وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 09 - سورة الإسراء - تفسير الآيات 66 – 77 معاني الربوبية
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعدِ الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.


الله سبحانه وتعالى ربّ كل العوالم :


أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس التاسع من سورة الإسراء .

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى : ﴿رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (66)﴾ كلمة ( الرب ) تعني المُمِد ، الله سبحانه وتعالى تفضّل علينا بنعمة الإيجاد ، وتفضّل علينا بنعمة الإمداد ، وتفضّل علينا بنعمة الإرشاد ، فرب العالمين أي الذي يمدهم بما يحتاجون ، ومن كلمة ( رب ) اشتقت كلمة التربية ، والتربية : العناية ، والرعاية ، والملاحظة ، والتقويم ، والتصحيح ، والتسديد ، والإمداد ، والإشراف ، كل هذه المعاني مشتقة من التربية ، إنك إذا ربيت نبتة تُقلِّمهَا عند الحاجة ، تمدها بالماء ، بالسماد ، تضعها في الشمس تارة ، وفي الظل تارة أخرى ، تسقيها ، تعتني بها ، تغير أصصها ، هذه هي التربية .

والذي يربي أولاده يعرف معنى التربية ، هذه معان مبسطة يعرفها الجميع من خلال الممارسات اليومية ، لكن الله سبحانه وتعالى رب العالمين ، أنت قد تضيق ذرعاً بعدة أولاد تربيهم ، لكن الله سبحانه وتعالى رب كل العوالم .

﴿رَبُّكُمُ﴾ أي الذي خلقكم ، والذي يتولى شؤونكم ، والذي يمدكم بما تحتاجون هو الذي يزجي لكم الفلك . 

أزجى : بمعنى دفع ، والفلك : هي السفن .

والسفن أولاً لن تقوم سفينة أو لن تطفو سفينة على سطح الماء إلا بفضل الله عز وجل ، لأن الله عز وجل خلق الماء بطريقة أن ذراته متماسكة ، وهذا التماسك يقاوم كل جسم يغمس في الماء ، إذاً كل جسم يغمس في الماء كأن قوة تدفعه نحو الأعلى ، هذه الحقيقة كشفها بعض العلماء ، وسمي قانون الدفع المائي باسمهم .

قوة الدفع نحو الأعلى ، الإنسان إذا حمل وعاء من الماء ، وغرسه في بحرة صغيرة ، يحس أن ثلاثة أرباع وزنه قد تلاشى ، في الماء قوة تدفع نحو الأعلى ، هذه من فضل الله عز وجل ، لولا هذا التماسك بين ذرات الماء ، ولولا أن الأجسام المنغمسة في الماء تجد ما يدفعها نحو الأعلى لما كانت الفلك في البحر ، مبدأ السفن كله يصبح لاغياً لولا قانون أرخميدس . 

﴿رَبُّكُمُ الَّذِي﴾ هو الذي جعل هذه القوة الدافعة نحو الأعلى ، وهو الذي جعل الرياح تدفعها نحو أهدافكم ، وحينما استُبدل الشراع بالمحرك استخدم الناس الوقود ، مَنْ خَلَقَ الوقود ؟ 

﴿ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)  ﴾

[ سورة يس  ]

بعض العلماء وجَّه هذه الآية إلى البترول ، أحدث نظريات البترول أنه في العصور المطيرة ، وفي حقب الأشجار العملاقة ، هذه الأشجار العملاقة ، وهذه الحيوانات الضخمة دفنت في باطن الأرض فكان البترول ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)﴾ لذلك إن تحركت السفينة بالرياح فبفضل الله عز وجل ، إن تحركت بالوقود السائل فبفضل الله عز وجل ، من أودع في هذا الوقود قوة الانفجار ؟ 

 

الآية التالية تُعد أصلاً في إباحة السفر من أجل طلب الرزق :


﴿رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾ هذه العبارة في القرآن الكريم تَرِدُ كثيراً في معرض البحث عن الرزق ، بل بشكل أدق في التجارة مع السفر ، فالإنسان حينما يسافر ، ويبتغي من سفره هذا أن يصيب تجارةً ، أو أن يبيع بضاعةً ، أو أن يشتري ، أو أن يقايض ، فهذا اسمه ابتغاء من فضل الله عز وجل ، لذلك هذه الآية تُعد أصلاً في إباحة السفر من أجل طلب الرزق ، فالله سبحانه وتعالى يقول : ﴿رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (66)﴾ تصور لو أن هذه البحار ليست موجودة ، لو أن اليابسة متصلة ، بعيداً عن موضوع الطقس وعن موضوع الرياح والأمطار ، لسببٍ أو لآخر لو أن البحار معدومة ، شقّ الطرق يجهد الميزانيات ، جسر صغير أنشئ بين دولتين في البحرين كلف ألوف الملايين ، لو لم يكن البحر وأردنا أن نُعَبِّدَ طريقاً إلى أمريكا ، أو طريقًا إلى أوروبا ، أو طريقًا إلى آسيا ، أو طريقاً إلى أستراليا ، أو طريقًا إلى اليابان ، هذا شيء فوق طاقة البشر ، الله سبحانه وتعالى جعل البحر بين القارات همزة اتصال ، مستو من الماء ، أحياناً تعترض شقّ الطرق عقبات كؤود كالطرق الصاعدة ، كالجبال ، كالصخور ، هذه كلها عقبات ، لكن البحر ليس فيه أي عقبة ، ولا ارتفاع ، ولا انخفاض ، ولا وادٍ ، ولا جبل ، ماء مستوٍ ، ما علينا إلا أن نبني السفن ، أي كأن البحر كله طريق واحد معبد ، هذا من فضل الله عز وجل .

 

مظاهر رحمة الله عز وجل : 


﴿رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (66)﴾ رحمته في البحر ، ورحمته فيما في البحر ، من السمك والحليّ ، ورحمته في البر ، وفي الصحراء ، وفي الجبال ، وفي الوديان ، وفي الأغوار ، وفي السهول ، وفي الأنهار ، وفي البحيرات ، وفي الأطيار ، وفي الأسماك ، وفي الأزهار ، وفي النباتات ، وفي المحاصيل ، وفي الأشجار المثمرة ، وفي خلقنا ، وفي خلق أولادنا ، وفي أسرنا ، كل هذا مظاهر رحمة الله عز وجل . 

 

الإنسان مفطور على الإيمان بالله :


﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ﴾ هذه الآية أيها الإخوة أصلٌ في أن الإنسان مفطور على الإيمان بالله ، لو ركب مجموعة كبيرة من الناس طائرة أو باخرة ، وكان فيهم الملحد ، وفيهم الكافر ، وفيهم الزنديق ، وفيهم المنكر ، وفيهم الفاجر ، وفيهم المستخف بالدين ، إذا هبت عاصفة هوجاء ، فأصبح الموج كالجبال ، دقق في وجوه هؤلاء جميعاً ، على اختلاف نحلهم ودياناتهم ، على اختلاف مللهم ، ونحلهم ، واتجاهاتهم ، ومعتقداتهم ، وأهوائهم ، وعلى اختلاف مشاربهم وعقائدهم وقيمهم ، وعلى اختلاف انحرافاتهم ، كلهم جميعاً بصوت واحد ينادون : يا اللَّه ، فالإنسان مؤمن بالفطرة ، لكن الشهوات ، ومشاغل الدنيا ، والأطماع ، هذه كلها تطمس الفطرة ، لكننا إذا واجهنا خطراً شديداً نعود إلى اللَّه عز وجل ، وهذا الذي أقوله ليس افتراضياً ، إنه قد وقع .

طائرةٌ تُقِلُّ أناساً يُنكرون وجود الله عز وجل ، فلما مرت بغيمة مكهربة ، وتبعها جيب هوائي ، فبدا للركاب وكأنها قد سقطت ، ما الذي حصل ؟ كلهم ضجوا بالشكوى إلى الله عز وجل ، فالإنسان مؤمن بفطرته ، لذلك الإمام علي رضي الله عنه سُئل : متى كان الله ؟ فأجاب : ومتى لم يكن حتى تسألوني : متى كان الله ؟ الإنسان أحياناً لِجهله ، ولضيق أُفُقِه ، ولعدم تبصره ، يتوهم أنه إذا كان في بيته ، والبيت بناؤه جيد ، وكان في أتمّ صحته ، وكان عنده مال وفير ، فهو في غنى عن رحمة الله عز وجل ، هذا هو الجاهل ، لكنه إذا ركب طائرة ، أو ركب باخرة فأدرك أنه صار تحت رحمة الله ، هذا الوهم ، وهذا الضلال ، إنك في أشد ساعات يقينك بأنك مكين ، إنك في أشد ساعات استغنائك عن الله مفتقر إلى الله عز وجل ، فهذا الذي توهم أن الخطر كامن في البحر فقط ، وأنه مادام في السفينة فلا بد من قول : يا الله ، أو أن الخطر كامن في الطائرة فقط ، هذا ضال ، جاهل ، ضيق الأفق ، ربنا سبحانه وتعالى يقول : ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ﴾ الإنسان له أعوان ، له أصحاب ، له أناس يعتمد عليهم ، له أناس يُعلق آماله عليهم ، له أصدقاء ، له أقارب ، له أصحاب من أولي الشأن ، أو أولي القوة ، هؤلاء وهو في الأرض ، وهو في المدينة ، وهو في بيته ، يعتمد عليهم ، يتكل عليهم ، يعلق آماله عليهم ، لكنه إذا ركب السفينة ، أو ركب الطائرة ، وكان الوضع خطراً ، طائرة أصيبت ، دخلت في غيمة مكهربة ، أو دخلت في صاعقة ، في سماء بعض مدن أوروبا ، كان من جراء هذا الدخول أن تحطم جهاز الرادار ، وتحطم البلور الموجود أمام ربان الطائرة ، وأصبح سقوط الطائرة قاب قوسين ، وأصبح الخطر محققاً ، ربان الطائرة أَمَرَ مُضِيفَاً أن يبلِّغ الركاب أن يشدوا الأحزمة ، فإذا الركاب في هرج ومرج ، هذا يبكي ، وهذا ينادي ، وهذا يلتجئ ، وهذا يدعو ، وهذا ينادي : يا أهلي ! يا ولدي! إلى أن رأى المضيف راكباً متماسكاً في أعصابه ، هادئاً ، فظن به أنه يستطيع أن يهدئ الركاب ، توجَّه إليه ، وقد عقد الآمال عليه ، فإذا هو مغمىً عليه ، الإنسان ضعيف ، هؤلاء يتوهمون أنهم في الطائرة تحت رحمة الله عز وجل ، أما وهم في بيوتهم فمستغنون ، ربنا عز وجل يلفت النظر قال : ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ﴾ تفضلوا ، هذا الذي في الأرض تعتمد عليه ، وتتكل عليه ، وتعقد عليه الآمال ، وأنت في الطائرة ، أو وأنت على السفينة تفضل ادعُه ؟! قل له : يا فلان ، أين أنت يا فلان ؟ تعال إليّ يا فلان ، أنا مستجير بك يا فلان ، أنقذني يا فلان ، ليس لي سواك يا فلان ، أين فلان ؟ هل يسمعك فلان؟ لو أنه سمعك هل بإمكانه أن ينقذك ؟ ﴿ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ﴾ إ ذا كنت في خطرٍ محدق ، الإنسان حينما يصاب بمرض ، ويتوهمه عضالاً من يدعو ؟ هؤلاء الذين عصى الله من أجلهم إذا دعاهم هل ينقذونه ؟ لا شيء ، ربنا عز وجل قال : ﴿ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ﴾ كل الشركاء ضلوا عنكم ، أو أنتم ضللتم عنهم ، ضلوا عنكم فلم تجدوهم ، وضللتم عنهم فلم تعبؤوا بهم . 

 

أخلاق الذين يتعاملون مع الله عز وجل بالمنفعة فقط :


﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ ﴾ أيها الإخوة الأكارم ؛ هذه الصورة ليست مختصة في البحر ، الإنسان أحياناً يمرض ابنه ، يقول له الطبيب : التهاب سحايا خطر ، أي احتمال الموت ثمانون بالمئة ، يبدأ بالصلاة ، ويغض بصره خلال أسبوع ، ويتصدق ، ويأمر امرأته بالصلاة ، فإذا زال الخطر عاد إلى ما كان عليه من معصية ، هذه أخلاق التجار ، أخلاق الانتهازيين ، أخلاق الذين يتعاملون مع الله عز وجل بالمنفعة فقط ، ﴿فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ﴾ الإنسان يراقب نفسه ، في أيام الشدة هل يختلف دعاؤه في الشدة عن الرخاء ؟ إذا كان لك حال مع الله عز وجل في الشدة ، حال الالتجاء والإقبال ، والاستقامة ، وحال آخر خارج الشدة ، من الاسترخاء ، وعدم الالتفات ، والاستغناء ، والتفلت ، والانحراف ، إذا كان هذا الحال موجوداً فصاحبه يحتاج إلى جهد كبير. 

 

على الإنسان أن يخاف الله في كل مكان وزمان :


﴿فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُوراً (67)﴾ الإنسان الذي لم يتعرف إلى الله عز وجل ، طبيعة الكفر ناتجة من إدباره ، من إعراضه ، من حجابه ، من غفلته ، الغفلة والإعراض والمعصية هذا كله يسبب كفوراً في الإنسان ، ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُوراً (67)﴾ أي وكان الإنسان المنقطع عن الله عز وجل كفوراً ، ربنا عز وجل يذكرنا : ﴿أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ﴾ أي هذا الذي يجلس في بيته ، ما الذي يمنع أن يصيب البيت زلزالٌ فإذا هو أنقاض بعد ساعة ؟ هذه المدن الضخمة التي أصابها زلزالٌ في ثوانٍ معدودة أصبحت ركاماً ، أصبحت أثراً بعد عين ، أصبحت خبراً .

أحدث زلزال وقع في كولومبيا في أمريكا ، مدينة سكانها خمسة وثلاثون ألفاً ، ثار بركانٌ فأذاب الثلوج ، وبعدها ذاقت هذه المدينة الحمم البركانية مع السيول التي أغرقتها ، فكان الضحايا جميع سكان المدينة ، فهؤلاء في مدينة ، في بناء فخم ، في بناء قوي ، محكم ، جدران سميكة ، ومع ذلك انهار البناء ، الإنسان تحت رحمة الله عز وجل في كل لحظةٍ ، وفي كل بقعة ، انتبهوا ، احفظوا هاتين الكلمتين : الإنسان في كل لحظة وفي كل بقعة تحت رحمة الله عز وجل .

مهندس عرسه بعد أيام ، صعد إلى بناء ليشرف عليه ، مدّ رأسه من النافذة ، عاملٌ على السطح تفلتت من يده قطعة كبيرة من الإسمنت فوقعت فوق رأسه فدقته دقاً ، وهذا ضمن المدينة ، ضمن عمله ، المعنى أن احتمال الموت المفاجئ سهل جداً .

أحياناً الإنسان تصدمه دراجة فإذا هو ملقىً جثة هامدة ، أحياناً لسبب تافه جداً جداً ، رجل أراد أن يحرك جهازاً ثُبت على الحائط بشكل مرتفع ، استعان بكرسي وهو في أوج نشاطه ، وأوج قوته ، وأوج غناه ، وأوج شأنه الاجتماعي ، صعد على هذا الكرسي ، انزلق الكرسي ، وقع فوقه ، صار جُرح في مقعده ، أُخذ إلى المستشفى ، بعد خمسة عشر يوماً صار تحت أطباق الثرى ، توفي لسبب تافه جداً .

سمعت عن قصة إنسان ، بعوضةٌ لدغته فانتفخ جبينه ، ما هي إلا ساعات معدودات قيل : صار في دمه فساد ، اختلاطات ، ما هي إلا ساعات معدودات فإذا هو من أهل القبور .

فالإنسان ليس شرطاً أن يكون الخوف من البحر أو من الجو ، لكن الخوف يجب أن تخاف الله عز وجل في كل مكان ، وفي كل زمان ، في كل لحظة ، وفي كل بقعة . 

 

الموت مصير الإنسان أينما كان والأحمق من يثق بقدراته الذاتية :


﴿فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ﴾ أحدهم يركب سيارته ، يتنزه مع زوجته في جبل قاسيون ، بعض البغال الشاردة اضطرب فقفز إلى عرض الطريق فجاءت قدماه داخل السيارة فقتلت السائق وزوجته ، ممكن لسببٍ تافهٍ تافه .

اقرؤوا بعض الحوادث ، هناك حوادث سير ، هناك حوادث سيارات ، هناك أسباب طفيفة جداً تنهي الإنسان ، فالإنسان المطمئن أبله ، المطمئن وهو يعصي الله أبله ، كل إنسان لا يبالي ، يثق بقدراته الذاتية ، يثق بماله ، بصحته ، بمكانته ، بعمره المديد ، يقول لك : أين أنا من الستين ؟ أنا مازلت بالأربعين ، كأن الستين حتمية ، لكن الله عز وجل يقول : 

﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) ﴾

[ سورة الحجر  ]

الموت هو اليقين ، اليقين لن تأتيه ، ولكن هو سيأتيك ، ولا تدري متى يأتيك اليقين ، قد يأتي في سن الشباب ، وقد يأتي في سن الكهولة ، وقد يأتي من طريق غير متوقع.

﴿أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ﴾ وأنتم في البر ، وأنتم على اليابسة ، وأنتم في بيوتكم المُشَيَّدَة ، وأنتم في الأماكن الأشد تمكناً ، وأنتم في مكان تطمئنون فيه ﴿أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ﴾ ، وكما قال الشاعر :

لا تأمن الموت في طرفٍ ولا نفسِ     وإن تمنّعت بالحجــــــــــاب والحــــــرسِ

فما تزال سهام الموت نــــافــــــــــــــذة     في جنب مُدَّرعٍ منهــــــــــا و مُتَّـــــــرِسِ

أراك لست بوقّـــــــــــــافٍ ولا حـــــــــــذرٍ    كالحاطب الخابط الأعواد في الغلـس

ترجو النجاة ولم تســــــــلك مسالكها    إن السفينـــــــــة لا تجري على اليَبَسِ

***

﴿أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً﴾ الحاصب : رياحٌ عاتيةٌ محملةٌ بالحصى ، هذا أشدّ من الغرق ، ربنا عز وجل قال :

﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)  ﴾

[ سورة الأنعام ]

﴿مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ هذه البراكين . ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ هذه الزلازل . ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ بل ربما كان أن يذوق الإنسان بأس أخيه أشد من الزلزال ، وأشد من البركان . ﴿ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68)﴾ الإنسان أحياناً يوكِّل إنساناً ليتابع قضية ، يوكل محامياً ليدافع عنه ، يوكل طبيباً يعالجه ، يوكل إنساناً يدير له أعماله ، في ساعات الشدة :

﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)  ﴾

[ سورة الرعد ]

﴿ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68)﴾ يتوكل عنكم ، في الدفاع عنكم ، أو في حفظكم ، أو في إزاحة الخطر عن كاهلكم ﴿ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68)﴾ حسناً .

 

قدرة الله عظيمة لا يستطيع أي إنسان أن يمنعها :


الآن لدينا حال آخر: ﴿أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى﴾ ركبت البحر ، ورأيت الأهوال ، وهبَّت عاصفة هوجاء كالجبال ، وشهْدَت أنه لا إله إلا الله ، وعاهدت الله على ألا تركب البحر في حياتك كلها ، الله عز وجل قادر أن يغريك بركوب البحر مرة ثانية ، يغريك بطريقة أو بأخرى ، يقال لك : رحلة في الصيف إلى قبرص جميلة جداً ، الأسعار مغرية ، النفقات محدودة ، الأماكن جميلة مثلاً ، أنت تستجيب لهذا الإغراء ، وتركب البحر مرة ثانية ، الله عز وجل قادر أن يرغِّبَك بركوب البحر مرة ثانية ﴿أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ﴾ لا أدري من أتيح له أن يرى البحر وهو في هيجانه ؟ أشد الناقلات ، أشد السفن جبروتاً ، الناقلات التي تحمل مليون طن الآن ، يوجد الآن ناقلات بترول أو سفن تجارية حمولتها مليون طن ، هذه السفن إذا هبت الرياح في البحر ، وأصبح الموج كالجبال ، لا تزيد على أن تكون ريشةً في مهب الرياح ، تنقلب هذه السفينة العملاقة إلى قارب نجاة صغير يتأرجح فوق الأمواج ، بل تتلاعب به الأمواج ﴿أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ﴾ قبل أسابيع قرأت مقالة عن أعمال تجري لاستخراج سفن كانت قد غرقت في العصور السالفة ، مثلاً سفينة غرقت عام ألف وثمانمئة محملة بخمسة أطنان من الذهب ، الآن هناك شركات تجوب المحيطات لتبحث عن السفن التي غرقت في العهود السابقة ، وهي محملة بالثروات المعدنية ، فقلت : سبحان الله ! سفينة وركابها وثرواتها هي في قاع المحيط الآن ، هذه (التيتانيك) هذه أشهر باخرة غرقت عام ألف وتسعمئة واثني عشر ، قيل في نشرة صُنعها : إن القدر لا يستطيع إغراق هذه السفينة ، صُنعت في عصر العلم ، وفي عصر الجبروت ، والغطرسة ، والعنجهية ، والاعتزاز بالعلم ، والاستخفاف بقيم الدين ، قيل : إن القدر لا يستطيع إغراق هذه السفينة ، لذلك لم يُصنع لها قوارب نجاة انسجاماً مع هذه المقولة ، هذه السفينة صنع لها جداران ، بحيث لو أصيب الجدار الخارجي بعطب أغلقت أبواب عرضية فحصرت هذا العطب ، هناك جدار آخر سميك جداً ، فُرِشت بأفخر الأثاث ، صنع لها ثريات من أرقى الأنواع ، في أول رحلة لها من بريطانيا إلى بوسطن تروي الكتب أن نخبة ممتازة من أثرياء أوروبا مع زوجاتهم قد ركبوا في هذه السفينة ، قُدّر أن ثمن الحلي الذي تلبسه النساء يقدر بألوف الملايين ، وفي السفينة كل ما تشتهيه النفس ، مدينة عائمة ، فيها المسابح ، فيها المطاعم ، فيها المقاصف ، فيها المتنزهات ، فيها النوادي الليلية ، كل شيء فيها ، كما قالوا : القدر لا يستطيع إغراقها ، ارتطمت بجبل ثلجي فأرسلت إشارات استغاثة بكل ما تملك ، كل السفن التي حولها ظنت هذه إشارات احتفالات فلم تنجدها ، وكان على ظهرها ما يزيد عن ثلاثة آلاف راكب ، عندئذٍ قال أحد القساوسة : إن غرق هذه السفينة (التيتانيك) هي درس من السماء إلى الأرض ، وقبل أشهر فيما علمت استخرجوها ، ووصلوا إليها ، قصة رائعة ، كيف أن الله عز وجل لقّن هؤلاء المتغطرسين درساً لا ينسونه .

﴿أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً (69)﴾ في شمال بريطانيا بنوا قاعدة استخراج نفط عائمة ، مربع كبير كمدينة فيها كل شيء ، عائمة على سطح الماء ، وقد قيل عنها وعن جبروتها ، وعن عظمتها ، وعن أنها من إنجاز البشر ، قبل سنتين جاءت عاصفة فحطمتها ، في بحر الشمال قاعدة لاستخراج النفط ، هذا الذي يتحدى القدر ، يتحدى الإله ، يقول : إن القدر لن يغرقها ، عاصفة واحدة جعلتها أثراً بعد عين ، ﴿فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ﴾ إذاً هنا الإغراق بما كفرتم ، وكأن الإغراق جزاء موافق لهذا الكفر .

 

لا راد لقضاء الله إذا وقع :


﴿ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً (69)﴾ التبيع : المسؤولية ، إذا سبب إنسان لإنسان ضرراً يقيم دعوى عليه ، أنت مسؤول ، يمكن أيّ ضرر يحصل لإنسان من آخر يقيم عليه دعوى ، فإذا غرقت سفينة بفعل عاصفة هوجاء من هو المسؤول ؟ من الذي سوف نحمّله هذه المسؤولية ؟ من أين نأخذ تعويضات هذا الغرق ؟ قال تعالى : ﴿ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً (69)﴾ يقول لك : أخي قضاء وقدر ، يُطوى الملف ويختم بقولهم : والحادث وقع قضاءً وقدراً ، لا يوجد أي مسؤولية ، لا أحد مسؤول ، فربنا عز وجل قال : ﴿وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلَا مَرَدَّ لَهُ ﴾ .

 

الإنسان مكرم :


﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ﴾ الإنسان مكرّم ، هذه الآية لا تكفيها المجلدات ، كرّمه بالعقل ، كرّمه بأن أودع فيه استعدادات لإعمار الأرض ، سكن البيوت ، ارتدى أفخر الثياب ، ركب الطائرات ، ركب السفن ، غاص في أعماق البحار ، وصل إلى القمر ، اخترع الأجهزة والآلات ، نقل الصوت ، نقل الصورة ، أعطاه فكراً هو أفضل ما في الكون ، فالتكريم أودع فيه استعدادات عجيبة ، الحيوانات كلها هي على ما كانت عليه ، هل رأيتم أن صنفاً من الحيوان تطوّر ؟ سكن بيوتاً ؟ عمل نظاماً خاصاً وحده ؟ اخترع آلة ما ؟ الحيوان هوَ هو ، أما الإنسان فمكرَّم ، أعطاه الله فكراً ، فالتكريم بهذا العقل ، والتكريم بهذا الكون .

﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)﴾

[ سورة الجاثية ]

التكريم بالتسخير ، والتكريم بالعقل ، والتكريم بهذا الشكل ، لم يجعلنا نمشي على أربع ، ونأكل بفمنا مباشرة ، لم يجعلنا ننام في الطريق ، بل أعطانا القدرة على أن ننشئ بيوتاً، نظام الزوجية تكريم ، الأولاد تكريم ، أنواع النباتات تكريم ، هذه الأزهار كم تقدَّرون عدد نباتات الزينة فقط ؟ لا تعد ولا تحصى ، بالآلاف ، هناك كتاب ثمانية عشر مجلداً ، كل صفحة نوع من الزهر ، زهرة طباعها ، وعاداتها ، وكيف يعتنى بها ، هذه الأزهار للأكل ؟ لا ، للنظر ! أليس هذا تكريماً ؟ إذا دعيت إلى وليمة ، ووضع على المائدة باقة ورد ، هل تظن أن هذه للأكل؟ هذه للتكريم فقط ، من أجل أن تستمتع بمنظرها ، إذاً صاحب الدعوة كرّمك بهذه الباقة من الورد ، إنها ليست طعاماً ، لمجرد التكريم ، فربنا عز وجل كرّم الإنسان ، كرّمه بالعقل ، كرمه بحرية الاختيار ، كرّمه بالإرادة ، كرمه بهذا الكون ، كرّمه بأسرته ، جعل له من أنفسه زوجة يسكن إليها ، ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ أي حملناهم في البر ، الإنسان صنع سفينة ، صنع طائرة ، ركب مركبة ، ركب فرساً مثلاً ، خلقت له خصِّيصاً.

﴿وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ جعلك تأكل الفاكهة ، وتلقي قشرها إلى الحيوان ، تأكل البطيخ ، والقشر للحيوان ، كل فاكهة لبّها لك يا صاحب اللّب ، وقشرها للحيوان ، أليس هذا تكريماً ؟ ﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70)﴾ أنت مكرّم ، ما قولك إن كل شيء في الكون يسبح بحمده ، وهذا الذي كرّمه الله على بقية المخلوقات غافل عن ذكر الله ؟! 

 

كل إنسان يوم القيامة يُحشر مع من يتبعه :


﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71)﴾ الحياة : 

﴿ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) ﴾

[  سورة الليل  ]

هذا الذي دعا الناس إلى أكل الربا ، الناس الذين أكلوا الربا يُدعون والذي دعاهم إلى الربا ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾ ، آكلو الربا يُدْعَوُنَ زمرة ، والسارقون ، وشاربو الخمر ، والذين اعتقدوا أن الآخرة باطل ، والذين أنكروا وجود الله عز وجل ، والذين انغمسوا في الملذات الرخيصة ، والذين عرفوا الله عز وجل ، والذين بكّروا إلى المساجد ، والذين أقاموا الصلاة ، والذين حفظوا القرآن ، كل فئة ، كل فرقة ، كل شيعة ، كل اتجاه ، كل نمط ، كل أصحاب معصية ، كل السباقين في طاعة ، كل زمرة .

﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)  ﴾

[ سورة الزمر ]

﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)  ﴾

[ سورة الزمر ]

هؤلاء زمر ، وهؤلاء زمر ، ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾ هذا الذي أمّوا له ، أو أمّهم ، أو كان قدوة لهم ، أو دفعهم ، أو أغراهم ، أو زيّن لهم ، أو حثّهم ، أو حضّهم ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾   كتابه أي كتاب أعماله بيمينه . ﴿فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ – فرحين - وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71)﴾ عندما يأخذ الطالب جلاءه ، وكله امتياز ، يقرؤه آلاف المرات ، كل ربع ساعة يتأمل ممتاز ، جيد جداً ، جيد ، نجح إلى الصف الثامن ، هادئ ، نظيف مثلاً ، صدوق ، أخلاقه رفيعة ، هذه الكلمات الطيّبة ، وهذه المآثر ، وهذه الامتيازات ، وهذا الثناءات ، وهذه الاستحسانات ، هذه كلها سوف تُسَجَل في صحيفته ، فها هو ذا يقرؤها بفرح وسرور ، ﴿فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) ﴾ .


 من كان في الدنيا أعمى فهو في الآخرة أعمى :


﴿وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72)﴾ من كان في الدنيا أعمى فهو في الآخرة أعمى أيضاً ، ربنا عز وجل قال : 

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ – كنت أعمى في الدنيا - أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) ﴾

[ سورة طه  ]

﴿وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72)﴾ فالعمى عمى القلب الذي يصيب الإنسان في الدنيا يستمر معه إلى الآخرة ، شيء خطير أن هذا المرض العضال ملازم لصاحبه إلى الأبد ،

﴿وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72)﴾ .

 

مساومة الكفار لأهل الإيمان للتخلي عن مبادئهم :


﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73)﴾ الكفار أحياناً يساومون أهل الإيمان ، يطلبون منهم التخلي عن بعض مبادئهم ، أن يعدّلوا مبادئهم تعديلاً خفيفاً ، لو أن أهل الإيمان قبلوا هذه المساومة ، وقبلوا أن يعدِّلوا بعض مبادئهم ، أو أن يتساهلوا قليلاً لانتهوا ، هذا الدين ليس فيه حلّ وسط ، إما أن تأخذه كله ، وإما أن تدعه كله .

أقرب مثل لذلك لو أن بالوناً منفوخاً نفخاً شديداً فقلت : أنا سأثقبه ثقباً طفيفاً كي أخفف حجمه قليلاً ، ما الذي يحصل ؟ سوف يتلاشى كلياً .

هذه الصخرة المكينة في قمة الجبل قد تقول : أنا سأزحزحها لأجعلها في منتصف المنحدر ، إذا زحزحتها عن مكانها ، واندفعت في المنحدر فلابد من أن تصل إلى أسفل القاع  بحكم طبيعة الحياة ، بحكم أن كل خطوة تقود إلى أخرى ، وكل تساهل يقود إلى تساهل أكبر ، وكل تفريط يقود إلى تفريط أشد ، وكل خطأ يقود إلى خطأ أكبر ، وكل انحراف يقود إلى انحراف أكبر ، الزاوية حينما نحرفها درجة واحدة هنا المسافة ميليمتر ، لو مددنا خطّين هذا الميليمتر يصبح كيلو متراً ، كلما مددت الخطّين اتسع الانحراف ، لذلك في موضوع الدين لا يوجد حلّ وسط ، تتساهل بمعصية تحجب عن الله عز وجل ، لو أنك سايرت صديقاً لك من أهل الدنيا ، وعصيت الله في واحدة ، هذه الواحدة لابدّ من أن تقود إلى ثانية ، وثالثة ، ورابعة ، ثم ينتهي بك المطاف إلى أنك ترى أن الدين شيء لا يتناسب مع هذا العصر ، تترك الصلاة ، دعاك إلى سهرة مختلطة انتهى بك الأمر إلى إنكار الدين كله ، لذلك :

﴿ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)  ﴾

[ سورة القلم  ]

لو أن رجلاً له صديق أو قريب لا يقبل المساومة ، أخي اذهب معنا إلى السهرة ، ونحن إن شاء الله يوم الجمعة نأتي معك إلى المسجد ، لا ، لا تأتوا معي ، ولا آتي معكم ، هكذا يقولون : أنت سايرنا بواحدة ، سهرة بريئة ، ليس فيها شيء ، الإنسان يطّلع ، يوجد حديث يقول لك : تعلم السحر ولا تعمل به ، من قال لك هذا الكلام ؟ يُغْرُونك أن تتزحزح عن مواقعك قيد أنملة ، فإذا تزحزحت فلابدّ من أن تصل إلى الهاوية ، فربنا هكذا قال : ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ أي يغرونك أن تنحرف قليلاً ، أن تسكت عن بعض الأفكار ، أن تكف عن أن تعيب آلهتهم ، ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73)﴾ طبعاً عندما يقبل الإنسان أن يتزحزح عن مكانته ، عن مبادئه ، وعن عقيدته ، وعن قيمه ، يتخذونه خليلاً ، شيء طبيعي ، لكن من ابتغى أمراً بمعصية كان أبعد مما رجا ، وأقرب مما اتقى . 

عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ  . ))

[ المسند لشاكر : إسناده صحيح ]

 

عذاب القدوة مضاعف وثواب القدوة مضاعف : 


﴿وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ - هذه هي العصمة - لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74)﴾ كِدْتَ تركن ، أي لم تركن ، فِعْلُ (كاد) من أعجب الأفعال ، إذا ذكرته مثبتاً فمعناه النفي ، وإذا نفيته فمعناه الإثبات ، مثلاً : كدت أقع ، هل وقعت ؟ إذا قلت : كدت أقع ، أي لن أقع ، وإذا قلت : ما كدت أقع حتى قمت ، معنى ذلك أني وقعت ، فإذا نفي هذا الفعل فهو مثبت ، وإذا أثبت فهو منفي .

﴿لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74)﴾ إذاً يا لطيف هذا القدوة إذا اخطأ له حساب مضاعف ، سيدنا عمر كان إذا أراد إنفاذ أمر جمع أهله وخاصته وقال : إني قد أمرت الناس بكذا ، ونهيتهم عن كذا ، والناس كالطير ، إن رأيتكم وقعتم وقعوا ، وايم الله لا أوتين بواحد فيما نهيت الناس عنه إلا ضاعفت له العقوبة لمكانه مني . 

﴿إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ ﴾ أي عذاباً مضاعفاً في الدنيا ﴿وَضِعْفَ الْمَمَاتِ﴾  و عذاباً مضاعفاً في الآخرة ،﴿ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً (75)﴾ هذا القدوة ، الأب إذا أخطأ له عذاب مضاعف ، المعلم الذي يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، الذي يتصدر توجيه الناس إذا أخطأ فله عذاب ضعف في الدنيا ، وعذاب ضعف في الآخرة ، كيف لا والنبي الكريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو فعل ذلك لا ستحق هذا العذاب ؟ إذاً لأذقناك يا محمد ضعف الحياة ، وضعف الممات ، عذاب مضاعف ، هذا عذاب القدوة مضاعف ، وثواب القدوة مضاعف .

 

من كان قدوة فليتق الله :


﴿ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً (77)﴾ لو أن الله عز وجل زوّد النبي الكريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمعجزات رآها قومه ، وكفروا به استحقوا الهلاك ، كما قلنا هذا في درس سابق ، لذلك إذا كان الإنسان قدوة فليتقِ الله ، لأن أكثر خطأ يأتي للناس أنهم يرون إنساناً له زي ديني ، ويعصي الله ، يقتدون به ، هل أنت أفهم من فلان ؟ أشد ورعاً منه ؟ هو يفعل هذا ، هذا الجاهل ، أما الذكي فيقول : كله خلط ، له موقفان ، موقف معلن ، موقف حقيقي ، يتخذ الدين تجارة ، يتخذه مطية لمآربه ، فهذا الذي يعصي الله أو يتساهل أو يتزحزح عن مواقعه المتينة من أجل الدنيا هذا له عذاب ضعف في الدنيا ، وضعف في الآخرة .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور