وضع داكن
23-04-2024
Logo
الدرس : 06 - سورة الفرقان - تفسير الآيات 17 - 20 الطاعة والمحبة لغير الله تعالى شرك ظاهر جليّ
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

 

الله تعالى يحشر خلقه جميعاً يوم القيامة ويسألهم أمام الملأ :


 أيها الأخوة المؤمنون ؛ مع الدرس السادس من سورة الفرقان . 

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى : ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا(18)﴾ الحقيقة الله سبحانه وتعالى يوم القيامة يجمع خلقه جميعاً في محشرٍ واحد ، ويسألهم أمام الملأ ، وفي هذا السؤال ، وفي هذه المحاكمة فضيحةٌ وأيُّ فضيحة ، قد تُسألُ سؤالاً في مجتمعٍ صغير فلا تملك الجواب الصحيح فتشعر بالخجل ، أما إذا جاء المذنب وسُئل أمام الأشهاد عن هذا الذنب فما موقف الإنسان يومَ القيامة ؟ فهؤلاء الذين عبدوا من دون الله ، هؤلاء الذين قالوا : إن المسيح هو الله ، أو هو ابن الله : 

﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)﴾  

[  سورة التوبة  ]

 

الطاعة والمحبة لغير الله تعالى شرك ظاهر جليّ :


هؤلاء الذين اتخذوا الملائكة أرباباً مِن دون الله ، هؤلاء الذين اتخذوا الجن ، هؤلاء الذين عبدوا الأصنام ، هؤلاء الذين عبدوا بعض البشر ، أيْ كل إنسانٍ يتوجه بالطاعة ، والمحبة ، والولاء ، والإخلاص ، والاعتماد ، والتوكل على غير الله ، هذا شركٌ ظاهرٌ جَلِيّ ، فربنا سبحانه وتعالى يوم القيامة يجمع الخلائق كلها ، ويوجِّه إليهم السؤال التالي : يقول الله عزَّ وجل : ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ ﴾ أيْ الناس جميعاً ؛ أسودهم ، وأبيضهم ، عربيهم ، وأعجميهم ، يحشرهم جميعاً: ﴿يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ ﴾ سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ، هناك أناسٌ عبدوه من دون الله ، فسيدنا عيسى يُسأل يوم القيامة : 

﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ(116)مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(117)إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(118)﴾

[ سورة المائدة  ]

 

كل الأشياء التي عُبِدت من دون الله سوف تُسأل يوم القيامة :


إذاً هذا الذي عُبِدَ مِن دون الله سوف يُسأل ، وهذا الذي عَبَدَ من دون الله سوف يُسأل ، سوف يسأل مَن عُبِد ومَن عَبَد في الحشر أمام الملأ جميعاً وأمام الخلق كلهم : ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي ﴾ يا أيها الذين عُبِدُّتم من دون الله سواءٌ أكانوا أنبياء مكرَّمين ، ضلّ قومهم فعبدوهم مِن دون الله ، سواءٌ أكانوا أشخاصاً عاديين ، سواءٌ أكانوا ملائكة ، أكانوا جِنَّاً ، سواءٌ عبدوا حجراً أم صنماً ، كل الأشياء التي عبدت من دون الله سوف تُسأل هذا السؤال .

 

أصل الاستفهام هو طلب العلم بالمجهول ولكن في اللغة العربية له أغراض كثيرة :


﴿ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي ﴾ .. بالمناسبة هذا السؤال في القرآن الكريم ، السؤال يأتي على شكل استفهام في آياتٍ كثيرةٍ لا تُعَدُّ ولا تحصى ، ولكن ما كل سؤالٍ يستفاد منه العِلم بالمجهول ، أصل الاستفهام طلب العلم بالمجهول ، تقول لإنسان : كم الساعة الآن ؟ كم ثمن هذا الحذاء ؟ كم ثمن هذه البِزَّة ؟ أصل الاستفهام طلب العلم بالمجهول ، لكنّ الاستفهام في اللغة العربية وفي علم البلاغة يخرج عن هذا الغرض الأساسي إلى أغراض كثيرة ، وفي القرآن الكريم بيانٌ دقيقٌ لبعض هذه الأغراض ، فربنا سبحانه وتعالى يأمرنا أحياناً عن طريق الاستفهام فيقول الله عزَّ وجل :

﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)﴾

[ سورة المائدة  ]

 أي ماذا تنتظرون بعد ؟ لِمَ لم تنتهوا حتى الآن ؟ انتهوا ؟ فهذا استفهام قُصِدَ به الأمر : ﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ(91) ﴾ ..

أحياناً يأتي الاستفهام ويُقصد به النهي ، يقول الله عزَّ وجل :

﴿ أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)﴾

[ سورة التوبة  ]

أي لا تخشوهم ، أَتَخْشَوْنَهُمْ ؟ استفهامٌ قُصِدَ به النهي أي لا تخشوهم . 

وأحياناً يقصد بالاستفهام التسوية لقول الله عزَّ وجل : 

﴿ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10)  ﴾

[ سورة يس  ]

أي يستوي إنذارهم وعدم إنذارهم : ﴿ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(10) ﴾ ، عندنا استفهام يُقْصَدُ به الأمر ، وعندنا استفهام يقصد به النهي ، وعندنا استفهام يقصد به التسوية .

وأحياناً يقصد بالاستفهام النفي لقول الله عزَّ وجل : 

﴿ هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ(60) ﴾

[ سورة الرحمن  ]

 أي ما جزاء الإحسان إلا الإحسان ، هذا بند رابع في الاستفهام . 

وأحياناً يأتي الاستفهام للإنكار ، يسمى الاستفهام الإنكاري ، كَقَوْلِ الله عزَّ وجل :  

﴿ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40)﴾

[  سورة الأنعام  ]

أيْ الله سبحانه وتعالى ينكر على هؤلاء أن يدعوا غير الله عزَّ وجل ، الاستفهام الإنكاري كثير الاستعمال في القرآن الكريم .

كذلك عندنا استفهام تشويق : 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) ﴾

[  سورة الصف  ]

 هذا استفهام يقصدُ به التشويق . 

وعندنا استفهام يقصد به الاستئناس : 

﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى(17)﴾

[ سورة طه  ]

ربنا سبحانه وتعالى أراد أن يؤنسَهُ فسأله سؤالاً ، وأنت أحياناً قد تحب أن تؤنس ضيفك تسأله سؤالاً لطيفاً ، هذا السؤال تقصد به الإيناس وليس الاستفهام . 

وقد يأتي الاستفهام بمعنى التقرير : 

﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ(1)﴾

[ سورة الشرح  ]

أي لقد شرحنا لك صدرك ، أمرٌ ، ونهي ، وتسويةٌ ، ونفيٌ ، وإنكارٌ ، وتشويقٌ ، وإيناسٌ ، وتقريرٌ . 

وقد يأتي الاستفهام بمعنى التهويل : 

﴿ الْحَاقَّةُ(1)مَا الْحَاقَّةُ(2)وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ(3)﴾  

[ سورة الحاقة  ]

هذا استفهامٌ يقصد به التهويل والتعظيم . 

هناك استفهامٌ يقصد به الاستبعاد : 

﴿ أَنَّى لَهُمْ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ(13)﴾

[ سورة الدخان  ]

أنّى له أن يفهم ، أي ما أبعدَهُ عن أن يفهم ، هذا استفهامٌ يقصد به الاستبعاد .

وقد يأتي استفهامٌ يقصد به التعظيم : 

﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)﴾

[  سورة البقرة  ]

 وقال : 

﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)﴾

[  سورة البقرة  ]

هذا استفهامٌ يقصد به التعظيم . 

وقد يأتي الاستفهام بمعنى التعجُّب : ﴿ مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ﴾ .

 وقد يأتي الاستفهام بمعانٍ كثيرة جداً ؛ كالتهكم ، والوعيد ، والاستنباط ، والتنبيه ، وغيرهم . 

 

من عبد شيئاً من دون الله سينطق عنه يوم القيامة :


لكن هنا هذا الاستفهام استفهامٌ توبيخي ، توبيخ : ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي ﴾ .. هذا استفهامٌ توبيخي : ﴿ هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) ﴾ يا تُرى أنتم كنتم السبب في ضلالهم أم هم الذي ضلوا في الأساس ؟ فقال هؤلاء الذين عُبِدوا من دون الله ، أنبياء أو أصنام ، كل شيءٍ ينطق يوم القيامة والدليل :

﴿ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)﴾

[  سورة فصلت  ]

أيُّ شيءٍ يوم القيامة ينطقُ بالحق ، فحتَّى الحجارة التي عُبِدَت من دون الله تنطق يوم القيامة بالحق ، فهذا السؤال عام لكل الشُرَكَاء ، لكل الذين عُبِدوا مِن دون الله .

 

التسبيح في اللغة هو التنزيه والتمجيد وكلمة سبحانك فيها نفيٌ وإثبات :


 ﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ ﴾ أيْ ما أعظمك عن أن يُتَّخذ من دونك إله ! ما أعظم شأنك يا رب ! تنزَّهت عن أن يكون معك شريك ، فالتسبيح في اللغة هو التنزيه والتمجيد ، التنزيه عما لا يليق بالله عزَّ وجل ، والتمجيد أي السَّبْحُ بأسمائه الحسنى وصفاته الفضلى ، فكلمة سبحانك فيها نفيٌ وإثبات ، فيها نفي كل صفةٍ لا تليق بالله عزَّ وجل ، وفيها إثباتٌ لكل كمالٍ عرَّفنا الله سبحانه وتعالى من خلال كتابه الكريم ، أي ذِكْرُ الله بأسمائه الحسنى وصفاته الفضلى تسبيح ، ونفي كل صفةٍ لا تليق به تسبيح : ﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ ﴾ أيْ يا رب تنزَّهت عن أن يكون لك شريك ، هؤلاء الذين عبدونا مِن دونك نحن مفتقرون إليك .

 

ليس كل عطاءٍ عطاءً ربما كان المنع عين العطاء وربما كان العطاء عَيْن المنع:


﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ ﴾ .. نحن الذين عُبِدْنَا من دونك لا يحق ، لا يصح ، لا ينبغي أن نتخذ مِن دونك أولياء ، فإذا كان هذا الذي تعبده من دون الله لا ينبغي بِحَقِّهِ أن يعبد هو غير الله فكيف تعبده أنت ؟ كيف تعبد جهةً لا تملك نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً ؟ ﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ ﴾ أي هؤلاء الذين عبدونا من دونك متَّعتهم يا رب ، متعتهم بالصحة ، متعتهم بالغنى ، متعتهم بطول العمر ، قد تكون الدنيا استدراجاً ، ليس كل عطاءٍ عطاءً ربما كان المنع عين العطاء ، وربما كان العطاء عَيْنَ المنع ، فإذا اختار لك الله عزَّ وجل شيئاً معيناً وأنت راضٍ بمشيئته فهذا من نعم الله الكبرى عليك ، أن تكون راضياً بمشيئة الله عزَّ وجل ، إذاً ربما كان المنع عين العطاء ، ربما أعطاك فمنعك ، وربما مَنَعَك فأعطاك .

 

أغنى الأغنياء من أعطاه الله الرزق الكفاف وشغله بمعرفته وملأ قلبه بنوره :


﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ﴾ الذكْر قال بعض المفسرين هو القرآن :

﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)﴾

[ سورة الحجر ]

أي هذا الكتابُ المنهج نسوا أن يقرؤوه ، نسوا أن يفهموه ، نسوا أن يتدبَّروه ، نسوا أن يعملوا به ، متعتهم بالمال ، والصحة ، والجاه ، والقوة ، وطول العمر ، وألفوا هذه الحياة ، ألفوا نعيمها ، انغمسوا في شهواتها ، أعجبتهم ، رضوا بها ، اطمأنوا لها ، وضربوا عُرْضَ الطريق بوعدك ووعيدك ، وذِكرك وقرآنك ، ولم يقرؤوه ، ولم يعوا ما فيه ، هذا تعليل هؤلاء الذين عُبدوا من دون الله ، يا رب نحن ما أضللناهم ، سبحانك أن ندَّعي أننا معك شركاء ، هذا لا يليق بنا ، ولا يليق بأي جهةٍ أخرى غيرك يا رب : ﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ﴾ ، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال : 

(( قد أفلح من أسلَم و رُزِقَ كفافًا  ، و قَنَّعَه اللهُ بما آتاه ))

[ أخرجه مسلم ]

اللهم من أحبني فاجعل رزقه كفافاً  ، أي إذا أعطاك الله عزَّ وجل الرزق الكفاف ، وشغلك بمعرفته ، وملأ قلبك بنوره ، وعرَّفك بذاته ، فأنت أغنى الأغنياء ؛ أما من أُعطي الدنيا وشغلته واستهلكته فمتى حسرته الكبرى ؟ عندما يأتيه الموت ، يرى أن هذه الدنيا لا تقدِّم ولا تؤخِّر ، ولا تنفع ولا تضر ، ولكنها كانت عبئاً عليه ، فالذكر هنا القرآن ، وبعضهم قال : الذكر هو الشكر ، يا رب كيف أشكرك ؟ فقال الله عز وجل : عبدي إنك إن ذكرتني شكرتني ، وإذا ما نسيتني كفرتني .. 

 

أحد أنواع الشكر أن تذكر الله فالمؤمن حياته كلها ذكر :


لمجرد أن تنسى الله عزَّ وجل فهذا أحد أنواع الكفر ، ولمجرد أن تذكره فهذا أحد أنواع الشُكر ، تذكرني ولا تكفرني ، إنك إن ذكرتني شكرتني ، وإذا ما نسيتني كفرتني لذلك من أكثر ذكر الله فقد برئ من النفاق ..

﴿  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيراً (41)﴾

[  سورة الأحزاب  ]

المؤمن حياته كلها ذكر ، يذكر الله في بيته ، في عمله ، في طريقه إلى عمله ، في خَلوته ، في جلوته ، في حِلِّه ، في ترحاله ، في سفره ، في حضره ، في صحته ، في مرضه ، في غناه ، في فقره ، في قوته ، في ضعفه ، في شبابه ، في شيخوخته :

﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)﴾

[ سورة آل عمران  ]

كم حالة ؟ إما أن تكون واقفاً ، وإما أن تكون مضطجعاً ، وإما أن تكون نائماً أو قاعداً : ﴿ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ﴾ أيْ يذكرون الله في كل حال ، وهذا مصداق قول الله عزَّ وجل :

﴿  الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ(23)﴾

[  سورة المعارج  ]

 إذا خرج من بيته يدعو الله عزَّ وجل : عن  أم سلمة أم المؤمنين : 

(( كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ إِذا خرَجَ من بيتِهِ  : اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بِك مِن أَن أضِلَّ أو أزِلَّ أو أظلِمَ أو أُظلَمَ أو أجهَلَ أو يُجهَلَ عليَّ . ))

[ ابن حجر العسقلاني  : نتائج الأفكار  : خلاصة حكم المحدث  : حسن ]

إذا دخل بيته فله دعاء ، وإذا أوى إلى فراشه فله دعاء ، إذا خرج من بيت الخلاء فله دعاء :  الحمد لله الذي أذاقني لذته ، و أبقى فيّ قوته ، و أذهب عني أذاه  .. 

 

الشكر بابٌ كبير من أبواب الإيمان :


إذا تمتَّع الإنسان بسمعه ، ببصره ، بقوته ، بحركاته ، بأعضائه ، بعقله ، رأى إنساناً مختل العقل فعليه أن يدعو الله بالشكر والحمد والثناء : فإنك إذا ذكرتني شكرتني وإذا ما نسيتني كفرتني ، جلست إلى المائدة تأكل من الطعام ، الله عزَّ وجل سَلَّمَ لك الأجهزة كلها ، هناك من يأخذ السيروم ، تأكل أنت هذا الطعام ، تأكله وأنت جائع ، وقد مَكَّنَكَ الله من أن تأكل ، وسمح لك أن تأكل ، أعطاك ثمن الأكل ، دخلت إلى بيتك ، رأيت أهلك في صحةٍ طيبة ، أولادك أمامك ، إنَّك إن ذكرتني شكرتني وإذا ما نسيتني كفرتني ، وبالشكر تدوم النعَم ، والنبي الكريم عليه أتمّ الصلاة والتسليم وجَّهَ بعض أصحابه فقال : " يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تؤدي شكره " ، فالشكر بابٌ كبير من أبواب الإيمان ، حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام قال : الإيمان نصفان نصفٌ صبرٌ ونصفٌ شكرٌ ، فالصبر نصف الإيمان ، والصوم نصف الصبر ، فالصوم أصبح ربع الإيمان بكامله ، وإذا مُتّعَ الإنسان بالصحة ، والقوة ، والمال ، والجمال ، والأهل ، والأولاد ، لدرجة أنه استمرأَ هذه النعم ونسي بها الله عزَّ وجل هذه أصبحت نِقَماً وليست نِعَماً ، إنها استدراج ، والله سبحانه وتعالى يمدُّ أحياناً للكافرين مداً :

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)﴾

[  سورة الأنعام ]

 

حجمك عند الله يوم القيامة بحجم عملك الصالح :


﴿ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) ﴾ البور ، الأرض البور هي الأرض التي عُطِّلَت عن الزراعة فهي لا تنتج ، أرضٌ منتجة ، وأرضٌ بور ، والبور هو الشيء الفاسد ، والبور هو الشيء الهالك ، معنى الهلاك ، ومعنى الفساد ، ومعنى عدم الجدوى ، هذه المعاني الثلاث مأخوذة من كلمة بور :

﴿ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)﴾

[ سورة الفتح  ]

أيْ تأخذ ولا تعطي ، تستمتع ولا تُمتِّع ، تتلقى ولا تُلقي : ﴿ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا(12) ﴾ فأنت لك حجم عند الله عزَّ وجل يوم القيامة ، حجمك بحجم عملك الصالح ، ماذا فعلت ؟ ماذا قدمت ؟ ماذا علَّمت ؟ ماذا أنفقت ؟ من خدمت ؟ أعطاك الله جاهاً ماذا فعلتَ به ؟ استعليت به على الناس أم وظَّفته في خدمة الخلق ؟ أعطاك الله مالاً استمتعت به أم أنفقته ؟ أعطاك علماً كتمته أم نشرته ؟ أعطاك خبرةً حبستها أم بذلتها ؟ فحجمك عند الله بحجم عملك ، بحجم عطائك ، بحجم بَذْلِكَ ، لذلك الأنبياء كانوا قمةً في العطاء ، يا من جئت الحياة فأعطيت ولم تأخذ ، يا من قدَّست الوجود كله ، ورعيت قضية الإنسان ، يا من هيَّأَكَ تفوقك لتكون واحداً فوق الجميع فعشت واحداً بين الجميع ، فالبطولة هي عندما تلقى الله عزَّ وجل ، لا يبدو لك إلا عملك الصالح وما سوى ذلك يتلاشى وكأنه لم يكن ﴿ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)﴾ لذلك سيدنا أبو الدرداء رضي الله عنه كان في حمص مرةً فخطب في أهلها وقال : "هلموا إلى أخٍ لكم ناصح ، قال لهم : ما لكم لا تستحون ؟ تبنون ما لا تسكنون ، وتجمعون ما لا تأكلون ، وتأملون ما لا تدركون ، إن من كان قبلكم بنو مشيداً ، وجمعوا عبيداً ، وأمّلوا بعيداً ، فأصبح جمعهم بوراً ، وأملهم غروراً ، ومساكنهم قبوراً ."

 

من عبد غير الله خسر في الدنيا والآخرة :


يقول الله عزَّ وجل لهؤلاء الذين عُبدوا من دون الله ، لهؤلاء الشركاء زوراً وبهتاناً : ﴿ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ ﴾ يخاطب الآن الذين عَبَدوا من دون الله ، خاطب أولاً المَعْبُودين : ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ ﴾ يا من عُبِدُّتم من دون الله : ﴿ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي ﴾ استفهام توبيخ ، الآن جاء الخطاب لمن عَبَدوهم من دون الله : ﴿ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ  ﴾ ادَّعيْتم أنهم آلهة ، هؤلاء قد كذبوكم بدعواكم ، ادعيتم أنهم ينفعونكم أو يضرونكم فقد كذبوكم بدعواكم . 

 

عدم استطاعة الإنسان أن يصرف عن نفسه العذاب يوم القيامة :


﴿ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا ﴾ .. الآن الإنسان في الدنيا أحياناً بجاهه ، بقوته ، بحنكته ، بذكائه ، بخبثه ، يستطيع أن يصرف عنه عذاباً ، أو بليةً ، أو مشكلةً ، وأن يلصقها بإنسان آخر ، لكنه يوم القيامة رَبُنا سبحانه وتعالى يبيِّنُ فيقول : ﴿ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا ﴾ لا تستطيعون أن تصرفوا عن أنفسكم هذا العذاب ، وما تستطيعون أن تنتصروا من الله عزَّ وجل ، فهو قد تخلى عنكم لأنكم في الدنيا ما عرفتموه : ﴿فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) ﴾ وهذه الآية من السنن الثابتة في خلقه : ﴿ وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) ﴾ ، وإذا قال الكبير عن عذابه بأنه كبير فما أكبره ، إذا قال لك طفل : أنا معي مبلغ كبير ، يخطر في بالك أن معه خمسَ ليرات أو عشراً ، أمَّا إذا قال لك إنسان معروفٌ بالغنى : أنا معي مبلغ كبير ، فكلمة كبير بحسب حجم القائل ، فإذا قال الله عزَّ وجل وهو أصدق القائلين : ﴿ وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) ﴾ فهل بإمكان الإنسان أن يتصوَّر ماذا يعني هذا العذاب الكبير ؟!! 

 

للآية التالية معنيان : 

 

1 ـ هي تسليةٌ لقلب النبي وتخفيف من آلامه ومتاعبه :

يقول الله عزَّ وجل : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا(20)﴾ يبدو أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يُسَلِّيَ النبي عليه الصلاة والسلام ، أن يخفف عنه ، لأن الدعوة لها أعباءٌ كثيرة ، وأعباءٌ ثقيلة ، ولولا هذه الأعباء ما ظهر مَعْدِنُ هذا النبي الكريم ، لو أنَّ الدعوةَ طريقٌ محفوفٌ بالورود والرياحين لما كان هناك أجرٌ عظيم لمن دعا إلى الله ، ولكن الدعوة ، وهذه سنة الله في الخلق ، محفوفةٌ بالمخاطر ، محفوفة بالمتاعب ، لا بدَّ من أن تواجه خصوماً ، لا بدَّ من أن تواجه حُسَّاداً ، لا بدَّ من أن تواجه مُغرضين ، لا بدَّ من أن تواجه معارضةً ، ولكل داعيةٍ في رسول الله أسوةٌ حسنة ، فالله سبحانه وتعالى أراد أن يُسَلِّيَ النبي عليه الصلاة والسلام ويطمئنه إلى أن هذا القول الذي ووجِهْتَ به من أنك لست بنبي ، بدليل أنك تأكل الطعام وتمشي في الأسواق ، هذا القول قيل أيضاً لكل الأنبياء من قبلك فلا تتألم ، لا تحزن ، لا تقلق ، لا تضجر ، لا تغتم ، هذا القول قيل لكل مَن سبقك من الأنبياء ، لأن الله عزَّ وجل قال في مطلع هذهِ السورة : ﴿ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ (7) ﴾ فجاء الجواب : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ (20) ﴾ إذاً أول معنى من معاني هذه الآية أنها تسليةٌ لقلب النبي عليه الصلاة والسلام ، وطمأنة له ، وإيناسٌ له ، وتخفيفٌ من آلامه ومتاعبه .  

2 ـ أصلٌ في طلب الرزق وكسب المال لإنفاقه على حاجات الإنسان الأساسية :

المعنى الثاني أن هذه الآية أصلٌ في طلب الرزق وكسب المال ، من أجل إنفاقه على حاجات الإنسان الأساسية ، لأن الإنسان في طبيعته مفتقرٌ إلى الطعام والشراب ، ومفتقرٌ مرةً ثانية إلى كسب ثمن الطعام والشراب ، أنت مفتقرٌ إلى الطعام ، ومفتقرٌ إلى العمل ، إذاً حقك في أن تأكل حقّ مقدَّس ، وحقك في أن تعمل حقّ مقدس ، لذلك إذا افتقر الإنسان ولم يجد له طعاماً فله حقّ في بيت مال المسلمين ، لأن هذه حاجة أساسية ، لا يمكن أن تقفَ على قدميك من دون طعامٍ وشراب ، وربما كان شهر الصيام لَفْت نظرٍ لطيفٍ إلينا لإشعارنا بضعفنا وعبوديتنا وحاجتنا إلى الطعام والشراب ، فهذه سنة الله في الخلق .

 

مكانة التجار في الإسلام :


﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ﴾ يأكلون الطعام افتقاراً إلى الطعام والشراب ، ويمشون في الأسواق افتقاراً إلى كسب ثمن الطعام والشراب .

شيء آخر ؛ لذلك أحلَّ الله البيع وحرَّم الربا ، أحلَّ التجارة ، وتسعة أعشار الرزق في التجارة : إن أطيب الكسب كسب التجار ؛ الذين إذا حدثوا لم يكذبوا ، وإذا وعدوا لم يُخلفوا ، وإذا ائتمنوا لم يخونوا ، وإذا اشتروا لم يذموا ، وإذا باعوا لم يطروا ، وإذا كان لهم لم يعسروا ، وإذا كان عليهم لم يمطلوا ..

سبعُ صفات من صفات التُجَّار الصادقين المؤمنين ، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام ليقول : عن أبي سعيد الخدري  :

(( التَّاجرُ الصَّدوقُ الأمينُ معَ النَّبيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهداءِ . ))

[  ابن مفلح  : الآداب الشرعية  :خلاصة حكم المحدث  : إسناده جيد :  أخرجه الترمذي  ]

لماذا ؟ هو لم يجاهد ، ولم يقاتل ، ولم يدعُ إلى الله ، ولم يعلِّم ، ولكنه أظهر للناس الإسلام بعمله ، دعا إلى الله بعمله ، والدعوة إلى الله بالعمل أبلغ بكثير من الدعوة إليه بالقَول ، لأن الناس يتعلَّمون بعيونهم لا بآذانهم ، ولأن لغة العمل أبلغ من لغة القول ، فربنا سبحانه وتعالى جعل هذه الآية أصلاً في أن التجارة ، والصناعة ، والزراعة ، والحِرَف ، والمِهَن ، والخدمات ، والمهن الفكرية كلها معايش ، أي وسائل لكسب الرزق ، وهي مشروعة . 

النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى شابَّاً يصلي في المسجد سأله :  مَن ينفق عليك ؟ قال : أخي ، قال : أخوك أعبد منك  ، الحياة عمل ، والشيء المعروف عن سيدنا عمر لما رأى إنساناً يقرأ القرآن في المسجد قال : " إنما أنزل هذا القرآن ليُعْمَلَ به أفتخذت قراءته عملاً ؟! " الصحابة الكرام كانوا رهباناً في الليل فرساناً في النهار ، والنبي عليه الصلاة والسلام حينما أمسك يد سيدنا عبد الله بن مسعود رآها خشنة مِن أثر العمل ،  فقال : هذه اليد يحبها الله ورسوله  ، وربنا عزَّ وجل قال :

﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)﴾

[ سورة التوبة  ]

والنبي عليه الصلاة والسلام يقول : عن طاووس بن كيسان اليماني : عن عبدالله بن عمر :

(( بُعِثتُ بالسيفِ بينَ يدَي الساعةِ حتى يُعبدَ اللهُ وحدَه لا شريكَ له ، وجُعِلَ رزقِي تحتَ ظلِّ رمحِي ، وجُعِلَ الذلُّ والصغارُ على مَن خالف أمرِي ومَن تشبَّه بقومٍ فهو منهم . ))

[ ابن باز  : مجموع  فتاوى ابن باز  : خلاصة حكم المحدث  : ثابت  : أخرجه البخاري معلقاً بصيغة التضعيف ]

ويقول الله عزَّ وجل :

﴿ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)﴾

[  سورة الأنفال ]

 

من يدّعي أن على الإنسان ألا يعمل فهو إنسان ضلّ عن الطريق الصحيح :


بعضهم يعتذر عن السعي لكسب الرزق بأصحاب الصفَّة ، أصحاب الصفَّة فئةٌ من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كانوا فقراء ، وكانوا يجلسون في زاوية المسجد ، وسُمِّيَت الزاوية حتى الآن الصفَّة ، بعد مقام النبي عليه الصلاة والسَّلام ، بعد أن يزار النبي ويتجه الزائر إلى جهة الجنوب ، ويتجه نحو الغرب ، هناك منصة مرتفعة في الحرم النبوي هذه اسمها الصفَّة ، كان أصحاب النبي عليهم رضوان الله الفقراء يقبعون بها ، وكان النبي إذا جاءته الصدقة بعث بها إليهم ، وإذا جاءته الهدية أكلها معهم ، لكنهم كانوا يعملون ، كانوا يؤدُّون خدماتٍ للمسجد ، كما جاء في صحيح البخاري ، كانوا يسوقون الماء للمسجد النبوي الشريف ، وكان يحتطبون له ، أي يقدِّمون أكثر الحاجات لهذا المسجد ، فهذا أيضاً عمل ، فهذا الذي يدّعي أن الإنسان عليه أن يقبع في بيته ولا يعمل ، هذا إنسان ضلّ عن الطريق الصحيح ضلالاً بعيداً . 

 

الله عزَّ وجل طالبنا بالأسباب لأنها سنة الله وسنة رسوله :


قال بعض المفسرين : " الأسباب والوسائط - الأسباب كسب الرزق ، من خلال الصناعة ، التجارة ، الزراعة ، العمل اليدوي ، المهن ، الحرف ، الخدمات العالية - الأسباب والوسائط سنة الله وسنة رسوله ، وهو الحق المبين ، والطريق المستقيم الذي انعقد عليه إجماع المسلمين " . فهذا الذي له عمل يجب أن يفتخر ، بل إن سيدنا عمر رضي الله عنه يقول : " إني أرى الرجل لا عمل له فيسقط من عيني "

وهناك من يستنبط أن الله عزَّ وجل طالبنا بالأسباب ، فربنا سبحانه وتعالى كان بقدرته أن يجعل البحر طريقاً يبساً ، ماذا قال لسيدنا موسى ؟ قال :

﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)﴾

[  سورة الشعراء  ]

وفي آية أخرى : 

﴿ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)﴾

[  سورة البقرة  ]

إذاً يجب أن تأخذ أنت بالأسباب ، والسيدة مريم ، كان الله عزَّ وجل في قدرته أن يسقط عليها التمر قال :

﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)﴾

[  سورة مريم  ]

إذاً لابدَّ من السبب ، لابدَّ من التحرُّك ، وعندئذٍ ربنا سبحانه يقدِّم لك كل شيء . 

 

أدلة من الكتاب والسُّنة على ضرورة العمل وطلب الرزق :


ربنا عزَّ وجل قال :

﴿  وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ(22)﴾

[ سورة الذاريات ]

بعض المسلمين يفهمون هذه الآية فهماً خاطئاً ، يقول : على الله الرزق ، معنى كلمة الرزق في هذه الآية تعني المطر فقط ، المطر وحدها تكفي ؟ ألا تحتاج إلى زرع البذور ؟ إلى غرس الأشجار ؟ إلى تسميد التربة ؟ إلى حرث التربة ؟ إلى قطف الثمار ؟ إلى معالجة الأمراض ؟ من يدَّعي أن الرزق على الله عزَّ وجل أخذاً من هذه الآية : ﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ(22) ﴾ هذا فهمٌ مغلوط ، معنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى ينزِّل عليكم أسباب الرزق وهو المطر ، وأنتم عليكم أن تعملوا ، والدليل :

﴿ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13)﴾

[  سورة غافر  ]

 وقال :

﴿ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)﴾

[  سورة الفرقان  ]

والنبي عليه الصلاة والسلام يقول : عن عائشة أم المؤمنين 

(( اطلُبوا الرزقَ في خَبَايا الأرضِ . ))

[  العجلوني  : كشف الخفاء  :  خلاصة حكم المحدث  : إسناده ضعيف  ]

هناك إشارات :

﴿  لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى(6)﴾

[ سورة طه  ]

أيْ الله عزَّ وجل أودع في الأرض طاقات مذهلة ، طاقات كامنة ، أودع فيها ثروات لا يعلمها إلا الله ، فكلَّما تقدَّم العلم اكتُشِفَ شيءٌ جديد ما كان في الحُسبان ، الله عزَّ وجل على كل شيءٍ قدير .

 

فهمٌ سقيمٌ خاطئ حينما يَفْهَمُ المسلم أن الحياة بالتوكُّل :


نبقى في هذه الآية يقول عليه الصلاة والسلام : عن أبي هريرة :

(( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلا فَيَسْأَلَهُ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ.))

[ صحيح البخاري  ]

العمل شرف ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول : عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه  :

(( لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ - الطير كيف ترزق ، هل تبقى في أعشاشها ؟ قال : تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا . ))

[ الزرقاني  : المقاصد  : حكم المحدث  : صحيح ]

إذاً يوجد غدو ، ويوجد رواح ، يوجد حركة إذاً ، يوجد سعي ، يوجد طَلَب ، يوجد أخذ بالأسباب ، إذاً فهمٌ سقيمٌ خاطئ حينما يَفْهَمُ المسلم أن الحياة بالتوكُّل ، والحياة بالاستلقاء ، والحياة بالتلقِّي ، الحياةَ بالعمل ، وحجمُك عند الله بحجم عملك ، والآيات ، والأحاديث ، والسيَرُ ، وآثار أصحاب رسول الله والتابعين والعلماء الأجلاء كلها تؤكِّد أن العمل شرف . 

أهل اليمن كانوا يحجون ولا يتزوَّدون ، ويقولون : نحن المتوكِّلون ، فمرة قال لهم سيدنا عمر : " كذبتم ، المتوكل مَن ألقى حَبَّةُ في الأرض ثم توكَّل على الله " ، حتى إنَّه قد نزل فيهم قرآن ، وقد نزل فيهم قوله تعالى :

﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)﴾

[  سورة البقرة  ]

إذا ذهبت إلى الحج فتزوَّد ، أنْ تكون عالةً على الناس ، أن تأكل من طعام الناس ، مِن فتات الناس ، هذا لا يليق بالمسلم. 

 

التوكُّل محله القلب والعمل مكانه الجوارح :


هذه الآية : ﴿ وَتَزَوَّدُوا ﴾ يؤخذ منها أحكامٌ كثيرة ، التوكُّل معناه أن تأخذ بالأسباب لا أن تأخذ جُهْدَ غيرك ، ولا أن تكون عالةً على غيرك ، عندنا شيء مهم جداً ، التوكُّل محله القلب ، مكانه القلب ، والعمل مكانه الجوارح ، فالمسلمون في أيام تأخُّرِهِم وضعفهم عكسوا الآية ، فأصبح توكلهم في الجوارح ، وكسبهم في القلب ، غلط ، التوكل مكانه القلب ، هو استسلام لله ، رضا بحكم الله ، بقضائه ، لكن الجوارح عليها أن تعمل ، الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه ، سأله أحدهم : " أريد أن أحج على قدم التوكُّل " ، فقال : " اخرج وحدك " ، قال : " لا ، أريد أن أكون مع الناس " ، قال : " إذاً أنت متكلٌ على أجربتهم " . أي على طعامهم وشرابهم ، إذا كنت تريد أن تخرج مع الناس فأنت متوكلٌ على أجربتهم لا على الله عزَّ وجل ، لو أنك توكَّلت على الله لسعيت في كسب الرزق ، ولأخذت معك زاداً إلى الحج ، إذاً كل هذه المعاني مستنبطة من أن هذه الآية أصلٌ في كسب الرزق وطلبه . 

 

الأسواق هي أبغض البلاد إلى الله لأنها تشعر الفقير بحرمانه :


شيءٌ آخر ، يقول النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة :

(( أَحَبُّ الْبِلادِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا ، وَأَبْغَضُ الْبِلادِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا . ))

[ صحيح مسلم  ]

يا ترى ما السبب ؟ لأن السوق فيه بضاعة ، بضاعة مُزَيَّنَة ، معروضة عرضاً شيِّقاً ، يمر الفقير ويمر الغني ، فقد يمر الفقير وليس في إمكانه أن يشتري هذه البضاعة ، يشعر بالحِرمان ، يشعر أن الله قد حَرَمَهُ الدنيا ، فعرضُ البضائع ، وتزيينها ، وإغراء الناس بشرائها ، وبيان ميِّزاتها ، فهل كل إنسان يملك ثمن هذه البضاعة ؟ فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول : (( وشرها أسواقها )) .

هناك شيء آخر ؛ الأسواق تحبب بالدنيا ، يروى أن امرأة دخلت مكاناً للبيع فخماً جداً ، فقالت : " يا إلهي ، طبعاً ، ما أكثر الحاجات التي لا يحتاجها الإنسان " ، كلها أشياء كمالية ، الأساسية موجودة ، معظم الناس الأشياء الأساسية موجودة ؛ من طعامٍ ، وشرابٍ ، ومأوى ولباس ، ولكن التسابق ، والتنافس ، والتناحر ، ودفع الدين مُقابل الدنيا ، والكذب ، والنفاق ، والتملق ، والكفر ، والإلحاد من أجل الرفاه لا من أجل شيء أساسي ، أليس الله بكافٍ عبده ؟ عن عبد الله بن عمر  :

(( مَنْ أصبَحَ منكمْ آمنًا في سِرْبِهِ  ، معافًى فِي جَسَدِهِ  ، عندَهُ  ، قوتُ يومِهِ  ، فكأنَّما حِيزَتْ لَهُ الدنيا بحذافِيرِهَا))

[  صحيح الجامع  : خلاصة حكم المحدث  : حسن  ]

فالأساسيات موجودة ، ولكن التنافس البغيض ، وبيع الدنيا بالدين من أجل الرفاه والكماليَّات ، إذاً أولاً : السلعُ تحبِّب الناس بالدنيا وقد تصرفهم عن الآخرة ، وقد يعظِّم الإنسان صانعي هذه السلَع ، يراهم أناساً متفوِّقين ، فإذا عظمهم مَن هَوِيَ الكفرة حشر معهم ، ولا ينفعه عمله شيئاً ، أو أنها تكون أغلى مِن دخل الإنسان فيشعر بالحِرمان ، أو أن هناك اختلاطاً بالنساء ، فهذا يؤدِّي إلى الفسوق والفجور ، فالنبي هكذا قال : (( أَحَبُّ الْبِلادِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا وَأَبْغَضُ الْبِلادِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا )) هذا فضلاً عن بيوعٍ فاسدة ، وأيمانٍ باطلة ، وانحرافات سلوكية ، ونظرٍ للحرام ؛ هذا كله في الأسواق . 

 

الله عز وجل جعل بعض الناس لبعضهم فتنة :


لذلك الإنسان إذا جاء للمسجد وشعر بسرور وراحة فهذه علامة طيبة ، والمؤمن في المسجد كالسمك في الماء ، والمنافق في المسجد كالعصفور في القفص ، دائماً متضايق : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا(20)﴾ هذه آية دقيقة جداً ، الله سبحانه وتعالى جَعَلَ الفقير فتنةً للغني ، أيحتقره ؟ أيحرِمُهُ ؟ فُتِنَ الغني ، وجعل الغني فتنةً للفقير ، أيعظِّمَهُ من دون الله ؟ أيتضعضع أمامه ؟ أيأخذ منه ما ليس له ؟ أيحسده ؟ فالغني فتنةٌ للفقير ، والفقير فتنةٌ للغني ، وجعل القوي فتنة للضعيف ، أيستكين هذا الضعيف ؟ أتنهار معنويَّاته ؟ أيحسده ؟ وجعل الضعيف فتنة للقوي أيستطيل عليه ؟ أيبغي عليه ؟ أيحتقِرُهُ ؟ وجعل الصحيح فتنة للمريض ، وجعل المريض فتنة للصحيح ، وجعل العاجز فتنة للسليم ، وجعل السليم فتنة للعاجز ، هذا معنى قوله تعالى : ﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ﴾ .

وعلى مستوى النساء جعل التي تفوَّقت في جمالها فتنةً للتي تَدَنَّىَ مستوى جمالها ، فالمؤمنة إذا عرفت ربها ، واستقامت على أمره فهي عنده غاليةٌ جداً ، وربما أسعدها في الدنيا والآخرة ، أتندب حظَّها ؟ أتنسى نعمة ربِّها عليها ؟ أتغمط نعمة الإيمان ؟ نعمة الهدى ؟ وقد جعل الله سبحانه وتعالى الأُخرى فتنةً للأولى ، أتستعلي عليها ؟ أتباهيها بجمالها ؟ أي هذه الحظوظ الموزعة في الدنيا وزِّعت توزيع ابتلاء ، وسوف توزَّع في الآخرة توزيع جزاء : ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20) ﴾ أحياناً الله يجعلك صحيح البدن ، وترى إنساناً آخر مُبتلى بأمراض كثيرة ، أتقول : أنا معتن بصحتي ؟ لا . قل : يا ربي لك الحمد ، أنت أكرمتني بهذه الصحة ، وأرجو الله أن يشفي فلاناً ، هذا على مستوى المال ، على مستوى الصحة ، على مستوى القوة ، على مستوى الجاه ، أنت عندك بيت ملك ، وفلان ليس له بيت ملك ، فتقول له : ألا تشتري بيتاً ماذا جرى لك ؟ فهل شراء البيت بيده ؟ هذا كلام فيه كِبْر ، كلام فيه عجرفة ، الله عزَّ وجل أكرمك ببيت ، والآخر لا يملك بيتاً ، أحياناً الإنسان يؤتيه الله شيئاً من الدنيا ينسى أنه فضلٌ مِن الله ، يظن أنه بذكائه ، وحنكته ، يستعلي بها على الآخرين ، فالغني مفتون بالفقير ، والفقير مفتون بالغني ، والضعيف مفتون بالقوي ، والقوي مفتون بالضعيف ، والصحيح مفتون بالعليل ، والعليل مفتون بالصحيح ، والكبير بالصغير ، والصغير بالكبير ، وصاحب الحسب والنَسَب مفتون بمن ضعف حسبه ونسبه . 

 

الإنسان دائماً ممتحن وعلامة معرفتك بالله صبرك على حكمه :


الإنسان إذا نجَّاهُ الله عزَّ وجل مِنَ الفتنة قال : أن يحبس كل منهما نفسه ، الغني  عن البطر والفقير عن الضجَر ، الغني يجب أن يحبس نفسه عن البطر ، والفقير يجب أن يحبس نفسه عن الضجر ، والفتنة في أدق تعاريفها : " أن يحسد المبتلى المعافى ، وأن يحقر المعافى المبتلى " ، واللهِ أنت دائماً ممتحن ، أصابك شيء مزعج ممتحن ، لم تصبر ، لم تتجمل ، لم ترض ، أصابتك نعمة فأنت ممتحن ، لم تشكر ، لم تتواضع ، لم تخضع لله عزَّ وجل ، فأنت على الحالتين ممتحن ، في العطاء والمنع ، في القوة والضعف ، في الغنى والفقر ، في الصحة والمرض ، في إقبال الدنيا وفي إدبارها ، ﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ﴾ أتصبرون على حكم الله ؟ لا يصبر إلا من عرف الله عزَّ وجل ، فعلامة معرفتك بالله صبرك على حكمه ، لذلك قال سيدنا علي : " الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين " .

 

كلما عرفت الله تواضعتَ له ورأيت فضله :


﴿ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا  ﴾ .. تكلم ما شئت ، لكن الله هو البصير ، يعلم السر وأخفى ، أي شعورك الداخلي ، إعجابك بنفسك ، تواضعك لله ، اعتزازك بذاتك ، استكبارك ، كله عند الله معلوم ومكشوف ، لذلك جاء في بعض الأحاديث الشريفة : " ويلٌ للعالم من الجاهل " العالم ويلٌ له من الجاهل ، يحتقره ؟ فهو أجهل منه ، لا يعلمه ، فقد عبر عن بخله بأن كتم العلم ، ويلٌ للعالم من الجاهل وويلٌ للجاهل من العالم ، لا يتعلم منه ، يستكبر عليه ، يعرض عنه ، ويلٌ للمالك من المملوك ، ويل للمملوك من المالك ، ويلٌ للسلطان من الرعية ، ويلٌ للرعية من السلطان ، حديث طويل ، كما قال الله عزَّ وجل : ﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ﴾ ويلٌ للضعيف من القوي ، والقوي من الضعيف ، فأنت ممتحن في كل الأحوال ، في إقبال الدنيا وفي إدبارها ، انتبه :

﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)﴾

[  سورة العنكبوت ]

فكلما عرفت الله تواضعتَ ، وكلما عرفت الله رأيت الفضل ، وكلما عرفت الله عزوت الفضل لأهل الفضل .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور