وضع داكن
18-04-2024
Logo
مكارم الأخلاق - الندوة : 02 - تعريف العبادة، خصائص النطفة
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، مشاهديَّ الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلاً بكم في حلقةٍ جديدة من برنامج:" مكارم الأخلاق"، باسمكم أرحب بالدكتور محمد راتب النابلسي، أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة، في كليات الشريعة وأصول الدين، أهلاً ومرحباً بكم دكتور.
الدكتور راتب:
بكم أستاذ عدنان، جزاك الله خيراً.
الأستاذ عدنان:
كلمة العبادة كلمةٌ مطروقة ونسمعها جميعاً، ترى هل العبادة أن يصلي الإنسان في محراب صلاته دائماً؟ هل هي الصوم؟ هل هي الزكاة؟ هل هي الحج فقط؟ أم العبادة أشياء أخرى بالإضافة إلى ذلك؟ نبدأ بتعريف العبادة إن سمحتم.

من عرف سرّ وجوده وغايةَ وجوده سلم و سعد في الدنيا و الآخرة :

الدكتور راتب:
بادئ ذي بدء أستاذ عدنان، العبادة علة وجودنا.
لو أن إنساناً سافر إلى بلد، نزل في أحد فنادقه، واستيقظ في صبيحة اليوم الأول، وسأل إلى أين أذهب؟ نسأله نحن لماذا أتيت إلى هنا؟ إن جئت طالب علمٍ اذهب إلى المعاهد والجامعات، وإن جئت تاجراً اذهب إلى المعامل والمؤسسات، وإن جئت سائحاً اذهب إلى المقاصف والمتنزهات، فلا تصح حركة الإنسان في الحياة إلا إذا عرفَ سرّ وغاية وجوده.
لو كبرنا هذا المثل لماذا أنا في الدنيا؟ أنا حينما أعرف لماذا أنا في الدنيا تصحُ حركتي، و إن صحت حركتي سلمتُ و سعدتُ، وانتقلت حياتي من حياةٍ طارئةٍ إلى حياةٍ أبدية، أي اتصلت نِعم الدنيا بنِعم الآخرة، لذلك الأصل في العبادة أن يعرف الإنسان لماذا هو في الأرض؟ المثل كانَ مبسطاً لو كبرناه خالق الأكوان يقولُ لي:

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾

[ سورة الذاريات ]

هناك نقطة ثانية دقيقة: لو أن طالباً على مشارف امتحانٍ مصيري، امتحان التخرج، ويبنى على تخرجه تعيينه في وظيفةٍ مرموقة ولها دخلٌ كبير، ويبنى على تعيينه ِ زواجهُ وشراء البيت، لو أن أصدقاءه الذين يحبهم حباً جماً أخذوه قبل الامتحان بيومين إلى مكان جميل، أطعموه أطيب الطعام، تمتع بأجمل المناظر، لماذا يشعر هذا الطالب الذي أُخذ إلى هذا المكان الجميل الرائع بانقباضٍ لا يحتمل؟ لأن هذه الحركة قبل الامتحان بيومين لا تتناسب مع هدفه، لو أن هذا الطالب جلس في غرفةٍ قميئةٍ، وقرأ الكتاب المقرر واستوعبه، لشعر براحةٍ لا توصف.
إذاً متى يسعد الإنسان؟ إذا جاءت حركته في الحياة مطابقةً لهدفه، إذاً يسلمُ ويسعد إذا عرف سرّ وجوده وغايةَ وجوده، فإذا أخبرنا خالق الأكوان، ربُ العالمين، من بيده ملكوتُ كل شيء فقال:

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون ﴾

العبادةُ سرّ وجودنا وطاعةٌ لكل أوامر الله عز وجل :

إذاً العبادةُ سرّ وجودنا، لكن المسلمين في عصور التخلف الديني فهموا العبادة عبادةً شعائرية، أن تصليَ الأوقات الخمس، وأن تصوم رمضان، وأن تحجَ البيت، وأن تؤدي الزكاة، وانتهى كلُ شيء، أنا أقول: لم ينتهِ شيء، العبادة واسعة جداً، لأنها طاعة، طاعةٌ لكل منهج، منهجُ الله يبدأ من فراش الزوجية وينتهي بالعلاقات الدولية

منهج الله يغطي كل حركة الإنسان، في بيتهِ، مع زوجته، مع أولاده، مع والديه، مع جيرانهِ، مع أصدقائهِ، مع زملائه، في عمله، في مكتبهِ، في متجره، في معمله، في حقله، في وظيفته، في سفره، في حَضرهِ، في إقامتهَ، في حلهِ، في ترحاله، في أحزانهِ، في أتراحهِ، في كل شيء، منهج تفصيلي، أكاد أقول: منهج الله يقترب من خمسمئة ألف بند، فإذا فهم المسلمون دينهم على أنهُ عبادات شعائرية؛ يصلي، ويصوم، ويحج، ويزكي، وحياتهُ في وادٍ آخر، وكسبُ مالهِ في وادٍ آخر، وإنفاقُ مالهِ في وادٍ آخر، ما فهم من الدينِ شيئاً.
لذلك العبادةُ طاعةٌ لكل أوامر الله عز وجل دقيقها وجليلها، الإسلامُ بمفهومه الواسع خضوعٌ لأمر الله، خضوعٌ لمنهج الله، طاعةٌ لكنها طوعيةٌ، لو أنها قسرية لا يمكن أن تكون عبادة، لأن الله ما أرادنا أن نطيعهُ قسراً، أرادنا أن نطيعه باختيارٍ منا، بمبادرةٍ منا، بطاعةٍ أساسها الحب، لذلك هي طاعةٌ طوعية.
الأستاذ عدنان:
أحياناً دكتور يمكن أن يشعر الإنسان ـ وهنا أود توضيح ذلك الإنسان ـ يمكن أن يشعر بأن عليهِ أن يقوم لتأديةِ عبادة، لكنهُ يشعر بتثاقلٍ من أجل تأديتها، فإن أدّاها انتهى أو شردَ خلال تأديتها، تُرى هل تكونُ هنا طوعية؟ وكيف نوضح ذلك؟.

تعريف الطاعة :

الدكتور راتب:
الطاعة طوعية بمعنى أنهُ أراد أن يصلي، أما أن يكون له في الصلاة اتصال بالله عميق يحمله على أن يبكي أحياناً، أو ألا يكون هذا الاتصال عميقاً، هذا ليسَ بيدهِ، النبي الكريم علمنا فقال:

(( اللهم هذا قَسْمي فيما أملك. فلا تَلُمني فيما تَملك ولا أَملك - يعني القلب ))

[ أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي عن عائشة أم المؤمنين ]

أنا أملك أن أتوضأ، وأن أصلي، وأن أقف في خشوع، وأن أتلو القرآن، وأن أتدبر ما قرأت، أما أن تأتيني نفحة من الله، هذه من عند الله، لحكمةٍ بالغةٍ بالغة يصبها على قلب إنسان ويبعدها عن قلبٍ آخر، لعلهُ تعطيشاً له، أو دفعاً له إلى مزيد من العمل الصالح.
على كلِّ: الطاعة ينبغي أن تكون طوعية، لأن علاقة المحبوبية أساس العلاقة بين العبد وربه، أساس خلق الإنسان، وفي آية كريمة قال تعالى:

﴿ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾

[ سورة المائدة الآية:54]

أي أيةُ طاعةٍ قسريةٍ لا قيمة لها إطلاقاً، الطاعة ينبغي أن تكون طوعية، ولا يكفي أن تكون الطاعة طوعية، ينبغي أن تكون ممزوجةً بمحبةٍ قلبية، الحب أصلٌ في الدين، والذي لا يشعر بحاجةٍ إلى أن يحِب، ولا إلى أن يُحَب ليسَ من بني البشر، كأن الإسلام جسد روحهُ الحب، فإذا ألغينا الحب كنا أمام جثةٍ هامدة، فالحبُ أصلٌ في الدين، هناك حبٌ في الله، وهناك حبٌ مع الله.
على كلٍّ: طاعةٌ طوعيةٌ، ممزوجةٌ بمحبةٍ قلبية، أساسها معرفةٌ يقينية تفضي إلى سعادةٍ أبدية، هذا التعريف دقيقٌ جداً فيهِ كُليةٌ سلوكية هي الأصل، أي العبادة التزام، العبادة طاعة، العبادة وقوف عند الأمر والنهي، العبادة تطبيق، العبادة أن تحملَ نفسك على منهج الله، العبادة هي الأصل.

﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا ﴾

[ سورة الأنفال: الآية: 72 ]

ما تحركوا، ما سلكوا.

﴿ مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ﴾

[ سورة الأنفال: الآية 72 ]

الجانب السلوكي أصلٌ في العبادة سببه المعرفة :

إذاً الأصل في العبادة الالتزام، التطبيق، الوقوف عند الأمر والنهي، ليس الوليُ الذي يمشي على وجه الماء، وليسَ الوليُ الذي يطير في الهواء، الوليُ كلّ الولي الذي تجده عند الحلال والحرام، أي يجدك حيثُ أمرك، ويفتقدك حيثُ نهاك، هذا تعريف العبادة؛ طاعةٌ طوعية وليست قسرية، أي قوي يمكن أن يعطي أمراً فينفذ، هذا ليس عبادةً، طاعةٌ طوعية، مبادرة من الذات، لذلك:

﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾

[ سورة البقرة الآية: 256 ]

اللهُ عز وجل ما أرادنا أن نطيعهُ قسراً، لكن أرادنا أن نأتيهُ طائعين، أن نأتيهُ محبين، طاعةٌ طوعية، ممزوجةٌ بمحبةٍ قلبية، أي ما عبد اللهَ من أطاعهُ ولم يحبه، وما عبد الله من أحبهُ ولم يطعهُ.

تعصي الإله وأنتَ تظهر حبهُ ذاك لعمري في المقال شنيعُ
لـو كان حبكَ صادقاً لأطعتهُ إن الـمحب لمن يحبُ يطيع
* * *

هذا الجانب السلوكي هو أصلٌ في العبادة، سببه المعرفة، طاعةٌ طوعية ممزوجةٌ بمحبةٍ قلبية، أساسها معرفةٌ يقينية.

﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ﴾

[ سورة التكاثر ]

لا يوجد بالإسلام علم ظني، العلم في الإسلام معرفةٌ يقينية سببت طاعةً طوعية انتهت بحالةٍ جمالية، تفضي إلى سعادةٍ أبدية.

 

السلامة والسعادة لا تتأتى إلا من طاعة الله عز و جل :

كل إنسان منا يتمنى شيئين أساسيين؛ السلامة والسعادة، والسلامة والسعادة لا تتأتى إلا من طاعة الله عز و جل، من اتباع تعليمات الصانع.
فلذلك العبادة واسعة جداً، لها كُليةٌ معرفية هي السبب، ولها كُليةٌ سلوكية هي الأصل، ولها كُليةٌ جمالية هي الثمرة، أي المؤمن سعيد، نحنُ عندنا بعض أذكارنا نقول: وعلى أسعدنا محمد، وإذا أردت أن تسعد فأسعد الآخرين، والسعادة هدف كل إنسان، ويكونُ الشقاء من الجهل، بل إن أزمةَ أهلِ النار في النار الجهل:

﴿ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير ﴾

[ سورة الملك ]

العبادة نوعان؛ عبادةٌ تعاملية وعبادةٌ شعائرية :

لكن أستاذ عدنان، شيء دقيق جداً، العبادة نوعان: عبادةٌ تعاملية وعبادةٌ شعائرية.
العبادة التعاملية وصفها سيدنا جعفر بن أبي طالب حينما التقى النجاشي وسألهُ عن هذا الدين الجديد، قال:

(( أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله عز وجل لنوحده، ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دون الله من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء ))

[أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أم سلمة أم المؤمنين ]

تعريف الإسلام عندَ الإمام الكبير جعفر بن أبي طالب تعريفٌ أخلاقي، الإيمان هو الخلق، فمن زاد عليك في الخلق زادَ عليكَ في الإيمان، هذا هو تعريف العبادة التعاملية، هي صدق، وأمانة، وعفة، والتزام، ورحمة، وعدل، وتواضع، فلذلك العبادة التعاملية هي مكارم الأخلاق، عنوان هذه الحلقة العبادة التعاملية.

 

العبادة الشعائرية لا تصحُ ولا تقبل إلا إذا صحت العبادة التعاملية :

أؤكد أنا أن العبادةَ الشعائرية لا تصحُ ولا تقبل إلا إذا صحت العبادة التعاملية الدليل: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوماً:

(( أتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟ قالوا: المفْلسُ فينا من لا درهم له ولا متاع قال: إن المفْلسَ مَنْ يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شَتَمَ هذا، وقذفَ هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنيَتْ حَسَناتُهُ قبل أن يُقْضى ما عليه أُخِذَ من خطاياهم فطُرِحَتْ عليه، ثم يُطْرَحُ في النار ))

[ أخرجه مسلم والترمذي عن أبي هريرة ]

ذهبت الصلاة، الصيام:

(( مَن لم يَدَعْ قولَ الزُّورِ والعمَلَ بِهِ، فَليسَ للهِ حاجة فِي أَن يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ ))

[أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة ]

الحج.

(( وإذا خرج بالنفقة الخبيثة، فوضع رجله في الغرز فنادى: لبيك، ناداه مناد من السماء : لا لبيك ولا سعديك، زادك حرام ونفقتك حرام وحجك غير مبرور ))

[أخرجه الحاكم في مستدركه عن زيد بن ثابت ]

الزكاة:

﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾

[ سورة التوبة الآية: 53 ]

هذه أخطر حقيقة، أن العبادات الشعائرية لا تقبل ولا تصح إلا إذا صحت العباداتُ التعاملية، لذلك:

(( ترك دانقٍ من حرام خيرٌ من ثمانين حجةً بعد حجةِ الإسلام ))

[ ورد في الأثر]

(( ولأن أمشيَ مع أخٍ في حاجتهِ خيرٌ لي من صيام شهرٍ واعتكافي في مسجدي هذا ))

[ الجامع الصغيرعن ابن عمر]

رأى النبي عليه الصلاة والسلام رجلاً أو شاباً يصلي و يعبد الله في أوقات العمل فسأله: من يطعمُكَ؟ قالَ: أخي، قالَ: أخوكَ أعبدُ منك.
فالعبادة عمل، والعبادة كسب مال حلال، وأنا أقول دائماً: الدين ليسَ في المسجد فقط، في المسجد تتلقى الأوامر وتقبض الثمن فقط، أما الدين في المعمل، في الحقل، في الصيدلية، الدين في المكتب التجاري، الدين في الوظيفة، فالدين منهج كامل، والمسلمون وقعوا في خطأٍ كبير قاتل حينما توهموا أن الإسلام عبادة شعائرية، أما في حقيقة الإسلام أنَ المسلم صادق، إن حدثكَ فهو صادق، وإن عاملتهُ فهو أمين، وأن استثيرت شهوتهُ فهو عفيف.
الأستاذ عدنان:
لذلك:

﴿ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾

[ سورة هود الآية: 61 ]

أي جعلنا خلائف في الأرض من أجلِ إعمار الأرض، ومن أجلِ أن تكون العبادة الشعائرية ملتصقةً ومتممةً أيضاً من خلال العبادة التعاملية، وأشياء كثيرة في موضوع العبادة التعاملية والشعائرية موجودةٌ نصوصها في الكتاب، وفي أحاديث الرسول محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلم، إذاً هناكَ أنواع للعبادة يمكن أن يتحدث عنها الإنسان؟

 

أنواع العبادة :

1 ـ عبادة الهوية :

الدكتور راتب:
الحقيقة: هناك عبادة الهوية، أنتَ من؟ أنتَ غني؟ عبادتك الأولى إنفاق المال، أنت من؟ أنت قوي، عبادتك الأولى إنصاف المظلوم، إحقاق الحق، إبطال الباطل، القوي بجرة قلم يحق حقاً ويبطل باطلاً، يقر معروفاً ويزيل منكراً، يقرب ناصحاً مخلصاً، يبعد فاجراً منافقاً، أنت من؟ أنت عالم؟ العبادة الأولى تعليم العلم.

﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّه ﴾

[ سورة الأحزاب الآية:39 ]

فعبادة الهوية أنتَ من؟ أنتِ من؟ أنتِ امرأة؟ العبادة الأولى رعاية الزوجة والأولاد.
والسيدة خديجة كانت قدوة للنساء في رعاية زوجها وأولادها، فلما فتحَ النبيُ الكريم مكةَ المكرمة، دعاهُ كبار زعمائها ليبيتوا عنده، فقال: انصبوا لي خيمةً عندَ قبر خديجة، وركَزَ لواء النصر أمام قبرها، ليُعلم العالم كلهُ أنَ هذه المرأة التي في القبر شريكتهُ في النصر.
فالمرأة عبادتها الأولى أن تنجب أولاداً صالحين للمجتمع، أن تربيهم، أن تعتني بهم، شهادتها العليا أولادها، فكلما اهتمت المرأةُ بتربية أولادها، ورعايةِ زوجها، انضبط المجتمع، أول عبادة عبادة الهُوية.

 

2 ـ عبادة الظرف :

الآن عندنا عبادة الظرف، أي عندك ضيف، العبادة الأولى إكرام الضيف، عندك إنسان مريض ـ لا سمَح الله ـ العبادة الأولى معالجة المريض والعناية بهِ، عندك ابن في الشهادة الثانوية، العبادة الأولى تهيئة الجو لهُ، هذه عبادة الظرف.

3 ـ عبادة العصر :

أيضاً عندنا عبادة العصر، أي هذا الطرف الآخر القوي المتغطرس إذا أرادَ إفقارنا العبادة الأولى استصلاح الأراضي، وإنشاء السدود، واستخراج الثروات، وتفجيرُ الطاقات، وتطوير الصناعات حتى نكتفيَ ذاتياً، إن أرادَ إضلالنا ترسيخ 

معالم الدين

الرد على الشبهات التي يفتريها أعداء الدين، توضيح المعالم، تبسيط الأمور، تعميقُ فهمنا للدين، تحبيب الدين إلى نفوس شبابنا وشاباتنا هي أول عبادة، وإذا أراد إفسادنا العبادة الأولى تحصينُ شبابنا وشاباتنا، أن تشغلهم بما هوَ خير، أن تهيئ لهم مناشط إسلامية، أن تستخدم طاقاتهم الكبرى في الخير، وفي البناء، وإن أرادوا إذلالنا، يجبُ أن نضحي بالغالي والرخيص والنفسِ والنفيس، من أجلِ ألا نكونَ لقمةً سائغةً لأعدائنا، من أجل أن نخطط لا أن يُخططَ لنا، من أجلِ ألا نكون رقماً لا معنى لهُ في خطَطِ أعدائنا.

فلذلك:

(( القويُّ خيْر وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلّ خير ))

[أخرجه مسلم عن أبي هريرة ]

هذا جبر خاطر، أما القوي معهُ خيارات للعمل الصالح لا تعد ولا تحصى.
الأستاذ عدنان:
دكتور القوي في هذه الحالة هل هي القوة التي يفهمها كثيرٌ من الناس على أنها القوة المادية فقط، أم أنها يمكن أن تكونَ المادية، ويمكن أن تكون المعنوية، ويمكنُ أن تكونَ القوةُ في إنشاء الأمور الجيدة.

 

القوةُ قوةُ المال وقوة العلم وقوة المنصب :

الدكتور راتب:
الحقيقة القوةُ قوةُ المال، وقوة العلم، وقوة المنصب، الذي يحتل منصباً حساساً ودقيقاً بجرةِ قلم يحقُ حقاً

فإذا كنتَ في منصب، فهذه قوة، وإذا كنتَ غنياً فبإمكانك أن تصل بمالك إلى أعلى مراتب الجنة، وإذا كنتَ عالماً أيضاً تنشرُ علمك فيكون سببَ رُقي الأمة، فقوةُ العلم، وقوةُ المالِ، وقوة المنصب، هذه ثلاثة أشياء تعدُ مرتكزات القوة، فيجب أن تكون قوياً في مالك، أو في علمك أو في منصبك، إذا كانَ طريق القوةِ سالكاً وفق منهج الله، أما إذا كانَ طريق القوة على حسابِ مبادئك، وعلى حساب دينك، فالضعفُ وسام شرفٍ لك، ينبغي أن تكونَ غنياً إذا كان طريق الغنى سالكاً وفق منهج الله، ضمنَ الضوابط الشرعية، فإذا كانَ الغنى عن طريق تجارة المخدرات مثلاً ـ لا سمح الله ولا قدر ـ أي إذا كان الطريق إلى الغنى طريقاً شائكاً، وطريقاً على أساس التضحيةِ بالمبادئ والقيم والدين والعرض، لا مرحباً بالضعفِ، ومرحباً بالفقر، لأنهُ عندئذٍ وسامُ شرفٍ لنا، أي هو القوة مطلوبة، لكن بوسائل مشروعة، في الإسلام ليسَ هناك هدفاً يمكن أن نصل إليهِ بوسيلة غير مشروعة.
الأستاذ عدنان:
دكتور قد يقولُ قائل: أنا فقير، أنا لستُ قوياً، أنا لا أملك الأسباب التي تحدثت عنها، أين تكونُ عبادتي؟ يبقى الجواب من خلال ما وضحتموه الهُوية، أنتَ مَنْ أيها الإنسان؟

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾

إذاً يستطيع أن يحقِق معنى العبادة كل إنسان مهما كان في وضعهِ، من قوةٍ أو ضعف، من فقرٍ أو غنى، وهذا يشمل الناس أجمعين، الآن إذا أردنا أن نتابعَ شيئاً من هذا في مجال عظمة الله وخلقهِ الذي نرى فيهِ عظمتهُ، فماذا يمكن أن نرى دكتور؟.

 

الإعجاز العلمي :

خلق الإنسان في بطن أمهِ :

الدكتور راتب:
الحقيقة أستاذ عدنان، أنَ عظمة الله تتبدى في كل شيء، لكن أقرب شيءٍ إلينا أنفسنا، قالَ تعالى:

﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾

[ سورة الذاريات ]

فالحديث عن خلق الإنسان في بطن أمهِ حديثٌ رائعٌ جداً، وحديثٌ يمكن أن يكون أحد الأسباب الدالة على عظمة الله، فالنطفة مثلاً، النطفةُ خليةٌ موظفةٌ لإيصالِ معلومة الذكر الوراثية إلى خلية البويضة في الأنثى، إذا دققنا عن كثبٍ نرى جهازاً مصمماً بشكلٍ خاص لحمل هذه النطفة، القسم الأمامي للنطفة مغطى بدرع واقٍ، وتحتهُ درعٌ ثانٍ، وتحتَ هذا الدرع الثاني يوجد ما يشبه الشاحنة التي تحملُ النطفة، ويوجد داخل هذه الشاحنة ثلاثةٌ وعشرونَ صبغياً عائداً للرجل، المعلومات العائدة لجسم الإنسان، وأدقُ تفاصيله جميعها مخفيةٌ في هذه الصبغيات، ولظهورِ إنسانٍ جديد يجب أن تتحد الصبغيات الثلاثة والعشرون الموجودة في نطفة الرجل مع الصبغيات الثلاثةِ والعشرين الموجودة في بويضة المرأة.
وهكذا سيظهرُ أول تكونٍ لجسم الإنسان من ستةٍ وأربعينَ صبغياً، تصميم الدرع الموجود في الجهة الأمامية للنطفة سيحمي هذا الحِمل الثمين طوالَ هذهِ المسافةِ الطويلة من جميعِ أنواع الأخطار، وتصميم النطفة غيرُ محصورٍ بهذا وحسب، فهناك في القسم الأوسط للنطفة محركٌ قويٌ جداً، ويرتبط بطرف هذا المحرك ذيلُ النطفة، القوة التي ينتجها المحرك تدور بشكلٍ رائع، وتحرك الذيل كالمروحة، وتؤمن للنطفة قطع الطريق بسرعةٍ، ولوجود هذا المحرك لا بدّ له من وقودٍ سائل، هذا الوقود هو سكر الفركتوز، هذا الوقود يمد المحرك بالقوة، والمحرك يحرك الذيل، والذيل كالمروحة، إذاً تمشي النطفة إلى الأمام، بفضلِ هذا التصميم الكامل تقطع النطفةُ طريقاً نحو البويضة بسرعةٍ، عندَ ملاحظة حجم النطفةِ بالنسبةِ إلى المسافة التي قطعتها، تظهرُ حركتها السريعة التي تشبه قارب السباق، هذا الجهاز المدهش يتمتع بمهارةٍ كبيرة، حيثُ يوجد داخل كل خصيةٍ مركزٌ لإنتاج النطف، أقنيةٌ مجهريهٌ يصلُ طولها إلى خمسمئة متر، الإنتاجُ في هذه الأقنية يشبهٌ تماماً نظامَ السكة الحديدية المستخدمة في المعامل الحديثة، فأقسام النطفة من درعٍ، ومحركٍ، وذيلٍ، تركب مع بعضها على الترتيب، وفي النهاية تظهر روعة الهندسةِ الكاملة.

 

اللهُ عز وجل خلقَ كل شيء فأحسن خلقه :

علينا التفكير ولو قليلاً في هذه الحقيقة، كيفَ عرفت الخلايا التي لا وعيَ لها طريقةَ تجهيز النطفة بشكلٍ يتناسبُ مع 

جسم الأم على الرغم من جهلها بها تماماً؟ كيف تعلمت النطف صنعِ الدرعِ والمحرك والذيل بحسب حاجة جسم الأم؟

بأيِ عقلٍ تتركب هذه القطع بالترتيب الصحيح؟ من أين تعلم النطف أنها ستحتاج إلى سكر الفركتوز؟ كيف تعلمت صنع محركٍ يعملُ بهذا السكر؟ هناكَ جوابٌ واحدٌ فقط لكل هذه الأسئلة، النطف والسائل المركب داخلها خلقهُ الله عز و جل بشكلٍ خاص لاستمرار نسل الإنسان.
النطفةُ منتجةٌ بجسم الأبِ، أما مهماتها فلا تتحققُ إلا في جسم الأم، ولا تملك أي نطفةٍ في تاريخ البشرية العودةَ إلى جسمِ الأب مرةً أخرى بعدَ انتهاء مهمتها في جسم الأم، فمن علّم هذه النطفة؟ إنهُ اللهُ عز وجل الذي خلقَ كل شيء فأحسن خلقه، والله عز و جل يقول حينما سأل فرعون سيدنا موسى:

﴿ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾

[ سورة طه ]

الحقيقة قالَ تعالى:

﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ *أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ﴾

[ سورة الواقعة ]

والله أستاذ عدنان، هناك آيات في جسم الإنسان لو أمضينا حياتنا كلها لا نكتفي بأن نتعرف إلى الله من خلالها، لكنهُ كما يقال: شدةُ القرب حجاب.

 

خاتمة و توديع :

الأستاذ عدنان:
إذاً أستطيعُ أن أقول إذاً: اعرف نفسك أيها الإنسان، اعرف هويتكَ في هذه الدنيا وأنك عبدٌ لله تعالى، وبالتالي تعبده، وتعلم أن عبوديتكَ لله تعالى هي التي يجبُ أن تتصفَ بها دائماً لتكونَ عبداً صادقاً، وبالتالي تعبد اللهَ تعالى العبادتين الشعائرية والتعاملية.
في ختامِ هذا اللقاء كل الشكر لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، أستاذ الإعجاز العلمي في الكتابِ والسنة، وكل الشكر أيضاً للأخوة المشاهدين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور