قد تفسد العلاقة بين أخوين بكلمة تقولها لأحدهما، قد تُفْسِد العلاقة بين زوجين بكلمةٍ تقولها للزوج، أو بكلمةٍ تقولها للزوجة، وقد تفسد العلاقة بين شريكين بكلمةٍ واحدة تقولها لأحد الشريكين، وقد تفسد العلاقة بين أسرة مُتآخية بشيءٍ تفعله، بدنيا تعرضها، بحديثٍ تتبجّح به، بوصفٍ كاذبٍ تصفه، وقد تفسد العلاقة بينك وبين عقلك، فتعطله أو تسيء استخدامه، أو ترفض نموه، فيكون الجهل والتجهيل، والكذب والتزوير، وهذا أعدى أعداء الإنسان، قد تفسد العلاقة بينك وبين نفسك فيبحث الإنسان عن أشد الوسائل انحطاطاً لأشد الأهداف قذارةً، عندها تكون أزمة الأخلاق المدمرة، ويكون الشقاء الإنساني، وقد تفسد العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، فيكون النصر للأقوى ولو كان صاحب البُطْلِ، ويكون صاحب الحق بعيداً عن حقه، وهذه أزمةٌ حضارية تعيق تقدم الأمة وتقوِّض دعائمها.

  فساد العلاقة واسعٌ جداً، لابدَّ من أن تَصِحَّ العلاقة مع عقلك، ولابدَّ من أن تصح العلاقة مع نفسك، ولابدَّ من أن تصح العلاقة مع أخيك، ولابدَّ من أن تصلح بين اثنين .

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) ﴾

[  سورة الحجرات  ]

 السخرية تفسد العلاقة .

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12)﴾

[  سورة الحجرات ]

 الغيبة تفسد العلاقة .

﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾ التجسس أي تتبع الأخبار السيِّئة يفسد العلاقة، ولا تحسسوا .. 

﴿ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)﴾

[  سورة يوسف  ]

 والتحسس تتبع الأخبار الطيبة، ربما كان هذا فضولاً وقد يفسد العلاقة.

((  مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ  ))  

[ سنن الترمذي عن أبي هريرة  ]

 هؤلاء يفسدون في الأرض، ومن الفساد في الأرض أن تخرج على الناس في زينتك، أن تريهم ما عندك من أثاثٍ فخم، يزورك إنسان فتعرض كل ما عندك أمامه، يخرج من عندك وهو كسير القلب .

 " من دخل على الأغنياء خرج من عندهم وهو على الله ساخط " .

 الفساد أيضاً أن تتبجَّح بنزهاتك، ورحلاتك، وأفراحك، والمصاريف الباهظة التي أنفقتها، هذا من الفساد في الأرض، من الفساد في الأرض أن تُطْلِع أخيك الفقير على شيءٍ نفيس فتجعل في قلبه الحُرْقَة، الفساد في الأرض أن تسأل ابنتك: ماذا قدَّم لك زوجك في العيد، فإن لم يقدم لك شيئاً تذمه، توقع في قلبها الحسرة، توقع في قلبها بغضه، هذا كله من الفساد في الأرض، لذلك هؤلاء: ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ .


لا تعظِّم نفسك فما أنت إلا نطفة من ماء مهين :


 حديثه عن نفسه، ولو عرف الله حق المعرفة لفني في ذات الله، ولرأى نفسه أحقر من أن يتحدث عنها، من أنا؟ هذا الكون العظيم الذي ينبئ عن خالقٍ عظيم، من أنا حتى أتحدث عن نفسي؟ عبدٌ ضعيف، فنقطة دمٍ إذا تجمدت في أحد شرايين المخ شللٌ، عمًى، صَمم، جنون، أية عظمةٍ لهذا الإنسان، أوله نطفة وآخره جيفة، أية عظمة؟ كنت قبل أيام أُشَيِّع جنازةً، وقد وُضِع الميت في قبر قريبه الذي مضى على وفاته ثمانية أعوام، لم نجد في القبر إلا بعض العظام، أي عظمةٍ كانت لهذا الميِّت، كان ملء السمع والبصر، كان غنياً، كان مُتْرَفَاً، كان الناس يتقرَّبون إليه، بضع عظامٍ ملقاةٌ في قبر، علامَ الافتخار ؟ 

أيها الإخوة الأكارم، طوبى لمن ذكر المبتدى والمنتهى، هذا الذي ذكر مبتداه نطفةٌ تخرج من عورةٍ إلى عورة، وتخرج من عورة، من ماءٍ مهين، وهذا الذي نظر إلى أخراه فرأى نفسه عِظاماً نخرة في قبرٍ من قبور الشام، من أنت؟ لذلك حالة الفناء التي وصفها الصوفيون تعني أنك تستحيي أن تقول: أنا وأنا، قالها الشيطان فأهلكه الله، قال:

﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (12) ﴾

[  سورة الأعراف ]


جزاء هؤلاء الموصوفين بهذه الصفات :


اللعن والطردمن رحمة الله :

 ﴿ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ﴾ اللعنة هي البعد عن الله -سبحانه وتعالى-، ما من شيٍ أثمن من القرب من الله -سبحانه وتعالى-، وما من شيءٍ أشقى للإنسان من أن يكون ملعوناً، فهذه الكلمة: لعن الله فلاناً، فلان ملعون، هذه الكلمة تدور على الألسنة، ولو عرف الإنسان معناها، معناها أنه مطرودٌ من رحمة الله، أنه بعيدٌ عن تجلي الله.

﴿أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ﴾ هذا الإنسان إذا عرف ما عند الله من نعيمٍ مقيم، وكان مطروداً عن هذه الرحمة فهذا هو الشقاء بعينه. 

يا عجبًا كيف لو ذاقوا رحمة الله!!!

 قال فرعون للسحرة :

﴿  قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى(71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(72)  ﴾

[  سورة طه  ]

 ذاقوا من رحمة الله فآثروها على كل شيء . 

﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33) ﴾

[  سورة يوسف  ]

 ذاق رحمة الله، " لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليها بالسيوف " .. 

فلو شاهدت عيناك من حسننا   الذي رأوه لما وليت عنا بغيرنا

ولو سمعت أذناك حسن خطابنا  خلعت ثياب العجب عنك وجئتنا

ولو ذقت من طعم المحبة ذرة    عذرت الذي أضحى قتيلا بحبنا

ولو نسمت من قربنا لك نسمة        لمت غراما واشتياقا لقربنا

ولو لاح من أنوارنا لك لائح        تركت جميع الكائنات وجئتنا

[ علي بن محمد بن وفا ]

هذا الذي يذوق من رحمة الله  يضحي بالدنيا كلها من أجلها.

فليتك تحلو و الحياة مـريرة  وليتك ترضى و الأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامرٌ    وبيني وبين العالمين خـراب

[ أبو فراس الحمداني ]

((  إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولك العتبى حتى ترضى، لكن عافيتك أوسع لي.  ))

 

[ الطبراني عن عبد الله بن جعفر وهوضعيف ]

﴿أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ﴾ في الدنيا، الكافر بعيد، شقي، قَلِق، هناك قسوة في حياته، قلبه مقفر كالصحراء، مشاعره بليدة، نفسه تؤْثر ذاتها على كل شيء، يحب الأخذ ويكره العطاء، يتمنى أن يعيش وحده، ويهلك الناس جميعاً، يمقت الناس ويمقته الناس؛ المؤمن يألف ويُؤلَف، يحب الناس كلهم، يؤثرهم على نفسه، يتمنَّى لهم النجاح والتوفيق، هيّنٌ ليّنٌ، حييٌّ، كريمٌ، 

(( المؤمن غرٌ كريم، والكافر خَبٌ لئيم . ))

[ سنن أبي داوود ]

سوء الدار والمنقلب :

 ﴿أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ قال عليه الصلاة والسلام :

(( فالناسُ رجلانِ : رجلٌ بَرٌّ تَقِيٌّ كريمٌ على اللهِ وفاجرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ على اللهِ ،  ))

[ صحيح الجامع عن عبد الله بن عمر ]

 لا شأن له عند الله، والناس إذا ضاقت بهم الدنيا، وغلت فيهم الأسعار، وشحَّت علهم أمطار السماء لا لشيء إلا لأن الله هان عليهم، هانت عليهم معصيته، هان عليهم خَرْقُ حدوده، هان عليهم الاستهزاء بدينه، هان عليهم نقض مواثيقه، هان عليهم أن يعصوه جهاراً، هان عليهم أن يضربوا بكتاب الله عُرْضَ الطريق، هان عليه أن يسخروا من شرعه، فهانوا على الله، هانوا عليه؛ ضاقت بهم السبل، وانقطعت بهم الأسباب .

﴿  اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ(26) ﴾

[ سورة الرعد  ]


اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا


الإنسان يفرح بالحياة وهو لا يعلم حقيقة ذلك :

 أيها الإخوة الأكارم، ربنا -سبحانه وتعالى- في آيةٍ أخرى يوضِّح هذه الآية :

﴿  فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ(15)  ﴾

[  سورة الفجر ]

 الإنسان أحياناً يتوهَّم أنه إذا كان غنياً، وكان في بحبوحة، وكان صحيحاً، قوياً، ذا شأنٍ ووجاهة، قد يتوهَّم الإنسان أن الله يحبُّه إذ أعطاه، فإذا ضاق رزقه، وضعُفَ جسمه، وضعف شأنه قد يتوهَّمُ أنه مُهانٌ عند الله، والحقيقة عكس ذلك ﴿فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ﴾ هو هذه مقولته، ولكنها ليست صحيحة، هذه دعواه، هذا زعمه، هذا توهُّمُهُ. 

﴿  وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ(16)  ﴾

[  سورة الفجر  ]

 لا، يا عبادي، ليس عطائي إكراماً، ولا ابتلائي إهانةً، إنما عطائي ابتلاءٌ، وحرماني معالجة .

معنى : يبسط و يقدِر :

 ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾ معنى يَقْدِر أي يُضَيِّق، والمعنى الثاني: يقدر أي يجعل رزق العبد على قدر حاجته، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :

(( قد أفلح من أسلَم و رُزِقَ كفافًا، و قَنَّعَه اللهُ بما آتاه ))

[ أخرجه مسلم ]

 ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ إذا أعطى أدهش . 

العطاء الدنيوي ليس دليلَ حب الله للإنسان :

 لكن هذا الذي يعطيه الرزق الوفير لا ينبغي أن يتوهَّم أن الله يحبه، قد يحبه وقد لا يحبه، هذا الغني الذي أوتي مالاً كثيراً لا ينبغي أن يستنبط من غناه أن الله يحبُّه، قد يحبه وقد لا يحبه، قد يحبه إذا كان مستقيماً محسناً، متواضعاً سخياً.

 إذا كنت غنياً لا يستنبط من هذا أن الله يحبُّك، عوامُّ الناس يقولون: " إذا أحب الله -عزَّ وجل- عبده أطلعه على ملكه "، القضية سهلة، اركب طائرةً وجُلْ بها في أقطار الأرض معنى هذا أن الله يحبك، هذا استنباط مضحك، استنباط سخيف، النبي -عليه الصلاة والسلام- ما رأى من الأرض إلا مكة والمدينة وأطراف الشام، ما رأى أوروبا ولا أمريكا، ماذا يُستنبَط من هذا؟ استنباطٌ مضحك، لذلك: ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾ أي أن الله -سبحانه وتعالى- يعطي وقد لا يعطي، قد يضيِّق وقد يعطيك الكفاف.

((  إن من عبادي من لا يصلح له إلا الغنى فإذا أفقرته أفسدت عليه دينه، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته أفسدت عليه دينه  ))

[  السلسلة الضعيفة عن عمر بن الخطاب ]

 أي أن الله -عزَّ وجل- عليمٌ، خبير، معنى خبير: خبير بهذه النفوس، هناك إنسان على الدخل المحدود من مسجدٍ إلى مسجد، فإذا زاد دخله من ملهى إلى ملهى، حينما يُكْشَفُ الغطاء يوم القيامة، ويرى العبد الفقير أن الفقر كان أنسب شيءٍ له يذوب خجلاً ومحبةً لله -عزَّ وجل-، والغني إذا أفقره الله -سبحانه وتعالى- ربما كفر، فطبيعة نفسه تقتضي الغنى، والدنيا مؤقتة، والدنيا ساعة اجعلها طاعة .

﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾ بمعنى يُضَيِّق أو يرزق الكفاف .

قد يكون الشر كامنًا في الخير :

 ﴿وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ﴾ فالآية الكريمة :

﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)﴾

[  سورة البقرة  ]

 هناك رجل تزوج امرأةً في المدينة، فلما دخل عليها لم تعجبه، أمضى معها الليلة، ثم هامَ على وجهه في أطراف الدنيا، من شدة ضيقه قالت له: " يا فلان، قد يكون الخير كامناً في الشر، لا تدري قد يكون الخير كامناً في الشر" فلما عاد بعد عشرين عاماً إلى المدينة، ودخل أحد مساجدها رأى عالماً تحلَّق الناس حوله، فلما سأل عنه إذا هو ابنه، فلما دخل البيت ذكَّرته امرأته بقولها له حينما رآها .

﴿وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ فهذا الذي قسمه الله لك؛ شكلك رزقٌ قسمه الله لك، طولك، لون جلدك، صحَّة أعضائك، زوجتك، أولادك، حرفتك، دخلُك، أمك، أبوك، حيُّك، مدينتك. 

﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (32)﴾

[  سورة الزخرف ]

 هذا أنسب شيء لك، هذا بتقدير الله .

﴿ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) ﴾

[  سورة الأنعام  ]

الفرح بالدنيا دليل على قلة العقل :

 ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ قل لي بربك: ما الذي يفرحك أقل لك من أنت؟ هناك من يفرح بالدرهم والدينار، هناك من هو عبدٌ لبطنه، هناك من هو عبدٌ لفرجه، هناك من هو عبدٌ لخميصته، هناك من هو عبدٌ للدرهم والدينار، إذا فرحت بالحياة الدنيا فهذه وصمة عار، قال: 

﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) ﴾

[  سورة القصص  ]

﴿  إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ(76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ(77) ﴾

[ سورة القصص ]

 هذا قارون .. 

﴿ فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)﴾

[  سورة القصص  ]

﴿وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ علامة النفاق الفرح بالدنيا، والمؤمن يفرح بفضل الله -سبحانه وتعالى- يفرح إذا عرف الله، إذا فهم كتابه، إذا استقام على أمره، إذا عمل الصالحات، إذا رزقه الله عملاً صالحاً، سيدنا موسى لمَّا سقى لهما تولى إلى الظل:

﴿  فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ(24)﴾

[  سورة القصص  ]

 الفقر فقر العمل الصالح، والغنى غنى العمل الصالح، والغنى والفقر بعد العرض على الله.


وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ


هذه هي قيمة الدنيا :

 ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ﴾ النبي عليه الصلاة والسلام قال :

(( واللَّهِ ما الدُّنْيا في الآخِرَةِ إلَّا مِثْلُ ما يَجْعَلُ أحَدُكُمْ إصْبَعَهُ هذِه -وأَشارَ يَحْيَى بالسَّبَّابَةِ- في اليَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بمَ تَرْجِعُ؟ ))

[ صحيح مسلم ]

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) ﴾

[  سورة النساء  ]

 ألا تصدق الجليل يقول لك: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾ سنواتٌ عشر حتى يستطيع الإنسان أن يسترخي، أن يستمتع بالحياة الدنيا لابدَّ من أن يصل إلى أربعين عاماً، ولا سيما في هذه الأيام العصيبة؛ إلى أن يشتري البيت، ويكسو البيت، ويؤسس البيت، ويبحث عن عملٍ مريح، إلى أن يتزوَّج، إلى أن تُحَلّ مشكلاته المادية في الأربعين، وأكثر الذي يموتون الآن في الخمسين، عشر سنواتٍ فحسب يُضيِّعُ من أجلها الآخرة كلها، ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾.

﴿  أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ(61)﴾

[  سورة القصص  ]

 إذا تألَّمت من سِنِّك، تذكَّر وأنت في حالة الألم الطعام الفاخر الذي أكلته قبل يومين أين هو؟ تذكر النزهة التي أمضيتها قبل أسبوع أين هي؟ تقول: إن ألم الضرس أنساني كل شيء.  

 حينما شَيَّعْتَ جنازةً قبل أسبوع، السيارة التي وُضِع فيها النعش وضعوا آياتٍ من كتاب الله، الآيات هي:

﴿  كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي(26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ(27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ(28) وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ(29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ(30)  ﴾

[  سورة القيامة  ]

 وهذا الميت الذي أمامنا تنطبق عليه هذه الآية، إلى ربِّك، رحلةٌ أبدية، يُحاسَب فيها الإنسان عن كل شيءٍ فعله في الحياة الدنيا، عن كل نظرةٍ، عن كل درهمٍ من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ 

﴿  فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93)  ﴾  

[ سورة الحجر ]  

﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(8)  ﴾

[  سورة الزلزلة  ]

﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ﴾ ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ﴾ أي أنها لذَّاتٌ عابرة سريعاً ما تنقضي.

﴿  وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ(27)  ﴾

[ سورة الرعد ]


وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ


كيف تطلبون آية والآيات لا تخفى على أحد ؟!

 كل هذه الآيات وكل هذه الدلالات لا تكفي الكافر ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ عجيبٌ أمر الكفَّار .

﴿  وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ(20)  ﴾

[  سورة الذاريات  ]

  كل هذه الآيات أينما تحركت، جسمك آية، ابنك آية، كأس الماء آية، صوتك آية، الهواء آية، الماء آية، الرياح آية، الأمطار آية، الجبال آية. وفي كل شيء له آية تدلّ على أنه واحد، ومع كل هذا: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ﴾ .


قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُوَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ


 هذه الآية ينبغي أن نقف عندها، الله -سبحانه وتعالى-: ﴿يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ﴾ إذا قابلنا بين الآيتين وجدنا أن الله: ﴿يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ﴾ .

المعنى الأول : الله يضل المتكبرَ الذي لا ينيب :

 إذاً: من الذي يضلُّه؟ الذي لا يُنيب، المتكبر، المُستنكِف عن طاعة الله، إذا كانت معك معلوماتٌ قيمة لإنسان، وهذا الإنسان يسخر منك، ولا يعترف بعلمك، ولا يقدِّر هذه المعلومات، ولا يرضاها، ولا يقيم لها وزناً كيف تعطيه إيَّاها؟ مستحيل، هذا بعض معاني هذه الآية.

﴿يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ﴾ لأن هذا الذي أَضلَّه لم يُنِب إليه، لم يرجع إليه، لم يستعن به، لم يستهدِ به، لم يرَ ما عنده خيراً، لم يرَ قرآنه فيه حل لكل المشكلات، أعرض عنه، ازْوَرّ، استكبر، استعلى، إذاً الله -سبحانه وتعالى- لم يعطِه شيئاً، شيء طبيعي، هذا بعض المعاني، يضل الذي لا يُنيب إليه، والقسم الثاني من الآية يوضِّح القسم الأول.

﴿يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ﴾ الذي يعود إليه، يقبل عليه، يلتجئ إليه، يستهديه، يسترشده، يستغفره، يتوبُ إليه، يفوِّضُ له، يستسلم له، هذا الذي يهديه الله -سبحانه وتعالى-، فهذا المعنى دقيق جداً، إذا أعرض العبد عن ربه، واستنكف عن طاعته، ولم يلتجئ إليه، ولم يستهدِ بهديه، كيف يهديه الله عزَّ وجل ؟

 لو أنت معك معلومات دقيقة جداً لهذا المريض، وهذا المريض لا يأبه لك، بل يسخر منك، كيف تعطيه إيَّاها؟ ولو أعطيته إياها لألقاها في الطريق، لألقاها في سلة المُهملات .

 أحياناً على مستوى طبيب، يكون طبيب ناشئ معه معلوماتٌ قيِّمة عن هذا المرض، يزور قريباً له، يلقي عليه هذه التعليمات، ثقة هذا المريض بطبيبٍ آخر، لو أملاها عليه لا يطبقها ولا يتبعها، فهذا الذي أعرض عن الله -سبحانه وتعالى- كيف يهديه الله؟ مستحيل، ولو ألقى عليه الهدى، الهدى بين أيدينا، هذا كتاب الله بين أيدينا، كم من البشر يقرؤه، ويهتدي بهديه، ويراه الحق الفَيْصَل، قلةٌ قليلة، وهؤلاء الذين إذا فتحوا المذياع، وطاشت إبرة المذياع على قرآنٍ كريم سريعاً ما يحوِّلونه، كيف يهديهم الله -سبحانه وتعالى- كيف؟ إذا ألقيت على مسامعهم كلمة الحق سريعاً ما يزورّوا عنه يقول لك: ليس عندنا وقت هذا كلام فارغ، هذا كلام لا معنى له في هذه الأيام، فالذي يعرض عن الله -سبحانه وتعالى- لا يهديه الله، هذا المعنى من بعض المعاني التي تُستنبَط من هذه الآية . 

المعنى الثاني : الله يضل إذا اختارالعبد الضلالَ لنفسه :

 معنى آخر: الله -سبحانه وتعالى- يضل من يشاء، لكن في آيات كثيرة، وضح هذه المشيئة ..

﴿ ذَٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) ﴾

[  سورة يوسف ]

﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ۖ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ۖ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) ﴾

[  سورة غافر  ]

﴿ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) ﴾

[  سورة المنافقون ]

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) ﴾

[  سورة الجمعة ]

 إذا كان في الآية هناك إيجاز فهناك آياتٌ أخرى فيها تفصيل، الظالم لا يهديه الله -سبحانه وتعالى-، الفاسق لا يهديه الله -سبحانه وتعالى-، المسرف الكذَّاب لا يهديه الله -سبحانه وتعالى-، المُختال لا يهديه الله، المتكبر لا يهديه، المسيء لا يهديه، العاصي لا يهديه .

﴿  كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ(33)  ﴾

[  سورة يونس  ]

 فإذا قال الله -عزَّ وجل- : ﴿إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ﴾ هناك آيات تزيد على خمسين آية فَصَّلَ الله -سبحانه وتعالى- من هؤلاء الذين لا يهديهم؟ الظالمون، الفاسقون، المتكبِّرون، الكاذبون، الخائنون، المختالون، هذا المعنى الثاني.

﴿يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ﴾ أنا أقول للطلاب مثلاً: آخذ معي إلى النُّزهة من أشاء، لكنني لن آخذ الكسول، توضَّحت مشيئتي، توضح أنني آخذ المُجتهد.

﴿إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ﴾ إذاً: من الذي يضله؟ الذي يعرض عنه، آية واضحة كالشمس، لكن أهل الكفر والضلال يأخذون هذه الآية ليتَّخذوها حجةً وهي حجةٌ عليهم وليست لهم، يقولون: يا أخي الله يضل من يشاء، إذاً فأكمل الآية: ﴿وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ﴾

﴿ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) ﴾

[  سورة البقرة ]

 أكمل الآية، فضله واسع، يسع الخلق كلهم، إذاً: من يشاء هنا تعود على الإنسان ﴿ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ من البشر، لأن ﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ﴾ 

﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ(28)  ﴾

[ سورة الرعد ]


الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ


لا يعرف الأمن والسكينة إلا من ذاقها :

 إن الله يعطي الصحة، والذكاء، والجمال، والمال للكثيرين من خلقه، ولكنه يعطي السكينة بقدَرٍ لأصفيائه المؤمنين، هذه السكينةُ لا يعرفها إلا من ذاقها .

﴿  وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ۚ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)  ﴾

[  سورة الأنعام  ]

 فنعمة الأمن لا يعرفها إلا من ذاقها.

﴿  الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ(4)  ﴾

[  سورة قريش  ]

﴿  وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(112)  ﴾

[  سورة النحل  ]

﴿ وَأَلْقِ عَصَاكَ ۚ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ۚ يَا مُوسَىٰ لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (11) ﴾

[  سورة النمل  ]

 أي أن الذي يظلم نفسه يخاف، والذي يظلم من حوله يخاف، يقذف الله في قلبه الرعب.

المؤمن آمنٌ مطمئنٌ لأنه يعلم أن الأمر كله بيد الله :

 ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ﴾ المؤمن سبب طُمأنينته أنه يرى أن الأمر كله لله، وأن الأمور كلها ترجع إلى الله، وأن الله -سبحانه وتعالى- بيده كل شيء، 

وأنه: 

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾

[  سورة هود  ]

وأنه: 

﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) ﴾

[  سورة الزخرف  ]

 وأنه :

﴿ مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) ﴾

[ سورة فاطر ]

 انتهى الأمر، إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟

﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ۚ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (56) ﴾

[  سورة هود  ]

 ما لك لك، وما ليس لك ليس لك :

(( أَلا وَإِنَّ الرُّوحَ الأَمِينَ نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ رِزْقٍ أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعَاصِي اللَّهِ، فَإِنَّهُ لا يُدْرَكُ مَا عِنْدَ اللَّهِ إِلا بِطَاعَتِهِ  ))

[  البيهقي عن ابن مسعود وهو ضعيف  ]

 " إن كلمة الحق لا تقطع رزقاً ولا تقرِّب أجلاً " انتهى الأمر، فعند المؤمن طمأنينة لو وزِّعَت على أهل بلد لكفتهم، وفي قلب الكافر خوفٌ وقلقٌ وذعرٌ ورعبٌ لو وزِّع على أهل بلدٍ لأفزعهم. 

﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ﴾ يا فلان لقد احترق متجرك، ابتسم وقال: ما كان الله ليفعل، لا، لن يحترق متجري، أبو الدرداء، " يا أبا الدرداء لقد احترق حانوتك " قال: " ما كان الله ليفعل"، ثم جاءه آخر فقال: " لم يحترق حانوتك احترق الحانوت الذي إلى جانبه "، قال: " أعرف ذلك" مطمئن إلى رحمة الله "ذلك مرضٌ ما كان الله ليصيبني به "، أعرف صديقاً مؤمناً استيقظت زوجته وقد رأت ابنتها مشلولة فصرخت فقال: اسكتي ما كان الله ليصيبني بهذا المرض، وفعلاً هناك مرض مُشابهٌ تماماً لهذا المرض يزول بعد يومين، مطمئن .  

﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ۖ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) ﴾

[  سورة الطور ]

 أنت في رعاية الله، في ظل الله، في حفظ الله، في توفيق الله، إن الله يدافع عنك. 

﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) ﴾

[  سورة البقرة  ]

﴿  إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ(30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31)﴾

[  سورة فصلت  ]

 إذا كان الله -عزَّ وجل- وهو ملك الملوك يقول: ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ من تخاف؟ من تخشى؟ من ترهب؟ لماذا تقلق؟ 

 من أوتي القرآن فرأى أن أحداً أوتي خيراً مما أوتي فقد استصغر ما عظَّمه الله، حَقَّر ما عَظَّمه الله، إن كنت مؤمناً فنم ولا تبالِ، هنيئاً لك أنت من ملوك الدار الآخرة، إن المؤمن حينما يموت ينتقل من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، كما يخرج الجنين من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا، ساعة الموت عُرس المؤمن، " لا كرب على أبيك بعد اليوم غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه " .

 والله الذي لا إله إلا هو يأتي على المؤمن في ساعة الموت سعادة لو عرفها أهله لضحكوا، لفرحوا، لأقاموا الزينات في البيت، إلى أين أنت ذاهب؟ إلى رحمة الله، يقول لك المُلَقِّن: اللهم أبدله أهلاً خيراً من أهله، وداراً خيراً من داره، وزوجةً خيراً من زوجته، ولقِّه الأمن والبشرى والسلامة والزلفى، اللهم نقّه من الخطايا كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدنس "، هذا التلقين لنا وليس للميت، لنا نحن، هناك حياةٌ أبديةٌ لا نغص، لا قلق، لا ارتفاع أسعار، لا ندرة مواد، لا خوف، لا حَزَن، لكن :

((  أعددت لعبادي الصالحين مالا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر  ))

[  البخاري  ]

﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) ﴾

[  سورة الزمر  ]

﴿  فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِي(19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِي(20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ(21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ(22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ(23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ(24)﴾

[  سورة الحاقة  ]

 لذلك: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ﴾ علامة إيمانك أنك تطمئن بذكر الله، ترتاح نفسك، تستقر مشاعرك، لا تقلق، لا تحزن، لا تخاف، لا تخشى، تتوكَّل، ترى أن الأمر كله لله، وأنه لا يقع شيءٌ إلا بأمر الله، وأن كل من تخاف منه بيد الله ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ هذا التوحيد، ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، هذا التوحيد يورث في الإنسان الطمأنينة، فإذا اطمأننت إلى ذكر الله، واطمأن قلبك فأنت مؤمن، لذلك المؤمن يتغنَّى بكتاب الله، ولا يستطيع أن يتغنّى بشيءٍ آخر، لا يستطيع، المؤمن في المسجد كالسمك في الماء، والمنافق في المسجد كالعصفور في القفص، لكن كلمة عصفور كثيرةٌ عليه، خطأ المثل، لكنه محبوس، متضايق ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾

﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ(29) ﴾

[ سورة الرعد  ]


الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ


معنى : طوبى :

 طُوبى على وزن كُبرى، من طاب يطيب، طابت حياتهم في الدنيا والآخرة، طابت من كل نغص.

﴿طُوبَى لَهُمْ﴾ حياةٌ لا تُوصَف لشدة ما فيها من سعادة  ﴿طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ﴾ .

معنى : حُسْنُ مَآبٍ :

 أي عودة مشرفة إلى الله -عزَّ وجل-، ما فيها خزي، الكافر ..

﴿  هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ(1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ(2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ(3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً(4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ(5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ(6)﴾

[  سورة الغاشية  ]

﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (106)﴾

[  سورة آل عمران ]

﴿  تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ(41) أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ(42)  ﴾  

[ سورة عبس  ]

 فهذا شر مآب، أما المؤمن يُستقبل كضيف.

﴿  ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ(14)﴾

[  سورة الحجر  ]

 هنيئاً لكم طبتم ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ﴾ إذاً: ﴿طُوبَى لَهُمْ﴾ أي طابت حياتهم في الدنيا والآخرة ﴿وَحُسْنُ مَآبٍ﴾ وإذا انقلبوا إلى الله -عزَّ وجل- ينقلبون إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض.

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور