وضع داكن
18-04-2024
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 040 - الفقر
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

تمهيد:

  أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرسِ الأربعين من دروسِ مدارِجِ السالِكين, في مراتِبِ إيّاكَ نعبدُ وإيّاك َنستعين, ومنزِلةُ اليوم هيَ منزِلةُ الفقر.
 كُلُ المعاني التي تتواردُ إلى ذِهنِ الإنسان, حينما يستَمِعُ إلى كلمة الفقر, ليست مقصودةً في هذا الدرس، كُلُ المعاني التي تتواردُ إلى ذِهنِ الإنسان, حينما يقرأُ كلمة فقر, أو حينما يسمعُ كلمة فقر, أو حينما ينطِقُ بكلمة فقر, ليست مقصودةً في هذا الدرس، مرتبةٌ عاليةٌ جداً من مراتِب الإيمان تُقابِلُ مرتبةَ العبوديّة، حقيقتُكَ أنكَ عبدٌ لله أيّ مُفتقرٌ إليه، فالفقرُ الذي نعنيهِ في هذا الدرس من نوعٍ آخر، قد تكونُ من أغنى الأغنياء وأنتَ في منزِلةِ الفقر، وقد تكونُ من أفقر الفُقراء وأنتَ في منزِلةِ الكِبر.
 على كُلٍ؛ الآيات الكريمة التي وردت في القرآن الكريم, وفيها كلمة الفقر آياتٌ عِدّة, من هذه الآيات, قولُهُ تعالى:

﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾

[سورة البقرة الآية: 273]

 نفرٌ من أصحابِ رسولِ الله، نفرٌ من المُهاجرين، تركوا أوطانَهم، تركوا أهليهم، تركوا أموالهم, وجاؤوا مع النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينةِ المنوّرة، كانوا فقراء بِحُكمِ هِجرَتِهم، وكانوا فقراء بِحُكمِ أنهم لو ضربَوا في الأرض لرَبِحوا واكتسبوا المال, ولكنهم مهدورةٌ دِماؤهم, لا يستطيعونَ ضرباً في الأرض، هؤلاءِ الفقراء من خواصِّ المؤمنين، أيضاً لا يعنينا هذا المعنى الذي جاءت بهِ هذه الآية في هذا الدرس.
 وقد وردت كلمة الفقر أيضاً في آيةٍ ثانية, وهيَ قولُهُ تعالى:

﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾

[سورة التوبة الآية: 60]

 أيضاً: هؤلاءِ الذينَ يستحقّونَ الزكاةَ ممن لا يجدونَ حاجاتِهم.
 مرّةً ثانية: حتى الآية هذه ليست معنيّةً في هذا الدرس.

منزلة الفقر:

 درسُنا كُلُهُ حولَ قولِهِ تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾

[سورة فاطر الآية: 15]

 أنتم مفتقِرونَ إليه في وجودِكم، مفتقِرونَ إليه في إمداداتِكم، مفتقِرونَ إليه في حاجاتِكُم، في قيامِكُم، في سمعِكم، في بصرِكُم، في عقولِكم، في أجهِزَتِكم، في أعضائِكم، في تأمينِ حاجاتِكم, فالمعنى الذي نُريدُهُ اليوم, هوَ معنى يُقابِلُ معنى العبوديةُ, التي هيَ جوهرُ الإنسان.
 مُرادُ القومِ مِنَ الفقرِ، معنى القوم يعني أهلُ الله، العارِفونَ بالله، السالِكونَ في طريقِ الإيمان، مُرادُ القومِ بالفقرِ شيءٌ أخصُّ من هذا كُلِهِ, وهوَ تحقيقُ العبوديةِ والافتقار إلى الله تعالى في كُلِّ حالة، أن تكونَ عبداً للهِ حقّاً، أن تتحققَ من عبوديّتِك، أن تعرِفَ هويّتَك، أن تعرِفَ نفسك، وعبوديّتُكَ تعني الافتقار إلى الله تعالى.
 قال هذا المعنى معنى العبوديّة: أن تعرِفَ حقيقةَ ذاتِك، أن تعرِفَ هويّتَك، أن تعرِفَ من أنت، أن تعرِفَ أنكَ عبدٌ ضعيف، أنتَ قويٌ بالله وضعيفٌ في نفسِك، غنيٌ في الله وضعيفٌ في نفسِك، عالِمٌ بالله وجاهِلٌ في نفسِك، حكيمٌ بالله وأخرَقُ في نفسِك، إذا تحققّتَ من حقيقةِ ذاتِك, قال: هذه المرتبةُ هيَ مرتبة العبوديّة.
 بعض العلماء قال: هذا المعنى معنى العبوديّة والافتقار إلى الله أجلُّ من أن يُسمّى فقراً، لأنهُ كلمة فقر إذا ذُكِرت, تنصرِفُ إلى أنَّ إنساناً لا يجدُ كُلَّ حاجاتِهِ, يمدُّ يَدَهُ للناس, يتكففهُم، يُحِس بالحرمان، هذه المرتبةُ أجلُّ من أن تُسمّى فقراً, إنها في الحقيقةِ: حقيقةُ العبوديّةِ ولُبُّها, وعزلُ النفسِ عن مزاحمةِ الربوبيّة.
 الإنسان أحياناً لجهلِهِ وحُمقِهِ يتقمّصُ صِفات الربوبيّة، يقول لكَ: أنا أفعل, أنا أُعطي, أنا أمنع, أنا أُعاقب, حينما يقول: أنا, فكأنهُ تقمّص صِفات الربوبيّة، فحقيقةُ الافتقارِ إلى الله هيَ أن تعزِلَ نفسَكَ عن صفات الربوبيّة, وأن تعرِفَ أنكَ عبدٌ للهِ عزّ وجل.
 سُئِلَ بعضُهم متى يستحقُّ الفقير اسمَ الفقير؟
 قالَ: إذا لم يبق عليهِ بقيّةٌ مِنه.
 فقيل لهُ: وكيفَ ذلك؟
 قال: إذا كانَ لهُ فليسَ لهُ, وإذا لم يكن لهُ فهوَ لهُ.
 ما دامَ يشعر أنهُ على جانبٍ من العِلم فليسَ مُفتقِراً إلى الله عزّ وجل، ما دامَ يشعُرُ أنهُ على جانبٍ من القوّة فليسَ مُفتقراً إلى الله عزَ وجل، يُذكّرُنا هذا المعنى بقولِ النبي الكريم يوسُف عليه السلام:

﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾

[سورة يوسف الآية: 33]

 هوَ في أعلى درجات العِفّة، في أعلى درجات العزيمة والإرادة، ومعَ ذلك ما رأى عِفّتَهُ ذاتيّةً، رأى عِفّتَهُ من الله عزّ وجل.
 المُفتقر إلى الله عزّ وجل: لا يرى لهُ، لا عِلماً, ولا حالاً, ولا عملاً, ولا عزيمةً, ولا شأناً، يرى أنهُ أحدُ أفضالِ اللهِ عزّ وجل، هوَ من فضلِ الله، وجودُهُ من فضلِ الله، ذكاؤهُ من فضلِ الله، إذا أغناهُ اللهُ فهذا من فضلِ الله، هُناكَ من هوَ أذكى مِنه يمدُّ يدَهُ للناس، إذا أتاهُ اللهُ من حِكمة فهذا من فضلِ الله، إذا أعطاهُ اللهُ طلاقة لِسانٍ فهذا من فضلِ الله, هذا معنى الافتقار إلى الله عزّ وجل.
 قال: هذه المنزِلة لا تتناقضُ معَ أن تكونَ غنيّاً، ولا أن تكونَ مالِكاً، لأنَّ هذا الغِنى لا يعني ذلك المعنى، قد تكونُ في أعلى درجاتِ الغِنى وأنتَ في أعلى درجاتِ الفقرِ إلى اللهِ عزّ وجل، وكُلما ازددتَ افتقاراً إلى الله عزّ وجل زادَكَ اللهُ، وكُلما ازددتَ تذللاً إلى اللهِ عزّ وجل زادكَ اللهُ عِزّاً، وكُلما ازددتَ خوفاً من الله عزّ وجل زادكَ اللهُ أمناً, وكُلما ازددتَ حِرصاً على طاعة الله عزّ وجل زادَكَ اللهُ رِفعَةً، فكُلما خضعت ارتفعت، كُلما علوت وتكبرت خُفِضت، هذا المعنى الذي يُقصَدُ من كلمة الفقر.
 أمّا هُناكَ أنبياءُ من أُولي العزم كانوا أغنياء، سيدنا إبراهيم كانَ في وصفِ كُتّاب السيّر وكُتّابِ التاريخ أبا الضيفان، كانَ من أكرمِ الكُرماء، وآياتٌ كثيرة وردَت في إكرامِهِ للضيف:

﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾

[سورة هود الآية: 69]

 كانَ يُطعِمَ الناسَ دائماً فهو غني، وسيدنا سُليمان الذي قالَ:

﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾

[سورة ص الآية: 34]

 كانَ غنيّاً وكانَ في الوقتِ نفسِهِ مفتقراً إلى اللهِ عزّ وجل، ونبينا عليهِ الصلاة والسلام ألم يقُل الله في حقِهِ:

﴿وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى﴾

[سورة الضحى الآية: 8]

 رجل دنيوي مُشرِك, رأى واديّاً من الغنم, سألَ النبي عليه الصلاة والسلام:

((لمن هذا الوادي؟ قالَ: هوَ لك، قال: أتهزأُ بي؟ قالَ: لا هوَ لكَ، قالَ: أشهدُ أنكَ رسولُ الله, تعطي عطاءَ من لا يخشى الفقر))

 النبي كان في طور من أطوار حياتِهِ غنيّاً، وسيدنا سُليمان كانَ غنيّاً، وسيدنا إبراهيم كانَ غنيّاً، فهذا لا يتناقض مع مرتبةِ الفقرِ إلى الله عزّ وجل، والبطولة: ألا يُسيّر الإنسان من قِبَلِ حالةٍ هوَ فيها، من السهلِ جداً أن تنزلِقَ إذا كُنتَ غنيّاً إلى الكِبر, لكن البطولة أن تكونَ غنيّاً ومُفتقراً في وقتٍ واحد, وهذا لا يستطيعُهُ إلا مؤمن، أن تجمعَ بينَ الغِنى والافتقار إلى اللهِ عزّ وجل.
 أعجبتني كلمةٌ في حقِ هؤلاءِ الأنبياءِ العِظام, قال: كانوا أغنياءَ في فقرِهم وفقراءَ في غِناهُم، أغنياءَ في فقرِهم وفقراءَ في غِناهُم.
 قال: الفقرُ الحقيقي دوامُ الافتقارِ إلى اللهِ في كُلِّ حال.
 يبدو الإنسان في حالة المرض يفتقر, أمّا إذا شعرَ بصحتهِ جيدة قد يستغني, أقول الإنسان لا أقول المؤمن, قال تعالى:

﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾

[سورة العلق الآية: 6-7]

 من صِفاتِ الإنسانِ قبلَ أن يؤمن، من صِفاتِ الإنسانِ قبلَ أن يصقِلَهُ الإيمان، من صِفات الإنسان المُعرِض: أنهُ إذا رأى نفسَهُ قويّاً، غنيّاً، شديداً، صحيحاً، استغنى عن اللهِ عزّ وجل,

﴿كَلا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾

 هذا شأنُ أهلِ الإعراض، هذا شأنُ الجُهلاء، لكنَّ العُلماء، والعارفينَ بالله، وكِبارَ المؤمنين والصادقينَ منَ المؤمنين، يزدادونَ افتقاراً إلى الله وهم في أعلى درجات الغِنى.
 قال: الفقرُ الحقيقي دوامُ الافتقارُ إلى اللهِ في كُلِّ حال, وأن يشهَدَ العبدُ في كُلِّ ذرّةٍ من ذرّاتِهِ الظاهِرةِ والباطِنة فاقةً تامّةً إلى اللهِ تعالى من كُلِّ وجه.
 أيها الأخوة؛ كيفَ تغدو حياتُنا لو انحبسَ البول؟ كيفَ تغدو حياتُنا لو وصلَ إلى عِلمِنا: أنَّ كُليةً تعطلّت أو أنَّ الكُليتين معاً توقفتا عن العمل؟ كيفَ تغدو حياتُنا لو وصلَ إلى عِلمِنا: أنَّ بعض الأجهزة توقفَ عن العمل؟ تقول: أنا على أي شيء، ما لشيء الذي بيديك, ما الذي يضمنُ للإنسان ألاّ تنمو خلاياهُ نمواً عشوائيّاً, في أعلى درجات الصحةِ والقوةِ والذكاءِ والمناعةِ والحِكمةِ والفهمِ فجأةً ورمٌ خبيث؟ ماذا تملِكُ أيها الإنسان؟ لا تملِكُ شيئاً، أنتَ مُفتقر إلى الله في نمو الخلايا النمو المُنتظم، مُفتقر إلى الله عز وجل في الكُليتين، في الكبد، في الغدّة النُخاميّة، في الكظر، في البنكرياس، في الطُحال، الطُحال عَمِلَ عملاً زائداً عن وضعِهِ الطبيعي فقتلَ صاحِبَهُ, فقر دم مُستمر, الطُحال يأخذُ كريّةَ الدم الحمراء الميتة, فيُحللُها إلى عناصِرِها الأساسيّة, فصارَ هذا الطُحال نشيطاً جِدّاً, يأخذُ الكريّة الحمراء الميتة والجيدة, فإذا هوَ فقرُ دمٍ مُستمر إلى أن ماتَ صاحِبهُ، المرض فرطُ نشاطٍ في الطُحال، فيا ترى: أنا يجبُ أن أخشى الطُحال, أم أخشى الكُليتين, أم أخشى الكبِد, أم البنكرياس, أم الصفراء, أم النُخامية, أم الكظر, أم الأمعاء, أم الشرايين, أم الدسّامات, أم الأوردة, أم الأعصاب؟ تقول: أنا على أيِّ شيء؟.
 بالمناسبة أيها الأخوة ما هوَ العِلم؟ أن تقولَ شيئاً مُطابِقاً للواقع.
 فإذا قُلتَ: أنا, وأنتَ لا تملِكُ شيئاً, فهذا كلامٌ فيهِ جهل كبير.
 إذا قُلتَ: الله, كلام صحيح.
 لذلك المؤمن ليسَ من قبيل التأدّب معَ الله، من قبيل الواقعيّة, يقول: هذا من فضِلِ اللهِ عليّ، أكرمني اللهُ بهذا، تفضّلَ اللهُ عليَّ بهذا، أجرى اللهُ على يديَّ هذا الخير، الحمدُ للهِ أولاً وأخيراً، دائماً حال المؤمن أنهُ يعزو كُلَّ فضيلةٍ فيهِ إلى اللهِ عزّ وجل, هذا الافتقار.
 هوَ الفقر واقع, لكن من هوَ المُفتقر إلى الله؟ أنتَ فقير فعلاً، المؤمن فقير, والكافر فقير, والمُشرك فقير, والفاجر فقير, والعاصي فقير، الفقرُ صِفةٌ ثابِتة في الإنسان, أيُّ إنسان, لكن من هوَ المُفتقر؟.
 قال: هوَ الذي يشهدُ افتقارَهُ إلى الله، أنتَ مُفتقر قولاً واحداً, ولكنَّ المُفتقِرَ إلى اللهِ عزّ وجل كمقامٍ من مقاماتِ أهلِ الإيمان, هوَ أن تشهدَ أنكَ مُفتقر, أن تشهَدَ أنكَ مُفتقرٌ إلى اللهِ عزّ وجل.
 قالَ بعض العارفين:
 والفقرُ لي وصفُ ذاتٍ لازِمٌ أبداً كما الغِنى أبداً وصفُ لهُ ذاتي.
 الله عزّ وجل دائماً غني وأنا دائماً فقير، دائماً قوي وأنا دائماً ضعيف، دائماً يعلم وأنا لا أعلم، لكِنكَ إذا افتقرتَ إلى الله, فأنتَ الذي تعلم, وأنتَ الغني, وأنتَ القوي.
 قالَ: هذه المرتبة مرتبةُ الافتقار إلى الله عزّ وجل, ليست شيئاً سهلاً تقولُهُ بكَلِمة, مثلاً من باب الأمثلة:
 تقول لِفُلان: تفضل دكتور، كلمة دكتور تعني أنهُ إنسان يحمل دكتوراه, ومعنى دكتوراه: يعني أنهُ ألّفَ بحثاً في موضوع معيّن, لكن في البحث إبداع وجِدّة، معنى ذلك: أنَّ الإنسان أمضى سبع سنوات في هذه الشهادة, وقبلُها في ماجستير, وقبلها في دبلوم عامة ودبلوم خاصة, وقبلها في ليسانس, وقبلُها في شهادة ثانوية، فكلمة دكتور لا تعني كلمة عادية.
 فلان واضع خاتم بيده, الخاتم سهل شراء, الخاتم سهل، أمّا أن تكون دكتور ليسَ هذا من السهل، قياساً على هذا المثل: أن تقول: فُلان في مرتبة الافتقار، مرتبة إيمانية عالية جداً، أقول لكم: من أعلى مراتِبِ الإيمان بل إنها تُقابِلُ مرتَبةَ العبوديّة، فأن تقول: فُلان مُفتقر, هذه المرتبة الإيمانية العالية تحتاج إلى مقوّمات.
 قالَ بعض العُلماء أركانُها أربعة:
 عِلمُ يسوسهُ، وورعٌ يحجُزهُ، ويقينٌ يحمِله، وذِكرٌ يؤنِسهُ.
 المُفتقر: عِندَهُ عِلمُ يسوسهُ، وعِندَهُ ورعٌ يحجُزهُ، وعِندَهُ يقينٌ يحمِله، وعِندَهُ ذِكرٌ يؤنِسهُ.
 هذا الافتقار, لا افتقارَ بِلا عِلم، يجب أن تعلمَ حقيقةَ نفسِك، يجب أن تعلمَ قُدرةَ اللهِ عزّ وجل، يجب أن تعلمَ أنَّ الأمرَ كُلَهُ بيدِ الله، يجب أن تعلمَ أنهُ ما من حركةٍ ولا سكنةِ إلا بيدِ الله عزّ وجل، ما من إنسان إلا وفي قبضةِ اللهِ عزّ وجل، عِلمُ يسوسهُ, وورعٌ يحجُزهُ، لا ورع إذن حِجاب عن الله عزّ وجل، فالعِلمُ يحتاج إلى ورع ويقينٌ, لا شيء وأنتَ قوي، لا شيء وأنتَ غني، يقينُ يحِملُ على هذه المرتبة، وذِكرٌ باللهِ يؤنِسهُ على أن يكونَ مُتكبرّاً، حينما يفتقر يأتي الأُنسُ بالله عزّ وجل.
 مرةً ثانية: كُلُ المعاني التي تتواردُ إلى ذهنِ الإنسان, حينما يقرأُ كلمة فقر, أو ينطِق بكلمة فقر, أو يسمع بكلمة فقر, لا تعنينا في هذا الدرسِ إطلاقاً.
 هذا الدرس ليسَ لهُ علاقة بحالة الفقر الاجتماعية، هذا الدرس لهُ علاقة بمراتب الإيمان العالية، من أرقى هذه المراتب الافتقار إلى الله, استنباطاً من قولِهِ تعالى:

﴿ياأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾

 سُئِلَ أحدُ العُلماء قال: متى يستريحُ الفقير؟ قالَ: إذا لم ير لِنفسِهِ غيرَ الوقتِ الذي هو فيه.
 يعني يعيشُ الوقتَ الذي هوَ فيه, لأنَّ الماضي مضى والمُستقبل غيب، ما مضى فات, والمُؤمَلُ غيب, ولكَ الساعةُ التي أنتَ فيها.
 أقول لكم هذا الكلام: أنتَ لا تملِكُ إلاّ هذه الساعة, لأنَّ الذي بعدَ هذه الساعة لا تملِكه، من يضمنُ: أن نَصِلَ إلى بيوتِنا؟ من يضمنُ لنا: إذا نِمنا أن نستيقظ، وإذا خرجنا أن نعود، وإذا عُدنا أن نخرج، وإذا سافرنا أن نرجِع؟ من يضمن؟.
 فالمُؤمَلُ غيب وما مضى فات, ما الذي تملِكُهُ؟ الساعةُ التي أنتَ فيها, لذلِك:
 هَلَكَ المسوِّفون.
 تقول: إلى أن أنتهي من تأسيسِ هذا المشروع, سوفَ أُصلّي, وسوفَ .. هَلَكت, لأنكَ لا تملِك المُستقبل، إلى أن ينتهي فحص الشهادة الثانوية أُصلّي .. مثلاً ..، إلى أن أتزوّج أُصلّي.
 هَلَكَ المُسَوِفون.
 لِبعضِ العُلماءِ قولٌ لطيف, قال: أحسنُ ما يتوسّلُ بهِ العبدُ إلى اللهِ عزّ وجل دوامُ الافتقارِ إليهِ على جميعِ الأحوال, ومُلازمةُ السُنّةُ في جميعِ الأفعال, وطلبُ القوتِ من وجهٍ حلال.
 الحال افتقار، والسلوك تطبيق للسُنّة، وكسب الرِزق من وجهٍ حلال، هذا الذكاء، هذه البطولة، رِزق حلال، الحال فيهِ افتقار، الحركة وفق المنهج.
 الحركة الظاهرة حركة الجوارح وفق المنهج, السمع والبصر والفؤاد واللسان واليد والرِجل كُلُها وفقَ الشرع, الحال مع الله افتقاراً، والسلوك مع الشرعِ انضباطاً، وكسبُ الرِزقِ من وجهٍ حلال.

((أطب مطعَمَكَ تكُن مُستجاب الدعوة))

[أخرجه الطبراني في المعجم الصغير]

 الفقر لهُ بداية، قال: ولهُ نهاية، ولهُ ظاهر ولهُ باطن، بدايتهُ التذللُ إلى اللهِ عزّ وجل ونهايتُهُ العِزُّ بالله، عِندَ المؤمنِ عِزٌ ومنعةٌ واباءٌ واعتزازٌ باللهِ عزّ وجل, لو وُزِعَ على أهلِ بلدٍ لكفاهُم, هذا المُتكبّر يتكبّر على من هوَ دونَهُ، أمّا لو رأيتَهُ أمامَ من هوَ فوقَهُ, لرأيتَهُ أذلَّ من شاةٍ.
 من صِفات اللؤماء: أنهم إذا تعاملوا مع من هم دونَهم, كانوا قُساةً، جُفاةً، متعجرفين، متغطرسين، مستعلين، لا يرحمون، أمّا لو تراهم أمامَ من هم فوقَهم, لرأيتَهم أذلَّ من الشاةِ، أذلَّ من يتيمٍ على مائِدةِ اللئيم، أمّا المؤمن لأنهُ افتقرَ إلى الله عزّ وجل, البداية تذلل أمّا النهاية عِزّ, صدق القائل:
 اجعل لِرَبِكَ كُلَّ عِزِكَ يستقيمُ ويثبُتُ
 فإذا اعتززتَ بمن يموتُ فإنَّ عِزّكَ ميتُ
 بدايتهُ تذلل أمّا نهايتهُ عِزّ، سُبحانَ الله هذه من المُفارقات, كُلما ازددتَ خضوعاً لله رَفَعَكَ الله.
 أنا لا أعتقد أنَّ في الكونِ كُلِهِ إنساناً أشدَّ افتقاراً وخضوعاً وتذلُلاً إلى اللهِ من رسولِ الله، كما أني لا أعتقد أنَّ في الأرضِ كُلِها في تاريخِ البشريةِ كُلِها إنساناً أعزّهُ اللهُ ورَفَعَهُ كرسولِ الله, انظر لهذه العلاقة التي فيها مُفارقة, كُلما ازددتَ تذلُلاً وخضوعاً وانصياعاً وخوفاً وحُباً وعبوديّةً, زادَكَ اللهُ عِزّاً ورِفعةً وإباءً ومكانةً وجاهاً.
 ألا يكفي النبي عليه الصلاة والسلام: أنَّ اللهَ عزّ وجل أقسمَ في كِتابِهِ الكريم بِعُمُرِهِ, قال:

﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾

[سورة الحجر الآية: 72]

 ألا يكفي النبي عليه الصلاة والسلام أنهُ قالَ في كِتابِهِ العزيز عن النبي عليه الصـلاة والسلام:

﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾

[سورة القلم الآية: 4]

 ألا يكفي النبي عليه الصلاة والسلام أن اللهَ عزّ وجل ما خاطَبَهُ باسمهِ إطلاقاً:

﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾

[سورة الأنفال الآية: 64]

﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾

[سورة المائدة الآية: 67]

 قالَ: يا عيسى بن مريم، وقالَ: يا موسى, خاطَبَ الأنبياءَ بأسمائِهم, لكنهُ لم يُخاطِب النبي صلى اللهُ عليه وسلم أبداً باسمِهِ.
 ما علاقَتُنا بهذه المعاني؟ علاقَتُنا: أنكَ كُلما ازددتَ للهِ خضوعاً وافتقاراً وحُباَ وعبوديّةً رَفَعَكَ الله، رَفَعَ شأنَك، كساكَ ثوبَ هيبةٍ، هابَكَ الناس.
 من هابَ اللهَ هابَهُ كُلُ شيء, ومن لم يَهِب اللهَ أهابَهُ اللهُ من كُل شيء.
 أيام تُقابل شخصاً, قد يكون عِنده مستخدم يخاف مِنهُ, تستغرب أنت, وتقول: هو في مرتبة عالية جداً وخائف من مُستخدم.
 من اتقى اللهَ هابَهُ كُلُ شيء, ومن لم يَهِب اللهَ أهابَهُ اللهُ من كُلِّ شيء.
 نحنُ علاقَتُنا بهذا المعنى: أنكَ إذا أردتَ العِز، إذا أردتَ الرَفعة, إذا أردتَ علو الشأن، إذا أردتَ أن يُكسيّكَ اللهُ ثوبَ مهابة, اخضِع لله، هؤلاءِ المُتعجرِفون، المُتكبِرون، المُستعلون، عِلاجُهُم عِندَ اللهِ عذابُ الخِزيِ في الحياة الدنيا، الله عزّ وجل لِحِكمةٍ بالغة, هؤلاء المتَكبِرون الذينَ استنكفوا عن عِبادة الله, وأبَوا أن يخضَعوا للهِ عزّ وجل, يُذيقُهُم الله في الدُنيا ألوانَ الذُل, وقد يُذيقُهم هذا الذُل من أقربِ الناسِ إليه, من زوجاتهِ، من أولادِهِ, يقول لكَ: ابني ضربني البارحة, من أقربِ الناسِ إليه، ممن هم دونه.
 فيا أيها الأخوة الأكارم؛ إذا أردتَ عِزَّ الدُنيا ورِفعَتَها وشأنَها، إذا أردتَ أن تكونَ منيعاً مُهاباً, اخضع لله، أطِعهُ، تذلل بينَ يديه، مرّغ جبينكَ في أعتابِه، قُل لهُ: يا رب أنا لا شيء وأنت كُلُ شيء، يا ربي إني توسلت إليك، إني تبرأتُ من حولي وقوَتي, والتجأتُ إلى حولِكَ وقوتِكَ وعِلمِكَ يا ذا القوةِ المتين, حال الافتقار حال مستمر.
 الطبيب إذا قال قبلَ أن يُعالج: يا رب ألهِمني دِقّةَ التشخيص وصِحّةَ الدواء، المحامي، المُدرّس، التاجر: يا رب ألهمني صفقةً رابِحة.
 كانَ النبي عليه الصلاة والسلام إذا دخلَ السوق يقول:

((اللهم إني أعوذُ بِكَ من يمينٍ فاجِرة أو صفقةٍ خاسِرة))

 له بداية التذلل، له نهاية العِز، لهُ ظاهر ظاهِرُهُ أنكَ مُفتقر, وباطِنهُ أنكَ غنيّ, أنتَ أغنى الأغنياء.
 من أرادَ أن يكونَ أقوى الناس فليتوكّل على الله، ومن أرادَ أن يكونَ أغنى الناس فليكُن بِما في يديّ الله أوثَقُ مِنهُ بِما في يديه، ومن أرادَ أن يكونَ أكرَمَ الناس فليتق الله.
 قال: إذا عَرَفتَ معنى الفقر عَلِمتَ أنهُ عينُ الغِنى، الفقر إلى الله يُساوي غِنى حقيقي.
 سؤال: أيُّ المعنَيينِ أفضل: أن تقول: الافتقارُ إلى اللهِ أكمل أم الاستغناءُ بِهِ أكمل؟ أيُّ الحالينِ أكمل: أن تفتقِرَ إلى الله أم أن تستغني بِهِ؟ .
 قال: السؤال غلط لأنَّ الافتقار إلى الله عينُ الاستغناءِ بِهِ، والاستغناءُ بِهِ عينُ الافتقارِ إليه، وجهانِ بشيء واحد، أنتَ كُلما افتقرتَ إلى الله استغنيتَ بِهِ, وكُلما استغنيتَ بِهِ افتقرتَ إليه، فإذا شيء لهُ اسمين فرضاً: أيُهما أعظم إنكلترا أم بريطانيا؟ واحد مثلاً اسمان لشيء واحد، فأن تستغني بالله هوَ أن تفتقرَ إليه, وأن تفتقرَ إليه أن تستغني بِهِ، فقير إلى الله أنتَ غني معناها، غني بالله معناها فقير إلى الله.
 إذاً: لا معنى للسؤال: أيُهُما أفضل؛ أن أكون مستغنيّاً بالله أم مُفتقِراً إليه؟ هذا سؤال في الأصل غلط.
 سؤال آخر طرحُهُ غلط: أيُهُما أفضل؛ الغنيُّ الشاكر أم الفقيرُ الصابر؟ السؤال أصلُهُ غير صحيح, الأفضل أن يكون الإنسان طائعاً ولا عِبرةَ لِغِناه أو لِفقرِه، إذا كان فقيراً وطائعاً فهوَ غني عِندَ الله، وإذا كان غنياً وطائعاً فهوَ غني أيضاً, العِبرةُ أن تكونَ طائِعاً للهِ عزّ وجل, لأنَّ الله عزّ وجل قال:

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾

[سورة الحجرات الآية: 13]

 لم يقُل: أغناكُم, ولم يقُل: أفقرُكم، لم يقُل: أغناكُم شاكِراً ولا أفقرَكُم صابِراً, قال:

﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾

 انتهى الأمر, ما دُمتَ في طاعةِ الله, فأنتَ الغني بالله, وأنتَ الفقيرُ إليه، ما دُمتَ في طاعة الله فأنتَ شاكر, وأنتَ صابر في وقتٍ واحد.
 قال:

﴿كَلا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾

 شرحتُها قبلَ قليل، أمّا الآية التي لها علاقة بالدرس:

﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾

[سورة الفجر الآية: 15-17]

 لا هذا ولا ذاك، ليسَ عطائي إكراماً ولا منعي إهانةً، لا علاقةَ لعطائي بالإكرام ولا بمنعي بالإهانة, لكنَّ العلاقةَ: إذا كُنتَ طائعاً لله عزّ وجل فأنتَ المُكرّم, وإذا كُنتَ عاصيّاً فأنتَ المُهان، أنا أُلحّ على هذا المعنى, لأنَّ الإنسان لا يشعر بالطُمأنينة إلا إذا كانَ في طاعةِ الله غنيّاً كانَ أو فقيراً, لقولِهِ تعالى:

﴿يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾

[سورة الأحزاب الآية: 71]

 قال: المعنى كما قيلَ في تفسيرِ هذه الآية: ليسَ كُلُ من وسّعتُ عليهِ وأعطيتُهُ أكونُ قد أكرمتُهُ, ولا كُلُّ من ضيقّتُ عليهِ وقتّرت أكونُ قد أهنتُهُ، فالإكرامُ أن يُكرم اللهُ العبدَ بطاعتِه, والإيمان بِهِ, ومحبتِهِ, ومعرِفَتِهِ, والإهانةُ أن يسلِبَهُ ذلك.
 في قول: ما استرذلَ اللهُ عبداً, -استرذلَهُ: رآهُ شهوانيّاً، رآهُ دنيويّاً، رآهُ متعلِّقاً بضلالات وأوهام- ما استرذلَ اللهُ عبداً إلا حضرَ عليهِ العِلمَ والأدب.
 يعني أكبر حِرمان أن يحرِمَكَ اللهُ العِلمَ والأدب، أن يحرِمَكَ معرِفَتَهُ، أن يحرِمَك طاعَتَهُ، أن يحرِمَك القُربَ مِنه، هذا أكبر عِقاب, خُذ المال ما شِئت, المال بحسب ما تُريد وجاه، لكنَّ الإكرامَ الحقيقي: أن يمنَحَكَ اللهُ طاعَتَهُ, ومحبَتَهُ, والشوقَ إليه, ومعرِفَتَهُ, وخِدمةَ عِبادِهِ، أن يؤهلَكَ لجنّتِهِ, هذا هوَ العطاء.
 سيدنا علي يقول: الغِنى والفقر بعدَ العرضِ على الله.
 في قول مُشابِه لبعض العُلماء قال: لا يوزَنُ غداً الفقرُ ولا الغِنى, ولكن يوزَنُ الصبرُ والشُكر، يرتفِعُ الصابِرُ والشاكِر غنيّاً كانَ أو فقيراً.

من لوازم الافتقار إلى الله :

 في موضوع دقيق متعلّق بالفقر إلى الله عزّ وجل: رجل وصَفَهُ بعض الأُدباء, قال: لي صديقٌ, كانَ من أعظم الناس في عيني, وكانَ رأسُ ما عظّمَهُ في عيني: صِغَرُ الدُنيا في عينيه, فكانَ خارِجاً عن سُلطانِ بطنِهِ, لا يشتهي ما لا يجد ولا يُكثِرُ إذا وجد.

1- لا يشتهي ما لا يجد وإذا وجد لا يُكثر :

 المُفتقر إلى الله عزّ وجل, إذا الشيء توافَرَ بينَ يديه حمداً لله, لا يشتهي ما لا يجد وإذا وجد لا يُكثر، هذا المقام يَليق بالمُفتقر إلى الله عزّ وجل، ليسَ حريصاً على شيء, ليسَ في يديه, وليسَ منهَمِكاً في شيء بينَ يديه، لا الشيء الذي بينَ يديه يشغَلُهُ عن الله عزّ وجل, ولا إذا افتقدَ هذا الشيء يشغَلُهُ عن الله, يعني وجودُ الشيء وعدمُ وجودُهُ سيان عِندُهُ, هذه من لوازم الافتقار إلى الله عزّ وجل.
 في معنى دقيق جداً: المُفتقر إلى الله: قبضُ اليدِ عن الدُنيا ضبطاً أو طَلَباً, وإسكاتُ اللسانِ عنها مدحاً, والسلامةُ مِنها طَلَباً أو تركّاً، السلامة مِنها طَلَباً معروفة.
 الإنسان لا ينهمِك، لا يُكبّ، لا يُقاتِل من أجلِها، لا يُضيّعُ دينُهُ من أجلِهِا، لكن كيفَ يسلَمُ مِنها تركاً, طلباً معروفة؟ أمّا لو تَرَكَها, هذا المعنى الدقيق الآن:
 لو فرضنا إنسان حَرَمَ نفسَهُ أشياء أساسية في الحياة مباحة، ينشَغِل بهذا الشيء, ينشَغِل وينشَغِل, هوَ يشتهي هذه الأكلة, لو أكلها وشَكَرَ الله عزّ وجل والتفتَ إلى الأعمال الصالِحة, أفضل من أن يُمضي كُلَّ حياتِهِ في مُجاهدةٍ مع الحِرمان.
 يعني: تَركُ الدُنيا كُليّاً, لهُ نتائج ليست مُرضية، واحد حرم نفسُهُ الزواج وحرم نفسهُ الطعام حُبّاً بالله, هذا الموقف يجعل حالة حرمان دائمة وحالة توتّر دائمة، فأنتَ في معركةٍ حاميةٍ معَ نفسِك، هذه المعركة الحامية مع النفس قد لا تنتهي بسلام, أعطِ نفسكَ ما أباحَهُ اللهُ لك, عندئذٍ تسكُنُ النفس، أطعِمها الطعام الذي تُحِبهٌ, وأعطِها ما سمحَ اللهُ لها بِهِ, ثمَّ التفت إلى الله عز وجل معرِفةً وتفكيراً ودعوةً وخِدمةً للخلق.
 يعني أحياناً الشيطان يأتي عن أيمانِهم وعن شمائِلِهم، قد يأتي الشيطان عن أيمانِهم, دعكَ من الزواج إنهُ مشغلَةَ, ليسَ في الإسلام رهبانية:

﴿ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾

[سورة الحديد الآية: 27]

 فإذا عَزَفَ الإنسان عن شيء مُباح, والإسلام أباحَهُ لَهُ, ينشأ عِندَهُ حالة توتر مستمرّة ، فهؤلاءِ الذينَ حرموا أنفسَهم ما سمحَ اللهُ لهم بِهِ, قد يقعونَ في أكبرِ المعاصي، قد يقعونَ في أكبرِ الانحرافات، فحينما تَدَعُ الدُنيا يجب أن تدعَ الحرامَ مِنها, أمّا الحلال لستَ أورعَ من رسولِ الله ولا من أصحابِهِ، قالَ عليهِ الصلاة والسلام:
 أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ, أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ الطَّوِيلُ, أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ:

((جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا, فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا, وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ, وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا, فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ, فَقَالَ: أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ: كَذَا وَكَذَا, أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ, لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ, وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ, وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ, فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي))

 في كلمة لطيفة قال: إنَّ الإنسان إذا تركَ الدُنيا, هوَ بشرٌ وليسَ ملاكاً, تعلّقَ قلبُهُ بِما يُقِيمُهُ ويُقيِتُهُ ويُعيِشُهُ, وما هوَ محتاجٌ إليه, فيبقى في مجاهدةٍ شديدةٍ مع نفسِهِ, لِتركِ معلومِها, وحظِها من الدُنيا, وهذه قِلّةُ فِقهٍ في الطريق، بل لفقيه العارِف يَرُدُ النفسَ عنها بِلُقمةٍ كما يُردُّ الكلبُ إذا نَبَحَ عليهِ بكسرةٍ، إذا نفسهُ نبحت عليه, وطالبته بشيء معقول ومسموح بهِ يُطعِمها لُقمة ويُسكِتُها, ويقول لها: التفتي لله عزّ وجل, أفضل من أن يُبقيها في صِراع دائم معَ نفسِهِ.
 قال: هذه طريقُ الرُسُلِ, وهيَ طريقةُ العارفينَ من أربابِ السلوك, عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ, قَالَ:

((آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ, فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ, فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً, فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ فقَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا, فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا, فَقَالَ: كُلْ, فَإِنِّي صَائِمٌ, قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ, فَأَكَلَ, فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ, ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ, فَقَالَ: نَمْ فَنَامَ, ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ, فَقَالَ: نَمْ, فَلَمَّا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ, قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ, قَالَ: فَصَلَّيَا, فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا, وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ, فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ سَلْمَانُ))

[أخرجه البخاري في الصحيح, والترمذي في سننه]

 إذاً: تركُ الدُنيا كُليّاً, ليسَ موقِفاً سليماً, وليسَ موقِفاً يُعينُكَ على طاعةِ الله, لأنهُ ينشأ من تركِها كُليّاً توتّر, وشعور بالحرمان, وشعور بالحاجة, وقد تقع في مُشكلة أخطر مما لو أخذتَ المُباحَ مِنها,

﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾

 أيضاً: كلمة اسمعوها حرفيّاً, قال: العارِفُ البصير, يجعلُ عِوَضَ مجاهَدتِهِ لنفسِهِ في تركِ شهوةٍ مُباحة, مجاهَدتِهِ لأعداءِ اللهِ من شياطينِ الإنسِ والجِن، وقُطّاعِ الطريقِ على القلوب, كأهلِ البِدعِ من بني العِلم, ويستفرغُ قُواهُ في حربِهم ومجاهدَتِهم, ويتقوّى على ذلك بِما سمحَ اللهُ له بِهِ من مُباحات.
 أن يكون لكَ عمل، تتفوق في دِراستِك، تتفوق في تجارتِكَ، تزوّج وأسس بيتاً, وعِندئذٍ فرّغ نفسَكَ للهِ عزّ وجل، أمّا أن تعيش في حالة حِرمان مستمّر, وتوتّر مستمر, وإحساس بالشوق إلى شيء مُباح، هذا يحجُبُكَ عن اللهِ عزّ وجل، هذا من قِلّة الفِقه.
 النبي عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً واقفاً بالشمس -وشمسُ الحِجاز تعرِفونَها- فسألَ عنهُ, فقال:

((نَذَرَ أن يقِفَ في الشمس, فقالَ عليه الصلاة والسلام: مروهُ فليتحوّل, إنَّ اللهَ غنيٌّ عن تعذيبِ هذا نفسه))

 اللهُ غني عن تعذيب نفسِك, كُل باعتِدال، تزوّج واكسب المال، واطلب الحلال، واحضر مجالس العِلم، وتعرّف إلى الله، وادعُ إلى الله، واخدم الناس، هذا الوضع المِثالي الواقِعي، الإسلام واقِعي إنهُ دينُ الفِطرة.
 من آفاتِ تركِ الدُنيا كُليّاً, قال: التطلُعُ إلى ما في أيدي الناس إذا مسّتهُ الحاجة، ومن آفاتِ ترك الدُنيا كُليّاً: ما يأتيهِ من كِبرٍ وعُجبٍ وزُهُوٍ في زُهدِهِ، قال: الفقرُ الصحيح: السلامة من آفات الأخذِ والترك, وهذا لا يحصُلُ إلا بِفقهٍ في الفقر.

2-أن يتخلى العبد عن رؤيته لأعماله :

 في شيء آخر: من لوازم الفقر إلى الله عزّ وجل: أن يتخلّى العبدُ عن رؤيَتِهِ لأعمالهُ.
 أحياناً الإنسان: الله عزّ وجل يُكرِمُهُ بعمل صالح, هذا العمل الصالح إذا أكرَمَهُ بِهِ, رأى نفسَهٌ عظيماً بِهِ، رؤيةُ هذا العمل, والتركيزُ عليه, والحديثُ عنهُ دائماً, هذا مما يجعلُ هذا العملَ حِجاباً بينَكَ وبينَ اللهِ عزّ وجل، رؤيةُ العمل رُبّما كانَ حِجاباً بينَكَ وبينَ الله، المُفتقر إلى الله مُفتقر إليه حتى في الأعمال الصالِحة، فإذا اللهُ عزّ وجل جعل هُدى الناس على يديك, رُبمّا إذا نظرتَ إلى هذا العمل, كانَ هذا العمل العظيم نفسُهُ حِجاباً بينكَ وبينَ الله.
 إذا اللهُ عزّ وجل أكرَمَكَ ببناء مسجد, رُبمّا كانَ هذا العمل العظيم, إذا نظرتَ إليه, وحدثّتَ الناسَ عنه, وركزّت عليه, وقُلت: أنا فعلت, هذا العمل العظيم رُبمّا كانَ حِجاباً بينكَ وبينَ الله، إذا أمكَنَكَ اللهُ من خِدمةِ إنسانٍ خِدمةً جليلةً, وأنقذتَهُ بِها أو أنقذتَ حياتَهُ, ونظرتَ إلى عَمَلِكَ دائماً, ونسيتَ أنَّ اللهَ تفضّلَ عليكَ بِهِ، نسيتَ أنَّ اللهَ عزّ وجل خَلَقَهُ ونَسَبَهُ إليك، رؤية العملِ الصالِحِ نفسه قد يحجُبُكَ عن اللهِ عزّ وجل، فمن لوازِم الافتقارِ إلى الله: ألاّ ترى لكَ عملاً, أن ترى أنّ عَمَلَكَ الصالح الذي أكرَمَكَ اللهُ بِهِ, إنما هوَ محضُ فضلٍ من اللهِ عزّ وجل.
 أحد العارِفين بالله حَضَرتهُ الوفاة, فمزّقَ ابنُهُ قميصه من شِدّةِ ألَمِهِ، فتحَ أبو عُثمان عينيه, وقالَ: يا بُنيّ خِلافُ السُنّةِ في الظاهر علامةُ رياءِ الباطل.
 السُنّة ألاّ تُمزّقَ الثوب، إذا الإنسان جاءهُ خبر مؤلم، فخلاف السنة ضرب الخدود، وتمزيق الثياب، والمُناداة بالويل، كُلُ من خالَفَ السُنّةَ في الظاهر ينطوي على رياءٍ في الباطِل.
 أنا أقول لكم: حتى الأعمال الصالحة يجب أن تنسِبَها إلى الله عزّ وجل, حتى الحُزن المُقدّس يجب أن يكون وُفق السُنّة.
 آخِرُ فِقرةٍ في الدرس: من افتقرَ إلى اللهِ تعالى اغتنى، والغِنى نوعان: غِنىً بالله وغِنىً عن غيرِ الله, وهُما حقيقةُ الفقر، إذا كُنت فقيراً إلى الله أنتَ مُستغنٍ بالله, ومُستغنٍ عن غيرِ الله.
 أحدُ الخُلفاء العباسيين كانَ يَحُجُ البيت, فالتقى بعالِمٍ جليل في الحرمِ المكيّ, قالَ لهُ: سلني حاجَتَك، قال لهُ: واللهِ إني لأستحيي أن أسألَ غيرَ الله في بيتِ الله، فلمّا التقى بِهِ خارِجَ الحرَم, قالَ: سلني حاجَتَك، قالَ: واللهِ ما سألتها من يملِكُها, أفأسألُها من لا يملِكُها؟ فقالَ: سلني حاجَتَك, قالَ لهُ: أُريد أن أنجوَ من النار, فقالَ لهُ: هذهِ ليست بيدي, فقالَ لهُ: ليست لي حاجةٌ عِندَك.
 فمن علامةِ الفقرِ إلى الله: أن تستغني بالله, وأن تستغني عن غيرِ الله، الذي يطمَعُ بِما في أيدي الناس, ليسَ مُفتقِراً إلى الله عزّ وجل.
 رُبمّا قُلتُم في أنفسِكُم: هذا المستوى مستوى العارِفين بالله, أنا أتمنى أن يكون هذا مستوى المؤمنين، يعني الافتقار إلى الله عزّ وجل, لكَ مظهر فخم ليسَ هُناكَ مانع، أنيق في مظهرك، نظيف، لكَ بيت، لكَ عمل، متفوّق في تِجارَتِكَ، في صِناعَتِكَ، في عملَكَ، في وظيفتك، هذا لا يمنع أن تكون فقيراً إلى الله عزّ وجل, ليسَ هُناك تناقض إطلاقاً بينَ مرتبةِ الافتقارِ إلى الله عزّ وجل, وبينَ مرتبةِ أن تشعُرَ بحقيقةِ عبوديتِكَ للهِ عزّ وجل, وحقيقةِ نفسِكَ المحتاجةِ إلى اللهِ في كُلِّ شيء.
 اسمعوا مِنّي هذه القاعِدة: الإنسان إمّا أن يتَكِلَ على الله, وإمّا أن يتكِلَ على نفسِه في كُلِّ أطوارِ حياتِه.
 من اتكّلَ على اللهِ كفاهُ اللهُ كُلَّ مُؤنة, ومن اتكلَّ على نفسِهِ أوكَلَهُ اللهُ إياها.
 في عِلمِكَ، في عَمَلِكَ، في تدبيرِكَ، في تربيةِ أولادِكَ، في تجارَتِكَ، في صناعتِكَ، في علاقاتِكَ الاجتماعية, في لِقاءاتِكَ، في سَفَرِكَ, حينما تتكَلُ على اللهِ, عندئذٍ يكفيكَ كُلَّ مؤنة, وحينما تقول: هذهِ جهزّتُها, وهذهِ راجعتُها, وهذهِ أكدّتُها, حينما تقول: راجَعتُ هذا الشيء وجهزّتُهُ, قد يُفاجِئُكَ بعطبٍ خطير في وقتٍ مُزعجٍ جدّاً؛ فلذلك: دُعاء السفر، دُعاء قبلَ أن تقوم بأي عمل، هذا دليل الافتقار إلى الله عزّ وجل, وما من إنسان مؤمن قبلَ أن يُقدِم على أيّ عمل, يقول: يا رب أعِنّ، يا رب سدد خُطاي، يا رب سدد قولي، ألهِمن الصواب، ألهِمن الحِكمة.
 اللهم لا سهلَ إلا ما جعلتَهُ سهلاً, وأنتَ تجعلُ الحَزَنَ إذا شِئتَ سهلاً سهلاً.
 فهذا الدُعاء معناه الافتقار إلى الله عزّ وجل, فالافتقار من لوازِم المؤمنين, بل الافتقار سِمةٌ أساسيّةُ من سِماتِ أهلِ الإيمان, والافتقار يعني أنكَ عرفتَ حقيقَتَكَ, وعرفتَ عبوديتكَ للهِ عزَ وجل, والافتقار من أعلى مراتِبِ الإيمان في الدُنيا.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور