وضع داكن
24-04-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة الأحقاف - تفسير الآيات الآية: 1-5 خلق الإنسان بالحق لأجل مسمى و هدف كبير
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الأول من سورة الأحقاف.


تحدي الله عز وجل الناس أجمعين أن يأتوا بمثل هذا القرآن:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ حم(1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ(2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ(3)﴾

[  سورة الأحقاف ]

 أوَّلا، قوله تعالى: ﴿حـم﴾ ، هذه الحروف أوائل السور، الحروف المقطعة، كما أذكر دائماً، وأُعيد، للمفسرين فيها مذاهب شتى؛ بعضهم قال: الله أعلم بمراده، وبعضهم قال: من هذه الأحرف نُظِم القرآن الكريم، والله سبحانه وتعالى يتحدّى الناس أجمعين أن يأتوا بآية أو سورة من مثله، مع أن المواد الأولية بين أيدينا؛ ثمانية وعشرون حرفاً في اللغة العربية نُظِم منها هذا القرآن الكريم، أي تقريباً للحقيقة، مكونات الحليب معروفة، مكونات البيضة معروفة، هل يستطيع البشر قاطبةً أن يصنعوا بيضة كالتي خلقها الله من الدجاجة؟ هل يستطيعون أن يجعلوا هذه الحشائش الخضراء لبنًا سائغًا للشاربين؟ فالإنسان، عضلاته، عظامه يقال لك: كالسيوم، مغنيزيوم، حديد، مكوناته معروفة، هل بإمكان البشر أن يخلقوا الحياة في الكائن؟ المواد معروفة، أما الحياة فهي سر من أسرار الله عز وجل، إذن من هذه الأحرف نُظم القرآن الكريم. 


القرآن الكريم معجز لأنه كلام الله سبحانه و تعالى:


  والحقيقة لو سألت، هل هناك دليل عقليٌّ، قطعيٌّ، جامعٌ، مانعٌ، يثبت للإنسان من دون أدنى شك أن هذا القرآن كلام الله؟ طبعاً، والدليل هو الإعجاز، كلما قرأت القرآن، وكلما تدبرت آياته، وكلما وقفت على إشاراته، تشعر أنه من سابع المستحيلات، أن يكون هذا الكلام كلام البشر، يعني لما ربنا عز وجل مثلاً قال:

﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ(2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ(3) فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ(4)﴾

[  سورة الروم ]

 قال في أدنى الأرض، ما أحد يعرف على الإطلاق وقت نزول كتاب الله، أن أخفض نقطةٍ في الأرض هي غَور فلسطين، والمعركة التي جرت بين الفرس والروم وقعت في غور فلسطين، فقال سبحانه: ﴿فِي أَدْنَى الْأَرْضِ﴾ هذا من إعجاز القرآن العلمي، قال:

﴿ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)﴾

[  سورة الحج ]


آيات الله الكريمة يستحيل أن تكون من كلام البشر:


 في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، ما كان أحد يعرف أن الأرض كروية، ولو كانت الأرض منبسطة، لقال: من كل فج بعيد، لكنه قال: ﴿مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ والعمق في الشكل الهندسي، كلما ابتعدت عن نقطة من النقاط ينشأ بُعد وعُمق، لأن الشكل كروي، وكذلك لما قال ربنا عز وجل عن العسل:

﴿ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ۚ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(69)﴾

[  سورة النحل ]

 ما كان أحد يعرف أن العسل له قِيَم دوائية، يظن الناسُ أنه شراب، أو غذاء سكريّ الطعم، أما الآن اكتُشِفت خصائص علاجية في العسل تفوق الحد المعقول، ولو تتبعت آيات القرآن الكريم -وما أكثرها- أنا ذكرت ثلاث آيات فقط، وهناك آلاف بل عشرات الألوف من آيات الله الكريمة، تدل بدليل قطعي لا لَبْس فيه على أن هذا الكلام يستحيل أن يكون كلام البشر، وكذلك لما قال ربنا عز وجل: 

﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ(8)﴾

[  سورة النحل ]

 هذه وسائل النقل المعروفة في عهد النبي، الخيل، والبغال، والحمير، والجمال، ولم يكن هناك طائرات، لكن ربنا قال: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُون﴾   


من أراد التثبت من أن هذا القرآن كلام الله فعليه بالتدبر والبحث والقراءة:


 لأن هذا الكلام، كلام خالق الأكوان، فالله يعلم ما سيكون، علمَ ما كان، ويعلم ما يكون، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، إذًا لو سألتني عن دليل قطعيٍّ، جامعٍ، مانعٍ، يثبت للإنسان الجاحد أن هذا القرآن كلام الله، أقول لك كلمة واحدة: هي إعجازه؛ الإعجاز العلمي، والإعجاز الإخباري، غيب الماضي، وغيب الحاضر، وغيب المستقبل، الإعجاز التشريعي، الإعجاز التربوي، هذا كلام الله عز وجل، فمن أراد أن يتثبت من أن هذا القرآن كلام الله، فليبحث، فليتدبر، فليتفهَّم، فليقرأ قراءة تفهم، قراءة وعي، قراءة تدبر، حتى يستقر بأعماقه أن هذا القرآن كلام الله، حتى إذا قرأت القرآن ورأيت الأمر والنهي، ورأيت الوعد والوعيد، تعرف مَن صاحب هذا الكلام، والشيء الثابت أن الإنسان ينصاع للأمر على قدْر الآمر، كلّما عظم الآمر عظم أمره، وكلّما صغر في عينك الآمر، صغر أمره.


الدعوة الناجحة إلى الله عز وجل تنطلق من تعريف الآمر قبل الأمر:


 لذلك أية دعوة إلى الله عز وجل، تنطلق من تعريف الآمر قبل الأمر دعوة ناجحة، أما إذا انطلقت مَن تعريف الأمر قبل الآمر، فهذه الدعوة قد لا تنجح، لأن قيمة الأمر من قيمة الآمر، لا تنظر إلى صِغَر الذنب، ولكن انظر على من اجترأت، ذكرت لكم مرة أنّ الإمام الغزالي لمّا خاطب نفسه، قال لها: يا نفس لو أن طبيباً منعك من أكلة تحبينها لا شك أنك تمتنعين، أيكون الطبيب أصدق عندك من الله؟ 

طبيب يقول لك: هذا البيت لا يناسبك، وهذا الطعام لا يناسبك، وإذا فعلت يُخْشَى أن يكون كذا وكذا، تنصاع مباشرة، والله سبحانه وتعالى، يأمرك وينهاك، ويعِدك ويتوعدك، ولا تعبأ؟ أيكون الطبيب أصدق عندكِ من الله؟ قال: إذًا ما أكفرك! أيكون وعد الطبيب (يعني المرض) أشدَّ عندك من وعيد الله؟ إذاً ما أجهلكِ! والإنسان لمّا يعصي، فهو مدموغ بالجهل أو بالكفر، إذاً السلوك الصحيح أن توقن يقينًا لا شك فيه، يقيناً كيقينك بوجودك، كيقينك بالمحسوسات، كيقينك بالشمس في رابعة النهار، أنْ توقن أنّ هذا الكلام كلام الله، إذا أيقنت تقف موقفًا آخر، الأمر تعبأ به، والنهي تخاف أن تقترفه، والوعد تصدِّقه.


من طابق بين أحواله و قناعاته و نصوص القرآن فهو مؤمن صادق:


 أريد أن أوضح لكم حقيقة، يعني إنسان مستقيم على أمر الله، ولديه مع استقامته شعور بالحرمان، فالله ما أعطاه، ورأى صديقاً له أعطاه الله الدنيا بزخارفها، فإذا قال لك مرة واحدة: أنا محروم، والله قد أعطى فلانًا، فإيمانه صفر، لأن الله قال:

﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)﴾

[ سورة الأحزاب ]

 ذاك ما رأى الفوز، بل رأى الخسران، رأى الحرمان، يعني دائماً المؤمن الصادق، يحاول أن يطابق بين أحواله، وقناعاته، ونصوص القرآن الكريم، القرآن يؤكد أنه من يطعِ الله ورسوله، فقد فاز فوزاً عظيماً، إذا كانت رؤيتك أن الأقوياء هم الذين فازوا فوزاً عظيماً، وأن الأغنياء هم الذين فازوا فوزاً عظيماً، وأن الذين احتالوا على الناس، وحصَّلوا ثروة طائلة هم الذين فازوا فوزاً عظيماً، وأن المنغمسين في الملذات، والمباهج الدنيوية، هم الذين فازوا فوزاً عظيما، وأن الذي جمع المال مما حلّ وحرم، هو الذي فاز فوزاً عظيماً، وتقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ وتقول: صدق الله العظيم، والحقيقة بكل أسفٍ، فإنّ هذا الذي يقرأ القرآن بهذه الطريقة، ما صدَّق الله عز وجل.


المؤمن الحق من تعامل مع الله عز وجل بالصدق:


 إذا قال الله عز وجل:

﴿ وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ۗ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا ۚ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ۗ أُولَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ۖ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ۖ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(221)﴾

[  سورة البقرة ]

 هذا في شأن الزواج، فإذا جاءك من ترضى دينه، وخلقه، فلم تزوجه لا لشيء إلا لأنه فقير، وجاءك مَن لا ترضى دينه، ولا خُلُقه، فزوجته طمعاً في ماله، فأنت لست في مستوى القرآن الكريم، لأنك ما صدقت الله عز وجل، ليكن الإنسان جريئًا مع نفسه، ولا يكن كالنعامة، تغرس رأسها في الرمل، وتنسى أنها كبيرة الحجم، ومُشاهَدة من كل جانب، فتعامل دائماً مع الله بالصدق، إذا قال الله عز وجل وهو خالق الكون: ﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ حينما تتحرك حركة مناقضة لهذه الآية، فأنت إذًا ما صدّقت الله عز وجل.


من تحرك حركة مناقضة لآيات الله عز وجل فهو إنسان كاذب:


 إذا قال الله عز وجل:

﴿ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(30)﴾

[  سورة النور ]

 ولم تعبأ بهذه الآية، فأنت ما صدقت الله عز وجل، ولم ترَ عظمة الآمر، لقد قرأت الأمر، لكن لم تعرف عظمة الآمر، وإذا قال الله عز وجل:

﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ(276)﴾

[  سورة البقرة ]

 وطُلِب منك أن تقرض إنسانًا، والمبلغ موجود، لكن بحسابات الآلة الحاسبة، هناك تضخّم نقدي بعد عام، وإذا أقرضتُ هذا المبلغ سأستردّه أقل بعشرين بالمئة، أو سبعة عشر بالمئة بعد عام، فقلت: والله لا مجال، فأنت ما صدقت اللهَ عز وجل إذ يقول:

﴿ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ۚ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(245)﴾

[ سورة البقرة ]


من تعامل مع القرآن تعاملاً جاداً كان إيمانه عميقاً:


 وإذا قال ربنا عز وجل:

﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ۚ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)﴾

[ سورة سبأ ]

 إذا قلت لإنسان، لا تفرّط، القرش إذا انصرف لا يعوض، فهذا كلام الشيطان، أما كلام الواحد الديان: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾ الأمر يحتاج إلى إيمان عميق، كي تتعامل مع هذا القرآن تعاملاً جاداً، تعامل المصدِّق، هذا الذي يقول: قرأنا وتباركنا، وسلوكه في وادٍ، والقرآن في واد آخر، فهذا الذي أضعف المسلمين، وهذا الذي جعلهم وهم يزيدون عن مليار ومئتي مليون ولا وزن لهم في العالم، لأن الله عز وجل كلامه واضح كالشمس.


عند عدم تعامل الإنسان مع الآيات على أنها كلام خالق الكون فإيمانه فيه ضعف شديد:


 قال تعالى:

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(55)﴾

[ سورة النور ]

 فأين الاستخلاف؟ ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ أين الاستخلاف؟ وأين التمكين؟ وأين التطمين؟ قال: ﴿يَعْبُدُونَنِي﴾ يعني الحقيقة، وهي مؤلمة؛ أنّك إنْ لم تتعامل مع الآيات على أنها كلام خالق الكون، وعلى أنّ زوال الكون أهون على الله من ألاّ يتحقق وعده ووعيده، فهذا يعني أنّ الإيمان فيه ضعفٌ شديد.


مهما كانت الجموع كثيرة وقراءتهم شكلية فلا وزن لهم يوم القيامة:


 إنّ هذه القراءة الشكلية: نقرأ ولا نفهم، ونفهم ولا نطبق، ونطبق ولا نخلص، فالعاقبة عندئذ:

﴿ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)﴾

[ سورة الكهف ]

 مهما كانت الجموع كثيرة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول في الحديث الصحيح: 

(( لَن يُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ. ))

[  أخرجه الترمذي  ]

 لن لتأبيد النفي، لن تغلب أمتي من اثني عشر ألفًا من قلة، وقد يجتمع في المسجد الحرام في موسم الحج، مليون ونصف مليون حاج، يطوفون، ويسعون، ويلبُّون، فكيف نوفِّق بين هذه الجموع الغفيرة، والملايين المُمَلينة من حجاج بيت الله الحرام، ومن قول النبي في الحديث الصحيح: (لَن يُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ.)


من نشأ في طاعة الله عز وجل يطمئن الله قلبه:


 أيها الإخوة الكرام، لو صدقْنا مع اللهَ لكُنَّا في غير هذا الحال، ولو قرأنا هذا القرآن قراءة من يخشى الله، قراءة من يصدِّقُ الله، قراءة من يرى أن وعد الله ووعيده قاب قوسَين، يكون في حال غير هذا الحال، سيدنا سعد بن أبي وقاص يقول: ثلاثة أنا فيهن رجل، من هذه الثلاثة: أني ما سمعت حديثاً من رسول الله إلا ظننت أنه حق من الله تعالى، يعني شاب نشأ في طاعة الله، الله عز وجل يقول له:

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(97)﴾

[  سورة النحل ]

  يقلق؟ خالق الأكوان يطمئن قلبه.


من بنى عمله على حرام له معيشة ضنكا:


 ربنا عز وجل يقول:

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124)﴾

[ سورة السجدة ]

 هذا الذي يبني عمله متوهِّماً غفلة الله عز وجل، يتعامل ببضاعة مُحرَّمة، بأسلوبٍ مُحرَّم لا يرضي الله في حرفته، ولا في كسب المال، لا يقيم الإسلام في بيته، هذا ألم يقرأ قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ .


من بنى حياته على منهج الله فهو من أسعد الناس:


 إذاً فاسمع قوله تعالى:

﴿ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(109)﴾

[ سورة التوبة ]

 إنسان بنى زواجه وفق منهج الله، واختار عملاً يرضي الله، سلك في هذا العمل الأسلوب الذي أقره الشرع، حتى نزهاته جعلها وَفق ما يرضي الله، من غير اختلاط، ولا انحراف، فإذا بنى الإنسان حياته على منهج الله، فهو من أسعد الناس، فالقضية ليست قضية جموع، ولا قضية تبرُّك شكلي، بل القضيةُ قضية التزام عملي، يعني كما قال أحد العلماء، أظنه سهل التُّستري، قال: تَرْكُ دانق من حرام، خير من ثمانين حجة بعد الإسلام، والحديث الشريف: 

(( لأن يمشي أحدكم مع أخيه في قضاء حاجته -وأشار بأصبعه- أفضل من أن يعتكف في مسجدي هذا شهرين.))

[ تخريج الإحياء للعراقي بسند ضعيف ]


المؤمن يقينه بقوانين الله عز وجل في كتاب الله يقيناً قطعياً:


 أي: أنا أرجو الله سبحانه وتعالى أن تجلسوا في البيت، وأن تفتحوا هذا الكتاب، وأن تتعاملوا معه بصدق، الأمر أمر، والنهي نهي، والوعد وعد، والوعيد وعيد، ويجب أن تعتقد أن القوانين في هذا القرآن حتمية الوقوع، أجل، حتمية الوقوع، كيف أنّ الحديد يتمدد بالحرارة، وكيف أنّ المباني كلها حينما تُصمَّم يتركون فواصل تمدّد، لأن يقين المهندسين بخصائص الحديد يقين قطعي، هذا المعدن يتمدد بالحرارة، فإن لم يتركوا فواصل تمدُّد تلتوِ الجسور، وتنهار الأبنية، إذاً يقينك بالقوانين الفيزيائية يقين قطعي، وينبغي أن يكون يقينك بقوانين الله عز وجل في كتاب الله يقيناً قطعياً، حينما توقن تتحرك، وحينما توقن تلتزم، حينما توقن تتعامل مع الله بصدق، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:

((  استقيموا ولَنْ تُحصُوا. ))

[ ابن ماجه ]

 أي لن تحصوا الخيرات التي تأتي من الاستقامة. 


الله عز وجل في أكثر الآيات يُعرف الإنسان أن هذا القرآن كلامه:


  المؤمن الصادق يرى أن الأمر كله بيد الله، مهما كان الأمر مستعصياً، مهما كان الأمر صعباً، فالأمر بيد الله، ما عليك إلا أن تطيعه، وترى عندئذ أن الأمور كلها تجري لصالحك، فالله سبحانه وتعالى ما من عبد خطبَ ودَّه إلا أراه من آياته التوفيقَ، والتيسيرَ، وتذليلَ العقبات، الراحةَ النفسية، التوفيق في الزواج، التوفيق في العمل، السمعة الطيبة، هذه كلها بعض العطاءات المبدئية في الدنيا، تشجيعاً لا تكريماً، إذاً يطالعنا سؤال كبير: هل أنت موقِنٌ يقيناً قطعياً، كيقينك بوجودك، أن هذا القرآن كلام الله؟ إذا كان يقينك هكذا، فصعبٌ جداً أن نفسر المعصية، وصعب جداً أن نفسر التقصير، وصعب جداً أن نفهم أنك تتحرك في بيتك، أو في عملك بخلاف منهج الله، بل صار التفسير سهلاً، إن وقع شيءٌ من ذلك منك فأنت لست موقناً أن هذا القرآن كلام الله، أو لم تعرف من هو الآمر، لذلك ربنا عز وجل في أكثر الآيات، يُعرِّفك بأنّ هذا القرآن تنزيل من الله العزيز الحكيم، أحيانا يبلّغ الإنسانُ إنساناً آخر هل تعرف من أين هذا الكتاب؟ هل تعرف من مؤلفَ هذا الكتاب؟ وأحياناً أخرى، هل تعرف من هذا الشخص الذي إلى جانبي في الصورة؟ هو فلان، فأحياناً الإنسان يعِّرف، وربنا عز وجل يقول:

﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ﴾ (الله): سبحانه وتعالى علَمٌ على الذات، ذات الله اسمها (الله)، علَمٌ على الذات صاحب الأسماء الحسنى، قال تعالى:

﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۚ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(180)﴾

[ سورة الأعراف ]

 الموجود، الواحد، الكامل.


من أحصى أسماء الله تعالى اتجه إليه و إلى تطبيق أمره:


 لذلك: 

((  إِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا كُلَّهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ. ))

[ رواه الترمذي ]

 الإحصاء شيء، والعدّ شيء، العد أن تقول: الخالق، البارئ، المصور، هذا العد، أما الإحصاء فهو غير العد، هل عرفت معنى رحمته، ومعنى حكمته؟ فإذا عرفت معنى حكمته، ومعنى رحمته، ومعنى عدالته، ومعنى قوته، ومعنى علمه فقد أحصيتها، ومن أحصاها دخل الجنة، فيكفي أن تتعرف إلى أسماء الله تعالى، وأن تحصيها، إذا أحصيتها فلا شك أنك اتجهت إلى الله، واتجهت إلى تطبيق أمره، عندئذ تستحق دخول الجنة. 

إذاً ربنا عز وجل يقول لنا: هذا الذي بين أيديكم، هذا الكتاب ليس كتاباً من تأليف إنسان، وليس كتاباً من وضع بشر، فضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه ، هذا الذي بين أيديكم ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ ، والله سبحانه سماه مرة كتاباً، وسماه مرة قرآناً، كما سماه نوراً لأنه يبدد الظلمات، وسماه بأسماء كثيرة في القرآن الكريم، كل اسم يشير إلى خاصة، سماه: حبل الله، كل مَن تمسك به نجا. 


تساؤل الإنسان عن الهدف من وجوده في الحياة:


 قال تعالى: ﴿مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ﴾ أيها الإخوة الكرام، الإنسان أحياناً لديه أسئلة عميقة جداً يطرحها، فمثلاً ما جدوى الحياة؟ والإنسان في يوم واحد يُشيِّع جنازة، ويحضر عقد قران، ويزور زوجين حديثين أنجبا مولوداً، هذا طفل خُلِق، خرج من قبر الرحم إلى الدنيا، وذاك إنسان دخل القبر، قبر التراب، هناك متناقضات؛ مِن قبر الرحم إلى الدنيا، وإنسان خرج، وإنسان دخل، والكلُّ في أثناء حياته يعمل، ويسعى، ويجمع، ويبني، ويزيّن، ويتبجح، ثم يموت، وكأنه لم يكن، والأسئلة كثيرة جداً، منها: ما جدوى الحياة؟ ما فلسفة الحياة؟ لماذا نحن في الأرض؟ نأكل ونشرب، ونعمل ونجمع المال، وننام، ونستيقظ، إلى أن يأتي الأجل.


الحياة رسالة كبيرة:


 فإذا الإنسان أغفل في حياته تلك الرسالة التي حمَّلنا الله إياها، وغفل عن المهمة العظمى التي جاء من أجلها، فالحياة تغدو بلا معنى، عوام الناس يعيشون ليأكلوا، والأرقى منهم، يأكلون ليعيشوا، والأرقى من هؤلاء وهؤلاء، يعيشون ليتعرفوا إلى الله عز وجل، فهناك رسالة كبيرة، وقد قال سبحانه:

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا(72)﴾

[ سورة الأحزاب ]

 رسالة عظمى أُنِيطَت بنا، فالإنسان حينما تستهلكه الحياة، يُستهلَك، فقد يَستهلك عمره استهلاكاً، فمتى يصحو؟ عند الموت، يصحو عند المرض العضال، يصحو حينما يقترب من أجله، حينما تأتيه مشكلة تدنيه من قبره يصحو، لكنه صحا بعد فوات الأوان.


خلق السماوات و الأرض بالحق:


 فيا أيها الإخوة الأكارم يقول الله عز وجل: ﴿مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ يعني قريب من مليون مليون مجرة، كل مجرة فيها قريب من مليون مليون نجم، بعض الشموس تكبر شمسنا بمليارات المرات، المجموعة الشمسية طولها مسافات شاسعة، الأرض نقطة في هذا الكون الكبير، الأرض أربعةُ أخماسها محيطات، وخمس قارات، وتجد المدينة الصغيرة، لا شيء أمام حجم الأرض، فهذا الكون لماذا خُلِق؟ من خلقه؟ ولماذا خلقه؟ وماذا بعد؟ فهذه أسئلة كبرى، جاء الجواب: ﴿مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾


السعيد من عرف الله فاختار الحياة الباقية:


 ما معنى بالحق؟ إنَّ الله عز وجل وصف القرآن الكريم بأنه مثاني، قال تعالى:

﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)﴾

[ سورة الحجر ]

 من معاني المثاني، أن الآية تنثني على أختها فتفسّرها، وربنا عز وجل نفى أن يكون خلْق السماوات والأرض باطلاً، ونفى أن يكون خلق السماوات والأرض لعباً، وأثبت أنهما بالحق، ما هو الحق إذاً؟ نفى أن يكون الخلقُ بالباطل، نفى الباطل ونفى اللعب، وقال بالحق خلقت السماوات والأرض، معناها الحق هو الشيء المناقض للباطل، والشيء المناقض للعب، الباطل هو الشيء الزائل، واللعب الشيء العابث، فالحق ثابت وهادف، يعني أنت، أنت خُلِقت بالحق، ما معنى بالحق؟ أنك خُلِقت لتبقى، الموت حالة طارئة تصيبك، انفصال النفس عن الجسد عن الروح، حالة عرَضية تصيب الإنسان، قال تعالى:

﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ(185)﴾

[ سورة آل عمران ]

 خُلِقت لتبقى، وخلقت لهدف عظيم، فمن هو السعيد؟ هو الذي عرف أنه خُلِق ليبقى، فاختار الحياة الباقية، وعرف أنه خُلق لهدف عظيم، فبحث عن هذا الهدف. 


كل إنسان مخلوق بالحق و لهدف عظيم:


  كلمة "بالحق" وحدها تكفي.

﴿مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ بالحق، هو الثبات، والديمومة، والاستمرار، أحيانا ننشئ جامعة، يقول لك استغرق بناؤها عشر سنوات، لأن الجامعة بُنِيت لتبقى، لكن؛ جناح في معرض قد يكون من قماش، وقد يكون من مواد أولية بسيطة جداً، لا تقوى على الاستمرار شهراً، فالجناح في المعرض بُني ليُزال بعد حين، لكنَّ الجامعة بُنِيت لتبقى، فكلمة "بالحق" تعني الشيء الثابت، وأنت مخلوق بالحق، قال تعالى:

﴿ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ(77)﴾

[ سورة الزخرف ]


خلق الله عز وجل الإنسان ليبقى:


 خُلِق الإنسانُ ليبقى، هذه نقطة هامة، وخُلِق لهدف عظيم، فالله عز وجل نفى اللعب، ونفى البُطُل، فالبُطُل هو الزوال، واللعب هو العبث، فأنت حينما توقن أنك مخلوق بالحق، وأن الكون كله خلق بالحق، وأنه ما من شيء خلقه الله إلا بالحق، وأن الموت حق، وأن الجنة حق، كيف يُلقَّن الميت؟ يا عبد الله اعلم أن الجنة حق، والنار حق، والميزان حق، إلى آخره، كلمة حق شيء ثابت، دائم، والحق تعني الشيء الهادف، فنحن نسعد إذا أيقنا بالثبات، وهذا ما يؤكده قوله تعالى: ﴿مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ .


الشارد عن الله لا يدخل موضوع الموت في حساباته أبداً:


 إنّ الإنسان قد يشتري بيتاً ليتملّكه، وكلما دخل إلى البيت يشعر أن هذا البيت بيته وملكه، فلا يوجد زمن لمدة بقائه في البيت؛ شهرًا، شهرين، سنة، سنتين، خمساً، عشراً، والبيت بيته، أما إذا استأجر بيتاً إيجاراً سياحياً، فالمدة ستة أشهر بالضبط، ولا يتمكن من البقاء في البيت بعدها يوماً واحداً، ويصير إحساسه بالزمن قوياً جداً، مضى شهر، مضى شهران، بقي أربعة، بقي ثلاثة أشهر، إحساسه بالزمن قوي، لأنه يقيم في بيت إقامة مؤقتة، والزمن يمضي، والإنسان أيها الإخوة أحياناً ينسى الزمن، لأنه يعيش وكأنه لا موت يرقبه، فموضوع الموت لا يدخل في حساباته أبداً، يغفل، ينغمس في الملذات، في كسب المال، يدخل منافسات، يدخل سباقات في الدنيا، يبني قِيماً باطلة كلها، يتنافس مع زملائه لتجميع أكبر مبلغ ممكن، همُّه الربح، يتنافس في درجات، في منجزات، في مُكتَسبات، كلها لو قيّمتها في الدار الآخرة باطلة، لأن الإحساس بالزمن ضعفَ، لذلك ربنا عز وجل قال:

﴿ وَالْعَصْرِ(1)﴾

[ سورة العصر ]

 أقسم بالزمن لهذا الزمن، فأنت زمن.


من عناصر سعادة الإنسان أنه خلق لهدف كبير ولم يخلق عبثاً:


 هناك شيء ثانٍ، من أجل أن تنجو، لابد أن تشعر وتوقن بالرسالة التي أُنيطَت بك، أنت مكلف، أجل: مكلف، أنت المخلوق الأول المكرم، المكلف، فأنت إذًا مخلوق أول، مُكرَّم، مُكلَّف، فسعادتك بمعرفة هذا التكليف، وتنفيذ هذا التكليف، وأنت مخلوق للأبد، الموت حالة طارئة، كمثل الإنسان يخلع ثياباً مهترئة ويلبس ثياباً جديدة، وإذا امرؤٌ خلع ثياباً وارتدى ثياباً، فهل تغيرت حقيقتُه؟ هو هو، ثقافته هي ثقافته، معلوماته هي معلوماته، شخصيته هي ذاتها بملَكَاته وإمكاناته، فقط بدل الثياب، والموت عملية تبديل، يُخلَع هذا الثوب الأرضي الترابي، ويُرتدَى ثوب نوراني في الجنة، قال تعالى:

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(169)﴾

[ سورة آل عمران ]

 إذًا عناصر سعادتك، أن تعرف أنك خُلِقت لتبقى، بالحق مخلوقاً، وتعرف أنك خُلِقت لهدف كبير ولم تخلق عبثاً.


الأحمق من حسب أنه سينجو و يتفلت من عقاب الله:


 انظر مليًّاً في القرآن الكريم، قال تعالى:

﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ(115)﴾

[ سورة المؤمنون ]

 وقال كذلك:

﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى(36)﴾

[ سورة القيامة ]

 من دون حساب، اغتصاب أموال من دون حساب، اغتصاب أموال، وانتهاك أعراض، استعلاء في الأرض، هل يُعدّ هذا ذكاء؟ حينما يحسب الإنسان أنه يتفلّت من عقاب الله، فهو أحمق حقًّاً، قال سبحانه:

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93)﴾

[ سورة الحجر ]

 وقال:

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ(42)﴾

[ سورة إبراهيم ]


شعور الإنسان بالزمن أنه سيمضي هذا الشعور يجعله على الصراط المستقيم:


 نجاتنا أيها الإخوة؛ إذا عرفنا أننا خُلِقنا بالحق، خُلِقنا لنبقى، وهناك هدف كبير يجب أن نسعى إليه، فالآن نحن في الدنيا، وأهم شيء في الدنيا أن نشعر بالزمن، فأنت رأس مالك زمن، وأنت باقٍ لأجل مسمى، الإنسان كل يوم يستيقظ كالذي سبق؟ فهل يبقى إلى ما لا نهاية، مستحيل، مستحيل، فإذا أراد ربنا عز وجل أن يقبض هذا العبد، فقد يبدأ بمرض، يا ترى بالكلية؟ أو بالكبد؟ أو بالقلب؟ تصلب شرايين؟ خثرة دماغية؟ لا نعرف، كل يوم نستيقظ كالذي سبق إلى ما لا نهاية؟ مستحيل، هناك أجل مسمى، ذكرت لكم قبل أسبوع، أنه وقع تحت يدي كتاب وصاحب الكتاب طبيب مشهور، توفي -رحمه الله- عمل مقالات بمجلة طبية من ثلاثين سنة، وكل مقالة أجمل من الأخرى، كيف تحافظ على نعومة جلدك، على رشاقتك، على كبدك، على كليتك، اطّلعت على الفهرس، مقالات رائعة جداً، لكن فُوجِئت أن الطبيب نفسه مؤلف الكتاب مات، فلماذا لم يحافظ على كليتيه؟ وعلى و على...؟ مات بعد ذلك، الموت لابد منه، إذا شعرت أنك تعيش لزمن مؤقت، وهذا البيت مؤقت، هذه الوظيفة مؤقتة، كل شيء بين يديك مؤقت، وشعورك بالزمن أنه سيمضي، وأنه سيأتي يوم تُحاسَب فيه، هذا الشعور يجعلك على الصراط المستقيم.


من عرف الحق نجا من عذاب الله في الدنيا و الآخرة:


 ثلاث كلمات كان درسنا اليوم؛ الإنسان خُلِق بالحق، ولأجل مسمى، يعني، خُلِق ليبقى، وخلق لهدف كبير، والآن بقاؤه في الدنيا مؤقت، تجد الإنسان عندما يبني بيتاً، ويؤثِّثه ويزينه، وكأنه سوف يعيش فيه مليون سنة، فهناك أشخاص بعد أسبوعين من انتهاء البيت ماتوا، بعد أسبوعين، أو أسبوع أحياناً! فثلاث كلمات؛ خُلِقت بالحق، ولأجل مُسمّى، والحق خلاصته في كلمتين، الديمومة والهدف، والأجل إحساس بالوقت، تذكروا مثال البيت المؤجر تأجيراً سياحياً ستة أشهر، يجد أنه مضى شهران، فهو يحسب كل يوم مضى، وكم يوماً بقي، إنه مضطر لتغيير البيت، وينتقل إلى بيت آخر، أما الذي اشترى بيتاً، ينسى الزمن نهائياً، فلذلك نحن ننجو إذا عرفنا الهدف الكبير، وعرفنا أننا مُخلَّدون، إما في جنة يدوم نعيمها، أو -لا سمح الله ولا قدّر- في نار لا ينفد عذابها، وقد قال ربنا عن آل فرعون:

﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ(46)﴾

[ سورة غافر ]

 ستة آلاف سنة مضت على موتهم.

كل شيء في الحياة الدنيا مرهون بوقت و مدة:

 أما الشيء الآخر فهو الإحساس بالوقت ﴿وَأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ :

﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ (36)﴾

[ سورة البقرة ]

 إنّ الإنسان إذا نزل بفندق فخم، كل ليلة بعشرة آلاف ليرة، ثلاث ليالٍ فقط، لا أستطيع أكثر، فإذا سافر أحدٌ إلى بلد أجنبي، فيدرك أنه سيرجع بعد أسبوع، فلا يتحمل أي مصروف فوق طاقته، لا يمكث دون حساب للوقت، كله مؤقت، فلذلك ﴿وَأَجَلٍ مُسَمًّى﴾، وإذا علمت أنك في هذه الدنيا مؤقت تنتقل للدار الآخرة .


الغفلة هي أخطر مرض يصيب الإنسان:


(وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ)  ، فالكافر غافل، يعني أخطر مرض يصيب الإنسان الغفلة، أجل الغفلة، إذا كان إنسان راكباً سيارة، وتنطلق به بمنحدر شديد، والمناظر جميلة، وعلى اليمين، وعلى اليسار غابات، والنسيم عليل، وليس معه مكبح، وفي النهاية منعطف حاد، وهو يضحك، معناه: أحمق، أحمق حقيقةً، ولو عرف الحقيقة لتدارك أمره، ولو تيقن أنه ليس في السيارة مِكبح لأصلح منذ البداية حاله، لكن لم يعد الآن سرور، ولا ضحك، فكل إنسان يضحك وهو يعصي، كالذي يركب مركبة تهوي بمنحدر شديد، في نهايته منعطف حاد، وليس معه مكابح، يضحك، وينظر إلى الغابات، ولا يدري سوء المصير، بينما ترى الإنسان المؤمن، دائماً يعيش في مستقبله، يعيش آخرته، لا يعيش في الماضي، ولا يعيش في الحاضر، الحاضر يتعامل معه للمستقبل.


النار عاقبة من أشرك مع الله أحداً آخر:


 قال تعالى:

﴿ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ(3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(4)﴾

[ سورة الأحقاف ]

 إنهم معرضون عن الحق، ملتفتون إلى الباطل، وقديماً كانوا مع ضيق التفكير على مستوى الشعوب، يعبدون الأصنام؛ كانت القبيلة تعمل صنماً من تمر، تجوع فتأكله، مرة رجل أديب، شاعر، رأى ثُعلبانًا (أي ثُعلبًا) يبول على رأس صنم، فقال: 

أربٌّ يبول الثُّعلبانُ برأسه     لقد ذلّ من بَالت عليه الثعالبُ

[ راشد بن عبد ربه ]


عدم قدرة الأوثان على الخلق:


 كان العرب في الجاهلية يعبدون أصناماً من دون الله، لا تتكلم، ولا تسمع، ولا تتحرك، ولا تملك موتاً، ولا حياة، ولا نشوراً، والإنسان أحياناً يعبد الشخص، يقول لك: فلان يدعمني، فلان يده طائلة، فلان يخلصني إذا نابني شيء، هذا كذلك شرك، ربنا عز وجل قال: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ إما أن يكونوا أصناماً، وإما أن يكونوا أشخاصاً، فهم سواء: ﴿أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ﴾ هذا الذي تعامله كما يُعامَل الإله، ماذا فعل؟ أيخلق إنساناً؟ أيخلق دجاجة؟ أيخلق ذبابة؟ لو جاءه مرض عُضَال، هل ينجو منه؟ تسمع أن ملوكاً أُصِيبوا بمرض خبيث، إنه ملك! وإن كان ملكاً! وهذا الذي تدعونه من دون الله، هل يستطيع أن يصرف عنه مرضاً خبيثاً؟ لا يقدر، قال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ .


الغبي من عَبَدَ الأوثان من دون الله:


 الآن، ربنا عز وجل علمنا أن هناك دليلَين؛ دليل عقلي ودليل نقلي، قال سبحانه: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ هذا الدليل العقلي، أما الدليل النقلي: ﴿اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ يعني إما أن تأتي بدليل عقلي، أو دليل نقلي، لكن لا دليل عقلي ولا دليل نقلي، وتعبد من دون الله أوثاناً، لا يملكون موتاً، ولا حياة، ولا رزقاً، ولا يسمعون، ولا يستجيبون! هذا هو الغباء الحقيقي.


من استعان بالله و لجأ إليه اطمأن و ارتاح:


 لذلك يقول الله عز وجل:

﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ(5)﴾

[ سورة الأحقاف  ]

 الإنسان ضعيف، هكذا خلقه الله، فمتى يرتاح؟ إذا استعان بقوي، إذا احتمى بقوي، إذا لجأ إلى قوي، فمن هو القوي؟ هو الله، ما سوى الله ضعيف مثلك، أحد الخلفاء رأى عالماً جليلاً في الحرم المكي، قال له سلني حاجتك؟ قال له: والله إني لأستحي أن أسأل غير الله في بيت الله، فلما التقاه خارج الحرم، قال له سلني حاجتك؟ قال له: والله ما سألتها مَن يملكها، أفأسألها مَن لا يملكها؟ فلما ألحَّ عليه، قال له: نجني من النار، قال له هذه ليست لي، فقال العالمُ: إذاً ليست لي عندك حاجة، فيا أخي حاجتك كلها عند الله عز وجل، الدعاء اللطيف: اللهم ولا تجعل حوائجنا إلا إليك، لا تجعل حوائجنا إلا إليك، اجمعنا عليك، وفرقنا عليك، ولا تجعل حوائجنا إلا إليك ، لذلك المؤمن عزيز عند بالله، شريف، كما قال النبي الكريم: 

(( واعلمْ أنْ شرفَ المؤمنِ قيامُهُ بالليلِ، وعزَّهُ استغناؤهُ عنِ الناسِ. ))

[ صحيح الجامع ]


المؤمن لا يبذل ماء وجهه إلا لخالقه سبحانه:


 تشعر بنفس المؤمن غِنى، وليس مستعداً أن يبذُل ماء وجهه، ولا يتضعضع لأحد، ولا يتذلل لمخلوق، والإنسان المؤمن يقصد الواحد الديان، بصلاته، بركوعه، بسجوده، بقيام ليله، بدعائه، يا رب ليس لي إلا أنت، هذا الإخلاص في الدعاء، الله عز وجل يعطيك، قال سبحانه:

﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ(1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ(2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ(3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ(4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا(5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا(6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ(7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ(8)﴾

[ سورة الشرح  ]


الموت أكبر واعظ للإنسان:


 أيها الإخوة الأكارم، أرجو الله سبحانه وتعالى أن نستفيد من ثلاث كلمات في هذا الدرس؛ أن نعرف الهدف، وأن نعرف الديمومة، وأن نعرف التوقيت في حياتنا الدنيا، نحن مؤقتون، يعني لا تجد أحداً منا سواء من أقربائه، من جيرانه، من أصحابه إلا ويسمع أن فلاناً توفي رحمه الله، وبالشام وحدها تجد خمسين، أو ستين نعوة في اليوم، وقال لي شخص: إن النعوات المكتوبة عُشر غير المكتوبة، معنى هذا أن عدداً كبيراً يموت كل يوم، والإنسان بعد موته أين ذهب؟ إلى أين؟ ترك بيته إلى المثوى الأخير، فهذا الموت أكبر واعظ، يقول سيدنا عمر: كفى بالموت واعظاً يا عمر ، كفى بالموت واعظاً يا عمر، وكل مخلوق يموت، ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت ، 

واللّيـــلُ مهمــا طــــالَ   فلا بدّ من طُلــوعِ الفجْـــرِ

والعُمــرُ مهمـا طـَــــالَ   فلا بدّ مـــن نُــزولِ القَبــرِ

****

كُلُ اِبنِ أُنثى وَإِن طالَت سَلامَتُهُ   يَوماً عَلى آلَةٍ حَدباءَ مَحمولُ

[ كعب بن زهير ]

فـإذا حملتَ إلى القبـــــورِ جنــازةً    فـاعلمْ بأنّك بعدَهـــــــا محمـولُ

[ * * * ]


أضلّ إنسان من يدعو من دون الله من لا يستجيب له:


 كان أحد الصالحين قد اشترى قبراً، وصار يضطجع فيه كل خميس، ويتلو قوله تعالى:

﴿ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ(99( لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)﴾

[ سورة المؤمنون ]

 فيخاطب نفسه ويقول: يا نفس قومي، لقد أرجعناك، فالإنسان لِيتصورْ نفسه في كل يوم أنه قد انتهى أجله، لِيهيِّئ أموره، حساباته، ماذا يوجد من معاصٍ، من حقوق، من التزامات، ليبقى خفيفاً، التائب خفيف، والمُذنب تثقله الكوابيس، عليه أوزانٌ كالجبال تسحقه.

(وَمَنْ أَضَلُّ) ليس هناك رجل أضلّ من هذا الذي يدعو من دون الله مَن لا يستجيب له إلى يوم القيامة، بربكم، تحتاج إلى تأشيرة خروج مثلاً، ذهبت إلى دائرة الهجرة والجوازات، بناء مؤلف من أربعة طوابق، لا يمنحك هذه التأشيرة إلا المدير العام، فإذا وقفت أمام مدخل الدائرة، وهذا الذي يكتب العرائض، رجوته أن يوافق لك على الخروج، ألا يكون أحمقاً من يفعل هذا؟ فما دخل كاتب العرائض؟ تتجه إلى إنسان لا يملك شيئاً، أربعة طوابق، كل الموظفين لا يملكون حق التوقيع إلا المدير العام، العقل يقول لك: اذهب إلى المدير العام، هذا الذي بيده التوقيع، تبذل ماء وجهك لإنسان لا يملك لك حق التوقيع! هذا حُمق بالإنسان، هذا مثَلٌ لا يفعله أحد، بل اسأل: يا أخي بيد من القضية؟ من المسؤول عن الموضوع؟ من الذي يوقع؟ ممّن الموافقة؟


العاقل من استعان بمن بيده كل شيء:


 هكذا يفعل الناس، فلماذا مع رب العالمين لا تفعل هكذا؟ الأمر بيده، المرض بيده، الرزق بيده، الشفاء بيده، السعادة بيده، الزواج بيده، أعداؤك بيده، أصدقاؤك بيده، زوجتك بيده، أولادك بيده، كل شيء بيده، ضِمنَ القلب، فالدسامات بيده، والشرايين كذلك، يقال لك: تسعون بالمئة أنها مسدودة، لكن الأمر بيده، كله بيده، أحياناً ينسد الشريان، وأحياناً ينفتح، فكل شيء بيده، فلماذا لا نتجه إليه؟ لماذا لا نرجوه؟ لماذا لا نقف بين يديه؟

 أيها الإخوة الأكارم، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ﴾

 قال تعالى:

﴿ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ(6)﴾

[ سورة الأحقاف  ]

 هذه الآية إن شاء الله تعالى، في درس قادم نتابعها.

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور