وضع داكن
18-04-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة الأحقاف - تفسير الآيات 7-11، إصرار الكفار على العناد
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الثاني من سورة الأحقاف.


الكفار في أي مكان و زمان ردهم على الحق واحد:


 مع الآية السابعة وهي قوله تعالى:

﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ(7)﴾

[ سورة الأحقاف  ]

 النبي عليه الصلاة والسلام، فيما روي عنه قوله: "ملة الكفر واحدة" يعني الكفار، في أي زمان، وفي أي مكان، ردُّهم على الحق واحد، تارة يقولون: غيبيات، تارة يقولون: ما وراء الطبيعة، تارة يقولون: هذا فِكرٌ ليس واقعياً، لا يعنينا، نحن مع الواقع، كما يقولون: هذه مثاليات حالمة، هذا سحر مبين، هذه تقاليد، هذا فكر كلاسيكي، أساطير الأولين، هذه ردود الكفار دائماً. 


عدم وجدان السعادة و الهدى لا يدل على عدم وجودهما:


  الآية الكريمة :

﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ(28)﴾

[ سورة هود ]

 بينة، فكر واضح، عقيدة ناصعة، مبادئ كالشمس الساطعة، قال الله تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾ هذه السعادة، أي قاعدة بالفلسفة، أن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، يعني إذا الإنسان لم يرَ سعادة في حياته، ليس معنى ذلك أنه ليس في الأرض سعادة، إذا لم يرَ هدى في حياته، ليس معنى هذا ليس في الأرض هدى، عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، الإنسان التائه، الشارد، الضائع، الشقي، المُتحّير، الخائف، القلِق، هذا له أن يقول: أنا خائفٌ، وقلِقٌ، له أن يقول ذلك، ولكن ليس له أن يقول: ليس في الأرض هدى، وليس في الأرض قِيَم، وليس في الأرض رحمة. 


الناس رجلان رجل موصول بالله و رجل مقطوع عنه:


  لذلك أيها الإخوة الكرام، ربنا سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ يعني معركة الحق مع الباطل، معركة أزلية، أبدية، دائماً من الناس مؤمن وكافر، ومنهم مستقيم ومنحرف، منهم عادل وظالم، فيهم موصول بالله، وفيهم مقطوع عن الله، بين الناس قاسي القلب، وبينهم رحيم، القصة كلها أنك أحد رجُلين، موصول بالله، أو مقطوع عنه، إذا كنت موصولاً فأنت رحيمٌ، وأنت متواضعٌ، وأنت مُنصِفٌ، وأنت منضبطٌ بالشرع، وأنت موصولٌ، وأنت مُحسِنٌ للخلق، فالقضية تتلخص في أنك يجب أن تختار أحد الاتجاهين؛ الاتجاه الأول، أن تختار العقل، والعقل يقودك إلى الله، والله يأمرك بالإحسان وبالعدل، والله سبحانه وتعالى أعدك لحياة أبدية، وهذه الدنيا، حياةٌ دنيا إعداديةٌ لحياة عليا أبدية، فهنا الاختيار، اختيار مصيري، يعني أحياناً ليس من موضوع في حياة المؤمن أو في حياة الإنسان أخطر من دينه، قال لابن عمر: 

(( يا ابنَ عمرَ! دينُك دينُك، إنَّما هو لحمُكَ و دمُكَ، فانظُر عمَّن تأخذُ، خُذ عنِ الَّذينَ استَقاموا، و لا تأخُذ عن الَّذينَ مالوا. ))

[ الألباني بسند ضعيف ]

قال تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾


كل ما في الكون يدل الإنسان على الله عز وجل:


 إذا أراد الإنسان أن يدرس مثلاً، فالكتاب يفيده، والمعلم يفيده، ووسائل الإيضاح تفيده، مناقشة في أسرته تفيده، مجلة فيها مقال علمي تفيده، هذا إذا أراد أن يتعلم، أما إذا رفض العلم من أصله، فلو وضعنا له أعظم الأساتذة، وألحقناه بأعظم المدارس، ثم وفّرنا له أفخم مكتبة، ووفّرنا له كل الوسائل السمعية، والبصرية، فلن يستفيد، فالهدى قرار داخلي، إن لم تتّخذ هذا القرار، لا شيء في الأرض يفيدك في الوصول إلى الهدى، وإن اتّخذت هذا القرار، كأس الماء يعلّمك، صوت الطّائر يرشدك إلى الله، القمر يدلك على الله، أيّ شيء تقع عينك عليه يدلّك على الله، أيّ حدث يقع لك تفهمه فهماً عميقاً، فهماً دينياً، فهماً إلهياً، فالخلاصة أن الإنسان يُحْدِثُ في نفسه رغبة كي يهتدي، عندئذ كل ما في الكون يدله على الله، بل إن الكون كله مظهر لأسماء الله الحسنى.


إصرار الكفار على العناد و الاستكبار و تعطيل القدرات:


  فهؤلاء الكفار تُتلَى عليهم الآيات بيناتٍ، واضحاتٍ، بليغاتٍ، ومع ذلك، قالوا: هذا سحر مبين، فخذ مثلاً أعمام النبي عليه الصلاة والسلام، ألم يلتقوا بالنبي؟ ألم يرَوا منطِقَه؟ ألم يسمعوا حجّته؟ ألم يرَوا كماله؟ ما أفادهم ذلك شيئاً، قال تعالى:

﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ(2)﴾

[ سورة المسد ]

 أما سيدنا سلمان الفارسي، جاء من بلاد فارس، كاهنٌ ينقله إلى كاهن، إلى أن وصل إلى النبي.


الهدى قرار داخلي:


 أيها الإخوة الكرام، نقطةٌ دقيقةٌ جداً أريد أن أقف عندها قليلاً، الهدى قرار داخلي، اختيار، إن اخترت الهدى، كل شيء في الكون يدل على الله، وإن لم تخترِ الهدى، لا شيء في الأرض تستفيد منه، حتى القرآن، 

﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ۖ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ۗ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ۖ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ۚ أُولَٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ (44)﴾

[ سورة فصلت ]

قال تعالى:

﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)﴾

[ سورة الإسراء ]

 القرآن نفسه، حتى الدعاة إلى الله لا يعبؤون بكلامهم، ينظرون إليهم من زاوية أخرى: لعل لهم مصالحَ، لعل لهم أغراضاً ماديةً من هذه الدعوة، يتعامون عن فحوى دعوتهم، وعن حقيقة الهدى الذي جاؤوا به، قال تعالى:

﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ(7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(8)﴾

[ سورة الأحقاف  ]


القرآن الكريم أكبر حجة على أنه كلام الله عز وجل:


 الحقيقة، هذا القرآن جاء النبيَّ عن طريق الوحي، والقرآن أكبر حجة على أنه كلام الله عز وجل إعجازه؛ فيه إعجاز علمي، فيه إعجاز تشريعي، فيه إعجاز لغوي، فيه إعجاز بلاغي، فيه إعجاز إخباري، فيه إعجاز تربوي، فإذا أردت أن تفهم كلام الله، وأن تتدبّر آياته، كل يوم، تضع يدك على دليل قطعي، جامع، مانع، على أن هذا الكلام كلام الله، يعني؛ ما من صفحة في كتاب الله، ما من آيةٍ، ما من توجيهٍ، ما من أمرٍ، ما من نهيٍ، ما من حُكمٍ، إلا ويدلك على أن هذا الكلام لا يمكن أن يكون كلام النبي عليه الصلاة والسلام، إنه كلام الله، قال تعالى:

﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)﴾

[ سورة النجم ]


كل إنسان يتهم هذا القرآن بأنه من عند النبي فهو لم يقرأه إطلاقاً:


﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾ معنى ذلك الذي يقول إنّ هذا الكلامَ كلامُ النبي ما قرأ القرآن، يعني لا يوجد موقف أشد سخافةً بالإنسان من أن تأتيه رسالة، فيمزقها قبل أن يقرأها، هل رأيتم إنساناً جاءته رسالة ويمزقها من فوره؟ لعل فيها حوالة، لعل فيها بشارة، لعل فيها دعوة، كيف تُسِيغ لنفسك أن تُمزّق هذه الرسالة قبل أن تقرأها، وكل إنسان يتهم هذا القرآن بأنه من عند محمد عليه الصلاة والسلام، هذا كلام مفترى، يقولون: محمد إنسان عبقري، ذكي جداً، صاغ هذا القرآن، اقتبسه من بَحيرة الراهب، ومن أمية بن أبي الصلت، وجمع هذه الآيات، وجمع بدعوته العرب، وأراد أن يكون زعيماً لهم، هذا كلام الأجانب، الكفار، كل إنسان يتهم هذا القرآن بأنه من عند النبي، لم يقرأه إطلاقاً.


من قرأ القرآن الكريم قراءة متأنية اكتشف الإعجاز فيه:


مرة عُرِض على أحد أكبر علماء البحار، هذا العالم قد اكتشف عن طريق صور من المركبات الفضائية أن بين كل بحرين خطاً، بين البحر الأحمر والبحر العربي يوجد خط عند باب المندب، وبين البحر الأحمر والمتوسط خط عند قناة السويس، وبين الأبيض والأطلسي خط عند جبل طارق، وبين البحر الأسود والبحر المتوسط خطٌّ عند البوسفور، هذا الخط رُئِيَ من خلال مركبات الفضاء، هذا العالم الكبير، عالم البحار، وجد أن كل بحر له مكونات، وله درجة ملوحة، وله درجة كثافة، وله خصائص ليست موجودة في البحر الآخر، بل إن مياه أي بحر لا تختلط بمياه البحر الآخر، وعدَّ هذا إنجازاً، وقفزة في عالم العلم، وأنها تعني اكتشافًا لم يُسبق إليه.


الإعجاز العلمي للقرآن الكريم:


 ثم إنّ أحد العلماء المسلمين سافر إلى بلد أجنبي، والتقى بهذا العالم، وتلا عليه قوله تعالى:

﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ(19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ(20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(21)﴾

[ سورة الرحمن ]

 يقول هذا العالم المسلم، ما إن سمع هذا الكلام، وطلب ترجمته الحرفية، وتأكد أنه في كتاب قديم حتى أعلن إسلامه، ليس معقولاً، شيء لم يعرفه أحد من قبل، بل أضاف إلى ذلك أن البرزخ يمنع مياه كل بحر أن تختلط بمياه البحر الآخر، بينما الحِجْر يمنع أسماك المياه العذبة من أن تذهب إلى المياه المالحة، قال تعالى:

﴿ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا (53)﴾

[ سورة الفرقان  ]

 لذلك أكبر أساطيل صيد السمك تجدها في مصبات أنهار المياه العذبة في البحار، لأنه مكان تجمّع سمكي هائل، أسماك المياه العذبة لا تذهب إلى المياه المالحة.


الحكمة من مخاطبة الله عز وجل النحل بالمؤنث و النمل بالمذكر:


 إذا قرأت القرآن، ووقفت عند آياته، ولا سيما الآيات الكونية، تشعر بما لا سبيل إلى الشك، أن هذا الكلام كلام الله، والآيات هذه من لدن حكيم خبير، وقد ذكرت في الخطبة في أسبوع سابق أنه لماذا خاطب الله النحلة بضمير المؤنث؟

﴿ وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ(68)﴾

[ سورة النحل ]

 ولماذا خاطب الله النمل بضمير المذكر؟

﴿ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ(18)﴾

[ سورة النمل ]

 فهل كان في عهد النبي عالم يعرف أن للنحل ملكة أنثى، ولها ذكر، والملِكة أنثى في عالم النحل؟ وأن النمل ذكر وأنثى؟ وأن التي تنسج بيت العنكبوت هي الأنثى؟ اتَّخذت بيتاً، هذه التاء المؤنثة الساكنة، هذه من الإعجاز العلمي لكتاب الله، التي تنسج بيت العنكبوت هي الأنثى، والتي تجني الرحيق، وتصنع العسل هي الأنثى، قال تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ﴾ بينما النمل، خاطب الله مجموع النمل ذكوراً وإناثاً، والمجموع على مبدأ التغليب يُخاطب بضمير المذكر دائماً.


المؤمن الحق يسعى لتعظيم شأن القرآن الكريم:


 لو دخل تسع وتسعون طالبة إلى القاعة ودخل معهنّ طالب واحد، نقول: دخل الطلاب، من ضمائر التأنيث والتذكير، تعرف أن هذا القرآن كلام الله، يعني لا يوجد كتاب على وجه الأرض، إلا بعد شهر، شهرين، ثلاثة، سنة، سنتين، وجدوا فيه أخطاء، ومع تقدَّم العلم فإنّ هذه المعطيات اختلفت، لا يوجد كتاب على الإطلاق، إلاّ بعد حين ظهر فيه بعض النقص، أو بعض الخطأ في معطياته، لكن هذا القرآن الكريم، مضى على نزوله من السماء أكثر من ألف وخمسمئة عام تقريباً، فما ظهرت حقيقة علمية تصادم آية قرآنية فهو من عند الله عز وجل.

 أي إذا كان من عند الله، يجب أن يُقرأ قراءة واعية، متأنية، فيها تدبُّر، فيها تفكُّر، فيها موازنة، يجب أن يكون هذا الكلام في قلوبنا، فالإنسان مثلاً، لو أنه اعتلّت صحته، لا سمح الله، واستدعى طبيباً من أعلى مستوى، وقال له هذا الطعام لا يناسبك، وصعود الدرج لا يناسبك، وهذا البيت لا يناسبك، وهذه الصنعة التي أنت فيها لا تناسبك، هذه كلها تُجهِد القلب، مثلاً، فكيف يفكر؟ فَوراً يسعى لتغيير البيت، وتغيير الصنعة، وترك هذه الأكلات الطيبة، لماذا؟ لحرصه على صحته، ولأنه صدَّق الطبيب، إذًا هذا القرآن الكريم كلام خالق الكون، ليس كلام الطبيب، هذا كلام خالق الكون، ألا ينبغي أن نقرأه، فنحلّ حلاله، ونحرّم حرامه، وأن نخاف من وعيده، وأن نستبشر بوعده، وأن نصدق غيبه، وأن نُعظّم شأنه، هذا كتابنا المقرر.


المؤمن من تناسب حجم إيمانه مع حجم تعظيم القرآن الكريم:


 تصور يا أخي الكريم، إنساناً عنده مكتبة، والكتب ملءَ جدرانها الأربعة، من الأرض إلى السقف، ويوجد كتاب واحد بهذه المكتبة، سيؤدي فيه امتحاناً بعد أسبوع، إنه امتحان التخرج، وسوف يترتب على نجاحه في هذه الشهادة مستقبل باهر، أليس من المنطق والعقلانية أن يقرأ هذا الكتاب المقرر وحده؟ فنحن؛ هذا القرآن، كتابنا المقرر، وهو منهج لنا، فيه أسباب سعادتنا، بعدم فهمه أسباب شقائنا، بتطبيق أحكامه أسباب سلامتنا، بتلاوته أسباب اتصالنا بالله عز وجل، فهذا يعني أنْ يتناسب حجم إيمانك مع حجم تعظيمك لهذا القرآن الكريم، هذا كلامه، عز وجل قال:

﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ(1)﴾

[ سورة الأنعام ]

 الكون كله دخل في هذه الآية، وآية ثانية أشارت إلى القرآن:

﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا(1)﴾

[ سورة الكهف ]

 معنى ذلك أن هذا الكتاب في كفة، والكون كله في كفة، هذا الكون خَلْقُ الله، والقرآن كلامه.


كلام البشر لا يقدم ولا يؤخر في كتاب الله:


 قال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ نحن الآن أمام نقطة مهمة جدًّاً، إنك إذا قلت للذهب نحاس، لا يصير نحاساً، كلام البشر لا يقدم ولا يؤخر، قل ما شئت عن كتاب الله، قل ما شئت عن رسول الله، النبي حقيقة ثابتة، حقيقة النبوة ثابتة، وهذا القرآن حقيقة ثابتة، إذا قلت هو افتراء، فإنه يبقى وحياً، إذا قلت إن النبي ذكي وعبقري، يبقى النبي نبياً يُوحى إليه، فإياك أن تتوهم أن ادّعاءك، أو وصفك الأشياء على غير ما هي عليه، يبدّل من طبيعتها، قال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ فأنْ يأتي إنسان ويدّعي أن هذا الكلام كلام بشر، فهل تعتقد أنّ الله عز وجل لا يحاسبه، لو أنني فعلت هذا، هل تملكون أنني لا أُعاقَب من قبل الله عز وجل؟ هل تملكون ألا أكون عبرة للبشر؟


توعد الله من قال بأن هذا القرآن كلام البشر بالعذاب الأليم:


 اسمعوا قوله تعالى:

﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ(44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ(45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ(46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ(47)﴾

[ سورة الحاقة ]

 وبعد، فلما الإنسان يعمل في الحياة، فإن الله يعطيه مدى، يرخي له الحبل، أما إذا أراد أن يلعب بدين الله، فإنّ الله يقصمه مباشرة، إنسان يفتري، يدعي، يتعالم بشيء ما أنزل الله به من سلطان، يبتدع ولا يتبع، والله عز وجل يتركه! الله هو رب العالمين.

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(4)﴾

[ سورة الحديد ]

﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ(18)﴾

[ سورة ق ]


الآيات التي تحدد مقام النبي عليه الصلاة والسلام:


 النبي عليه الصلاة والسلام، قال: إن افتريته فَرضاً يعني قل: إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً، إذا أنا افتريت كلاماً ما قاله الله عز وجل، وافتريته على الله، فالله سوف يحاسبني، وأنتم لا تستطيعون أن تمنعوا عقاب الله أن يأتيني، وبالمناسبة هناك أربع آيات تحدد مقام النبي عليه الصلاة والسلام، أول آية:

﴿ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا ۖ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ ۖ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ(31)﴾

[ سورة هود ]

 ثاني آية:

﴿ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا(21)﴾

[ سورة الجن ]

 ثالث آية:

﴿ قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(188)﴾

[ سورة الأعراف ]

 رابع آية:

﴿ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)﴾

[ سورة الأنعام ]


العذاب الأليم لمن ادعى أنه يعلم الغيب:


 إذا كان هذا شأن النبي، لا يملك لنا ولا لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً، ولا حياة، ولا نشوراً، ويخاف إن عصى ربه عذاب يوم عظيم، ولا يعلم الغيب، هذا مقام النبي، فهل يجرؤ إنسان بعد النبي أن يتخطى هذا الخط الأحمر، هذا خط أحمر، أن ليس من شأن البشر أن يعلموا الغيب، وليس من شأن البشر أن يملكوا نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً، ولا حياة، ولا نشوراً، وليس من شأن البشر أن يُستـثنَوا من طاعة الله عز وجل، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ هذه الآيات الأربع، لو جعلْتَها مقياساً، فأي إنسان تجاوز الخط الأحمر وادّعى أنه يعلم الغيب، أو ادّعى أنه يملك لك نفعاً أو ضرّاً، أو ادّعى أنه ينقذك من عذاب الله، فهذا كلام باطل، لك أن تردَّه. 


كتاب الله عز وجل مقياس لكل إنسان على مرّ الزمان:


  إخواننا الكرام، كتاب الله عز وجل مقياس، كيف أنّ الإنسان أمامه عدة قطع من القماش، على كل قطعة طولها، على لُصاقة، وأنت معك متر نظامي، متر أساسي، مُحدّد بقِطَع معدنية، لك أن تمتحن طول أي قطعة، أنت اكتب على هذه القطعة أي طول تريده، لكن هذا المتر كفيل أن يكشف الحقيقة، فالإنسان كلما تمكّن من كتاب الله، يصبح كلام الله عز وجل مقياساً، مرة قال لي أخ: يقول رجل في مسجد: إن كل إنسان يقول: إن النبي ميت فهو كافر، قال له لماذا؟ قال له لأن النبي يقول: 

(( الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون. ))

[ رواه أبو داوود ]

حسناً، والله عز وجل يقول:

﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)﴾

[ سورة الزمر ]

 فالحق أنّ هذه الآية مقياس، أنت لو توسّعت بفهم كتاب الله، وتعمّقت بفهم مدلولات آياته، صار كل كتاب الله مقياساً، أية مقولة، أية قصة، أيّ ادعاء، أيّ افتراء، أيّة نظرية أيّ كتاب، أيّة مقالة، مقياسها كلام الله عز وجل.


الله عز وجل وحده الذي يعلم حقيقة بني البشر:


 قال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ خوضكم في هذا الباطل، في هذه التُّهم، خوضكم في ادِّعائكم أنّ كلام الله كلام محمد، خوضكم في أن هذا الكلام مفترى من عند النبي عليه الصلاة والسلام، هذا الخَوض، وهذا الاسترسال في الباطل، هذا كلُّه يعلمه الله، يعني:

﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)﴾

[ سورة الإسراء ]

 والنقطة الدقيقة، يجب أن تعلم علم اليقين، أن الله عز وجل وحده هو الذي يعلم حقيقة بني البشر، النبي عليه الصلاة والسلام، لما جاءه وفد وطلبوا منه علماء وقرّاء كي يفقّهوا قومهم، فأرسل معهم النبيُّ سبعين قارئًا، وقُتلوا على الطريق، لِمَ لمْ يعلم أن هذا الوفد كاذب، هذا شأن البشر، لا يعلم إلا إذا أعلمه الله، في حالات كثيرة جدّاً أعلمه الله، فجاءه الوحي، ونبّهه، لكن إذا لم يأتِه الوحي، فالإنسان أيًّاً كان لا يعرف حقيقة الإنسان من داخله، لأنّ الإنسان مستور، فكل إنسان يقول لك: الشيخ يعلم خبايا نفس مريده، يعلم ما يجول في نفسه، يعلم ماذا يأكل في بيته، يعلم ماذا يفعل مع أهله، هذا كلام فيه شطحات، وهو غير صحيح، لأنه الإنسان ليس من شأنه أن يعلم إلا أن يُعلِمه الله عز وجل.


من قيّم الآخرين تطاول على مقام الألوهية:


 لذلك: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ كان سيدنا الصديق رضي الله عنه إذا مُدِح فله دعاء لطيف جداًّ، كان يقول: اللهم أنت أعلمُ بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيراً مما يقولون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون.

 أي أريد من هذه الآية أنْ نفهم أنّ تقييم الأشخاص من شأن الله عز وجل، لا من شأن البشر، وكل إنسان يُقيّم الآخرين، تقييماً فيه تسرُّع، وارتجال، وإجحاف، فهذا إنسان تطاول على مقام الألوهية، تقييم البشر من شأن خالق البشر، حتى إذا زكيت إنساناً، قل: والله أعلم:

﴿ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ۚ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ۖ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ(32)﴾

[ سورة النجم ]

 حتى إذا مدحت نفسك، قل أرجو أن أكون كذلك، هذا هو الأدب، والأدب أحياناً يتطابق مع الواقع، أنت كذلك لا تعلم، قال تعالى: ﴿كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾


من يشعر أن الله عز وجل يعلم كل شيء يستقيم أمره و ترتاح نفسه:


 لذلك فالإنسان إذا آمن بالله إيماناً صحيحاً، ترتاح نفسه، لأن الله عز وجل لا يحتاج إلى إيصالات، لا يحتاج يميناً، لا يحتاج وثائق، هو يعلم، حينما تشعر أن الله يعلم يستقيم أمرك، فالمخلص، لماذا يستغني عن مديح الناس؟ غني، يشعر بالغنى الذاتي، لأن عمله يعرفه الله تعالى، سيدنا عمر لما جاءه رسول من معركة من المعارك، أعتقد معركة نهاوند، وسأل هذا الرسول عن مصير الجيش، قال له: والله يا أمير المؤمنين، مات خلقٌ كثير، قال له: من هم؟ عدّ لي أسماءهم؟ قال إنك لا تعرفهم، يعني أنّ بعض الأشخاص يعرفهم بأسمائهم، لكنَّ خلقاً كثيراً لا يعرفهم بأسمائهم، لعله يعرفهم بوجوههم، قال له: مات خلق كثير أنت لا تعرفهم، بكى سيدنا عمر، ثم قال: وما ضرّهم أني لا أعرفهم إذا كان الله يعرفهم ، سرّ الإخلاص، أنت لا تحتاج أن يعلم الناس ماذا تفعل، يكفي أنّ الله يعلم، لا تحتاج أن تبين ماذا فعلت؟ كم دفعت؟ كم تكلّفت؟ كم جهداً بذلت؟ كم كتاباً قرأت؟ كم ليلاً سهرت؟ لا حاجة لذلك، لأن الذي تعبده يراك حين تقوم، فالآية ما أدقها:

﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ(213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ(214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ(216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ(217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ(218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ(219)﴾

[ سورة الشعراء ]


من وصل إلى الله وصل إلى كل شيء:


 إخواننا الكرام، حال المراقبة، إذا الإنسان وصل إليه فقد وصل إلى كل شيء، لأنه إذا شعر أنّ الله معه دائماً، ينضبط، والكون كله خُلِق من أجل أنْ تعلم أنّ الله معك، قال تعالى:

﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا(12)﴾

[ سورة الطلاق ]

 إذا علمت أنّ الله يعلم، وأنه سيحاسبك، فلا بد من أنْ تستقيم على أمر الله عز وجل، النبي عليه الصلاة والسلام في بعض توجيهاته النبوية الشريفة بيَّن أنّ الإنسان ليستحيِ من الله، كما يستحي من رجل وقور في أسرته، يعني لو فرضنا أنّ إنساناً همَّ بمعصية، وشعر أنه مراقب، مُراقَب من إنسان، يكف، يستحي، فكيف إذا علم أنّ الله معه؟


من ازداد إيماناً بالله ازدادت عزته بالله وازداد تعففه عن الناس:


  يُروى أن رجلاً راودَ امرأة عن نفسها، وأغلق الأبواب كلها، قالت له إن هناك باباً لا تستطيع أن تغلقه، إنه باب السماء، فارتعش خوفاً، وكفّ عن فعلته، فإذا شعرتَ أنّ الله معك، انتهى كل شيء، إذا شعرت أنّ كل كلمة سوف تُحاسَبُ عليها، أنت تتكلم، هناك من يصّدقك، بإمكانك أن تبالغ، بإمكانك أن توجه توجيهاً خاطئاً، بإمكانك أن توجّه فلاناً حتى يشتري هذه البضاعة، بإمكانك أن تقول لهذا المريض، إنه يحتاج إلى تحاليل، أو إلى تخطيط، بإمكان المحامي أن يقول لهذا المُوكِّل، القضية رابحة مئة في المئة، بينما هي خاسرة مئة في المئة، لك أن تقول ما تشاء، وهذا الذي أمامك واثق منك، ولا يملك أن يناقشك فيما تقول، فمن الذي يعلم حقيقة ما تقول؟ الله عز وجل، فتجد المؤمن منضبطاً، فأنا والله أحياناً يأتيني أخ كريم يرجوني أن أوصي طبيباً مؤمناً به، أقول له كلمة يستغرب، أقول له: والله الطبيب المؤمن لا يوَصَّى، لأنه يعلم أنّ الله يراقبه، يعني، يجب ألا تُجدِي معه التّوصية، لأنه يراقب الله في علاجه لهذا المريض، ولا يجرؤ إنسان مؤمن أن يقول كلاماً غير صحيح، أو فيه مبالغة، أوفيه تخويف، أوفيه ابتزاز، فالطبيب هكذا، والمحامي هكذا، والمهندس هكذا، والمدرس هكذا، كلما شعرت أن الله معك، تجد أنك لا تتكلم إلا بالحق، ولا تقول إلا كلمة الحق، لا تزيد ولا تنقص. 

﴿كَفَى بِهِ شَهِيدًا﴾ الله مشاهد، ويكفيك أن الله معك.

﴿كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ والإنسان كلما ازداد إيمانه بالله، تزداد عزته بالله، ويزداد تعففه عن الناس، عن أموال الناس. 

(( ومَنْ قَعَدَ أو جَلَسَ إلى غَنِيٍّ فتَضَعْضَعَ له لِدُنْيا تُصِيبُه؛ ذهب ثُلُثَا دِينِه ودَخَلَ النَّارَ. ))

[ ضعيف الجامع ]

أما المؤمن، يطلب من الله عز وجل، أي يبذُل ماء وجهه لربه فقط، يتذلل، يمرِّغ جبهته في أعتاب الله بالسجود، أما مع الناس، فهو عفيف، عزيز، شريف. 

(( واعلمْ أنْ شرفَ المؤمنِ قيامُهُ بالليلِ، وعزَّهُ استغناؤهُ عنِ الناسِ. ))

[ صحيح الجامع ]


المؤمن قوي في الله بعيد عن النفاق:


 أحد الخلفاء رأى عالماً جليلاً في الحرم المكي، قال له سلني حاجتك؟ قال له: والله إني لأستحي أن أسأل غير الله في بيت الله، فلمَّا التقاه خارج الحرم، قال له سلني حاجتك؟ قال له: والله ما سألتها مَن يملكها، أفأسألها مَن لا يملكها؟ فلما ألحَّ عليه، قال له: أريد أن تدخلني الجنة، وأن تنقذني من النار، قال له هذه ليست لي، قال له: إذاً ليست لي عندك حاجة، هذه حاجتي، فتجد المؤمن عزيز النفس، قوياً في الله، بعيداً عن النفاق، ليس عنده خنوع، دنياه محدودة، لأنه لا يحب الدنيا كما يحبها أهل الدنيا، يكفيه منها ما يُبلّغه المقيل، دخلوا على سيدنا أبي عبيدة بن الجراح، وكان قائد الجيوش الإسلامية في الشام، رأَوا في غرفته: قِدْر ماء مُغطّى برغيف خبز، وعلى الحائط سيفه، ولديه جلد يجلس عليه، فقالوا، ما هذا؟ فقال هو للدنيا، وهو على الدنيا كثير، ألا يبلِّغنا المقيل؟ تجد الإنسان يسعى للدنيا لسنوات قد لا يعيشها، يبني بيتاً لا يسكنه، يُهيِّئ مرافق تستهلك عشرة أشخاص، قال تعالى:

﴿ قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ(9)﴾

[ سورة الأحقاف  ]


تقييم البشر ليس من شأن البشر بل من شأن خالق البشر:


 أيها الإخوة الكرام هذه الآية دقيقة جداً، تروي كتب التفسير أن أحد أصحاب النبي -وهذه القصة أرويها كثيراً لكم- اسمه أبو السائب، توفي، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام إلى بيت أبي السائب وهو مُسجّى على السرير، فسمع امرأة من وراء الستر تقول:

((  رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ فَقُلْتُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ فَقَالَ أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي قَالَتْ فَوَاللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا. ))

[  رواه البخاري ]

 فكما تعلمون أن أقوال النبي عليه الصلاة والسلام تشريع، وأفعاله تشريع، وإقراره تشريع، إذا سكت فالذي قِيل صحيح، إذا صحابي قال في حضرته كلاماً معيناً، والنبي بقي ساكتاً، فالكلام صار سنة، وصار تشريعاً، أي إنسان غير النبي الكريم، إذا سكت يسكت، فلعله خير إن شاء الله، أما إذا النبي سكت عن قول قيل أمامه، فقد صار هذا القول حقاً، صار تشريعاً، فلما قالت: (رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ) يعني ليس من شأن البشر أن يعلموا مصير البشر، كثير من الناس مَنْ يقول لك: هذا إلى الجنة، وذاك كافر، من قال لك هذا الكلام؟ منتهى السخافة، منتهى الجرأة، منتهى التطاول على مقام الربوبية، أنت تقول كافر؟ تقول هالك؟ من قال هلك الناس، فهو أهلكُهم، لذلك تقييم البشر كما قلت قبل قليل، ليس من شأن البشر، بل من شأن خالق البشر، فلما قالت، هنيئاً لك أبا السائب لقد أكرمك الله، قال عليه الصلاة والسلام: (وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ فَقُلْتُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ فَقَالَ أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي)


الجنة مصير من آمن و استقام على أمر الله و النار عاقبة المتلبس بالمعاصي:


 يوجد علماء وقفوا عند هذا القول وقفة طويلة، قالوا: ألا يدري النبي أنه إلى الجنة؟ إذا بشَّر النبيُّ بعضَ أصحابه أنهم إلى الجنة، وهو؟ صار هناك إشكال، ألا يدري النبي أنه مَن مات كافراً دخل النار؟ هكذا قال الله عز وجل في القرآن الكريم، فكيف يقول: لا أدري ما يُفعلُ بي ولا بكم؟ العلماء قالوا هذا الكلام مَنوطٌ بالدنيا، أمّا بالآخرة فالقرآن وضّح كل شيء، وضح كل شيء، حتى إذا الإنسان أمضى كل حياته في طاعة الله، وفي طلب العلم، وفي الإخلاص لله، فإذا قال لك لا أعرف، يجوز إلى جهنم، كل التعب على الأرض، هذا كلام فيه مخالفة لكتاب الله عز وجل، أين قوله:

﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ(21)﴾

[ سورة التوبة ]

 أين هي؟

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)﴾

[  سورة الكهف ]

 أنت تخالف كلام الله عز وجل، إذا الإنسان أطاع الله كل حياته، ويقال: لا نعرف، يجوز إلى جهنم مرة واحدة، وإنسان آخر، يرتكب كل المعاصي والآثام، وهو زانٍ، وشارب خمر، رأيناه يلبس ثوباً أبيضاً، لعل الله غفر له، وجهه يفيض نوراً، هكذا يحكي العوام أحياناً، وقد يكون تارك صلاة، شارب خمر، زانياً، ما ترك معصية إلا وقع فيها، يقول لك:"وجهه كبّة نور، رأيناه يلبس ثوباً أبيضاً"، هذه مغالطات، الإنسان إذا آمن، واستقام على أمر الله، وأخلص، فالله وعده بالجنة، وإذا الإنسان مات كافراً متلبساً بالمعاصي، فالله أوعده النار.


لا أدري ما يفعل بي ولا بكم: آية متعلقة بالدنيا و ليس بالآخرة:


 أما هذه الآية، ولا أدري ما يفعل بي ولا بكم، في الدنيا، يا ترى حكمة الله أن ننتصر الآن؟ أما بعد حين؟ لا نعرف، يا ترى: أهذه السنة فيها خير؟ لا نعرف، فيها أمطار غزيرة؟ لا نعرف، الينابيع تجف؟ لا نعرف، المحاصيل وفيرة؟ لا نعرف، وماذا يحدث؟ وهذا الذي حدث في شرق العالم، هذه الدول العظمى التي انهارت، والله لو تنبأ أحدٌ بما آلت إليه قبل خمسة أعوام لأُودِع مستشفى المجانين، أليس كذلك؟ لو تنبأ أحدٌ بما كان قبل خمسة أعوام لعُدَّ مجنوناً، مستحيل، يعني ليس من شأن البشر أن يعلموا الغيب، هذا المعنى، يا ترى، ماذا يحدث؟ يحدث هذا الذي يُقال عنه كذا وكذا؟ يحدث، أو لا يحدث؟ يا ترى، الأمور نحو الأحسن، نحو الأسوأ؟ لا نعرف، هذا اسمه غيب، والغيب لله عز وجل، يعني ليس من شأن البشر أن يعلم الغيب، هذا المعنى، أما قضية الجنة والنار، واضحة بالقرآن الكريم، الآيات التي تبشر المؤمن بالجنة، والآيات التي تتوعد الكافر بالنار واضحة جداً.


النبي الكريم متبع لأوامر ربه و ليس مبتدعاً:


 قال تعالى: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ أنا لست أول الرسل، هناك رسل جاءت قبلي ﴿وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ﴾ أنتم تكلفونني فوق ما أطيق، افعل كذا، اجعل هذه الأرض تتفجر ينابيع، لا أقدر، 

﴿ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ۗ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا (93)﴾

[ سورة الإسراء ]

باعِد هذه الجبال عن مكة، أنا لا أقدر أن أعرف ما سيكون بعد حين حتى تطالبوني بما لا أطيق.

﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ أنا مُتَّبِع، والمؤمن متبع، وليس مبتدعاً، قال أحد العلماء، وقد ذكر ثلاث نصائح تكتب على ظفر، لإيجازها، وبلاغتها، قال: اتَّبِع لا تبتدعْ، اتّضِع لا ترتفِع، الورِع لا يتّسِع.


المؤمن الحقيقي لا يقف موقف المتردد من قضاء قضاه الله عز وجل:


  فالنبي الكريم: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ فكل بدعة ضلالة، أجل: كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، 

(( كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ))

[ أخرجه النسائي ]

أنت متبع، أنت كمؤمن لا يمكن أن تقف موقف المتردد من قضاء قضاه الله عز وجل، إذا كنت مؤمناً، يعني الله قال:

﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ(276)﴾

[ سورة البقرة ]

 انتهى الأمر، الحكم واضح، وكذلك ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ إذا ترددت أن الصدقة تُنقص المال، فأنت لا تعرف الله عز وجل، أما الآية الدقيقة:

﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا(36)﴾

[  سورة الأحزاب  ]

 إذا الله قضى بشيء، أعطاه حكماً معيناً، قال لك: ﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ إذا كان لك رأي آخر لست مؤمناً بهذا الكتاب، أي إذا أنت بحثت عن رجل غني، ضعيف الدين لابنتك، فأنت لست مؤمناً بكلام الله عز وجل، ولو قلت صدق الله العظيم، ما صدقته، لو صدقته، لبحثت عن المؤمن فقط، عن المؤمن وكفى. 


السعيد من اتبع تعليمات الوحي:


  إذاً: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ كلمة الوحي لا أحد يعرف حجمها، الوحي يعني توجيه السماء للأرض، توجيه الخالق، فإذا كان عندك جهاز معقد، وأصابه عطب، وأمامك مئة كتاب على الطاولة، أحد هذه الكتب تعليمات صانع هذا الجهاز، ولك جار خُضري مثلاً، تسأل مَنْ عن إصلاح هذا الجهاز المعقد، الحاسوب؟ فهل تسأل الخضري أم تعود إلى تعليمات الصانع؟ فلإصلاح الحاسوب تسأل الصانع، وهذه تعليماته، هذا المنطق السليم فإذا كان لك رأي، أو موقف مغاير للوحي، فأنت لست مؤمناً، هذا الوحي من عند خالق السماوات والأرض: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ نذير، من هو النذير؟ هو الذي يبين قبل وقوع الشيء علامات وقوعه، فإذا كان الإنسان من السعداء يتعظ، ويأخذ الحيطة. 


الله عز وجل يقيم الحجج على من استنكف عن الإيمان:


  قال تعالى:

﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(10)﴾

[ سورة الأحقاف  ]

 دائماً الله عز وجل يقيم الحجج، فاليهود رفضوا أن يؤمنوا، لكن عبد الله بن سلام، من أحبار اليهود، آمن، وأصبح من كبار الصحابة، دائماً وأبداً هناك أشخاص يُعدُّون حجةً على أقوامهم، لقد آمن ابن سلام، وحسن إسلامه، وصار من كبار الصحابة، ومن بلاد الفرس سيدنا سلمان الفارسي، ومن بلاد الروم صُهيب الرومي، فالإنسان إذا استنكف عن أن يؤمن، هناك من يُقيمُ عليه الحجة، أو هناك من تُقامُ عليه الحجة بعدم إيمانه.


الله عز وجل خلق العقل ليكون قائداً لا أداة تبرير:


 أما قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ لأن الظالم يجعل من عقله أداة للتبرير، العقل يجب أن يكون قائداً، فإذا الإنسان ظلم، وتلبّس بمعصية الظلم، صار همّه الأول الدفاع عن سلوكه، وعن ظلمه، لكن الإنسان إذا استقام فإنه يرى نفسه مع المؤمنين بشكل عفوي، قال تعالى:

﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ(1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)﴾

[ سورة الماعون ]

 قال تعالى:

﴿ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(50)﴾

[ سورة القصص ]

 فالإنسان عندما يستقيم، يلتقي لقاء عفوياً مع المؤمنين، صار مؤمناً، ما الذي يحول بينك وبين أن تعتقد الاعتقاد الصحيح؟ المعاصي، والمُوبِقات، والافتراءات، والإنسان لمّا يعصي، لمّا يكسب مالاً حراماً، يدافع عن ذاته، فهو الآن يكابر، يجعل من عقله أداة تبرير، لا أداة تحرير، العقل قائد، صار مقوداً، العقل حاكم، صار محكوماً عليه.


من أسباب عدم الهدى الفسق والظلم والخيانة والانحراف:


 لذلك: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ تحصيل حاصل، اجلس مع إنسان متلبس بمعصية، ومصر عليها مستحيل أن تقنعه، لأنه يدافع عن ذاته، أما لو ترك المعصية، فالعقل يأخذ دوراً قيادياً، يصدّقك دائماً، لذلك أهون ألف مرة أن تقنع إنساناً بعيداً عن الإيمان، لكنّه أخلاقي، من أن تقنع إنساناً متلبّساً بمظاهر الدين، لكنّه غير أخلاقي، لأن هذا يجرّ الأمر لصالحه، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ وفي القرآن آيات كثيرة تؤكد هذا المعنى:

﴿ ذَٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)﴾

[ سورة يوسف ]

﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى الْإِسْلَامِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7)﴾

[ سورة الصف ]

﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)﴾

[ سورة الصف ]

 الفسق والظلم، والخيانة، والانحراف، هذه أسباب عدم الهدى. 


من لم يذق طعم القرب من الله عز وجل هو أغبى إنسان على الإطلاق:


  قال تعالى:

﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ(11)﴾

[ سورة الأحقاف  ]

 فعلاً لأن الإنسان، أي إنسان، يحب ذاته، يحب وجوده، يحب استمرار وجوده، يحب كمال وجوده، يحب سلامة وجوده، فكل إنسان بحسب تصوره المحدود، يظن أنه وصل إلى أعلى العُلا، أما لو اطَّلع الإنسان الكافر على نعيم المؤمنين، على مشاعر المؤمنين، على ما أعدّ الله للمؤمنين، لاحتقر نفسه، فمثلاً شخص ما أكل في حياته عسلاً، أكل دبساً فقط، فإنه يقسم بالله: أن أطيب أكلة حلو بالأرض هي الدبس، هو صادق، لكن لأنه لم يأكل عسلاً، فكلامه غلط، إن الكافر مادي، مقياسه الدنيا: بيت، دخل، مال، طعام، نساء، رحلات، سفر، حفلات، هذا مقياسه، ما ذاق طعم القرب من الله عز وجل، ما ذاق طعم السكينة، ما ذاق طعم الاتصال بالله، ما ذاق شعور أنه في خدمة خلق الله، هذا الشعور ما ذاقه، ما عرف ماذا بعد الحياة، هو غارق في حياة مادية محضة، فبذهنه أنه سَبَقَ المؤمنين، والمؤمنون في تصوُّره دراويش (أي جدبان) هكذا يظنهم، هو الفَهِيمُ فقط: أكل مالاً حراماً، وحسّن وضعه الاجتماعي والمادي، ووصل إلى أعلى المراتب، وظن نفسه أذكى الناس، بينما في الحقيقة هو أغبى شخص، لأنه يوم القيامة سوف يدفع الثمن باهظاً.

بطولة الإنسان الكبرى أن يأتيه الموت و هو مستعد للقاء الله عز وجل:

 دائماً أقول لكم: من يضحك أوّلاً يبكي كثيراً، ومن يضحك آخراً يضحك كثيراً، بطولتك لا أن تضحك أوّلاً، البطولة أن يأتي ملك الموت وأنت في طاعة الله، وأنت مستعد للقاء الله عز وجل، وأنت قد أمضيت كل شبابك في طاعة الله، أمضيت كل وقتك في خدمة الخَلق، في معرفة الله، في القيام بأمره ونهيه، هذه هي البطولة، لهذا يقول سيدنا عليٌ: الغنى والفقر بعد العرض على الله، قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ﴾ أي إذا الإنسان لم يصِل إلى الهدى، ولم يذقْ طعم الهدى، فإنه يقول لك مباشرة: هذه غيبيات، وهذا إفك قديم، قال تعالى:

﴿ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ(12)﴾

[ سورة الأحقاف  ]

والحمد لله رب العالمين.

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنّا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضِنا وارضَ عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور