وضع داكن
20-04-2024
Logo
الدرس : 6 - سورة الأحقاف - تفسير الآيات 28- 35، خصائص الجن - علامة تدبّر آيات القرآن الكريم الانْطِلاق في تبليغه
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس السادس والأخير من سورة الأحقاف.


العوالِمُ عالمان:عالمُ الغَيب وعالم الشَّهادة:


 مع الآية التاسعة والعشرين، وهذه الآية -أيها الإخوة- مُتَعَلّقة بالجنّ، والجنّ -كما نعلم مِن إخبار ربّنا جلّ جلاله- مخلوقات خلقت من النار، لِقَول الله عز وجل في معرض الحِوار بين إبليس وبين ربِّه:

﴿ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ(76)﴾

[  سورة ص  ]

 قبل أن نمضي في الحديث عن الجِنّ، لا بدّ من مقدّمة أساسيّة جداً.

 العوالِمُ عالمان؛ عالمُ الغَيب، وعالم الشَّهادة، العالم المادي والمحسوس هو عالم الشَّهادة، والعالم المُغَيَّبُ عنَّا هو عالم الغيب، وهناك عالَم يجمع بين الغيب والشَّهادة، شيءٌ غابَ عنك، وبقِيَتْ آثارهُ، فذاته غائبة، أما آثاره فباقيَة.


عالم المحسوسات والمعقولات والإخباريات:


عالم المحسوسات:

 صار عندنا عالَم المحسوسات، وعالَم الغيب، وعالَم بين الشهادة والغيب، فعالَم المحسوسات هناك حواس أوْدَعَها الله تعالى فيك تتعرَّف إليه عن طريقها، فالعين ترى بها الصُّوَر، والأذن تستمع بها إلى الأصوات، وحاسَّة اللَّمس تتحسَّس ملْمسَ الأشياء، فحاسة السمع والبصر واللمس هي الحواس التي يمكن أن تتعرّف بها إلى عالم المحسوسات، بالإضافة إلى بقية الحواس فبِالذَّوْق تكتشف طُعُوم الأشياء، وبالشَّمّ تكتشف روائِحَها، صورتها وصوتها وملمسها ورائحتها ومذاقها، هذا عالم المحسوسات؛ سبيل اليقين به الحواس الخمس، بنو البشر، وغير البشر مشتَرِكون إلى حدّ ما في هذا العالَم، وفي هذه الأدَوات. 

عالم المعقولات:

 العالم الثاني عالَم ما غابَتْ عين الشَّيء وبقِيَت آثاره، فهذا العالَم يختص العَقْلُ أو الفِكر بِمَعرفته، شيءٌ غابَتْ عينه، وبقيَت آثاره، ترى دُخانٌ وراء جِدار فتقول: لا دُخان بلا نار، وأنت لم ترَ عَيْنَ النار، لكنَّك رأيْت آثارها، ولم ترَ عيْنَ الكهرباء، ولكنَّك رأيْت تألُّق المصباح، وتكبير الصَّوت، ودوران المِرْوحة، وتبريد الثَّلاجة، فالتَّبريد، والدَّوَران، والصَّوت، والضوء؛ هذه آثار الكهرباء، إذًا العالَم الثاني هو عالَم غابَتْ عينه، وبقيَت آثاره، سبيل معرفته العقل أو باسم آخر هو الفِكر.  


كلّ ما في الكون يدلّ على الله تعالى:


  الله جلّ جلاله لا تُدْرِكُه الأبصار، ولا يُسأل عنه بمتى كان؟ لأنَّه خالق الزَّمان، ولا أينَ هو؟ لأنَّه خالق المكان، وكلّ ما خطر في بالك فالله خِلاف ذلك، قال تعالى:

﴿ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا ۖ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ۚ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(11)﴾

[  سورة الشورى  ]

 ولكنّ كلّ هذا الكون يدلّ عليه، وكلّ هذا الكون بِمَجَرَّاته ومُذنَّباته وكازاراته وِكَواكبه، وأفلاكه، وأرضِه، وسمائِهِ، وبِجبال الأرض وأنهارها ووِهادها وصحاريها، وسهولها وأغوارها، وجبالها وهضابها وبِحارها وبُحَيْراتها، وبِينابيعها، وأنهارها وبِأسماكها وأطيارها، بنباتاتها، بكل مخلوقاتها، كلّ ما في الكون يدلّ على الله تعالى. 

وفي كلّ شي له آيةٌ       تدلّ على أنَّه واحد

[ لبيد بن ربيعة العامري ]

 إذًا في العالَم الثاني سبيل معرفة الله عز وجل العقل، قال تعالى:

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ(190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(191)﴾

[  سورة آل عمران  ]

عالم الإخباريات:

 بقيَ شيءٌ ثالث، في عالَم المحسوسات الحواس الخمس هي أدواتنا لمعرفة هذا العالَم، والعالَم العلوي غابَتْ عنَّا ذات الله عز وجل، ولكنّ آثار قدرة الله عز وجل تحت ِسَمعنا وأبصارنا بادية، إذًا حواسُّنا طريقنا إلى معرفة ما حولنا، لكنّ عقلنا فهو سبيلنا إلى معرفة الله عز وجل، لكن عالَم الغيب عالَمٌ غابَت فيه ذوات الأشياء وآثارها، وإذا غابَتْ ذوات الأشياء وآثارها ليس هناك من سبيل لمعرفة عالَم الغيب إلا الخبر الصادق، فما من طريق، إذ العقل عاجِز، والحواس عاجزة، فمثلاً الجنّ، بالعقل لا نستطيع أن نتعرّف عليهم، ولا بالحواس الخمس، ولا يمكننا أن نعرف عن الجنّ شيئًا إلا ما أخبرنا الله به، فعالَم الغيب سبيل معرفته الخبر الصادق.

عالم الغيب لا يتعرّف الإنسان إليه إلا عن طريق الخبر الصادق:

 الملائكة من عالم الغيب، الجنّ من عالم الغيب، الماضي السحيق من عالَم الغيب، والحياة بعد الموت من عالَم الغيب، البرزخ من عالَم الغيب، وكذا الصِّراط المستقيم، والحوض، والجنَّة والنار، هذه كلها من عوالم الغيب، عالَم الغيب لا نتعرّف إليه إلا عن طريق الخبر الصادق، لذلك الجنّ من عالم الغيب، العقل لا يستطيع أن يعرف عنه شيئاً، ولا الحواس تستطيع أن تعرف عنه شيئاً، والجن مخلوقات خُلِقت من نار، والدليل قوله تعالى عن إبليس: ﴿قَـالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ وإبليس ليس طاووس الملائكة كما يدَّعي بعضهم، إبليس من الجنّ، لِقَول الله تعالى:

﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۚ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)﴾

[  سورة الكهف   ]


من خصائص الجن:


خُلقت من نار:

 إذاً إبليس من الجنّ، والجنّ مخلوقات خُلِقَت من نار. 

عالمُ الجنّ يَرَون عالم الإنس وعالم الإنس لا يرَون عالم الجن:

 عالَمُ الجنّ يَرَون عالَم الإنس، وعالَم الإنس لا يرَون عالَم الجنّ والدليل، قوله تعالى: 

﴿ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ(27)﴾

[  سورة الأعراف  ]

عدم معرفة شيء عن الجن إلا من الأخبار الصادقة عن ربّ العالمين:

 في موضوع الجنّ لا نملِك إلا الأخبار الصادقة عن ربّ العالمين، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ﴾ .

عالم الجن له تجمعات:

 عالَم الجنّ له تجمّعات، كيف أنَّ البشر أُمَم وشُعوب وقبائل وأُسَر وعشائر، كذلك عالَم الجنّ فيه تجمّعات وتجمّعات، والدليل قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ﴾ .

الجنّ بِإمكانه أن يعيش على الأرض:

 عالم الجنّ بِإمكانه أن يعيش على الأرض والدليل، قوله تعالى:

﴿ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ(36)﴾

[  سورة البقرة  ]

 الخطاب للجنّ والإنس معاً، فالجنّ يسكنون الأرض، وفُضْلاً عن سُكنى الأرض فبإمكانهم أن يعيشوا خارج الأرض، والدليل قول الجنّ في القرآن الكريم:

﴿ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا(8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعْ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا(9)﴾

[  سورة الجن  ]

 فعالَم الجنّ بإمكانه أن يحْيا على وجه الأرض، وبإمكانه أنْ يَحيا خارِج الأرض. 

سرعة انتقال الجن بين السماء والأرض سرعة قِياسِيَّة:

 سرعة انتقال الجن بين السماء والأرض سرعة قِياسِيَّة، لذلك حينما خاطب الله الجنّ والإنس قال: 

﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ(33)﴾

[ سورة الرحمن ]

قدرة الجن على اجتياز المسافات البعيدة:

 لماذا بدأ بالجنّ؟ لأنَّه أقْدَر من الإنس على اجتياز المسافات البعيدة، قال تعالى:

﴿ قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ(39)﴾

[ سورة النمل  ]

 هذه أيضًا خاصَّة من خواصّ الجنّ. 

الجنّ سُمِحَ لهم أن يُوَسْوِسُوا لِبَني آدم الغافلون المنقطعون عن الله تعالى:

 الجنّ سُمِحَ لهم أن يُوَسْوِسُوا لِبَني آدم، لِحِكمةٍ مطلقةٍ أرادها الله عز وجل قال تعالى: 

﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ(83)﴾

[  سورة ص  ]

الجنّ يُوَسْوِسون ولكن ليس لهم سلطان على أيّ إنسان:

 العِباد المُخْلَصُون لا يستطيع الجنّ أن يُلقوا إليهم أيّة وسوسة، أما الأُناس الضالون، المنقَطِعون عن الله عز وجل والغافلون، فالجنّ ولاسيما شياطين الجنّ يُوَسْوِسون إليهم، ومن الحقائق القاطعة في موضوع الجنّ، أنَّ الجنّ ليس لهم على بني البشر سلطان، يُوَسْوِسون ولكن ليس لهم سلطان على أيّ إنسان، إنسانٌ يقول لك: اِفْعَل واتَّجه إلى هنا، وقِفْ، لا تُنْفِقْ، أو أنْفِقْ، هذا كلام الناس للناس، ولكن هذا الجِنِيّ لا يستطيع أبداً أن يمسكك، وأن يقودك مثلاً إلى مكانٍ ما، والدليل قوله تعالى:

﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(22)﴾

[  سورة إبراهيم  ]

الاستماع لكلام البشر و فهمه:

 الجنّ يستمعون إلى كلام بني البشر، ويفْهمونه، والدليل قوله تعالى:

﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ(29)﴾

[ سورة الأحقاف  ]

 فَمِن خصائص الجنّ أنَّها تستطيع أن تستمع لِكَلام بني البشر، وأن تفهمه. 

أقسام الجن:

  والجنّ على أقسام؛ منهم المؤمنون، ومنهم الكافرون، والدليل قوله تعالى:

﴿ وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا(14)﴾

[  سورة الجن  ]

 فالجنّ مُهيَّؤون للهدى، وقد يضِلُّون، أو يهتدون، يؤمنون أو يكفرون والشيء الثابت أنّ النبي صلى الله عليه وسلَّم كما يقول بعض المفسِّرين، بل أغلب المفسرين: لم يرَ الجنّ، ولم يرَ اسْتماعهم إليه، ولكنَّ وحْيَ السَّماء أخبره أنَّهم استمعوا إليه. 

هذه الحقائق عن الجنّ مِن خِلال الكتاب الكريم، لا نمْلك غير ذلك، وأيَّة نصوص أخرى ليْسَت صحيحة، وليْسَتْ بِشيء في هذا الموضوع، هذا القرآن الكريم هو كتابنا، وما صحّ مِن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو مَصْدرٌ ثانٍ للعقائد، وللتشريع في ديننا ولكن غير القرآن، وغير السنّة، لا نعبأ إطلاقاً بِكُلّ ما يُقال خلافهما. 

عدم معرفة الجن للغيب:

  هذا القرآن أخبرنا، أساساً موضوع الجنّ بِمُجمَلِهِ موضوع إخباري، فليس الجنّ مِن عالم الشّهادة، ولكن هو مِن عالم الغَيب، وعالَم الغَيب لا سبيل إلى معرفته إلا عن طريق الخبر الصادق، وهذا القرآن الكريم هو الخبر الصادق، وما صحّ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو الخبر الصادق، فإذا جَمَعْتُم هذه الحقائق مِن خلال هذه الآيات، بإمكانكم أن تضَعُوا إشارة رفض على آلاف القصص، آلاف مُؤلَّفة، فعَالَم الجنّ لا يعلمون الغيب، والدليل أنّ سيّدنا سليمان لمَّا توفَّاه الله عز وجل وكان متَّكئًا على عصاه، على مِنسَأة، وقد كلَّف الجنّ بأعمال شاقَّة قال تعالى:

﴿ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتْ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)﴾

[  سورة سبأ  ]


عدم معرفة الإنسان لحقائق للجن إلا عن طريق القرآن الكريم و الأحاديث الصحيحة:


 هذه حقائق من كتاب الله: 

فالجنّ مخلوق من نار.

وأوَّلاً مُكلَّف كالإنسان. 

وثانياً يسكن الأرض، وبإمكانه أن يسكن في كوكب آخر، أو في السماء. 

وانتقاله سريع جّدًّاً.

وله تجمّعات.

وسُمِحَ له أن يُوَسْوِس، ولكن لا سُلطان له على بني البشر، هذه حقائق أساسيَّة.

وهو لا يعلم الغيب.

ومن الجنّ من هو مؤمن ومنهم من هو كافر.

يسمع صوت الإنسان ويفهمه.

وعنده قابلِيَّة للهدى والضّلال. 

هذه بعض الحقائق التي وردَت في القرآن الكريم عن الجنّ؛ لذلك أيّة خرافة أو أيّة قصَّة أو أية فكرة أو أيّة مقولة تتناقض مع هذه الآيات الكريمة، ومع تلك الأحاديث الصحيحة لك أن ترفضها، بل ينبغي أن ترفضها، لأنَّ هذا الدِّين دينٌ قَويم، فيه الحق المبين.


وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ: آية يستنبط منها:


من خصائص النبي الشريفة أنه بُعث للإنس و الجن معاً:

 والآن إلى الآية الكريمة، قال تعالى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ﴾ الله عز وجل رحْمةً منه بِعَالَم الجنّ صَرَف نفراً من هؤلاء الجن، واختلف العلماء في عدد هذا النَّفر، بعضهم قال: من ثلاثة إلى عشرة، وبعضهم قال: عشرات الألوف، وهذا لا يَعْنينَا، لأنَّه من الغيب، والله عز وجل لم يُحَدِّد عددهم قال تعالى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ﴾ يُسْتَنبطُ من هذا أنَّ هذا القرآن للإنس وللجنّ، وأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام مِن خصائصه الشريفة أنَّهُ بُعِثَ للإنس، والجنّ معاً، وأنَّه بُعِث للجن، ودليله هذه الآية. 

السَّماع عند الله ليس أنْ تُلقي السَّمْع ولكن أن تصغي و تتدبر:

 هناك معنى آخر نستفيده، ونلْمسُهُ من هذه الآية أنَّك مثلاً إذا الْتَقيْتَ بِرَجُلٍ ذكرَ لك حديثاً شريفاً، أو آيةً قرآنيَّة، وإذا ساقك الله إلى مسْجدٍ فأسْمَعَك خطبةً، ساقك إلى درس عِلمٍ أسمعك حديثًا فيه حقّ صريح فهذا ينبغي أن تراه من الله عز وجل، فرحمة الله تعالى ساقَتْك إلى هذا المجلس ورحمة الله تعالى هي التي ساقتْك إلى هذه الخطبة، ورحمة الله هي التي ساقتْك إلى هذا الإنسان، وهذا ليس عَفْواً، ولا مُصادفةً، ولا خطأً، إنَّما هو مَقْصودٌ من الله عز وجل، قال تعالى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا﴾ قال تعالى:

﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(204)﴾

[  سورة الأعراف  ]

 الإنصات أن تسكت، والإنصات عمل سلبي، أنْصِت أي اسْكُت، طيِّب والسَّماع؟ قد يبْدو لِبَعض الناس أنَّ الإنصات كالسّماع، الله عز وجل قال:

﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ(21)﴾

[  سورة الأنفال  ]

 السَّماع عند الله ليس أنْ تُلقي السَّمْع، ولكن السماع عند الله تعالى أن تُصغي وأن تتدبَّر، وأن تتأمَّل، وأن تُفكِّر، وأن تتحرَّك.


سماع الإنسان الحقيقي أن يفهم الكلام و يعيه و يتبنى مضمونه:


 كنتُ أضربُ مثلاً طرقْتُهُ على مسامِعِكم كثيراً أنَّه إذا قال إنسان لآخر: اِنْتَبِه على كَتفِكَ عقرب، فما معنى سماع هذه الكلمة؟ أنْ تبقى هادئًا ومرْتاحاً ومُبْتَسِماً، وأن تلتفت لهذا الذي قال لك احذر العقرب على كتفك، وأن تقول له وأنت هادئ النفس، مرتاح جداً: أنا شاكرٌ لك من كل أعماقي على هذه الملاحظة القيِّمة واللَّطيفة، ولا يسَعُني إلا أن أُعبِّر عن شُكري وامْتِناني؟ هل هذا الكلام يدلّ على سماعك لِما قال؟ والله إذاً ما فَقِهْت أنت من كلامه شيئاً، لو فقِهْتَ لقَفَزْتَ قفْزةً، وصرخْتَ صوتًا، هذا إن فقِهْتَ معنى كلمة عقرب، فالسَّماع الحقيقي ليس أن تصل هذه المَوجات إلى طَبْلة الأُذن، ولكنّ السماع الحقيقي أن تفهم هذا الكلام، وأن تَعِيَه وأن تتدبَّره، وأن تبحث فيه، وتقلِّب وُجوهه، أن تتبنَّى مضمون هذا الكلام، أن تنطلق إلى تطبيق هذا الكلام، فإذا قال الطبيب للمريض دَع المِلْح كُلِيًّاً، وأنَّ المِلح يرفع الضَّغط، وارتفاع الضَّغط قد يُسبِّب انْفِجاراً بِبَعض شرايين الدِّماغ، ومعنى الانفِجار الشَّلَل، فإذا فَهِمْتَ كلام الطبيب فهماً دقيقاً، وبيَّن لك أنَّك على خطر، فهل يُمكن أن تأكل المِلح بعد هذا التوجيه والتنبيه؟ مستحيل، ما معنى السَّماع؟ السَّماع هو التَّطبيق، الوعي والتطبيق هذا هو السماع، قال تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾ فالذي قُلْتَ له: اِحْذَر على كتِفِكَ عَقْربٌ، وبقِيَ هادئًا مرتاحاً مبْتَسِماً وشكَرَكَ شكراً أدَبِيًّاً، ونمّق العبارات وأثنى على ملاحظتك اللطيفة، وقال: أنا لا يسعني إلا أن أُعبِّر عن شُكري وامتِناني لهذا الكلام الطيّب، فهذا والله ما سَمِع ما قلتَ له إطلاقًا، لأنَّه لو سَمِع لكان في شُغْلٍ عن شُكْرك، ولقفزَ مِن تَوِّه، وصرخ صوتاً ونزع العقرب عن كتِفِهِ، هذا إن عرف معنى كلمة عقرب.


على الإنسان أن يتأمل فيما قرأ من القرآن الكريم:


 لذلك قال تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا﴾ ماذا نفْهم من هذه الآية؟ نفهم من هذه الآية أنَّه ليس لك أن تقول مع القرآن الكريم شيئًا أبداً، إما أن تستمع إليه وإما أن تغلقَ القرآن، إذا كنتَ تقرأ القرآن في الصَّلاة ينبغي أن تستَمِع، ومعنى تستَمِع؛ أي أن تتأمَّل فيما تقرأ، وإذا قُرِئ القرآن في مناسبة ينبغي أن تستمع؛ أي أن تتأمَّل فيما تقرأ، قال تعالى:

﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا(24)﴾

[  سورة محمد  ]


التوبة النصوح علامة الإصْغاء إلى الحق:


 الله عز وجل أمرنا أن نفكِّر في الكون، وأمرنا كذلك أن ننظر في أفعاله، وأمرنا في تلاوة قرآنه أن نتدبَّر، وهناك آية أخرى تُؤكِّد هذا المعنى، قال تعالى:

﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ(4)﴾

[  سورة التحريم  ]

 علامة إصْغاء القلب إلى الحق التوبة النصوح: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ .


علامة تدبّر آيات القرآن الكريم الانْطِلاق في تبليغه:


 إذًا قال تعالى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ معنى ذلك أنَّهم أنْصَتُوا، واسْتَمَعوا، وفَهِموا، وتدبَّروا، وامتلؤوا إعْجاباً وعلامة إعْجابهم أنَّهم انْطَلقُوا إلى أهلهم! فهل نفْهم من هذا المعنى معنى يتعلَّق بنا نحن؟ أنت إذَا فَهِمْتَ آية في درسٍ ما فهْماً عميقاً هزَّ كيانَكَ، فهل يعْقل أن تبقى ساكتًا؟ مستحيل! إن كنت قد فَهِمْتَ هذه الآية فهماً عميقاً هزَّ كيانك، ورأيْتَ في الآية طريقًا لِسَعادتك، رأيتَ في الآية حلاً لِمُشكلات الإنسان، ورأيْت في الآية سبباً لِخُلودك في الآخرة، إذا فَهِمْتَ القرآن هكذا والله الذي لا إله إلا هو لا تستطيع أن تسْكتْ، فأنت إن الْتَقَيْتَ بِأهل بيتِكَ تُخبرهم عن معنى هذه الآية، وكذا إن الْتَقَيْت بأولادك، وزملائك، وجيرانك، وأقربائك، وبِمَن حوْلَكَ، وبِمن فوقك، وبِمَن دونك، فعلامة التدبّر الانْطِلاق في التَّبليغ، النبي عليه الصلاة والسلام يقول: 

((  بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ.))

[  رواه البخاري ]


الوعي و الإدراك و الفهم من علامات تدبر القرآن الكريم:


 أنت إذا ملِئْتَ إعجاباً بالآية تُبَلِّغُها للناس، أما إن لم تنتَبِه إليها، ولم تتأمل فيها، ولم تعْقِلها، ولم تتدبَّر معانيها، فلو سُئلت ماذا قيل في درس اليوم؟ تقول: والله كلام نسمعه كل أسبوع، إذا طُلب منك أن تقول الدرس لا تستطيع، لذلك من علامة الوَعْي، والإدراك، والفهْم، والتدبّر أنَّ النَّفس البشريَّة تمتلئ إعْظاماً لِهذا الكتاب الكريم، وعندئذ تنطلق إلى نقله إلى الآخرين، أَيَكون الجنّ أعْقَل مِن بني البشر؟ قال تعالى:

﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ(29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ(30)﴾

[ سورة الأحقاف  ]

 وحْدة الأديان السَّماويّة، والحقّ واحِد، وإن رأيْتَ هناك تناقضاً، فَكِتابٌ بقيَ كما أنزله الله عز وجل، وحفظه الله عز وجل، وكتابٌ آخر لِحِكمةٍ أرادها الله لم يحْفظه فقد حُرّف، وبُدّل، ونُقِلَ إليه، وحُذِف منه. 


القرآن الكريم يهدي إلى الحق اعْتِقاداً وإخباراً:


  قال تعالى: ﴿قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ ماذا نفْهم من هذه الآية؟ يهدي إلى الحق اعْتِقاداً، وإخباراً، نعتقِدُ أنَّه لا إله إلا الله؛ هذه عقيدة، ونعتقِدُ أنَّ الله على كلّ شيء قدير؛ هذه عقيدة، ونعتقد بأنَّ الله بِكلّ شيءٍ عليم، ونعتقد أنّ الله قديم، وحيّ قيُّوم، كلّ هذه عقيدة، أخبرنا عن قوم عادٍ وثمود، وعن قوم فرعون، وعن آدم عليه السَّلام، وعن إبليس، هذه أخبار، وكلمة الحق تعني أنَّ هناك معتقدات وهناك أخبار، وقوله تعالى: ﴿وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ تعني الأمْر، لذلك قال بعض العلماء كلمة رائعة جدًّاً: القرآن خبرٌ وأمْرٌ، أيْ الخبر صادق والأمر عَدل، هذا معنى قول الله عز وجل:

﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(115)﴾

[  سورة الأنعام  ]


كلام الله عز وجل إخبار عنه تعالى أو أمر و نهي:


 كلام الله عز وجل لا يزيد عن كونه إخباراً عنه تعالى، أو أمراً ونهْياً فالإخبار صادق، والأمر والنَّهي عدْلٌ: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ قال الله لك: إنّ الله واحدٌ لا شريك له، صدَقَ، وإنَّه على كلّ شيءٍ قدير؛ صدَقَ، وبِكُلّ شيءٍ عليم، صَدَق، وقال لك:

﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(30)﴾

[  سورة النور  ]

 هذا هو العدل، لك أن تنظر إلى ما أحلّ الله لك، أما إذا نظرْت إلى امرأة لا تَحِلّ لك فهذا عُدْوان، فكلّ أمرِهِ ونهْيِهِ عدْلٌ، وكلّ إخبارهِ صِدْقٌ: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ .


الإيمان شرط أساسي من شروط إجابة الدعوة:


 قال تعالى:

﴿ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ(30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(31)﴾

[ سورة الأحقاف  ]

 من هو داعيُ الله عز وجل؟ محمّد صلوات الله عليه، قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا(45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا(46)﴾

[  سورة الأحزاب  ]

 قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(24)﴾

[  سورة الأنفال  ]

 دعوة إلى الحياة، ﴿وَآمِنُوا بِهِ﴾ وأجيبوا دعوته، ومعنى ﴿وَآمِنُوا بِهِ﴾ بعد أن قال: أجيبوا دعوته؛ أيْ: إنَّكم لن تستطيعوا أن تجيبوا دعوته ما لم تؤمنوا به. 


حقوق الله مبْنيَّة على المسامحة وحقوق العباد مَبْنِيَّة على المُشاححة:


  قال تعالى: ﴿وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾ مِن هذه للتَّبعيض أي إذا آمنتُم بالله، واسْتَجَبتُم له، يغفر لكم بعض ذنوبكم التي هي بينه وبينكم، ولكنَّ الذنوب التي بينكم وبين العباد هذه لا تُغْفر إلا بالأداء أو المسامحة؛ لأنَّ حقوق الله مبْنيَّة على المسامحة، وحقوق العباد مَبْنِيَّة على المُشاحَحة هذا معنى ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾ ، قال تعالى: ﴿وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ طبعاً كما قال تعالى:

﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ(185)﴾

[  سورة آل عمران  ]


الإنسان مصيره بيد الله عز وجل:


 الحالة الثانية، قال تعالى:

﴿ وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(32)﴾

[ سورة الأحقاف  ]

 إذا أحد الناس رفضَ الدِّين، ورفضَ أن يؤمن بالله تعالى، وقال: الكون طبيعة، والإنسان كائنٌ مُعَقَّد ومن خِلال التَّطَوّرات أصبح صار إنسانًا، والدنيا هي كلّ شيء، وبعد الموت لا شيء، رفض الدين، فمِمَّا يتْبعُ هذا الرّفض رفض الأمر والنَّهي، ورفض نِظام الله عز وجل وشريعته، وهذا الذي رفض الدِّين، ورفض أن يأتَمِر بما أمر، وينتهي عما عنه نهى وزجر، فما مصيره؟ هو في قبْضة الله، قال تعالى: ﴿وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ﴾ .


من لم يستجب لله و لم يؤمن به لا يستطيع أن يتفلَّت من عِقابه:


 بأيّ لحظة! نقطة من الدّم لا تزيد في حجمها عن رأس دبوس، إذا تجمَّدَت في مكان في الدِّماغ، ففي مكان تكون شللاً، وفي مكان تكون عمىً، وفي آخر تكون خللاً، وفي غيره تكون جنونًا، الإنسان ضعيف، وخثرة من الدَّم يكفي أن تتجمَّد في أيّ مكان في الجِسم، فيكون لها مضاعفات خطيرة، أحيانًا موتٌ مفاجئ، بلا أسباب ظاهرة، (سكتة قلبية) هذا هو الإنسان! الإنسان تحت ألطاف الرّحمن:

((  بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى مُطْغِيًا أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا أَوِ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ أَوِ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ. ))

[  رواه الترمذي ]

 إذا الإنسان لم يجب داعي الله، ولم يسْتَجب لله، ولم يؤمن بالله أو آمنَ به إيمانًا شَكْليًّاً أجْوف، ولم يأتَمِر، ولم ينته، ولم يلتزم، ولم يُعطِ، ولم يمْنَع، ولم يُطَبِّق ما أمر الله به، فما الذي يحْصل؟ قال عليه الصلاة والسلام: (بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى مُطْغِيًا أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا أَوِ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ أَوِ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) الإنسان في قبضة الرحمن، لكنّ الحَبل مُرخَى، إنسان مربوط بِحَبل متين، يتحرَّك وينسى أنَّه مربوط بهذا الحبل، يظنّ أنَّه حرّ، ولكن في أيَّة لحظة إذا شُدّ الحبل أصبح في قبضة الرحمن عز وجل. 


معنى الإعجاز في الأرض أنه:


لا يستطيع أن يتفلَّت من عِقاب الله:

 قال تعالى: ﴿وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ معنى الإعجاز في الأرض أنَّه لا يستطيع أن يتفلَّت من عِقاب الله. 

لا يستطيع أن يفْعل شيئًا ما يرده الله:

 ومعنى الإعجاز في الأرض أنَّه لا يستطيع أن يفْعل شيئًا ما أراده الله ، فهما معنيان؛ لا يستطيع أن يفعل شيئاً ما أراده الله، ولا يستطيع أن يتفلّت من عقاب الله، كلّما قرأتم في كتاب الله هذه الآية، أو مثيلاتها ﴿فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ﴾ أيْ لا يستطيع الإنسان مهما كَبُر، ومهما علا شأنهُ، ومهما قَوِي أن يفعل شيئاً لم يرده الله، كما أنَّه لا يستطيع أن يتفلَّت من عذاب الله، أو عقابه، بل هو في قبضة الله دائماً، قال تعالى: ﴿يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ*وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ﴾ مهما كانت له جماعة في الدنيا، فهؤلاء لا ينفعونه يوم القيامة، ويأتي ربَّه فرداً كما خلقهُ فرداً! قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ .


قدرة الله عز وجل في خلق السماوات و الأرض:


 ثمّ قال تعالى:

﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(33)﴾

[ سورة الأحقاف  ]

 ورد في الأثر القدسي: "أنْ يا عبدي خلقت لك السماوات والأرض، ولم أعْيَ بِخَلقِهنّ، أفيُعْييني رغيف أسوقه لك كلّ حين؟! لي عليك فريضة، ولك عليّ رزق، فإذا خالفتني في فريضتي لم أُخالفك في رزقك، وعِزَّتي وجلالي إن لم ترْض بِما قسَمْتُهُ لك فلأُسلطنَّ عليك الدنيا، تركض فيها ركض الوحش في البريَّة، ثمَّ لا ينالك منها إلا ما قسمتُهُ لك، ولا أُبالي، وكنتَ عندي مَذموماً، أنت تريد، وأنا أريد، فإذا سلَّمتَ لي فيما أريد، كفَيْتُكَ ما تريد، وإن لم تُسلِّم لي فيما أريد، أتْعَبْتُكَ فيما تُريد، ثمّ لا يكون إلا ما أُريد"

 قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ بعض المجرَّات تبعد عنَّا أربعة وعشرين ألف مليون سنة ضوئيَّة! مع أنّ الضوء يقطع في الثانية الواحدة ثلاثمئة ألف كيلو متر، فكم يقطع في هذه السَّنوات؟ مليون مليون مجرَّة، وفي كلّ مجرَّة مليون مليون نجم، وما المجموعة الشَّمسيّة إلا نقطة كالهباء في جوّ الغرفة في الصيف، أو في الشتاء. 


جريمة الكافر جريمة كبيرة جدًّاً لا تغتفر:


  ثم يقول تعالى:

﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ(34)﴾

[ سورة الأحقاف  ]

 أحيانًا تكون مدة المحاكمات طويلة، ثماني سنوات، أدِلّة ومذكِّرات وشُهود ودعاوى وافْتِراءات وأيْمان، وأحيانًا أخرى المحاكمة تستغرق دقائق! متى؟ إذا كان هناك اعْتِراف، هل أنت قتلتَ؟ نعم! انتهى كل شيء نتيجة الاعتراف، فالاعتراف سيّد الأدلَّة، باعتراف المجرم لا حاجة للشُّهود، ولا للأدلّة انتهى كلّ شيء والقانون واضِح، فربّنا عز وجل أراد في هذه الآية أن يبيِّن أنَّ جريمة الكافر جريمة كبيرة جدًّاً، وأنَّه لا يستطيع أن يكذب إطلاقًا قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ انتهَتْ المحاكمة بِكَلِمَتَين أليس هذا بالحق؟ 


حساب الكافر يوم القيامة حساب سريع جداً:


  قال تعالى:

﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)﴾

[  سورة ق  ]

 فرعون حينما أدْركه الغرق قال:

﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)﴾

[   سورة يونس  ]

 كما قلتُ قبل قليل أحيانًا تكون الجريمة واضِحة، والمجرم لا يسَعُهُ إلا أن يعترف، فإذا اعترف صدَر القرار، فالمحاكمة تكون سريعة جداً، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ﴾ .


من بنى مجده على أنقاض الآخرين فالنار مثوى له:


 الله عز وجل يُريهم أعمالهم، وإساءتهم، وإضلالهم للبشر، وأنهم بنَوا مجْدهم على أنقاض الآخرين، وبَنَوا حياتهم على موت غيرهم، كما بنوا غِناهم على فقرهم، وبَنَوا أمْنَهُم على خوفهم، قال تعالى: ﴿أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا﴾ مع القسم، قال تعالى: ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾


من آمن بالله و استقام على أمره أصابه الخير في الدنيا و الآخرة:


  كلام واضح كالشمس، هذا نقوله لأنفسنا، الدِّين كلّه إيمان واستقامة، والحق واضِح، والأمر واضِح، والنَّهي واضح، والحلال حلال، والحرام حرام، والخير خير، والشرّ شرّ، والإحسان إحسان، والإساءة إساءة، إذا آمنت بالله واسْتَقَمت على أمره لك الخير في الدنيا والآخرة، وإلا فادْفَع الثَّمَن، قال تعالى:

﴿ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ (15)﴾

[  سورة القصص  ]

 لما وكزهُ موسى عليه السلام، فهذه الآية يُقاس عليها أشياء كثيرة كلّما وجدْت إنسانًا دُمِّر بِسَبب كسب مال حرام، أو عُدوان على أعراض الناس، أو جهله بالله عز وجل، فكلَّما رأيْت مصيبة كبيرة فادحة، فقل: ﴿هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ﴾ ، فالإنسان إما أن يكون رحمانيًّاً، وإما أن يكون شَيْطانِيًّاً، ملائكِيًّاً أو شَهْوانِيًّاً، مستقيماً أو منحرفاً، محسِنًا أو مسيئاً عدْلاً أو ظالماً. 


الصبر مفتاح الفرج:


  قال تعالى:

﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)﴾

[ سورة الأحقاف  ]

 يا محمد، إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام، وهو على علوّ مقامه، ورِفْعة مكانته وعِصْمته، والله جلّ جلاله يقول له: اصْبِر ! وأنت يا أيها المؤمن اصْبِر، إنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، هذه الحياة دار ابْتِلاء لا دار اسْتِواء، ومنزل ترحٍ لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لِرَخاء، لأنه مؤقت، ولم يحزَن لِشَقاء، قد جعلها الله دار بلْوى، وجعل الآخرة دار عُقبى، فجعل بلاء الدنيا لِعَطاء الآخرة سبباً وجعل عطاء الآخرة من بلْوى الدنيا عِوَضاً، فيأخذ لِيُعطي، ويبتلي لِيَجزي. 

﴿فاصْبِر﴾ دخلك قليل ﴿فاصْبِر﴾ ، الزَّوجة ليْسَت على ما يُرام ﴿فاصْبِر﴾ ، الله تعالى أمرك أن تصْبر، ودعوْت إلى الله فلم تُفْلح ﴿فاصْبِر﴾ دَعَوْت إلى الله تعالى فاستهزئ بكَ ﴿فاصْبِر﴾ ، أحْسَنْتَ إلى إنسانٍ فأساء إليك ﴿فاصْبِر﴾ ، أولادك ليسوا على ما يُرام ﴿فاصْبِر﴾ خُذهم بالحِلم واصبر، دخْلُكَ لا يكفي ﴿فاصْبِر﴾ ، ليس عندك بيت ﴿فاصْبِر﴾ ، تخاف أن تُقيم شرع الله ﴿فاصْبِر﴾ .


الخوف لا يُنقص من قدْر الإنسان و إنما كلّ عمل له جزاء محدَّد:


  الأنبياء خافوا، قال تعالى:

﴿ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ(18)﴾

[  سورة القصص  ]

 سيدنا موسى نبي عظيم، وكان خائفاً، الخوف لا يُنقص من قدْر الإنسان، قد تخاف وأنت مستقيم، فاصبِر، الله أمرك أن تصبر، وقال:

﴿ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۗ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ ۗ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)﴾

[ سورة الزمر  ]

 كلّ عمل له جزاء محدَّد فالحسنة بِعشر أمثالها إلى المئة وإلى السبعمئة، إلا الصبر ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾


عُلُوّ الهِمَّة من الإيمان:


  أيها الإخوة، إذا ذهب شخص إلى طبيب الأسنان، وهو يعلم عِلْم اليقين أنَّ قلْع هذا الضِّرس يحتاج إلى مخدِّر لِصالِحِه، ولكن هذا المخدِّر يحدث ألَماً بسيطًا حين الحَقْن، والأمر واضح جداً عندك، أنت تصبر، لكن أحياناً يكون الأمر غير واضح، فهنا لا يُقال لك اصبر لأن الأمر واضح، لكن متى يقال لك اصبر؟ عندما يكون الأمر غير واضِح عندك، وإذا كان واضِحاً لا تحتاج إلى صبر، ولا أجر لك أساساً، لكن حينما يكون الأمر غير واضح فأنت مستقيم، وتُعاني من مشكلة، يا الله ما السَّبب؟ اصبِر، ألسْتَ واثقاً بالله عز وجل؟ ومن حكمته؟ ومن رحمته؟ ومن عدالته؟ ومن توفيقه؟ ومن وعْده الذي لا بدّ أن يقع؟ فاصبِر، وإذا النبي قيل له: اصْبِر فنحن من باب أولى، قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ أرجح التفاسير أنَّ كلّ الأنبياء من أولي العزم، وبعضهم قال: أولو العزم سيدنا نوح وإبراهيم وموسى ومحمّد، وبعضهم أضاف سيّدنا آدم، وبعضهم أضاف سيّدنا عيسى، لكنّ أرجح الأقوال أنَّ كلّ الأنبياء من أولي العزم، لذلك عُلُوّ الهِمَّة من الإيمان.


الدنيا ساعة على الإنسان أن يشغلها بالطاعة:


 المؤمن قويّ بِدينِهِ، قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ﴾ الدنيا ساعة، والدليل أنّ لِكُلٍّ مِنَّا عمر محدود، كيف مضَتْ هذه السَّنوات؟ البارحة كنا صغار، سل واحداً واحداً، جوابهم واحد: الدنيا حُلُم، فالبارحة كنت بالابتدائي، والإعدادي، والثانوي، مدرِّس ثمّ تقاعدت، فالإنسان له مجموعة أيام، يوم يولَد، ثم دخل الابتدائي والإعدادي والثانوي وأخذ الليسانس والدكتوراه، وأسَّس مشروعاً تِجاريًّاً، ثمَّ تزوّج، وأنجَبَ أولاداً، زوَّجَ بناته، وأولاده، وبعدها نقرأ نَعْوَتَهُ! بالتسلسل، مراحل، قال تعالى:

﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ(19)﴾

[  سورة الانشقاق  ]

 ومن دخل الأربعين دخل في أسواق الآخرة، مالَ الميزان، والأربعين كما قال بعض المُفسِّرين هي النذير، في قوله تعالى:

﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ۚ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ۖ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ (37)﴾

 

[ سورة فاطر  ]

 قالوا النَّذير سِنُّ الأربعين!


كل إنسان بين عملين: عمل سيئ و آخر جيد: 


إلى متى أنت باللذات مشغول    وأنت عن كل ما قدمت مسؤول

[ البوصيري ]

 إلى متى أنت شارد؟ أين التَّوبة؟ وأين الانضباط؟ أين طلب العلم؟ وأين الالتزام؟ وأين التَّطبيق؟

إلى متى أنت باللذات مشغول   وأنت عن كل ما قدمت مسؤول

[ * * * ]

 إذًا: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ﴾ لذلك قالوا: "الدنيا ساعة اجعلها طاعة" .

 أيها الإخوة، اللَّذائذ المحرَّمة تنقضي، وتبقى تَبِعاتُها، والمشقَّات في العبادات تنقضي، ويبقى أجرها وثوابها، أقرب مثل رمضان، إنسان يصوم وآخر يُفطِر، يوم العيد الذي صامَ فطرَ، ولكن كسب أجراً، وبقي الأجر، والذي كفر أكل كالخِنزير، يوم العيد الذي صام فطر، انتهت المشقة وبقي الأجر، والذي فطر نسي اللذائذ وبقي الإثم، فأنت بين عَمَلين؛ بين عملٍ صالح يبقى ثوابه، وتنتهي متاعبهُ، وبين عملٍ سيئ يبقى عقابه، وتنتهي لذائذُه. 


استعراض حياة الإنسان يوم القيامة:


  قال تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾ الإنسان أحيانًا، وهذا شيء ثابت، لو أنّه لاحَ له شبَح الموت، يستعرض حياته كلها في ثوانٍ معدودة، وهذا شيء معروف، قال لي شخصٌ وقع من الطائرة، وشاء الله له أن يبقى حيًّاً! قال لي: حينما كنت أهوي، والله اسْتَعرضْتُ حياتي دقيقةً دقيقةً، كَسُرعة البرق وهكذا حال كل الناس يوم القيامة، قال تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ﴾ .


التبليغ مهمة الإنسان في الدنيا:


 ثمّ يقول تعالى: ﴿بَلَاغٌ﴾ أي أنت جئتَ إلى الدنيا من أجل أن تُبَلَّغَ هذا البلاغ، انتبه أنت الآن في دار الإبلاغ، وأنت الآن تُبَلَّغ، لك أن تفعل ما تشاء، وكلّ فعْل له حِسابه، فلقد بلغناك، وأهم شيء في المحاكمات الإبلاغ، فالذي لا يُبَلَّغ لا يُحاكم، بلِّغ انتهى الأمر قال تعالى: ﴿بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾ هذه الآية ردّ على كلّ من يدَّعي، ويتوهَّم أنَّ في الكون ظلماً، 

﴿ ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا ۖ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)﴾

[ سورة سبأ ]


طاعة الله عز وجل سبيل الإنسان للنجاة:


  ﴿فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾ ما الذي يعصِمُك من الهلاك؟ الطاعة لله تعالى، قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(13)﴾

[  سورة الحجرات  ]

 قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ﴾.


الموت مصير كل إنسان:


 كلّ مُتَوَقَّعٍ آت، وكلّ آتٍ قريب، الإنسان أحيانًا يرى الأمد طويلاً، وهذا من ضعف التَّفكير، فما دام الموت في طريقِهِ إلينا فكأنَّه جاء، وكلّ واحدٍ مِنَّا عليه أن يعلم أنَّه حُكِمَ عليه بالموت مع وَقف التَّنفيذ، والتَّنفيذ سيَكون فجأةً من دون سابق إنذار، عليه أن يستعِدّ، قال تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ﴾ كلمة بلاغ مُخيفة، هناك توقيع، ومسؤوليَّة، وتَبِعَة، قال تعالى: ﴿فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾ .

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور