وضع داكن
29-03-2024
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 010 - إتخاذ الأسباب
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 أيها الأخوة الأكارم ؛ مع الدرس العاشر من دروس مدارج السالكين , في مراتب إيّاكَ نعبد وإيّاكَ نستعين .

منزلة الأخذِ بالأسباب :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ منزلة اليوم لستُ مُبالغاً إذا قلت: إنها من أخطر المنازل , بل إنها من أشدِّ المنازل حاجةً إليها , يعني ما مرَّ على المسلمين في تاريخهم وقتٌ هم في أمسّ الحاجةِ إلى هذه المنزلة منهم في هذا الوقت , وقد تعجبونَ من عنوانها ، إنها منزلة الأخذِ بالأسباب , أو كما سمّاها ابنُ القيم: إنها منزلة رعاية الأسباب , وقبلَ أن أُفصّلَ في هذه المنزلة , أتمنى أن أُوفقَ إلى مقدمةٍ قصيرةٍ تلقي ضوءاً على هذه المنزلة .

تمهيد :

 الشيء الذي يلفتُ النظر : أنَّ النجاحَ في الحياة يُعزى إلى صِحة التصور، وأنَّ الإخفاقَ فيها يُعزى إلى سوء التصور ، فلو أنَّ طالباً حققَ نجاحاً عالياً في امتحانٍ ما ، هذا النجاح يُعزى إلى حُسن تصور الطالب , لضبطه للوقت , ولاستخدامه للوقت , ولإتمامِ ما يجبُ أن يُتمه , فإذا أخفق فيجب أن نتساءل : لعلَّ هناكَ خطأً في تصوره .
 ما الذي جعلَ المسلمون في فجر الإسلام وفي عقود الازدهار يتفوقون , والله سبحانه وتعالى يُمكّنهم , ويستخلّفهم , وتُرفرف راياتهم في مشارق الأرض ومغاربها ؟ وما الذي جعلهم بعدَ وقتٍ معين في مؤخرةِ الأمم ؟ لماذا كانت كلمتهم هي العليا وليست كلمتهم عُليا في وقتٍ آخر ؟ لماذا كانوا أقوياء في وقت وليسوا كذلك في وقتٍ آخر ؟ لماذا كانوا دُعاة ورُعاة للأمم , فلماذا أصبحت الأمم ترعاهم وتتولى الوصاية عليهم ؟ .
هذا سؤالٌ كبير , القرآن هو هوَ , والسُنّة هي هيَ , والعلم هناك ازدهار في العلم , هناك ازدهار في نشر العلم ، ما الذي جعلَ المسلمون السابقون في القِمة , وما الذي جعلَ بعضهم في الحضيض ؟ لماذا كانوا مُثلاً عُليا ؟ لماذا فتحوا البلاد ؟ لماذا رحموا العباد ؟ هذه أسئلة كبيرة .
 لا شك أنَّ أصحابَّ النبي عليهم رِضوان الله شيء فَهِموا الإسلام فهماً صحيحاً ، ولا شك أنَّ الرعيلَ الأخير الذي جاء في آخر الزمان فَهِمَ الإسلامَ فهماً سيئاً .
 من باب التوضيح :
 إنسان عنده شركة سيارات كبيرة جداً , كل يوم ينفجر بسياراته 100 إطار ، لماذا ؟ ما السبب ؟ وشركة أخرى لا ينفجر إطار في الشهر مرة مثلاً , ماذا نقول ؟ نقول : لعلَّ مديرَ هذه الشركة أعطى تعليمات إلى جعل ضغط الهواء ضغطاً عالياً لا يتناسب مع الجو , فكلما أسرعت هذه المركبة تمدد الهواء وانفجرَ الإطار , فالخطأ في عقل مدير هذه الشركة ، الذي أعطى هذه التوجيهات بشكلٍ مغلوط ، فكلما انفجرَ إطار , يأتي هذا المدير ويوبخ صاحبَ المركبة ، العاقل والعالِم يقول : هناك خطأ في التصميم ، هناك خطأ في المنهج ، هناك خطأ في الفهم , هناك خطأ في التصور ، هذا المدير العام لهذه الشركة الضخمة : يجب أن يعلم أنَّ الإطار يجب أن يكون له ضغط للهواء في الصيف معين , نحن حينما نرى أخطاء كثيرة , في تمزق ، في تبعثر ، في ضعف ، في ركون للدنيا ، في رغبة في مُتع الحياة ، في عِداء ، في تباغض ، في تحاسد ، في ضعف عام , هناك خطأ في التصور , كأنَّ هذه المنزلة التي نحن بصدد الحديث عنها , كأنها إجابةٌ شافيةٌ لِما يعاني المسلمون من مشكلات .
 هناك مشاعر عاطفية إسلامية هذه نحترمها ولكن لا تكفي ، هناك شعور إسلامي جيد , كل مسلم يتمنى أن يكون المسلمون بوضع مقبول ، بوضع ممتاز ، بوضع عزيز ، بوضع قوي , بوضع فيه تفوق ، لا شك هذه العواطف نحترمها , ولكن هل تكفي العواطف ؟ هل يكفي أن أتعاطف مع الإسلام والإسلام يُعاني ما يُعاني ؟ أينَ الخطأ ؟ أينَ الخلل ؟ أينَ الضعف ؟ أصحابُ النبي من طينةٍ أخرى ، من بُنيةٍ أخرى , لا والله , يعني الإله تغيّر ؟ لا والله , هو هو, الله سبحانه وتعالى أسماؤه حُسنى, وصفاته فُضلى, وهو معنا أين ما كُنّا؟ معنا من قبل , ومعنا الآن , ومعنا من بعد, الإله هو هو ، القرآن هو هو ، الحق هو هو .
 تصور العلماء للدين شيء مهم جداً , ومن هنا كانت هذه المنزلة , اسمها منزلة رعاية الأسباب ، وأقول لكم دائماً :

﴿ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ﴾

 يعني أنتَ إذا بإمكانك أن تُقنع الآخرين أن هذا هو الصواب فيها ونعمت , وإن لم يكن بإمكانك أن تُقنعهم افعل ما أنتَ قانعٌ به , تنل من الله كلَّ الوعود , وتقطفَ كلَّ الثِمار ، وإن أقنعتَ الناس بأن يفعلوا ما هوَ صواب , كان الفرجُ عاماً .

 

لماذا تفوق الصحابة والتابعين ؟

 الموضوع يشمل كل مسلم .
 في كل مهنة .
 في كل حِرفة .
 هذا السؤال الكبير : لماذا تفوقَ أصحاب النبي ؟ لماذا تفوقَ التابعون ؟ لماذا كانوا مستخلفينَ في الأرض ؟ لماذا كانت كلمتهم هي العُليا ؟ لماذا كانوا مُمكنين ؟
 ولماذا نحن متخاذِلون ؟ لماذا نحن ضعفاء ؟ لماذا كلمتنا ليست هي العُليا ؟ ما السر ؟.
 أقول لكم بكل تأكيد هناك خطأ في التصور .
 يعني مثلاً : لو أوهمنا سائق مركبة , أن ضوء الزيت إذا تألق يكون تسليةً لك , وهو في الحقيقة خطر على المُحرك ، فالذي فَهِمَ سِرَّ هذا الضوء الأحمر في العدادات التي أمامه يقف فجأة ويضيف الزيت ، والذي ظنَّ أنَّ هذا الضوء للتسلية يتابع السير , فإذا بالمركبة يحترق مُحركها , ويدفع المبالغ الطائلة لإصلاحها , أحياناً لا يهمني الخطأ بالواقع , يهمني الخطأ أين ؟ في التصور , لمّ المُحرك احترق ؟ ما السبب ؟ لِظنِّ السائق أن ضوءَ الخطر الذي تألق ليُسلّيهُ لا ليُنذرهُ .

الأخذ بالأسباب والتوحيد :

في ضوء هذا التمهيد نشرحُ هذا الموضوع , تجد المسلم يتوكل على الله في أعماله , لا يُتقن عمله ويتوكل ، لا يأخذ بالأسباب ويتوكل ، وقلبه مشرك ، بقلبه يعتمد على زيد أو عُبيد , وعمله ظاهره متوكل ، هذا خطأ مزدوج والعكسُ هوَ الصواب , يجب أن يتوكلَّ بقلبه , وأن يسعى بعمله ، والأحداث والظروف والصِدامات في العصور الحديثة تؤكد هذه المقولة .
 قال :
 من منازل إيّاكَ نعبد وإيّاكَ نستعين : منزلة رعاية الأسباب , ذلكَ أنَّ التوحيد : ما تعلمت العبيد أفضلَ من التوحيد .
 أن تقول : لا إله إلا الله , لا مُسير لا ربَّ إلا الله , لا خالِقَ إلا الله , لا معطيَ إلا الله , لا مانعَ إلا الله , لا مُعزَ إلا الله , لا مُذلَ إلا الله , لا باسطَ إلا الله , لا قابضَ إلا الله ، هذا التوحيد .
 والتوحيد له مستويان :
 مستوى قولي لساني , وهذا سهل جداً .
 ومستوى نفسي .
 فكم من موحدٍ مُشرك ؟ كم من موحدٍ بلسانه مشركٍ في قلبه في جنانه , يقول : لا إله إلا الله بلسانه , وكلُّ اعتماده على فلان , وكلُّ ثِقته بماله , كلُّ اعتماده على قوته , كلُّ اعتماده على أولاده , كلُّ اعتماده على أهله ؟ هذا موحد مُشرك بآن واحد , يؤكد هذا قول الله عزّ وجل :

﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾

[سورة يوسف الآية: 106]

 يا ليت هذا الخطأ في التصور أو في العقيدة يبقى في العقيدة ، هذا ينعكس في السلوك , ينعكس في حياتنا العامة ، ذلكَ أنَّ التوحيدَ يقتضي القيامَ بالأسباب الظاهرة .
أخي ابنك مريض , يقول : سلّمته لله , هذا الكلام هوَ الجهلُ بعينه ، أنت بالرياضيات مُقصّر , يقول : أنا الله عزّ وجل يُكرمني , كل سنة أدعوه دعاءاً حاراً فيوفقني , هذا هو الجهلُ بعينه ، هذه البضاعة لا تُباع معك , تقول : سبحان الله ! أنت عندما اشتريتها , كنت دقيقاً بشرائها , درست السوق , درست النوعية , درست السعر , أخذت بضاعة سيئة بسعر مرتفع , انظر لهذا الموقف الذي فيه جهل ، ما دام المسلمون في هذا الجهل , يعزون أخطاءهم إلى القدر ، كلما وجدَ مشكلة بحياته , يقول لكَ : أخي الله لم يسمح , الله لم يرد , الله لم ييسر , الله لم يجبر , هذا الموقف الذي كانَ الصحابة على عكسه .
 قال: التوحيد إذا كنتَ موحداً , إذا رأيتَ يدَ اللهِ لا يدَ غيرها ، إذا رأيتَ أنَّ الأمر كله بيد الله ، إذا رأيت أنَّ الله هو كلُّ شيء ، قال : يجب أن تأخذَ بالأسباب كل الحركات والأعمال ، ويجب أن تعتبرها , يعني أن تحترمها , أن تهتمَّ بها ، ويجب أن لا تُهملها ، ويجب أن لا تُعطلها ، النجاح في الامتحان يحتاج إلى دراسة ، النجاح في التجارة يحتاج إلى دراسة , السوق نوع البضاعة , وأسعار البضاعة , والكمية المناسبة , والتصنيف المناسب , وعرض البضاعة بشكل جيد , كلٌّ شيء يجب أن تأخذَ بأسبابه ، إذا أردتَ أن تنتمي إلى أمةٍ كانت فيما مضى أمةً رائدةً للأمم , إذا أردتَ أن تنتمي لأمةٍ كانت في مقدمة الأمم , هذه الأمة بدأت كما فعلَ النبي عليه الصلاة والسلام .
 مثل تعرفونه دائماً: هل في الأرضِ كلها إنسانٌ, يستحقُ النصرَ والتأييد والعون كرسول الله؟ أكمل إنسان رسول الله، يوحى إليه، جاء بالإسلام، ومع ذلك: ما فرّطَ في الأخذِ بالأسباب قيدَ أنملة .
 التوحيد إذا كنتَ موحداً, يجب أن تأخذَ بالأسباب, وأن لا تهملها, وأن لا تُعطلها, وأن تعتمدها, تعتمد أن تأخذها, لأنَّ هذا من لوازم التوحيد، أما إذا عزلتها, وأهملتها, واحتقرتها, وتجاوزتها, فأنتَ لستَ موحداً .
 فموقف الاستكانة، موقف التقصير، موقف الكسل، موقف التسيب، هنا خسران ووضعك سيء، ليسَ هذا موقفاً صحيحاً إسلامياً, الموقف الإسلامي ابنكَ مريض, يجب أن تأخذه إلى الطبيب, وأن تختار أفضل طبيب, وأن تشتري الدواء الصحيح, وأن تعطيه الدواء بعنايةٍ فائقة, وأنتَ في كلِّ هذه الحركات تقول: يا رب لا شافي إلا أنت, بهذا يُصبحُ حالُكَ طيباً، بهذا تقوى، بهذا ترقى، بهذا تستحقُ تأييد الله، بهذا تستحقُ نصرَ الله، بهذا تستحقُ إكرامَ الله عزّ وجل .
 في نقطة دقيقة: دائماً التطرف سهل، مثلاً: أب سهل جداً, أن يكون ليّناً, ضعيف الشخصية، لا يحتاج هذا إلى ذكاء, كل قضية ساكت، ابنه تطاول ساكت، ابنته تأخرت غير آبه، ابنته وضعها لا يُناسب لا تحتج، صهره مُقصّر يغض الطرف، زوجته مهملة لا يناقش، وسهل أن تكون عنيفاً, كل غلطة تضرب، كل غلطة تسب، الموقف العنيف سهل, واللين سهل ، أما الموقف البطولي: أن تكونَ في الوقت نفسه مرغوباً ومرهوباً، أن يرجوكَ من معك, وأن يخافَ منك .
ألا تكونَ ليّناً فتُعصر, وألا تكونَ قاسياً فتُكسر, ألا تُؤله الأسباب.
 سمعتُ عن قصة طبيب, اكتشف أن الجري شيءٌ له آثار في صحة القلب, لا يعدلها شيء، هو يجري كلَّ يوم, ويكتب المقالات, ويتحدث, وينصح, لكنه اعتمد على الجري وحده ، وظنَّ أنَ الجريَّ هو كلُّ شيء، وظنَّ أنَّ الذي يجري لا يموت، وأنَّ الذي يجري لا يمرض ، وأنَّ الصحةَ كلها في الجري، ودبّجَ المقالات، وكتب الأحاديث، ونصح الناس، وكان يجري كلَّ يوم ساعتين فأكثر، وماتَ وهو يجري, وكان في ريعان الشباب, هذا ما فعل هذا الطبيب؟ ألّهَ الأسباب هذه حالة .
 وفي إنسان يتوكل على الله, ويهمل الأسباب, ويتوكل على الله بسذاجة، فالتوكل مع إلغاء الأسباب سذاجة وجهل، وتأليه الأسباب جهل، هذه غلط وهذه غلط، لا ترقى إلا بأخذكَ بالأسباب, وتوكلكَ على ربِّ الأرباب, هذا الكلام دقيق جداً, يمس كل مسلم، يمس كل صاحب مصلحة، كل صاحب مهنة، كل صاحب معمل، كل تاجر، كل مدرّس، كل مهندس, كل طبيب, كل أب، كل أم، كل زوجة، هذا يمسُّ كلَّ الناس .
 لن تكتحلَ عيناك برؤية المسلمين أقوياء, لهم الكلمة العُليا، رعاة للأمم بعدَ أن كانوا رعاة للغنم, لن ترى المسلمين قادة، لن تراهم في الصدارة, إلا إذا طبقوا هذا الموقف الدقيق, من السهل أن تأخذَ بالأسباب وتعتمدَ عليها وتؤلِهها، ومن السهل أن تدعها وأن تعتمدَ على الله ساذجاً, ولكن البطولة أن تأخذَ بالأسباب وأن تتوكل على الله .
 عَنْ جَابِرٍ قَالَ:

((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَارِبُوا وَسَدِّدُوا, وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يُنْجِيَهُ عَمَلُهُ, قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْتَ؟ قَالَ: وَلا أَنَا إِلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ))

 هل هناك أوضح من هذا الحديث:

((اعملوا واعلموا أنَّ أحداً منكم لن ينجيه عمله))

 طبّق كلَّ القواعد الصحيّة، أما إذا طبّقتها, واستغنيتَ بها عن الله, وألهتها, لن تنجوَ من المرض, يجب أن تأخذَ بها, وأن تعتمدَ على الله عزّ وجل, وأن ترجوَ الله .
 اعملوا واعلموا, ادرس وتوكل، وانتق البضاعة الجيدة بالسعر المناسب, ثم توكل في بيعها على الله عزّ وجل, أقم كلَّ الأسباب, وتوكلّ على ربِّ الأرباب, هذه منزلة رعاية الأسباب .
 عَنْ عَلِيٍّ قَالَ:

((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ جَالِسًا, وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ, فَرَفَعَ رَأْسَهُ, فَقَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ إِلا وَقَدْ عُلِمَ مَنْزِلُهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ, قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَلِمَ نَعْمَلُ أَفَلا نَتَّكِلُ؟ قَالَ: لا اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ, ثُمَّ قَرَأَ: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى﴾إِلَى قَوْلِـهِ: ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾))

 اعمل واعلم أنكَ مُيسرٌ لِما خُلقتَ له, خُلقتَ ليرحمكَ الله عزّ وجل, حينما تعمل الطاعات, فقد حققتَ المُراد الإلهي، فإذا عَمِلتَ المعاصي, وأنتَ قد خُلقتَ للرحمة والإكرام, فلا بد من العِلاج .
 النبي عليه الصلاة والسلام هذا الذي لا ينطقُ عن الهوى, كلام النبي يُمثل تعليمات الصانع, قالَ: يارسولَ الله! أرأيتَ أدويةً نتداوى بها، ورُقىً نسترقي بها، وتُقاتاً نتقي بها، هل تردُ من قدر الله شيئاً؟ أحياناً مُحاكمة ساذجة إذا الدواء أخذته, والله كتبَ لي أن أمرض يُفيدني, قلتَ له: لا، إذا الله عزّ وجل كتبَ ليَّ الشفاء, الدواء يُشفيني, لا, إذاً: اترك الدواء, هذه محاكمة الجهل .
 عَنْ أَبِي خِزَامَةَ قَالَ:

((سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتَ أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا, وَرُقًى نَسْتَرْقِي بِهَا, وَتُقًى نَتَّقِيهَا, هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟ قَالَ: هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ))

 هيَّ أيضاً من قدرِ الله، إنكَ إذا استخدمتَ الدواء, فررتَ من قضاء الله وهو المرض, إلى قضاء الله وهو الشِفاء، المرض قضاء الله, والشِفاء قضاء الله, فررتَ من قضاء الله إلى قضاء الله, هذا الموقف الدقيق, لن نرقى، لن نقوى، لن نعلو، لن نُعز، لن نُستخلف، لن نطمئن، إلا إذا كُنّا هكذا .
 القصة الشهيرة التي حدثتكم عنها كثيراً وهيَ: أنَّ سيدنا عمر -رضي الله عنه- حينما سافرَ إلى الشام, وقفَ على أبواب الشام, وكانَ فيها الطاعون, فرجعَ عمر, خافَ أن يدخلَ بأصحابِ رسول الله إلى الشام, فقال له أبو عُبيدة: يا أمير المؤمنين, أتَفِرُ من قَدَرِ الله؟ فقال عمر: لو غيركَ قالها يا أبا عُبيدة, أفِرُ من قَدَرِ الله إلى قَدَرِ الله، الطاعون قدر الله والشفاء قدر الله, وأنا فررتُ من قدر الله إلى قدر الله, ثمَّ نادى في الجيش: هل فيكم من سَمِعَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً في الطاعون؟ انظر للأدب, قال: هذا تعليم لنا .
 يعني ممكن أن يكون أمير المؤمنين, وسأل أصحابه: هل سَمِعَ أحدكم عن رسول الله في هذا الموضوع؟ أجيبوني.
 يعني أنتَ إذا كُنتَ لكَ مكانة علمية, لا تستنكف أن تسألَ الآخرين، تزدادُ عندهم مكانةً, ليسَ هذا طعناً في عِلمك, اسأل .
 سيدنا عمر, عِملاق الإسلام, أمير المؤمنين, قال لأصحابه: هل منكم من سَمِعَ شيئاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً في الطاعون؟.
 عَنْ أُسَامَةَ قَالَ:

((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ هَذَا الطَّاعُونَ رِجْزٌ, سُلِّطَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ, أَوْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ, فَإِذَا كَانَ بِأَرْضٍ فَلا تَخْرُجُوا مِنْهَا فِرَارًا مِنْهُ, وَإِذَا كَانَ بِأَرْضٍ فَلا تَدْخُلُوهَا))

 هذا موقف علمي .
أحد العلماء كان في بلد أجنبي, والتقى مع عالِم من كِبار عُلماء الجراثيم, وسأله هذا السؤال: يعني إذا كان في بلدة فيها مرض سارٍ, ماذا يجب أن نفعل؟ عالِم بعيد عن الإسلام بُعدَ الأرضِ عن السماء, ولا يعلم ما الإسلام؟ ولا ما القرآن؟ ولا ما حديثُ النبي العدنان؟ سُئل هذا السؤال: مرض سارٍ وبائي في بلد, ماذا ينبغي أن نفعل؟ قالَ: أولاً: نضربُ حولَ هذا البلد نِطاقاً، نمنع الدخول إليه، من أجل العدوى، فالخطر لا في المرضى، في حَمَلةِ هذا الجرثوم, كيفَ كشفَ النبي هذه الحقيقة؟ طبعاً: إذا كانَ الطاعون في بلد فلا تدخلوه, لأنَّ فيه عدوى, أما لا تخرجوا منه؛ هذه لا تُعرف إلا بالمخابر، لا تُعرف إلا بعد تحليل دم إنسان صحيح سوي, هذا حامل جرثوم .
 سنسمع مجموعة آيات ؛ مثلاً :

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾

[سورة الحجر الآية: 21]

﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ﴾

[سورة الحجر الآية: 19]

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

[سورة القمر الآية: 49]

﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ﴾

[سورة يس الآية: 39]

﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾

[سورة المزمل الآية: 20]

 

﴿وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾

[سورة الطلاق الآية: 3]

﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً﴾

[سورة الفرقان الآية: 2]

﴿مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ﴾

[سورة عبس الآية: 18-19]

﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾

[سورة المؤمنون الآية: 18]

﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾

[سورة الشورى الآية: 27]

 كم آية ؟ كُلها بقدر ، قال : المعنى في كلِّ هذا خلقه بنظام وترتيب، خلقه بقدر, هناك سٌنن، هناك أسباب، هناك مُسببات، هناك نتائج، فإذا كانَ تصميم الكون وفق الأسباب والنتائج, وفقَ التقدير الدقيق، وفق الحساب الدقيق، وفق النظام الرائع، أنتَ أيها المؤمن؛ يا من تدعي أنكَ مؤمنٌ بالله، هل يليق بك أن تُهملَ نظام الله عزّ وجل؟ أن تُهملَ هذه السُنن؟ أن تُهملَ هذه المعطيات؟ ألاّ تبالي بهذه القواعد؟ ألاّ تبالي بهذا التقدير؟.

من لم يأخذ بالأسباب :

 أنا أصدقكم القول: كلُّ مؤمنٍ يستخفُ بالأسباب, فهو سيء الأدب مع الله عزّ وجل، كلُّ مؤمنٍ يستخفُ بالأسباب ويحتقرها, ولا يبالي بها, ولا يأخذُ بها, فهو يُسيء الأدبَ مع الله عزّ وجل، لو أنَّ إنساناً ركبَ مركبته, ولم يُراجعها قبلَ السفر, لعل هناك قطع تالفة، لعل هناك حاجات ناقصة، لعل هناك خلل في المِكبح، إن لم تُراجع هذه المركبة, وفوجئتَ بحادث, أو بطارئ, أو بانقطاع, فأنتَ لم تأخذ بالأسباب, ولم تتأدب مع الله عزّ وجل، لا نرقى ولا نقوى ولا نستحقُ نصر الله عزّ وجل, ولا نستحق تأييده وعونه وحِفظه, إلا إذا تأدبنا مع سُننه.
 يعني أنت عندك مدرسة, فيها نظام دقيق, قلت: الدخول الساعة الثامنة، جاءك طالب وهو ابن صديقك الساعة التاسعة, ما دام المدير نظّم هذا النظام, قال: يُغلق الباب الساعة الثامنة, وعلى المتأخر أن يبقى خارج المدرسة, هذا نظام, إذا كنتَ تُقدّر صاحبَ هذه المدرسة, تُجِلُّ هذا النظام, وتتقيد به, وتحترمه .
 الآن اسمعوا الكلمة الدقيقة: ما من مؤمنٍ يُهمل الأسباب, ويستخفُ بها, ولا يعبأ بها, ولا يعتني بها, ويُهملها, ويدّعي أنه متوكل, فهو كاذب, وهو مسيءٌ للأدب, ولا يستحقُ نصر الله, ولا تأييده, ولا حِفظه, لا أقول لكَ: يجب أن تأخذَ بالأسباب الكاملة, قد تكون الكاملة ليست في مقدورك, وأنت في قرية, ولا يوجد غير طبيب واحد في العاصمة, أطباء كثر أعلم بكثير, لكن ليس بإمكانك الوصول إليهم, أن تاخذ هذا الابن إلى هذا الطبيب المتواضع, هذه كلُّ أسبابك, هذا الذي تملكه، أنا أقول: يجب أن تأخذ بالأسباب المتاحة لكَ, أنا لا أطالبك أن تأخذ بالأسباب المُطلقة، بالأسباب المتاحة, إن أخذتَ فقد تأدبتَ مع الله عزّ وجل .
 السقوط له قانون معروف, كل أخواننا الطلاب درسوه بالفيزياء, قانون السقوط, أنت لا تقدر أن تُلقي بنفسكَ من طائرة متوكلاً دون مظلة, هذه نقطة مهمة جداً, هذا القانون قائم فهمته أو لم تفهمه, بجلته أو لم تبجله، صدقته أو لن تصدقه، كذلك في كل شيء آخر لا ينبغي أن تُقدمَ عليه دون أن تأخذَ بالأسباب، عدم الأخذِ بالأسباب هو سببُ تخلف المُسلمين، عدم الأخذِ بالأسباب هو سببُ ضعفهم، عدم الأخذِ بالأسباب هو سبب تخلي الله عنهم .

 مدير مدرسة وضع نظاماً دقيقاً, يأتي ابن صديقه مُخالفاً لهذا النظام, أليست في مخالفة هذا النظام احتقار لهذا المدير؟ أليسَ من سوءِ الأدب ألا تُبالي بهذا النظام؟ فكل إنسان يهمل الأخذ بالأسباب, ويفعل ما يحلو له؛ بلا تروّ، بلا دقة، بلا حسابات، بلا دراسات، فهو إنسان بعيد عن الدين، ودائماً أعداء الدين يتهمون المسلمين بأنهم متواكلون، بأنهم حالمون، بأنهم عاطفيون, بأنهم يثارون لأتفه الأسباب، وتضعف هِممهم لأتفه الأسباب, أنتم على حق, الأولى بنا أن نأخذ بالأسباب, أن نقوى، الكلام لطالب ادرس جيداً تفوق، لمدرس، لمهندس، لعامل، لصانع، لتاجر، يجب أن تكونَ في عملكَ الأول، إذا فعلنا كلنا هذا نرقى .
 الآن : اسمعوا آيات ثانية :

﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾

[سورة الأعراف الآية: 57]

الله عزّ وجل هل هو بحاجة إلى المطر كي ينبت الزرع؟ إذا أراد إنباتَ الزرع هل هوَ مضطرٌ كما هو الإنسان إلى إنزال المطر؟ عبّرَ عن هذا علماء العقيدة بنفي العِلةِ الغائية عن الله عزّ وجل, أنتَ كإنسان إذا أردتَ أن تأكلَ خبزاً, لا يمكن أن تأكل هذا الخبز, إلا إذا زرعت القمح, ونبتَ القمح, وحصدت القمح, وطحنتَ القمح وخبزته، فأنتَ كإنسان مقهورٌ بالأسباب لا تقدر, إلا أنَّ الله سبحانه وتعالى يجب أن ننفيَ عنه العِلة الغائية:

﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾

[سورة يس الآية: 82]

 الآن كل الآيات خِلاف هذه الفِكرة, اسمع:

﴿فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات﴾

﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾

[سورة البقرة الآية: 164]

﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾

[سورة المائدة الآية: 16]

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾

[سورة المائدة الآية: 105]

﴿ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ﴾

[سورة يونس الآية: 52]

﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾

[سورة آل عمران الآية: 182]

 كلها باء السببية, هذا بما قدمت أيديكم، الأرض أحياها بالأمطار، الأشجار أثمرت بالماء, كيف نوّفق بين أن الله سبحانه ليسَ مقهوراً بالأسباب, وهذه الآيات كلها تؤكد الأسباب؟ هذا نظام الكون, هو إذا أرادَ شيئاً يقول له: كُن, ولكن جعلَ إنباتَ النبات عن طريق المطر, والمطر عن طريق السحاب, والسحاب عن طريق الشمس, والشمس عن طريق البحر، مُسطح مائي كبير، أشعة شمس مُسلطة, تبخر، تكاثف السُحب، تأتي الرياح تُحرك السُحب، هذه السُحب مشحونة بِقوى كهربائية معينة، هذه السُحب لها درجة حرارة معينة، تدخل في منطقة باردة تبرد, وإذا بردت بخار الماء يحمل بدرجة 30 فرضاً خمسة غرامات ماء المتر المكعب ، من الهواء يحمل بدرجة 30 خمسة غرامات بخار ماء, فإذا بردّتَ هذا الهواء, يتخلى عن نصف الماء، فكل طبقة هواء مُحملة ببخار الماء, إذا دخلت في منطقة باردة, تتخلى عن جزء من بخار الماء, ينعقد على شكل حبات مطر, فيكون المطر المطر يحيي الزرع، كل الحياة أسباب، هذا المولود بسبب زواج فلان من فلانة، هذه المزرعة بسبب زرع البذور .
 ربنا عزّ وجل نظّمَ الكون وفق الأسباب, وأودعَ فيكَ عقلاً, لا يفهم الشيء إلا بسببه، العقل في مبدأ السببية والكون أساسه الأسباب، العقل في مبدأ الغائية والكون أساسه الغايات .
قال: والقرآن مملوءٌ كله من ترتيب الأحكام الكونية والشرعية, والثواب والعقاب على الأسباب بطرقٍ متنوعة, فيأتي مثلاً بباء السببية، مرة باللام لام التعليل، مرة بأن التعليلية، مرة بكي التفسيرية، مرة بذكر الوصف، مرة بالتعليل الصريح, يعني آيات لا تعد ولا تُحصى, تُرينا أنَّ الله عزّ وجل حينما خلقَ الكون نظّمه، لتجده في سن الـ 18 مهذباً راقياً, عنده حياء وخجل, دون تربية, آباء يقولون لك: سلّمته لله, يتفاجأ بعد فترة أنَّ ابنه سيء الخُلق، منحرف الطِباع، هذا كلام لا يعني شيئاً, الخُلق والاستقامة تريد التربية، تريد الاهتمام، تريد الرعاية، يجب أن تكون راعياً دائماً، تأخذه معك، تراقبه، تنصحه, مرة بالإكرام، مرة بالشِدة، مرة بالتهديد، مرة بالوعيد، مرة بالوعد، مرة بالمكافأة، مرة بالعقاب، مرة بالهجران، تسأل متى جاء؟ ومتى ذهب؟ ومن صديقه؟ ومع من يمشي؟ وأين كنت سهران؟ وأريد أن أرى بيتَ صديقك, تريده وأنت غافل عنه, وأنت تاركه وهامله، تريد أن تفتح عينيك, تجد ولداً على أخلاق، على علم، على فهم، مستحيل هذا الكلام, هذا كلام السُذج، كلام الجهلة .
 يا أخوان, كلما تركنا الأسباب تقهقرنا، كلما تركنا النظام الذي خلقه الله عزّ وجل تراجعنا، كلما أهملنا هذه السُنن والنواميس تخلّفنا.
 قال تعالى:

﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ﴾

[سورة المائدة الآية: 29]

﴿فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ﴾

[سورة المائدة الآية: 85]

﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ﴾

[سورة سبأ الآية: 17]

 في نظام, التعامل مع الله سهل جداً، في قواعد عامة, مثلاً: مدير عام بمؤسسة, بمعمل, بمدرسة, بمستشفى, وضع نظاماً, قال لك: كلّ إنسان يمضى عليه سنة, لا يتأخر إطلاقاً, له كتاب شكر، إذا مضى سنة ولم يأخذ ولا تقرير طبي, له كتاب شكر ثانٍ، إذا مضى سنة ولم تسحق له عقوبة, له كتاب شكر ثالث، إذا مضى سنة ولم يأخذ بحقه تقصير أو تقرير تفتيشي, له كتاب شكر رابع .
 حينما يُتاح لنا أن نُرسل إنساناً في بعثة خارجية نقول: من الذي معه خمسة كُتب شكر؟ أعطاك نظاماً دقيقاً هذا المدير؛ لا محاباة, ولا قرابة, ولا واسطة, ولا زُلفى, فالتعامل مع هذا المدير مريح, لا أحد أفضل من أحد, كلهم سواء, وفق نظام دقيق، لكن لو كان في محاباة, وهذا ابن عمه, وهذا أخوه, وهذا ابن حارته, وهذا يقدّم له الهدايا, وضع هذا, وأقالَ هذا, التعامل مع هذا الإنسان صعب جداً, شخص مزاجي, إذا أردتَ أن تتعرف إلى الله عزّ وجل, الخلقُ كلهم عِندَ الله سواء.
 لا أنسى هذا القول لسيدنا عمر, قال له: يا سعدُ, سعدُ بن أبي وقاص هذا الذي ما فدى النبي صلى الله عليه وسلم إنساناً غيره, قال له: ارمِ سعدُ فِداكَ أبي وأمي, سيدنا عمر قال له: يا سعدُ لا يُغرّنكَ أنكَ خالُ رسول الله, وفداك بأُمه وأبيه, فالخلق كلهم عِندَ الله سواسية, ليسَ بينه وبينهم قرابةٌ إلا طاعتهم له, أنا ابن فلان، الحي الفلاني، ابن العائلة الفلانية، دخلي كذا, حجمي كذا، كلام فارغ .

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾

[سورة الحجرات الآية: 13]

هذه المعاني رائعة جداً، التعامل مع الله مريح, لأنه في قوانين:

﴿إنَّ أكرمكم عِندَ الله أتقاكم﴾

 أقرب إنسان إلى الله من أطاعه كائناً من كان, اسمعوا وأطيعوا, هكذا قال النبي, ولو تولى عليكم عبدٌ رأسه كالذبيبة, عبد مستقيم على العين والرأس.
 سيدنا بلال قال له أحد أصحاب النبي بساعة غضب: يا بنَ السوداء, غَضِبَ النبي غضبةً ما غَضِبَ مثلها, قال له: إنكَ امرؤ فيكَ جاهلية, فهذا الصحابي الجليل وضع خده على الأرض, وقال: يا بلال, طأ على خدي بقدمك كي يرضى رسول الله، ضع قدمكَ فوقَ خدي حتى يرضى عني رسول الله، لا أحد أفضل من أحد .
 سيدنا بلال يأتي إلى المدينة, فيخرج عمر لاستقباله، أبو سفيان زعيمُ قريش, يقف بباب عمر ساعات, دون أن يؤذنَ له, وهو يرى بلال وصُهيب يدخلان ويخرجان بلا استئذان, غير معقول هذا, فلما دخلَ عاتبه, قال له: زعيم قريش, سيد قريش, يقف ببابك ساعات طويلة, وصهيب وبلال يدخلان بلا استئذان!؟ قال له: أنتَ مثلهما؟ بالإسلام لا أحد أحسن من أحد، أنتَ وطاعتك، أنتَ واستقامتك، أنتَ وإخلاصك، أنتَ وعملكَ الصالح، فالتعامل مع الله مريح جداً لوجود قوانين .

 

قوانين القرآن :

﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾

[سورة فصلت الآية: 30]

 لذلك: التعامل مع الله, لا تحتاج إلى يمين تحلفه له, ولا شهادة, قال له: والله يا ربي لم أعمل هذا الشيء, شاهدك أنك لم تعمل شيئاً, ولا تحتاج إلى وصل، فالتعامل مع الله عزّ وجل مريح, لأنه في قواعد دقيقة، والقرآن قواعد:

﴿كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾

[سورة يونس الآية: 33]

﴿ذلك جزاء الظالمين﴾

﴿ذلكَ جزاء المحسنين﴾

﴿هل نجازي إلا الكفور﴾

 اسمعوا بعض الكلمات الدقيقة لبعض العلماء, قال: الموّحد المتوكل لا يطمئن إلى الأسباب، لا يعتمد عليها؛ ولكن يعتمد على الله عزّ وجل، لا يطمئن إليها, ولا يرجوها, ولا يخافها, ولا يركن إليها, ولكن يكون قائماً بها, ناظراً إلى الله عزّ وجل, تقدر أن تعمل هذا, أن تقوم بأعلى أنواع الأسباب، تُهاجر.

 

هجرة النبي اعتمد على الأسباب :

 اللهم صلِّ عليه هاجر خبير بالطريق، إنسان يأتيه بالزاد، إنسان لمحو الآثار، إنسان للأخبار، سارَ مُغرّباً, اتجه مُساحِلاً، دخلَ في غار ثور، أخذَ بالأسباب كُلِها، وبعدها توكل على الله، قال له: لقد رأونا, قال له: يا أبا بكر ألم تقرأ قوله تعالى:

﴿وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾

[سورة الأعراف الآية: 198]

 قال له: لو نظرَ أحدهم إلى موطئ قدمه لرآنا، قال له: يا أبا بكر, ما ظنكَ باثنين الله ثالثهما؟ أخذَ بكل الأسباب وتوكل على الله .
 أتمنى على كل أخواننا الكرام، كل إنسان بعمله، بمهنته، باختصاصه، بدراسته، بوظيفته, بمصنعه، بمعمله، بدكانه، ألا يتسبّب, ألا يجهل، ألا يهمل، أبسط شيء يأكل تفاحة ولم يغسلها, يقول لك: سمِّ بالله وكُل, هذا هو الجهل بعينه .
 قالَ عليه الصلاة والسلام:

((من أكلَ الترابَ فقد أعانَ على قتل نفسه))

((من أكلَ فاكهةً دونِ أن يغسلها فقد أعان على قتل نفسه))

 فاسمعوا: الموّحد المتوكّل لا يطمئن إلى الأسباب، ولا يرجوها, ولا يخافها, ولا يركن إليها, ولكن يأخذُ بها.

 

المفهوم الصحيح للتوكل :

قال: فلا يصحُّ التوكلُ شرعاً وعقلاً إلا عليه سبحانه وحده, فليسَ في الوجود سببٌ تامٌ مُنجٍ إلا مشيئته وحده, لا يُنجيكَ من أيِّ شيء إلا أن يشاء الله لكَ النجاة, لا يُنجيكَ من كلِّ شيء إلا أن يشاء الله لكَ النجاة, أما أنت يؤتى الحَذر من مأمنه, يا ربي لا ينفعُ ذا الجد مِنكَ الجد، أصحاب العقول الأذكياء, لا ينفعهم ذكاؤهم مع الله، أيام التجار يعبّرون عن هذا الكلام, يقول لك: مع الله لا ذكي.
 تاجر أربعين سنة بالتجارة, خمسين سنة, عنده خبرات طائلة, يشتري صفقة خاسرة, يُفلّس من ورائها.
 إذا أراد ربكَ إنفاذَ أمرِ, أخذَ من ذوي العقول عقولهم, ثمَّ ردها لهم فَنَدِموا، لا ينفعُ حذرٌ من قدر .
 ما الذي ينجيك؟ أن يشاء الله لكَ النجاة، ما أسباب النجاة؟ أن تأخذَ بالأسباب، واللهِ مستقيم استقامة تامة, لم ترف عيني على امرأة, ولا تكلّمت بكلمة, الآن سأصلي وأبكي, لا تبكي, أنتَ لا تقرأ قوله تعالى: إيّاكَ نعبد وإيّاكَ نستعين, والله يسد عليك، معجب في عُجب سد عليك، لن تستطيع أن تفعلَ شيئاً إلا بمعونة الله عزّ وجل، ولن يقبلكَ بلا أسباب، لن يعينك إلا أن تأخذَ بالأسباب وأن تعتمدَ عليه.
 قالَ له: يا رب أنا بالجبر قوي, لكن بالهندسة ضعيف يا رب, فرسبَ بالجبر, قالَ له: يا ربي الجبر والهندسة عليك, دخل طالب إلى الامتحان, مؤتمر برلين أين عُقد؟ بقي ربع ساعة, أين عُقد؟ مكتوب مؤتمر برلين أينَ عُقد؟ الله عزّ وجل أغلق على قلبه بالدراسة, بالطب, بالهندسة, كل إنسان مُعتد بنفسه, متكل على علمه, على خبرته, تجده يرتكب حماقات, كيفَ فعلتَ هذا؟ هذا من العُجبِ بالذات .
 قال: ليسَ في الوجود سببٌ تامٌ موجِبٌ إلا مشيئته وحده, فهو الذي سببَ الأسباب, وجعلَ فيها القِوى والاقتضاء .
 فإذا جمعتَ بينَ التوحيد وبينَ إثباتِ الأسباب, استقامَ قلبك على السير إلى الله، ووضحَ لكَ الطريق الأعظم الذي مضى عليه جميع الأنبياء والرسل, وهو الصراطُ المستقيم, صراطَ الذينَ أنعمتَ عليهم.
 قيمة هذا الدرس ليسَ في معلوماته، في تطبيقه, أتمنى من كل أخ من أخواننا الكِرام في عمله, في دراسته, هذا الموقف الذي ينجي: أن تأخذَ بالأسباب وأن تعتمد على الله سبحانه وتعالى . 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور