وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 10 - سورة لقمان - تفسير الآيات 21 - 26 النعم الظاهرة والباطنة والابتعاد عن العادات
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

تسخير الكون للإنسان تسخير تعريف وتسخير تكريم:


أيها الإخوة الأكارم؛ مع الدرس العاشر من سورة لقمان.

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾ .. اتضح لكم في الدرس الماضي كيف أن الله سبحانه وتعالى سخر الكون كله لهذا الإنسان، والمسخَّر له دائماً أكرم على الله عز وجل من المسخَّر، إذاً: الإنسان هو المخلوق الأول. 

والشيء الثاني؛ أن هذا التسخير هو تسخير تعريف وتسخير تكريم، وردّ فعل التعريف هو الإيمان، وردّ فعل التكريم هو العرفان والشكران، لذلك قال الله عز وجل: 

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾

[ سورة النساء ]

أنت إذا عرفت وشكرت حققت الهدف من وجودك، إذا عرفت ولم تشكر كمعظم الناس، أو أن تشكر من دون أن تعرف هذا لا يكون. 


  كلّ شيء في الكون يرشد إلى الله:


إذاً: الكون مسخر من أجل هذا الإنسان تسخير تعريف وتسخير تكريم، عبّر عن هذا النبي صلى الله عليه وسلم حينما نظر إلى الهلال فقال: "هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ" ، ينفعنا في الدنيا، ويرشدنا إلى خالقنا، وهذا يجب أن ينطبق على كل شيء في الكون، إذا أمسكت بكأس ماء وشربته، هذا الماء خير لجسمك، ورشد إلى ربك، الطعام، الشراب، ابنك، الشمس، القمر، الأسماك، الأطيار، النباتات، الأشجار، الخضراوات، أي شيء تراه عينك خير لك، مسخر لك تكريماً وتعريفاً، فينبغي أن تؤمن، وأن تشكر، فإذا آمنت وشكرت توقفت عنك المعالجة. 

عندما يقرر طبيب استئصال كلية لمريض، والدليل أنها متوقفة عن العمل، قبل أن يجري العملية لابدّ من صورة جديدة، فإذا صُوِرت الكلية مجدداً، واتضح أنها تعمل هل بقي للعملية مسوغ؟ آية رائعة جداً: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾ أي هذا العذاب، هذا الضيق، هذا الفقر، هذا الإلجاء، هذه المشكلات التي تضغط على الإنسان لماذا؟ الجواب واضح: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾ ، هناك ضعف في الإيمان، أو ضعف في الشكر، إذاً هذا معنى قول الله عز وجل: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ .

 

علاقة الإنسان بالمجرات البعيدة:


قد يسأل سائل: ما علاقتنا بالمجرات البعيدة؟ وكيف أنها سخرت لنا؟ الإجابة عن هذا السؤال: إما أن يكون التسخير مباشراً أو غير مباشر. 

 

معنى النعم الظاهرة والنعم الباطنة:


﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ .. وحدثتكم في الدرس الماضي كيف أن هذه النعم الظاهرة التي تعارف الناس على أنها نعم، كنعمة الصحة، والفراغ، والمال، والوجاهة، والمكانة، والزواج الناجح، والأولاد الأبرار، والمنزل الواسع، هذه كلها نعم، وألوان الأطعمة والأشربة، هذه ظاهرة، أما الباطنة هناك من النعم الباطنة ما لا سبيل إلى حصره، بالمعنى الأول نِعَم، البكتيريا في الأرض، الخلايا التي في الدماغ، الأجهزة الدقيقة جداً في جسم الإنسان، هذه نِعم لا تعرفها أنت إنها نعم باطنة.

والمعنى الآخر أن كل مصيبة يسوقها الله عز وجل للإنسان تكون هذه المصيبة سبباً في هدايته، إنها من النعم الباطنة، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: عن صهيب بن سنان الرومي :

(( عَجِبْتُ لأمرِ المؤمنِ ، إنَّ أمرَهُ كُلَّهُ خيرٌ ، إن أصابَهُ ما يحبُّ حمدَ اللَّهَ وَكانَ لَهُ خيرٌ ، وإن أصابَهُ ما يَكْرَهُ فصبرَ كانَ لَهُ خيرٌ ، وليسَ كلُّ أحدٍ أمرُهُ كلُّهُ خيرٌ إلَّا المؤمنُ. ))

[ صحيح مسلم: السلسلة الصحيحة : خلاصة حكم المحدث:  إسناده صحيح على شرط مسلم  ]

أما معنى: ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ﴾ ، إسباغَ النعمة إتمامُها وتوسعتها. 

أحياناً بعد أن تأكل تقدَّم لك الفواكه، وبعد الفواكه الحلويات، وبعد الحلويات القهوة أو الشاي، وبعدها تُعطَّر، وبعدها تودَّع إلى خارج البيت، وقد تعطى هدية، انظر إلى الإتمام، والعوام يقولون: المعروف بالتمام، ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ﴾ أي أتمّها، أعطاكم تفصيلاتها، أعطاكم جزئياتها ظاهرة وباطنة. 

 

نعم الله لا تعد ولا تحصى ومع ذلك كان الإنسان أكثرَ شيء جدَلاً:


﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ﴾ ..كل هذه النعم، نعم الوجود، نعم الإمداد، نعم الإرشاد، نعم الأمن، نعم الاستقرار، نعم الأجهزة السليمة، نعم الحياة الأسرية، نعم أنك وجدت لتعرف الله عز وجل، نعم أنك المخلوق الأول والمكرم، كل هذه النعم ومع ذلك تجادل؟!

مرة كنت أودِّع صديقاً لي في المطار، رأيت طفلاً صغيراً يركض في أبهاء المطار، وسطه كرة، وضع له فوط كثيرة جداً، السبب معروف، قلت: هذا الطفل بهذا المنظر حينما يكبر، ويصبح شخصية مهمة، وينسى أن الله قد خلقه من لا شيء، أو خلقه من ماء مهين، ينسى أن الله عز وجل أنعم عليه بالإيجاد، أنعم عليه بالإمداد، كل هذه النعم ينساها، ويجادل، ويقول لك: هات لي دليلاً مادياً على وجود الله؟! انظر كيف يكفر الإنسان. 

قيل: يا إمام: متى كان الله؟ فقال: ومتى لم يكن؟ متى غاب حتى يحتاج إلى دليل؟  المؤمن يرى الله في كل شيء:

وفي كل شيء له آية                  تدل على أنه واحد

* * *

حينما يكبر الإنسان لا ينبغي أن ينسى طفولته، كيف كان ضعيفاً، كيف أودع الله في قلب أمه الرحمة، كيف سخر له أباً يعمل بجد وتعب ليقدم له حاجاته الأساسية، كيف عاش بين أسرة تحبه، كيف أسبغ عليه جمالاً، ووداعة، ولطفاً، وصفاءً، وذاتية، الأمر الذي جعل أهله يقدمون له كل ما يحتاج عن طيب خاطر، أليست هذه نعم جلّى! 


  المجادلة في الله بغير علمٍ مِن أعظمِ الذنوب:


﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ﴾ والآية دقيقة جداً، لم يقل: والناس، قال: ومن الناس، بعض المعرضين، بعض الكفار، بعض المنافقين، بعض المقصرين، بعض المشركين ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾ .. لا يملك حجة عقلية دامغة، لأن العقل مقياس أودعه الله فينا، ومستحيل أن يأتيك العقل بحجة على عدم وجود الله، الإيمان بالله بالفطرة، وبالعقل، وبالواقع، وبالنقل، فهذا الذي يجادل بغير علم، أيْ لا يملك حجة منطقية صحيحة مقنعة على ما يذهب إليه، دعوته هواء، دعوته بلا أساس، دعوته بلا مقدمات صحيحة، إذا توصل إلى نتائج فالمقدمات غير صحيحة، والمقدمات لا تؤدي لهذه النتائج﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ أي ليس من الممكن أن يملك الإنسان عقلاً راجحاً وأن يهديه عقله إلى الضلال... هذا مستحيل، إلا أن يجعل من عقله أداة لشهواته، العقل المطلق لا يمكن إلا أن يوصلك إلى الله، أما العقل الذي يسخره الإنسان لمصالحه، الإنسان ينطق عن الهوى، النبي عليه الصلاة والسلام بماذا وُصِف؟ 

﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)﴾

[  سورة النجم  ]

أمّا في آخر الزمان فهناك أشخاص كثيرون وما أكثرهم ينطقون عن الهوى، أي يتحدثون بحديث يخدم مصالحهم، يركز فيهم شهواتهم، إذاً: كلامهم أساسه الهوى، وليس أساسه الحق، لذلك قالوا: هناك منطق تبريري، وهناك منطق تقريري، إذا كنت حيادياً وموضوعياً يكون عقلك هادياً لك إلى الحق، أما إذا أردت أن تكون الشهوات هي الأصل، وأنت مصرّ عليها عندئذ تستخدم العقل الذي أودعه الله فيك تبريراً لشهواتك، ولكن هذه الحجج المزيفة لا تلبث أن تتهافت أمام النقل الصحيح، وأمام المنطق القوي، فإذا أردت أن تجادل يجب أن تجادل عن علم، فلان طبيب متخصص، متبحر، متفوق، فإذا أراد أن يكشف أن في القرآن خللاً، ولن يستطيع ذلك، ما من آية وردت في كتاب الله إلا والحقائق العلمية القطعية الدامغة تؤيد كلام الله عز وجل، القرآن كلام خالق الكون، والأفعال أفعاله، والكون خلقه، والفطرة طبيعة أودعها الله في الإنسان، إذاً: لابدّ من أن تلتقي حقائق الكون مع حقائق القرآن مع حقائق الفطرة.

 

تعريف الهدى:


إذاً: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾ .. الهدى كما قال بعض العلماء: السنة، ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، ليس متبحراً في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله، ولا يملك الحجة الدامغة.

وبعضهم قال: الهدى الإلهام، لا إلهام له، ولا علم له، ولا يستند إلى كتاب من عند الله عز وجل، وكأن الله عز وجل بهذه الكلمات الثلاثة أشار: إما علم تجريبي مستنبط من الواقع، وإما إلهام إشراقي، وإما علم بكتاب الله عز وجل يقيني، فإن لم تملك علماً بكتاب الله، ولا إشراقاً نفسياً، ولا علماً منطقياً بحجة دامغة فلماذا تجادل؟ 

 

اتباع التقاليد حجة الجاهلين والضعفاء:


الآن؛ ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ ..انظر الناس دائماً يألفون ما شبوا عليه، فكل إنسان شبّ على شيء شاب عليه، التكليف مُكْلِف، التكليف يحتاج إلى إرادة، أما إذا ضعفت الإرادة، والإنسان أراد أن ينساق مع بيئته، مع مجتمعه، مع معطيات محيطه، أن ينساق مع ما ألِفه، مع ما نشأ عليه، هنا المشكلة، أن يعطل الإنسان عقله، وأن ينساق مع محيطه، لذلك يميل الناس، الديانات الوضعية الأرضية التي تؤلّه أشخاصاً أو أصناماً لماذا هي منتشرة؟ هذا سؤال كبير، ديانة السيخ مثلاً في الهند، الهندوس، ديانات كثيرة جداً تؤمن بصنم، تؤمن بإله من بني البشر، إما الشمس، أو القمر، أو البقر، بالمناسبة أكبر قطيع بقر في العالم موجود في الهند، 360 مليون بقرة، لأنهم يعبدونها من دون الله، لا يذبحونها، فهي تعيش في بحبوحة، وفي رعاية تامة لجهل أهلها.

 إذاً: لماذا يؤثر الناس أن يتبعوا هذه الديانات؟ لأنها بلا منهج، بلا أمر، بلا نهي، افعل ما تشاء وصدقنا، اعتقد بنا وافعل ما تشاء، فالقضية غير مُكْلفة، أما المؤمن حينما يقرأ كلام الله عز وجل فالإله له أمر وله نهي، الشهوات يجب أن تنضبط بالشرع، كسب المال يجب أن ينضبط، الحركة منضبطة بمنهج، لذلك الدين الحقيقي مكلف، لأن الجنة لها ثمن، والثمن باهظ، من طلب الجنة بغير عمل فقد أذنب، طلب الجنة من غير عمل ذنب من الذنوب، فلذلك تجد الدعوات الأرضية انتشارها واسع جداً، السبب: أن هذه الدعوات لا تكلفك شيئاً، تعطيك الحرية أن تفعل ما تشاء، أن تنطلق في الحركة كما تشاء، ولكن فقط كن موالياً لنا، اعتقد بنا وانتهى الأمر، لكن منهج الله عز وجل ليس كذلك، منهج الله عز وجل يأمرك وينهاك، فلذلك لابدّ للأنبياء من أعداء. 

﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)﴾

[ سورة الفرقان ]

هؤلاء المتضررون من دعوات الأنبياء يعادون الأنبياء.  

 

لا تشريع إلا ما شرع الله ورسوله:


﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ .. أي بأمر الله عز وجل لا يوجد زنى، ليس هناك خمر، ليس هناك عدوان على الأموال، ليس هناك ربا، ليس هناك تجاوز، ليس هناك أكل مال بغير حق، ألا إن سلعة الله غالية، الجنة ثمنها باهظ، وهو أن تنضبط، وسمي التكليف تكليفاً لأنه ذو كلفة، وما من أمر إلهي إلا ويتعارض في ظاهره مع طبع الإنسان، الطبع يميل إلى النوم، الأمر قُم وصلِّ الفجر، الطبع يميل إلى أخذ المال التكليف أنفق المال، الطبع يميل إلى إطلاق البصر الأمر غض البصر، الطبع يميل إلى إخراج الغيظ الأمر بكظم الغيظ، الطبع يميل إلى الزوجة، ويكره الأم، وقد تقدمت بها السن، وأصبحت عبئاً، الأمر برّ الوالدين، الطبع بقول لك: تحدث عن فلان ماذا فعل، قصته رائعة جداً، تسلي الحاضرين، تحدث عنها، التكليف ولا يغتب بعضكم بعضاً، الطبع والله فلان له شكل مضحك، قلَّده، أضْحك الآخرين،  التكليف: ﴿وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ﴾ ، ﴿لاَ يَسْخَرْ قَوْمُ مِنْ قَوْمٍ﴾ ، إذاً: حينما تطيع الله عز وجل تبذل كلفة، وهذه الكلفة هي ثمن الجنة، تصور أن أمر الله عز وجل يتمشى مع طبعك تماماً، لم يعد هناك طائعون، لا تُعدُّ هذه الطاعة طاعة، لا قيمة لها إطلاقاً، تصور إنساناً في درجة عطش شديد، قلنا له: إن الله يأمرك أن تشرب الماء البارد، يقول: جزاك الله خيراً، ماذا فعل هذا؟ إنسان عطشان، وأبلغته أن أمر الله أن يشرب ماءً بارداً، أي إذا جاء أمر الله عز وجل موافقاً للطبع لم يعد طاعة، لا قيمة لهذا الأمر، لذلك أمر الله مُكْلف، قال عليه الصلاة والسلام:

(( عن عبدالله بن عباس  أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : مَن أنظَرَ مُعسِرًا أو وضعَ لهُ وقاهُ اللهُ مِن فَيْحِ جهنَّمَ ألا إنَّ عملَ الجنَّةِ حَزنٌ بِرَبوةٍ ثلاثًا ألا إنَّ عملَ النَّارِ سَهلٌ بسَهوةٍ، والسَّعيدُ مَن وُقيَ الفِتنَ وما مِن جرعةٍ أحبَّ إلى اللهِ من جَرعةِ غَيظٍ يكظِمُها عبدٌ ما كظَمها عبدٌ للَّهِ إلَّا ملأَ جوفَه إيمانًا ))

[ ابن كثير المصدر تفسير القرآن العظيم، حديث حسن،  أخرجه أحمد واللفظ له ]

أي الإنسان يتعامل مع شهواته، مع بيئته، مع تقاليده، مع عاداته، مع ما نشأ عليه، مع راحة جسده، مع متطلبات نفسه، فتجد أن عمل النار سهل بسهوة، ليس غريباً أن تجد مشقة في طاعة الله عز وجل، المشقة في طاعة الله هي ثمن الجنة، فلذلك: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ الاختلاط محبب للإنسان، طبعاً إذا كان بمنطق الشهوة، إذا كان الإنسان جالساً في مجلس فيه نساء يبدو منهن ما يجب أن يخفى، وهو يُمَتِّع نظره بهن، هذه الجلسة المختلطة أحبّ إلى نفسه من عدم الاختلاط، لكن الله عز وجل نظَّم لك العلاقات الاجتماعية، وجعل شهواتك التي أودعها فيك لها قنوات نظيفة، هذه الشهوة مسموح لك أن تستمتع بزوجتك فقط، وما سوى ذلك يجب أن تغض البصر، يوجد محارم ويوجد زوجة  ويوجد أجنبيات، أما أهل الدنيا فكل ذلك عندهم مباح. فلذلك حينما يستقيم الإنسان على أمر الله يشعر أنه عمِل عملاً عظيماً، يشعر أن الله يحبه، أن الله راض عنه، حينما يترك شهوات الدنيا يتجلى الله عليه بسعادة عليا، لذلك قال أبو يزيد البسطامي رحمه الله تعالى: "لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عيه بالسيوف"

كنت أقول لكم من قبل: حياة المؤمن نظيفة، ليس في حياته التواء، خيانة، موقف مبطن، خداع، علاقات مشبوهة، عمل في الظلام، بيت آخر غير بيته الصحيح، امرأة أخرى في حياته غير زوجته، حياة المؤمن حياة نظيفة واضحة، فلذلك أكبر غلط يقع فيه الإنسان أن يعدّ ما ألفناه في بيئتنا مشروعاً، يجب أن تزين ما ألفته في بيئتك بميزان الشرع، هكذا المؤمن، والله الناس كلهم هكذا، هذا كلام مضحك، هكذا نشأنا، هكذا تربينا، هكذا أهلي، هكذا أبي علمنا، هكذا نحن عشنا في بيت واحد، لا يوجد عندنا حاجب وبوّاب، نحن لا نحب التفرقة، هذا كله كلام غير مقبول، من أنت حتى تشرع؟ خالق الكون شرع لك، لذلك لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، يقول لك: هذه مثل أختي، لا، ليست مثل أختك، هذه أجنبية عنك، أختك من أمك وأبيك.

﴿ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)﴾

[  سورة المجادلة ]

فالإنسان لا يتجاوز الحدود، لا يتعدى، لا يشرع، لا يقنن من عنده، لا يتفلسف على الشرع. 

﴿ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)﴾

[ سورة الحجرات ]

 

المؤمن الحق لا خيار له أمام أمر الله عز وجل:


﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ الحقيقة أنّ المؤمن أيها الإخوة الأكارم:

﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)﴾  

[ سورة الأحزاب  ]

أي من أُولى صفات المؤمن أنه إذا ثبت له أن هذا كلام الله، وأن هذا الكلام هكذا تفسيره، عندئذ يُلغى اختياره، تختار أن تشتري هذا البيت أو هذا البيت، أن تخطب هذه الفتاة أو هذه الفتاة، أن تسافر أو لا تسافر، أن تعمل أو لا تعمل، أما أن تختار أن تطيع أو لا تطيع فليس هذا من شأن المؤمن، ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ إذا كنت مؤمناً حقاً فليس لك خيار أمام أمر الله عز وجل، إذا كنت مؤمناً حقاً أمام أمر الله، وما صحّ من حديث رسول الله، وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ليس لك رأي، تقول: أنا رأيي كذا، معقول هذا الحكم؟ أم غير معقول؟ الوقت صعب، نحن في آخر الزمان، العالم تبدل، العصر عصر علم، لم يعد هناك هذه التعقيدات، هذا كله كلام الجاهلية، إذا كان هذا أمر الله ثابتاً عندك يجب أن يُلغي اختيارك، هذه الآية.

 

لا دعوة للشيطان إلا إلى النار:


﴿قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ .. أي الشيطان يدعوهم عن طريق التمسك بآبائهم وأجدادهم وتقاليدهم وعاداتهم إلى عذاب السعير، وأقرب مثل إلينا دمشق المسلمة المؤمنة، يقول لك: هذه شام شريف، والدين في الشام، إذا العريس لم يدخل بين النساء الكاسيات العاريات، ولم يجلس على كرسي أمام كل هؤلاء النساء العاريات، شبه العاريات فعمله مستهجن، هذه واحدة.

ثم قد تجد في بعض الحفلات نصور المدعوات، وهنّ في أبهى زينة، ونقتني الشريط ونعرضه، هذه امرأة فلان، أيُّ دين هذا؟ أيُّ شرع هذا؟ هكذا التقاليد الآن، إذا لم يكن في حفلة العرس تصوير فليس لها بهجة، والتصوير يعني أن كل هؤلاء النسوة يعرضن أمام أزواج أجانب، وكأنه يراها في أبهى زينتها.

فلذلك أيها الإخوة الأكارم؛ ما دمنا قد وصلنا إلى هذه الآية، هذه التقاليد البالية، والعادات، والأعراف، والإتيكيت، وأصول الاستقبال، دخل إلى البيت والزوج ليس بالمنزل، تفضل، أهلاً وسهلاً، تستقبل الزوجة صديق زوجها قبل أن يأتي، كل هذه الصفات، كل هذه المعطيات الغربية التي جاءتنا من الغرب، هذه لا أصل لها في الدين، فالمسلم الحقيقي الذي يطبق أمر الله عز وجل، ويجعل من بيته بيتاً مسلماً.

 

ضرورة التطبيق العملي للآية التالية:


قال: ﴿أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ ..أرجو أن يكون هناك تطبيق عملي لهذه الآية، الذي أتمناه على كل أخ حاضر، سماع الدرس سهل، أما البطولة فأن تأخذ هذا الكلام مأخذ الجدية، أن تتعامل مع هذا الكلام تعامل رجلٍ، لا يوجد حلّ وسط في هذا الأمر، إما أن تردّ عليه، وإما أن تتبناه، إن كان معك حجة فردّ عليه، أنت بين أمرين، إما أن تكون مع شرع الله، أو مع التقاليد والعادات، وكم من شاب انتكس نكسة كبيرة لأنه استجاب لأهله وانتكس إلى عاداته وتقاليده؟! 

طبعاً أي مجتمع إذا بنِيَ على معصية فهؤلاء المجتمعون على معصية لصالحهم ألا يسمحوا لآخر يطيع الله بينهم، لأنه إذا أطاع الله بينهم كشفهم، وعرّاهم، فلذلك ينقَضُّون عليه، المجتمع الغارق في المعصية ينقض على كل إنسان يريد أن يقيم أمر الله عز وجل، يتهمونه بالتعصب، يتهمونه بالتزمُّت، يتهمونه بالمحدودية، يتهمونه بأنه لا يعيش روح هذا العصر، وليس واقعياً، هذا كلام أهل الدنيا. 

فلذلك لا تذوق طعم القرب من الله عز وجل، لن تقطف ثمار الدين إن لم تستقم على أمر الله، إن لم تضع كل العادات والتقاليد، وهذا الذي جاءنا من الغرب من إتيكيت وتعاملات، إن لم تضع كل هذا تحت قدمك فلن تكون مؤمناً، من عرف نفسه ما ضرته مقالة الناس فيه، فالتطبيق العملي لهذه الآية راجع نفسك، هل في بيتك معاصٍ؟ هل يوجد مخالفات؟ هل يوجد تساهلات؟ هل يوجد إيثار للعادات والتقاليد التي نشأت عليها على شرع الله وأمره؟ 

 

صورٌ من واقع اتباع التقاليد على حساب الشرع: 


1 ـ الاختلاط:

نحن نخجل أن نقول: زوجتي أجنبية على فلان، نستحي ألا نجلس في جلسة مختلطة، كيف بالإمكان أن تصلي صلاة فيها إقبال على الله عز وجل وقبل قليل كنت في معصية؟ أيحق لك أن تنظر إلى امرأة أجنبية لا تحل لك، فضلاً عن أن تلقي بعض الكلمات المضحكة، وأن تضحك الحضور نساء ورجالاً، الاختلاط هو أحد أنواع المعصية.  

2 ـ عادات في البيع والشراء:

في البيع والشراء هناك كثير من عادات، يقول لك: بذمتي، بأمانتي، كلها أيمان كاذبة، أخي هكذا السوق كله، إذا ما كذبنا لا نربح، من قال لك ذلك؟ كل حرفة فيها معاصٍ كثيرة، هذه فيها غش، هذه فيها كذب، هذه فيها وعد كاذب، هذه فيها تدليس، هكذا أهل الحرفة، حتى في بعض المهن هناك فروقات مثلاً، يوجد عبوات، يوجد بعض المخالفات، تجده ماشياً، حتى في بيع السَّلَم، حتى في بيع الوعد.

أنا أتمنى، أن نترك كلمة: (هكذا الناس)، نحن مع المجموع، هكذا نشأنا، هكذا أهل قريتنا، هكذا أهل بلدنا، هكذا علّمني أهلي، أين تسير؟ قف، وراجع كل علاقاتك، راجع كل العادات والتقاليد، راجع كل المعطيات في البيت وفق كلام الله عز وجل، هذا إذا كنت مؤمناً صادقاً، إذا أردت وجه الله عز وجل، إذا أردت أن تقطف ثمار إيمانك، إذا أردت أن يحبك الله ورسوله، لا تقبل شيئاً إلا بدليل قطعي، ولا ترفض شيئاً إلا بدليل قطعي.   

3 ـ من تقاليد الجنائز غير المشروعة:

النبي عليه الصلاة والسلام ماذا قال؟ قال: عن عبد الله بن جعفر:

(( اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَإِنَّهُ قَدْ أَتَاهُمْ أَمْرٌ شَغَلَهُمْ. ))

[ صحيح أبو داود ]

أمر نبوي أن يقدم الطعام لأهل الميت، عندنا الآن بالعكس، أهل الميت فوق مصيبتهم الكبيرة التي قصمت ظهرهم عليهم أن يهيئوا طعاماً لكل من عزّاهم، هذا الطعام أنا أتمنى ألا تحضروه، لأنه خلاف الشرع، الشرع يقول: ((اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَإِنَّهُ قَدْ أَتَاهُمْ أَمْرٌ شَغَلَهُمْ )) الأولى أن يقدم الطعام لأهل الميت، جاءهم ما يشغلهم، أما أن يكلف أهل الميت بإطعام الطعام، وتأمين الطعام الطيب، والحلويات، والفواكه، والطاولات، والكراسي، هذه مخالفة للسنة، هذه عادة من عاداتنا السائدة في مجتمعنا المخالفة للسنة. 

4 ـ من تقاليد عيادة المرضى:

قد يزور الإنسان مريضاً، من عاد مريضاً فأكل عنده شيئاً فهذا حظه من عيادته، هكذا التوجيه، هل من المعقول ألا نضيفه قهوة؟ ما معنى معقول؟! هذا جاء عائداً يعود هذا المريض، يوجد حِكمٌ نبوية كبيرة جداً، لعل هذا العائد الذي يعود هذا المريض يخشى من العدوى، فإذا قدمت له شراباً يتحرج، معه التهاب كبد، معه مرض مُعْدٍ، أنا لا أريد أن أشرب شيئاً، لا يمكن، أنت ضيفنا! أهلاً وسهلاً، يا أخي هكذا توجيه النبي عليه الصلاة والسلام، قد يتحرج الزائر أن يشرب شيئاً، أو أن يأكل شيئاً خوف العدوى، وقد يقدم طعام طيب أو فاكهة طيبة أمام المريض، وقد منع منها فيزداد ألمه، وقد يُكَلف أهل المريض أن يقدموا الضيافة، وهم في شغل عن تضييف الضيوف، فالنبي الكريم وجّهنا أنك إذا عدت مريضاً ينبغي ألا تأكل عنده شيئاً، فإذا أكلت شيئاً فهذا حظك من عيادته، ومن عاد مريضاً فكأنما خاض في الرحمة خوضاً. 

5 ـ من التقاليد الخطيرة في السعي في التزويج:

الآن الكلام الشائع: امش في جنازة ولا تمش في زواج، ماذا تريد بوجع الرأس؟ غداً يتعبونك العريس والعروس؟ أخي أنت كنت السبب تعال وحلّ مشكلتنا، ماذا تريد بوجع الرأس؟ اسمع: "من مشى بتزويج رجل بامرأة كان له بكل كلمة قالها، وبكل خطوة خطاها عبادة سنة، قام ليلها وصام نهارها"، هكذا توجيه النبي، نحن بحاجة ماسة إلى السنة النبوية، أن نعود إلى السنة، كيف عامل النبي أصحابه، لا تقل: أنا ما عرفوا قدري، من أنت؟ النبي عليه الصلاة والسلام قال: وعليّ جمع الحطب، فقال أصحابه: نكفيك، قال: لا، أعلم ذلك، ولكن الله يكره أن يرى عبده متميزاً على أقرانه، الآن العادات والتقاليد أن هذا درجة أولى، هذا أول صف، هذا بطاقة بيضاء، هذا كذا، لا، الناس سواسية كأسنان المشط.

أردت من هذا الكلام أن نعيد حساباتنا، حتى في احتفالاتنا، حتى في مناسبات الحزن، والفرح، الأعراس كلها، الأعراس فيها حفلات اختلاط، وفي الأعراس تصوير، ويوجد بالأعراس دخول العريس أمام المدعوات، هذا كله خلاف السنة، تجد شاباً تقياً، أحياناً الخطيب يُثني عليه في عقد القران، عائلة تقية، مستقيمة، ورعة، بعدها تجد ست أو سبع من المعاصي كبيرة ظهرت من هذه الأسرة. 

 

شروط قبول العمل الإخلاص والصواب:


نحن نريد أن نراجع حساباتنا في كل علاقاتنا، في كل دخولنا، في كل إنفاقنا، في كل نشاطاتنا وفق السنة، لذلك ربنا عز وجل قال، والله يوجد آية تقصِم الظَّهر، قال تعالى: 

﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)﴾

[ سورة الفرقان  ]

أي أعمال كالجبال تصبح يوم القيامة هباءً منثوراً، سئل القاضي الفضيل بن عياض عن معنى هذه الآية فقال: "كل عمل لا يكون صواباً ولا خالصاً لا يقبل، أما خالصاً فهو ما ابتغي به وجه الله، وأما صواباً فما وافق السنة" . الصواب أن يوافق السنة، هكذا، إذاً يحب أن تعرف السنة، يجب أن تعرف سيرة النبي، القصة المشهورة كلكم تعرفونها: ببدر الرواحل قليلة والنبي عليه الصلاة والسلام أمر أن يتعاقب كل ثلاثة على راحلة، هو ماذا فعل؟ قال: وأنا وعلي وأبو لبابة على راحلة، فلما جاء دوره في المشي توسلا إليه أن يبقى راكباً، قال: ما أنتما بأقوى مني على السير، ولا أنا بأغنى منكما عن الأجر. 

إذاً: هل عندك استعداد أن تسوي نفسك مع الناس في كل شيء؟ أن تكون واحداً منهم حتى في بيتك؟ هكذا السنة، كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته لفّ ثوبه، قال: "أكرموا النساء، فوالله ما أكرمهن إلا كريم، ولا أهانهن إلا لئيم، يغلبن كل كريم، يغلبهن لئيم، وأنا أحبّ أن أكون كريماً مغلوباً، من أن أكون لئيماً غالباً" هذه السنة، السنة: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)﴾

[ سورة النساء ]

والمعروف في هذه الآية لا أن تمتنع عن إيقاع الأذى فيهن، بل أن تحتمل الأذى منهن.

إذاً أردتُ من هذه الآية أن نجري حسابات دقيقة، ومراجعات عميقة لكل علاقاتنا، واحتفالاتنا، وأفراحنا، وأحزاننا، وكسب أموالنا، وإنفاق أموالنا، وكل نشاطاتنا، يجب أن تقع وفق الكتاب والسنة. الإسراف مثلاً، أنت هل سمعت ما قلته اليوم في الخطبة:

﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)﴾

[  سورة الأعراف  ]

إذا أسرفت في كل شيء فالله لا يحبك، هذا مال، هناك من هو في أشدّ الحاجة إليه، إن أعطيت ما فاض عنك إلى فقير ارتقيت عند الله عز وجل، أنت كُلْ واشرب، لكن من دون إسراف ولا مخيلة، أنفق، لا يوجد مانع، أنفق ولكن وفق الأصول.

﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)﴾

[  سورة الفرقان ]

 

المؤمن متمسك بأي شيء يقربه من الله:


﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)﴾ .. هذه الآية دقيقة جداً، أولاً: الإنسان أحياناً يتمسك بعروة، هذه العروة ليست وثقى تنخلع بيده، الإنسان قد يتمسك بشيء، فإذا بهذا الشيء ينفلت، هوى، إذاً: هذه العروة غير وثقى، أحياناً تربط مقطورة بقاطرة، فهذه الحلقة الثخينة جداً في مؤخرة السيارة هي عروة، لكن بلغني أن هناك معامل في أوروبا متخصصة في صناعة هذه العُرَوة، لأنها تجرّ مقطورة، فيها عشرون طنًّا، فإن لم تكن وثقى تدهورت المقطورة، إذاً: هناك معامل لا تصنع إلا هذه العروة، وهي متخصصة في صناعتها من أصلب المعادن، ومن أشدّ أنواع الخلائط متانة وقساوة، فالعروة الوثقى، العروة هي الشيء الذي تتمسك به، فإن لم يكن هذا الشيء متيناً انفلت بيدك وهويت معه، أما ما هو الشيء الذي إذا فعلته كأنك تمسكت بعروة وثقى تنجيك إلى يوم القيامة وإلى الأبد؟ قال: ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ .. أحياناً يطيع الإنسان الله عز وجل، لكن وجهته إلى الدنيا، الآية دقيقة جداً، العبرة أن تطيع الله، وأن تتجه إليه، هذا يسمونه أن تكون ربانياً، هناك شخص شهواني، وشخص رباني، معنى ربانياً أي أن تحسن العلاقة مع الله إلى أقصى درجة عن طريق الإقبال عليه، العبادة في بعض تعريفها غاية الخضوع مع غاية الحب، مع غاية الرضا، مع غاية الاستسلام، طاعة وحب، ورضا، واستسلام، وتفويض وتسليم، وإقبال، وصبر، وشكر.. إذاً: ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ﴾ ..أي يقبل عليه بكل وجهته، بكل إمكاناته، بكل طاقاته، بكل أوقاته، بكل استعداداته، ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ﴾ تشاهد أماً في حديقة، وابنها يلعب، تجد هذه الأم مع ابنها، تحدثها فنقول لك: والله ما انتبهت، تشعر أنها ليست معك، إذا كان لك أخت أو قريبة تشعر أنها ليست معك، متجهة إلى ابنها، هذه صورة من صور الاتجاه، أحياناً تكون عين الإنسان على ساعة، على عداد، يملأ البنزين، وهو غالٍ، ومعه مبلغ محدود، فإذا غفل يطالب بأكثر مما معه، فتجد عينه على العداد، لو أنك تكلمت معه، إسلام الوجه الاهتمام الشديد، الإقبال، الانصراف بالكلية، الاهتمام، ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ﴾ أي عرف الله فأقبل عليه، عرف أن الله كل شيء، وليس غيره كل شيء، لا شيء، فلان ليس على شيء، أيْ ما عرف الله عز وجل، لأنك إذا عرفت الله عز وجل عرفت كل شيء، ابن آدم اطلبني تجدني، فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء، إذا عرفت الله عز وجل، إذا عرفت أنه الحقيقة الوحيدة في الكون، الحقيقة الدين الله هو الحقيقة الكبرى، وكل شيء يقرِّب إليه فهو مشروع، وكل شيء يبعد عنه فهو غير مشروع، ملخص دينك: إلهي أنت مقصودي، ورضاك مطلوبي، فأي شيء يا رب يقربني إليك فأنا متمسك به، وأي شيء يبعدني عنك فأنا مبتعد عنه، هذا هو المؤمن.

 

الإنسان لا يسلم وجهه إلى الله إلا إذا وحده وعرفه:


﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ﴾ ..ولكنك لن تستطيع أن تسلم وجهك إلى الله عز وجل إلا إذا عرفته، أحياناً تدخل إلى جهة لك مصلحة مع المدير العام، تجد ثلاثة مع بعضهم، يا ترى مَن المدير العام؟ تنتقي أطول واحد، أوجه واحد، تلتفت إليه باهتمام، تخاطبه، يقول لك: ليس لي علاقة، حدِّثْ فلاناً، تجد فوراً تنصرف عنه نفسياً إلى صاحب القرار، فالمشكلة يجب أن تعرف الله، إذا عرفت أن الله بيده كل شيء أسلمت وجهك إليه، فإذا ظننت أن زيداً وعبيداً أو فلاناً وعلاناً يملكون أشياء كثيرة كيف تتجه إلى الله عز وجل، إذاً: لن تسلم وجهك إلى الله إلا إذا وحدته، واعلم أن الدين كله توحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، إذا عرفت أن الأمر كله بيد الله ارتحت وأَرَحت.

 

من عرف الله وأطاعه وأحسن إلى خلقه فقد استمسك بالعروة الوثقى:


قال: ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ ..العلماء حمّلوا هذه الكلمة الطاعة والإحسان، الأولى حالة قلبية نفسية، ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ﴾ ..أي عرف الله فأقبل عليه.

الحالة الثانية سلوكه أساسه الطاعة والإحسان، إذاً عرفت فاتجهت، أطعت وأحسنت، قال: هذا الإنسان: ﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ ..أي أمسكت بقارب النجاة، أمسكت بحبل الأمان، وصلت إلى مخرج الأمان، وصلت إلى المبتغى، وصلت إلى الطمأنينة، وصلت إلى السلام، والله يدعو إلى دار السلام، من منّا لا يتوق إلى السلام؟! أن يعيش حياة معافى في جسمه، موفقاً في زواجه، مستمتعاً بأولاده الأبرار، له مكانته الاجتماعية، يحبه الله ورسوله، يرى أنه إذا توفاه الله له عند شيء، هكذا، ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ﴾ تعرفه فتقبل عليه، وتطيعه وتحسن إلى خلقه، قال: ﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ .

 

الحكمة من تقديم الحياة على الموت:


﴿وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ .. في الدنيا الباطل له جولات، إن الدنيا عرض حاضر، يأكل منه البرّ والفاجر، والآخرة وعد صادق، يحكم فيها ملك عادل، فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، الآية الكريمة:

﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)﴾

[ سورة الملك ]

لماذا قدم الله الموت على الحياة؟ سؤال دقيق، قدم الموت على الحياة لأن الحياة فيها خيارات كثيرة، لو أن إنساناً دخل العام الدراسي يستطيع أن يدرس أو لا يدرس، يداوم أو لا يداوم، أمامه خيارات كثيرة لكن إذا جاء الامتحان أمامه خياران فقط؛ إما أنه محضر أو غير محضر، غير محضّر مفضوح راسب، محضّر ناجح، فكلما ضاق الاختيار كان الأمر أخطر، فربنا عز وجل قدم الموت على الحياة لأن الموت فيه حالتان فقط: نجاة، أو خزي إلى الأبد. 

 

الله تعالى رحيم بخلقه ولكن من كفر فهذا اختياره: 


في هذه الآية التالية يبين الله عز وجل رحمة النبي عليه الصلاة والسلام قال: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ﴾ ..كان عليه الصلاة والسلام يتألم أشدّ الألم حينما يرى الإنسان قد كفر، لأنه صلى الله عليه وسلم أرحم الخلق بالخلق، الله سبحانه وتعالى يسري عنه يقول له: يا محمد: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ﴾ أي هذا اختيارهم، أنا خيرتهم، ﴿إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ الله سبحانه وتعالى أرحم، لكن هكذا طبيعة الاختيار، هكذا طبيعة التكليف.

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)﴾

[ سورة الأحزاب ]

 

الدنيا متاع قليل زائل:


قال هؤلاء الكفار، دققوا في هذه الآية: ﴿نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً﴾..قد تجد بناء فخماً جداً، بستاناً، مركبة فارهة، رصيداً في المصرف كبيراً جداً، أموالاً تأتيه كالأنهار، إياك أن تقول: هنيئاً له، إياك، إن قلتها مرة واحدة فأنت لا تعرف الله، كما قالوا:

﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)﴾

[ سورة القصص ]

 

العذاب الغليظ عاقبة من كفر بالله:


ربنا عز وجل قال: ﴿نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ .. إذا كنت متيقناً أن إنساناً أركبوه بأفخم مركبة وساقوه إلى الشنق، هل تقول له: هنيئاً لك؟ أو تقول في نفسك: هنيئا ًله على هذه المركبة الفخمة؟ إذا تيقنت أن هذا الإنسان الذي يركب هذه المركبة الفخمة الوثيرة، القوية، الأنيقة، الحديثة الصنع.. إذا تيقنت أنه يُساق بهذه المركبة إلى الإعدام أتقول في نفسك: هنيئاً له على هذه المركبة الفخمة؟! يا ليتني مكانه؟! أعوذ بالله، معنى ذلك لا تعرف شيئاً، قال: ﴿نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً﴾ ، الله قال: نمتعهم، أي عنده بيت جميل جداً، أنت ساكن في بيت صغير، وهو في بيت أربعمئة متر، خمسمئة متر، له سيارتان أو ثلاث، مزارع، مقاصف، مسابح، هل تقول: هنيئاً له؟ الله أعطاه؟ لا، مادام بعيداً عن الدين، متنكباً للحق قال: ﴿نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ فالله عز وجل قال في آيات أخرى:

﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)﴾

[  سورة آل عمران ]

أي أنت إذا كان لك صديق، لك جار، لك رفيق في الدراسة، تفوق في الدنيا، وارتفع، وارتقى، وجاءه دخل وفير، وغيّر حياته كلها، وزها على الناس بما عنده، وأنت في وضع أقلّ بكثير، أنت عرفت الله، واستقمت على أمره، وهو غارق في المعاصي، لمجرد أن تقول: هنيئاً له، لقد أعطاه الله وحرمني فأنت بالتأكيد لا تعرف الله، لقول الله عز وجل:

﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)﴾

[ سورة الأحزاب  ]

 

على الإنسان أن يحمد الله على كل شيء:


إذاً: ﴿نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ .. آخر آية: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)﴾ ..كيف ذلك؟ لماذا الحمد لله؟ قال: لأن هذا الدين الذي اعتنقته أنت، وسرت فيه هو دين الإنسانية كلها، دين الفطرة، دين الحق، دين العلم، دين الواقع، دين الله، فحتى المعرضون، حتى المنافقون،حتى الملحدون، حتى الكفار، إذا سألتهم: من خلق السماوات والأرض؟ ليقولن: الله، إذاً: أنت مع الحق، أنت مع دين الفطرة، أنت مع الدين الذي يُقِر به كل مخلوق، أنت لم تأت بدين خاص غير معترف به، غير معروف، أنت مع الدين الصحيح الذي لو سألت أعداءه: من خلق السماوات والأرض؟ ليقولن: الله، لذلك قل: الحمد لله، احمد ربك يا محمد على أن هذا الدين دين الفطرة، دين الواقع، دين العلم، دين العقل، ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ .


  لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مُلكاً وتصرُّفًا ومصيراً:


﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ .. لله، هذه اللام لام الملك، وإذا نسب الشيء ملكاً إلى الله عز وجل فهو يملكه، ويتصرف به، وإليه مصيره، وهذه الصفات الثلاثة أعلى درجات الملك، قد تملك، ولا تنتفع من ملكك، إنسان مؤجر بيتاً، مسجل بالطابو له، لكن لا ينتفع به، وقد تنتفع بشيء ولا تملكه، وقد تنتفع به وتملكه، ولكن مصيره ليس إليك، صدر قرار استملاك، ذهب منك، أما الملك التام فأنْ تملك الشيء، وأن تكون يدك مطلقة في التصرف فيه، وأن يكون مصيره إليك، فإذا نسب الشيء إلى الله ملكاً: ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي كل الكون يملكه الله ملكاً، تصرفاً، مصيراً.

 

الله تعالى غنيّ عنا ولكن نحمده على كمالاته:


﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ ..لكنه غني عنّا، ومع ذلك نحمده، أحياناً تجد شخصاً غنياً عنك، لكن لأنه غنيّ عنك يحتقرك، لأنه غنيّ عنك يحرمك، لأنه غنيّ عنك يحاسبك حساباً عسيراً، لأنه غنيّ عنك متغطرس عليك، لأنه غنيّ عنك تجده مستكبراً، لأنه غنيّ عنك يستخف بك، لكن ربنا عز وجل:

﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)﴾

[ سورة الأعراف ]

غني عنك، ومع أنه غني عنك فإنك تحمده على كمالاته، غني حميد، ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ وكلمة: ﴿هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ وحده غني، ووحده حميد، وكل كمال في الأرض مشتق من كمال الله عز وجل. 

الدرس القادم إن شاء الله تعالى نكمل قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ .

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور