وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 08 - سورة لقمان - تفسير الآيتان 17 - 18 وصايا لسيدنا لقمان: إقامة الصلاة والدعوة مع الصبر والتواضع
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثامن من سورة لقمان.

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ(19)﴾ .

أيها الإخوة؛ هناك قاعدةٌ أصولية، وهي أن: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب". إن قلتُ لإنسان: كن طبيباً، آمرك أن تكون طبيباً، فمن ضِمْنِ هذا الأمر أن تنال الثانوية بدرجاتٍ عالية، ومن ضمن هذا الأمر أن تنتسب إلى كلية الطب، لأنك لن تكون طبيباً إلا إذا دخلت كلية الطب، ولن تدخل كلية الطب ما لم تحمل الشهادة الثانوية، ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، هذه قاعدة أصولية.  


لا صلاة إلا بالإيمان والإحسان والاستقامة:


ربنا عزَّ وجل حينما أمرنا أن نصلي لا يمكن أن تصلي إلا إذا كنت مستقيماً محسناً، ولا يمكن أن تستقيم وأن تحسن إلا إذا عرفت الله، وآمنت باليوم الآخر، إذاً معرفة الله عزَّ وجل، والإيمان باليوم الآخر، والاستقامة، والعمل الصالح من لوازم الصلاة، فإذا أمرك الله عزَّ وجل بالصلاة فمن لوازم الصلاة أن تعرفه، أن تعرف من تصلي له، أن تأتمر بأمره وأن تنتهي عما عنه نهى، وأن تقدِّم شيئاً يسمح لك أن تُقْبِلَ عليه وهو العمل الصالح، إذاً ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. 

 

الأمر بالصلاة مقرون بإقامتها دائمًا:


مِن هنا جاء الأمر بالصلاة مقترناً في أكثر الآيات مع إقامة الصلاة، كإقامة البناء، أي هناك مراحل كثيرة تسبق الصلاة منها ما هو من طرف الصلاة العمل الصالح، منها أن تأتمر بما أمر، وأن تنتهي عما عنه نهى وزجر، منها ما هو بعيدٌ عن الصلاة أن تعرف الله عزَّ وجل، لذلك أحبّ أن أؤكد لكم - وهذا كلامٌ دقيقٌ جداً - أن العلم والعلم وحده هو الطريق الوحيد الموصل إلى الله، إذا عرفت الله عرفت ما عنده من ثواب أو من عقاب، عرفت أن الأمر كله بيده، توجهت إليه، إذا عرفت أنه هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، إذا رأيت الله في كل شيء، وأنه ما من شيءٍ يقع إلا بأمر الله، وبإذن الله، وما من عملٍ يُنَفَّذُ إلا بتوفيق الله، إذا رأيت هذه الرؤية، هذه الرؤية وتلك المعرفة وهذا العلم حملك على أن تطيع الله، وحملك على أن تفعل الصالحات تقرباً إليه، الآن يمكنك أن تصلي.  

 

فصل الاستقامة عن الصلاة تضييع للدين:


لذلك حينما فصل الناس الصلاة عن استقامتهم، وعن أعمالهم الصالحة، وحينما فصلوا العمل عن معرفة الله، ضاع الدين وضاع الناس في متاهات الصلوات الشكلية الجوفاء، ولم تقدم لهم شيئاً ذا بال، وقاموا إلى الصلاة وهم كُسالى، ورأوها عبئاً، وقالوا بلسان حالهم: أرحنا منها، ولم يقولوا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: 

(( رجلٌ من خُزاعةَ: لَيْتَنِي صَلَّيْتُ فاستَرَحْتُ، فكأنهم عابوا ذلك عليه، فقال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم - يقولُ: أَقِمِ الصلاةَ يا بلالُ! أَرِحْنا بها. ))

[ هداية الرواة: خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح ]

 

منزلة الصلاة في الإسلام:


الشيء العجيب أن في السنة المطهرة أحاديث كثيرةً جداً جدَاً عن الصلاة، يكفي أن الصلاة عماد الدين، من أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين، قد يسأل سائل: هذه الصلاة التي يصليها عامة الناس هذه عماد الدين؟ هذه من أقامها فقد أقام الدين؟ هذه من هدمها فقد هدم الدين؟ بالتأكيد لا، لأن هذه الصلاة التي يرافقها الكذب، يرافقها الغش، ترافقها المعاصي، ترافقها الفواحش، هذه بالتأكيد ليست صلاةً أرادها الله عزَّ وجل، لأن الصلاة التي أرادها الله عزَّ وجل تنهى عن الفحشاء والمنكر، لأن الصلاة التي أرادها الله عزَّ وجل نورٌ في قلب المؤمن يريه الحق حقاً والباطل باطلاً، لأن الصلاة التي أرادها الله عزَّ وجل طَهور، أن اجتمع في قلب مصلّ حقدٌ، حسدٌ، كبرٌ، استعلاءٌ، أن يتكلم المصلي كلاماً فاحشاً بذيئاً، أن يأخذ المُصلي ما ليس له، هذا شيء مستحيل. 

 

الصحابة أقاموا الصلاة ففتحوا البلاد:


لذلك قد يسأل سائل: ما سِرُّ أن أصحاب النبي عليه رضوان الله كانوا قلةً قليلة، ومع ذلك فتحوا الآفاق، والبلاد شرقاً وغرباً، ونحن نَعُدُّ ألفاً وزيادة من الملايين، قبل سنوات ألف مليون، والآن سمعت أن المسلمين يبلغون ألفاً ومئتي مليون، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: 

(( خَيْرُ الصَّحَابَةِ أَرْبَعَةٌ، وَخَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُ مِائَةٍ، وَخَيْرُ الْجُيُوشِ أَرْبَعَةُ آلافٍ، وَلا يُغْلَبُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ.))

[ تخريج المسند لشاكر: إسناده صحيح: أخرجه أبو داود   ]

من حيث العدد لن يغلب في حديثٍ صحيح..((وَلا يُغْلَبُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ)) لأنهم أضاعوا الصلاة، والله عزَّ وجل يقول:

﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)﴾

[  سورة مريم  ]


ليس كلُّ مُصلٍّ مقيمًا للصلاة:


من باب التقريب، إنسان يحمل أعلى شهادة في الطب، بورد مثلاً، هذا ممتلئٌ علماً، ممتلئ خبرةً، يتقن اللغة الأجنبية كإتقانه العربية، يفهم دقائق اختصاصه، له تجارب غنية جداً، له ذكاءٌ كبير، له اطلاعٌ واسع، شكله الخارجي أنه يرتدي ثوباً أبيض اللون، ويضع على عينيه نظَّارتين، وعلى أذنه سَمَّاعة، فإذا جاء إنسانٌ جاهل، وارتدى ثوباً أبيض اللون، ووضع على عينه نظارة، وفي أذنيه سماعة، صار طبيباً؟ أهذا هو الطب؟ أن ترتدي هذا الثوب الأبيض؟ وأن تضع السماعة على أذنيك؟ وأن تضع ورقةً بيضاء على الطاولة؟ فرقٌ كبير بين المصلي حقيقةً، وبين الذي فكر في الكون حتى استقرت في نفسه حقيقة وجود الله، وحقيقة أسمائه الحسنى، وحقيقة كماله، وحقيقة وحدانيته، واستقر في نفسه أن الإنسان خُلِقَ ليسعد في الأبد، إذاً استقر في ذهنه أحقية اليوم الآخر، ثم بدأ يبحث عن أمر الله؛ في مأكله، ومشربه، في زواجه، في عمله، في أخذه، في عطائه، في كل شؤون حياته، إلى أن طبق السنة النبوية تماماً وبدأ يجعل من طاقاته، من إمكاناته، من ذكائه، من خبرته، من وقته، من جهده، من ماله، كلها وظفها في طاعة الله، وتَقُرُّبَاً إلى الله عزَّ وجل، عندئذٍ وقف ليصلي فرأى الطريق إلى الله سالكةً، وقف ليصلي فاستراح في الصلاة، وقف ليصلي فشعر أنه قريبٌ من الله عزَّ وجل، وقف ليصلي شعر أن هموماً قد انزاحت عن كاهله، من هنا الصلاة عماد الدين، وعصام اليقين، وسيدة القربات، وغرة الطاعات، ومعراج المؤمن إلى رب الأرض والسماوات.

 

الصلاة فرض لا يسقط إلا بالموت:


من هنا قال العلماء: الفرض الوحيد المتكرر الذي لا يسقطُ بحال، من أركان الإسلام أن تشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويكفي أن تشهد هذه الشهادة مرةً واحدة.

من أركان الإسلام الحج على المستطيع، قد تؤديه مرةً واحدة، وقد لا تؤديه أبداً وأنت مسلم.

من أركان الإسلام الصيام، وقد يصاب الإنسان بمرضٍ يمنعه من الصيام، وقد يسافر فيؤجِّلَ الصيام إلى ما بعد السفر، والزكاة على المستطيع، إذاً: الحج قد يسقط، والصيام قد يسقط إلى حين، والزكاة قد تسقط، والشهادة تؤدَّى مرةً واحدة، أما الفرض العَيْنِيّ الذي يتكرر ولا يسقط بحالٍ فهو الصلاة، لذلك لا يستطيع الإنسان ألا يصلي ولو كان في ساحة الحرب، ولو هُدِّدَ بالقتل إن لم يصلِّ، عليه أن يصلي صلاة الخائف، وصلاة الخائف تقصر نوعاً لا كَمَّاً، لك أن تصلي بأية طريقةٍ تشاء، وأنت مستلقٍ على السرير، وأنت واقف، في أي وضعية، إذا هددت بالقتل إن صليت فهناك صلاة الخائف، معنى ذلك أن الدين كله قائمٌ على الصلاة، من ترك الصلاة جحوداً بحقها فقد كفر، فقد كفر، أما الذي أشعر به أن آيات الصلاة في أكثرها قالت:

﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)﴾

[ سورة طه  ]

أي أقم البناء؛ شراء الأرض، تخطيطها، ترحيل الأتربة، هدم الأنقاض، ترحيل الأنقاض، حفر الأساسات، بناء الأساس، بناء الطابق الأول، الطابق الثاني، الكسوة الداخلية، الكسوة الخارجية، تأمين الماء والكهرباء، هذا كله منطوٍ في كلمة إقامة البناء، إقامة الصلاة تستلزم معرفة الله، تُصلي لمن؟ تقول: الله أكبر، هل عرفته أكبر؟ فهذا الذي يتذوَّقه المؤمن من قوله تعالى: ﴿وَأَقِمْ الصَّلاةَ﴾ أما ماذا قال الله عزَّ وجل عن هؤلاء الذين يصلون ويراءون؟ ما قال: فويلٌ للذين يقيمون الصلاة، بل قال:

﴿ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ(7)﴾

[  سورة الماعون ]

إذاً: نرجع إلى القاعدة الأصولية وهي أنه: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، فإذا أمرك الله عزَّ وجل بنص القرآن الكريم أمراً قطعي الدلالة، أمرك أن تصلي، أو أمرك أن تقيم الصلاة فابحث عن موجبات الصلاة، فابحث عما لا تتم الصلاة إلا به؛ معرفةٌ بالله عزَّ وجل، واستقامة على أمره، وتقربٌ إليه، عندئذٍ ترى الطريق إلى الله سالكاً. 

 

السبيل الوحيد إلى معرفة الله استعمال العقل الذي هو مناطُ التكليف:


قد يسأل سائل: كيف تتم معرفة الله؟ الله عزَّ وجل لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، إذاً السبيل الوحيد إلى معرفة الله أن تستعمل العقل الذي هو مناطُ التكليف، الله عزَّ وجل الكون كله تجسيدٌ إن صح التعبير، أو مظهرٌ لوجوده، ومظهرٌ لوحدانيته، ومظهر لكماله، فأسماء الله كلها لها متعلَّقات؛ قدرته ظاهرةٌ في خلقه، رحمته ظاهرةٌ في خلقه، لطفه ظاهر في خلقه ، وحدانيته ظاهرةٌ في خلقه، كماله ظاهر في خلقه. إذاً: كل أسمائه الحسنى، وكل صفاته الفضلى إنما هي مبثوثةٌ في خلقه في الكون، إذاً يكفي أن تنظر إلى الكون، إلى خلقك، إلى طعامك، إلى شرابك، إلى ما تحتك، إلى ما فوقك، إلى عن يمينك، إلى عن شمالك، يكفي أن تنظر، وأقرب شيءٍ إليك جسدك. 

﴿ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)﴾

[ سورة عبس ]

ما الذي جعله يكفر؟

﴿ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)﴾

[ سورة عبس ]

نطفة لا ترى بالعين، في اللقاء الواحد يخرج من الرجل ثلاثمئة مليون حوين مَنوي، وواحدٌ من هذه الثلاثمئة مليون هو الذي يُلَقِّحُ البويضة، ومن يُصَدِّق أن على هذا الحوين معلومات مبرمجة بأزمان معينة تزيد عن خمسة آلاف مليون معلومة، الرقم دقيق جداً تأكدت منه إلى أقصى درجة، خمسة آلاف مليون أمر مودع في هذا الحوين الذي لا يرى بالعين، كيف لقَّح هذا الحوين البويضة؟ وكيف فتح له الباب ثم أغلق؟ وكيف مُنِعَ من الدخول آلاف مئات الألوف بل عشرات الألوف، دخل هذا الحوين القوي إلى البويضة، وكيف تلقّحت هذه الخلية الأنثوية الأولى؟ وكيف انقسمت إلى عشرة آلاف جزيء وهي في طريقها إلى الرحم؟ وإذا قرأت علم الأجنة، أو قرأت المبادئ الأولى لعلم الأجنة وجدت العجب العجاب..

﴿ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ(23)﴾

[ سورة عبس ]

ماذا ينتظر؟ 

إلى متى أنت باللذات مشغول            وأنت عن كل ما قدمت مسؤول؟

* * *

إلى متى؟!!

تــعصي الإله وأنت تظهر حبه            ذاك لعمري في المقال بديعُ

لو كان حبك صادقاً لأطعـــتـــــه            إنّ المحب لمن يحب يطيعُ

* * *

 

الصلاة ميزان:


الذي أراه أنك إذا تأمَّلت في خَلْقِكَ، إذا تأمَّلت في طعامك، إذا تأمَّلت في شرابك، إذا تأمَّلت في المخلوقات من حولك، إذا تأمَّلت في الجبال، إذا تأمَّلت في البحار، إذا تأمَّلت في الأطيار، إذا تأمَّلت في الأسماك، لابدَّ من أن تعود من هذه الجولة وقد خشع قلبك، ورأيت نفسك صغيراً جداً أمام عظمة الله عزَّ وجل، عندئذٍ لا تملك إلا أن تبادر إلى طاعته، وإلى نفع عباده، وإلى خدمة مخلوقاته، فإذا كنت عارفاً به، مستقيماً على أمره، محسناً إلى خلقه، استقبلك الله عزَّ وجل في الصلاة، وأقبل عليك، وتجلّى على قلبك، وملأ قلبك نوراً، وملأ حياتك حبوراً، وجعلك من المقربين المنعمين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. 

ألا ترى معي أنه في بعض أحيانك، في بعض ساعات صفائك، عقب أعمالك الصالحة، عقب التضحيات، عقب البذل، عقب العطاء، ألم تقف مرةً بين يدي الله عزَّ وجل تنهمر دموعك، ويخشع قلبك، وتتمنى أن تدوم الصلاة ساعات طويلة؟ إذا كنت صَلَّيْتَ هذه الصلاة فهذه هي الصلاة التي أمرنا الله بها، هذه هي الصلاة التي نرقى بها، ﴿وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي﴾ ..

﴿ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)﴾

[  سورة العلق  ]

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)﴾

[ سورة النساء ]

إذا تلوت القرآن في الصلاة ربما شعرت كأنك تسمع القرآن أول مرة، وكأنه نزل من تَوِّهِ على النبي عليه الصلاة والسلام، هذه هي الصلاة، فالصلاة ميزان، من وّفَّى استوفى، من وفّى الاستقامة حقها استوفى من الصلاة ثمراتها، خالقٌ عظيم، ربٌ كريم، خالق السماوات والأرض يأمرك أن تقف بين يديه هكذا وأنت ساهٍ ولاهٍ؟ وأن تنحني وتنحني، وأن تقعد وتسلم، وانتهى كل شيء؟ أهذا أمر الله عزَّ وجل؟ هذه الذات الكاملة، هذا الرب الكريم، هذا الإله العظيم هذا أمره؟ أترضى لمخلوقٍ أن تؤدي أمره أداءً شكلياً؟ أترضى من ابنك إذا أمرته أن يدرس أن يقعد وراء المنضدة، وأن يفتح كتاباً، ويقلبه أمامك وعينه نحوك ولا يقرأ شيئاً؟ أترضى منه هذا؟ ألا تتهمه بالنفاق إذا فعل هذا؟ فكيف ترضى أن تؤدي هذه العبادة العظيمة أداءً شكلياً؟ أداءً أجوفاً؟ لكن أنَّى للمنحرف أن يقف بين يدي الله عزَّ وجل؟ وأنى للمذنب أن يقبل على الله؟ أنّى للمسيء إلى خلقه أن يتجلى الله على قلبه؟ هذا القلب بيت الرب، والله عزَّ وجل أغنى الأغنياء عن الشرك، إذا كان في القلب شرك فالله عزَّ وجل يَدَعك وشأنك، فأن يستحق قلبك أن يتجلَّى الله عليه في الصلاة، أن يستحق قلبك أن يمتلئ نوراً من الله عزَّ وجل في الصلاة، لابدَّ من أن يكون طاهراً، القلب بيت الرب، القلب منظر الرب، فيا عبدي طهرت منظر الخلق سنين أفلا طَهَّرْتَ منظري ساعة؟ هكذا.

 

الصلاة عماد الدين:


لذلك الصلاة عماد الدين، العماد في اللغة الخيام كما تعرفونها لها عمودٌ كبير في وسطها، الخيمة الدائرية لها عمودٌ كبير، ما قيمة هذه الخيمة بلا عمود؟ قماش ملقى على الأرض، هل تصلح هذه الخيمة أن تُسْكَن؟ هل يُجْلَسُ فيها؟ هل تستعمل كخيمة بلا عمود؟ فهذه الصلاة إذا كان الدين خيمةً فالصلاة عماد الدين أو عمودها، فمن أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين، لاحظ أنت مُخَيَّماً حينما يُزْمِعُ أصحابه الرحيل يبدؤون بسحب الأعمدة، حينما يسحب عمود الخيمة تتداعى على الأرض، تصبح قماشاً بعضه فوق بعض وانتهى الأمر، تشبيهٌ نبويٌ رائعٌ جداً: الصلاة عماد الدين، من أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين، الصلاة طهور، المصلي طاهر النَفْس، المصلي لا يغشّ أحداً، لا يكذب، لا يتلاعب، لا يحتال، لا يخدع، ولا يسيء في كلامه، مصلّ، طاهر، أي إنسان متصل بالله، ومكارم الأخلاق كلها مخزونةٌ عند الله تعالى، فإذا أحبّ الله عبداً من خلال الصلاة منحه خلقاً حسناً، هذا كلام قطعي، كل أخلاقك، كل كمالك، كل حلمك، كل رحمتك، كل إنصافك، كل لطفك إنما هو تشتقه من الصلاة، فبقدر اتصالك بالله عزَّ وجل تأخذ من كماله. 

تقريباً إن كان لك اتصال بهذا المُجَمَّع الأساسي للكهرباء، بقدر ما تأخذ من هذا المُجَمَّع تكون قوة التيار عندك، فإذا كان الآخذ ضعيفاً جداً ثمانون فولطاً، أكثر مئة وعشرة، أكثر مائتان وعشرون، كلما علا قطر الآخذ اشتدت قوة التيار، وهكذا. 

 

من ازداد علماً ازداد قرباً من الله عز وجل:


لذلك الوقفة الآن عند: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ .. قبل أن تقف مع الناس في المسجد، وتستمع إلى الإمام يتلو آيات القرآن الكريم، هل أنت في مثل هذه الوقفة؟ هل أنت في مستوى هذه الوقفة؟ لا يمكن أن أقول لك: إن لم تكن كذلك فلا تصلِّ، ولكن أقول لك: صلِّ الصلاة فرضاً، ولكن حاول أن ترفع مستوى صلاتك، ورفع مستوى الصلاة برفع مستوى العلم، كلما ازددت علماً ازددت قُرباً، وكلما ازددت بذلاً ازددت قرباً. 

 

احرصْ على يومك قبل أن يفوتك:


شيئان احرص عليهما كل يوم كما قيل: "لا بورك لي في طلوع شمس يوم لم أزدد فيه من الله علماً، ولا بورك لي في طلوع شمس يومٍ لم أزدد فيه من الله قرباً" علماً وقرباً، العلم معرفة، والقرب بذل، لذلك إذا مضى هذا اليوم ولم تزدد علماً، أو لم تزدد قرباً بعمل صالح فَابْكِ على هذا اليوم، بل إن اليوم يقول لك: "يا بن آدم أنا خلقٌ جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة" .

 

الزمن أخطر شيء يملكه الإنسان:


 إن أخطر ما تملكه هو الزمن، إنك زمن، أو إن رأس مالك هو الزمن، أو إن أخطر ما تملكه هو الزمن، فإما أن تنفقه إنفاقا استهلاكياً سخيفاً، وإما أن تنفقه إنفاقاً استثمارياً، فإذا حرصت على معرفة الله عزَّ وجل، وعلى حضور مجالس العلم، وعلى فهْمِ كتاب الله، وعلى فهْم أمر الله ونهيه، وعلى فهم السُنَّةَ المطهرة، وعلى أن تقف على سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، إذا حرصت على طلب العلم، طلب العلم يجعلك من طُلاب العلم، وطلاب العلم أغلب الظن إذا كانوا صادقين يطبقون علمهم، فإذا طلبت العلم، وتعلَّمت العلم، وطبقت العلم، صار الطريق إلى الله سالكاً، فإذا اتصلت بالله عزَّ وجل لك أن تقول مع من يقول: يا رب، ماذا فَقَد من وجدك؟ والله ما فَقَد شيئاً، وماذا وجد من فَقَدك؟ والله ما وجد شيئاً. 

ملخّص الملخص أن ترى الله في كل شيء، وأن تسعى إليه في كل شيء، وهؤلاء التائهون، الشاردون، البعيدون، هؤلاء ما أتعسهم! وما أشد خسارتهم حينما يأتيهم ملك الموت!

﴿ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45)﴾

[ سورة الطور ]

 

العمل الصالح المكسب الوحيد للإنسان:


هناك أخبار تأتي للإنسان كالصاعقة، أي إذا اكتشفت فجأةً أن هذا البيت الوحيد الذي لا تملك غيره قد بعته بعملةٍ مُزَيَّفَة، وأن هذه العملة المزيفة فضلاً عن أنه لا قيمة لها سوف تحاسب عليها حساباً كبيراً، أليس هذا الخبر صاعقاً؟ إذا اكتشفت فجأةً أن هذا البيت الذي اشتريته ليس للذي باعك إياه، وأن الذي يملكه شخص آخر، وأن هذا المبلغ الذي دفعته له ذهب على الأرض، أليس هذا الخبر صاعقاً؟ فإذا كشف الإنسان في لحظة ما أن كل عمله في الدنيا لا قيمة له، وأن كل سعيه قد ذهب أدراج الرياح، وأن الله عزَّ وجل جعل من عمله هباءً منثوراً، وأنه قادمٌ على حياةٍ أبدية لا يملك مالاً للتداول فيها.

أنت إذا ذهبت إلى بلدٍ غربي أول شيءٍ تفكر به أن تشتري عملة ذلك البلد، في فرنسا الفرنك ، في انكلترا الجنيه، فإذا كنت مُزْمِعاً أن تسافر إلى الدار الآخرة ألا ينبغي أن تفكِّر ما العملة الرائجة هناك؟ إنها العمل الصالح، لذلك: << يا قييس، إن لك قريناً يدفن معك وهو حيّ، وتدفن معه وأنت ميت، فإن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك، ألا وهو عملك > >. يخرج من البيت، البيت أملاك غير منقولة، بمحله، ولكن له أهل، له أولاد، له أقرباء، له أصحاب، هؤلاء يمشون معه، ولكنهم جميعاً يقفون عند شفير القبر، أما الوحيد الذي سينزل في هذا القبر فهو الميت، يرفع غطاء النعش، ويؤذن المؤذن، ويحمل، ويوضع في هذه الحفرة، شيءٌ واحد يدخل معك في القبر، إنه عملك، لذلك قالوا: والقبر صندوق العمل ، صندوق عملك هو قبرك، لذلك قالوا:  

الدنيا ساعـة  اجعلها طاعة             والنفس طماعة عودها القناعة

* * * 

هذه المعاني المستنبطة من قوله تعالى: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾ .

 

منزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:


أما: ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ ..ليس القصد أن تكون وحدك سعيداً، أنت إنسان في مجتمع، فإذا سَعِدَ المجتمع سعدت معه، وإذا شقي المجتمع شقيت معه، لذلك أنت مأمورٌ أن تأمر بالمعروف، وأن تنهى عن المنكر، وهذه عبادة عَدَّهَا بعضهم كالصلاة والصيام.. ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ ..إذا وصلت فأوصل غيرك، إذا عرفت فعَرِّف غيرك، إذا سعدت فأسعد غيرك، إذا اتصلت فأعن غيرك على الاتصال، أي إذا أردت أن تسعد فأسعد الآخرين، حينما تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر تصبح امرأ صالحاً في مجتمعٍ صالح، لذلك مثلاً قد يحدث أن بعض إخواننا، هو وأخوه، وأخوه، وأخوه، كلهم ديّنون، ورعون، مستقيمون، هؤلاء الإخوة، ما دامت البيوت كلها مطبقٌ فيها الإسلام، هؤلاء يشعرون بسعادة، وليس هناك مُنَغِّصَات، أما إذا وُجد أخ واحد مستقيم، وأربعة إخوة منحرفون فإنه يعاني الأمرَّيْن، لأن هناك تداخلات، يوجد قرابة، يوجد أولاد، يوجد أولاد عم، يوجد تطلعات، فأنت إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر عاد الخير عليك، أي إذا كان بإمكانك أن تهدي أخاك من أمك وأبيك، وبإمكانك أن تأتي به إلى المسجد، وأن تحمله على طاعة الله عزَّ وجل أصبحتما اثنين، فإذا جلبت الأخ الثالث أصبحتم ثلاثة، فإذا أمكنك أن تهدي إخوتك جميعاً أصبحتم كتلةً يُعْتد بها، رأيت طاعة الله سهلةً، لم يعد هناك موازنات، تطلعات، إفساد، انتهى الإفساد، أصبحت البيوت كلها عامرةً بذكر الله، فأنت إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر فقد سعدتَ قبل الذين أمرتهم بالمعروف، وسعدت قبل الذين نهيتم عن المنكر، إذاً أنت إذا أكثرت المؤمنين مِن حولك سعدتَ بهم، وسعدوا بك، هذه عبادةٌ، عبادةٌ بكل معنى هذه الكلمة، ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ إذا اهتدى مؤمن إلى الله يقول: ما لي وللناس، دعهم في ضلالهم يا أخي، لهم رب يحاسبهم، هذا مؤمنٌ في الدرجة الدُّنيا من الإيمان، لأن قلبه لم يمتلئ حباً لهم، ولم يمتلئ غيرةً عليهم، ولم يمتلئ شفقةً عليهم، بل كان هذا القلب بعيداً عن أن يكون رحيماً، فلذلك المؤمن الصادق يتحرَّق على هداية إخوته، على هداية أقربائه، على هداية جيرانه، على هداية شركائه، على هداية زملائه، على هداية من حوله، من دونه، من فوقه، لذلك دائماً ينطلق اللسان بذكر الله عزَّ وجل، أمرت أن يكون صمتي فكراً، ونطقي ذكراً، ونظري عبرةً.. ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ ..يجب ألا تأخذك في الله لومة لائم، يجب ألا تجامل، يجب ألا تحابي، يجب ألا تطلب السلامة على حساب هذا الأمر الإلهي.

﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾ فلان حَدَّثَكَ عن أنه سيفعل كذا وكذا، وهذا الفعل مُحَرَّم، لا تبقَ صامتاً، ذكره قل له: يا أخي هذا العمل حرام لا يجوز، قل له: من ابتغى أمراً بمعصيةٍ كان أبعد مما رجا، وأقرب مما اتقى، أما أن تقول: ما لي وللناس؟!  

 

ترْكُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خشية منكر أكبر منه:


لكن إذا نتج عن أمرك بالمعروف، أو نهيك عن المنكر فتنة أشدّ من فعل هذا المنكر، عندئذٍ قال العلماء: "في مثل هذه الحالة لا ينبغي أن تفعل ذلك"، لأن سيدنا عمر يقول: << ليس بخيركم من عرف الخير، ولا من عرف الشر ؛ ولكن من عرف الشرَّيْن، وفرَّق بينهما، واختار أهونهما >> إذا أمرت بالمعروف، أو نهيت عن المنكر، ونتج عن هذا الأمر وذاك النهي فتنةٌ أشدّ من المنكر الذي يقترف، الأوْلى أن تسكت، لذلك الحكمة تقتضي أن تفعل ما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، وبالقدر الذي ينبغي، وفي الوقت الذي ينبغي.

 

وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمَن له ولاية على غيره:


لكن أغلب الظن أن الأب أولاده، الزوج زوجته، صاحب المعمل عمَّاله، صاحب المتجر موظفيه، مدير المؤسسة موظفيه أيضاً، الله عزَّ وجل جعل أشخاصاً تحت رعايتك، في إشرافك، أنت قيّمٌ عليهم، أمرهم بيدك، هؤلاء الذين أناط الله بك مصالحهم ومقدّراتهم، هؤلاء ينبغي أن تأمرهم بالمعروف، وأن تنهاهم عن المنكر، أقرب مثل عندك محل تجاري عندك موظف، أخلاقه عالية ونشيط ومخلص لكنه لا يصلي، ألا ينبغي أن تأمره أن يصلي؟ ألا ينبغي أن تشجعه على الصلاة؟ ألا ينبغي أن تحضَّه على معرفة الله؟ لأن هذا سيحاسبك، يقول لك: خدمتك ثلاثين عاماً ما ذكرتني مرة بالصلاة، لم تأمرني أن أصلي، لم تدفعني إلى معرفة الله عزَّ وجل، اعتصرت مني قوَّتي، وألقيتني في جهالةٍ وفي ضلالة، إذاً: ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ ولاسيما من كان في حوزتك، ومن كان تحت إشرافك، ومن كان تحت رعايتك، هؤلاء أولى الناس أن تأمرهم بالمعروف وأن تنهاهم عن المنكر.

 

ضابط المعروف والمنكر شرعي لا مجال للعقل فيه:


﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ .. ما المعروف؟ ما أمر الله به، ما المنكر؟ ما نهى عنه، الحسن ما حَسَّنَهُ الشرع، والقبيح ما قَبَّحَهُ الشرع، كل شيءٍ حسنه الشرع وأمر به فهو حسن، وهو المعروف، وكل شيءٍ نهى عنه الشرع فهو المنكر، وهو القبيح، أي لا ينبغي أن تكون لك قيَم أخرى، أن تفعل أشياء تراها حسنة، وهي تخالف الشرع، 

المؤمن الصادق قيمُهُ من قيَم كتابه، ومقاييس الفوز عنده هي مقاييس الفوز عند الله عزَّ وجل.. عن عبد الله بن عمرو:

(( لا يؤمنُ أحدُكم حتَّى يكونَ هواه تبعًا لما جئتُ به. ))

[  الحكمي : معارج القبول: خلاصة حكم المحدث: صحيح: التخريج:  والبيهقي في ((المدخل إلى السنن الكبرى)) ]

لا يوجد عنده مقاييس خاصة، مثلاً: إنسان لا يصلي، بعيد عن الدين، منكر للدين، تقول عنه: لبق، لطيف، أخلاقه عالية، فهيم، حذق، فأنت تطعن في الدين، إذا أثنيت عليه كل هذا الثناء وهو لا يصلي، وهو لا يعتدّ بالدين، فكأنك ألغيت الدين، ولم تعبأ به، إذاً ينبغي لك تكون القيم التي تتعامل بها نابعةً من كتاب الله، لا أن تكون نابعة من مجتمعك، ولا من تقاليدك، ولا من عاداتك. 

 

من نتائج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معاداة الناس:


لكنك إذا أمرت بالمعروف، وإذا نهيت عن المنكر فالطريق في ذلك ليس محفوفاً بالورود؛ ولكن محفوفٌ بالأشواك، لأن الذي يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر يتصدى له أشخاصٌ شهوانيّون يتضررون من هذه الدعوة، إذاً لابدَّ أن يناصبوها العِداء، لابد من أن يقفوا عقباتٍ في طريق الدعوة إلى الله، لأنهم تضرروا؛ إن في شهواتهم، وإن في مصالحهم، إذاً: لابدَّ من أن تؤذى، إذاً: جاء الأمر الإلهي الثالث: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾ ..أن تأمر بالمعروف، وأن تنهى عن المنكر، وأن تدعو الناس إلى الله، وأن تحضَّهم على طاعة الله، وأن تعيش هكذا بلا مشكلة، بلا معاداة، بلا معارضة، بلا نقد، بلا حسد، مستحيل، سيدنا موسى قال في المناجاة: "يا رب، لا تُبقِ لي عدواً"، قال الله عزَّ وجل: "هذه ليست لي"، أليس هناك أعداء لله عزَّ وجل يناصبونه العِداء؟ ويهاجمون الأديان كُلها؟ ويقللون من شأن القرآن؟ هؤلاء هم أعداء الله عزَّ وجل، إذاً: لابد‍َّ للحق من أن يعاديه الباطل، لابدَّ لأهل الحق من أن أهل الباطل يقفون لهم عقباتٍ في طريقهم إلى الله عزَّ وجل، لذلك: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾ وأحيانا يتلقَّى الإنسان الضربات من أقرب الناس إليه، أحياناً زوجته تناصبه العداء إذا أراد أن يحملها على طاعة الله، أحياناً أولاده، أحياناً والده، أحياناً شريكه، أحياناً أقرباؤه وأسرته. 

﴿ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)﴾

[  سورة الزخرف ]

يقول لك: نحن تربينا هكذا، لا يوجد عندنا هذا التستر، ستفرق الأسرة! أقرب الناس إليك، من يقول لك: إن أخذ الفائدة حرام؟ هل من المعقول أن يترك المال هكذا من دون فائدة؟! أدخلك في متاهات الربا، فلذلك لابدَّ من معارضة، لابد من تجريح، لابد من حَسَد، لابد من وضع العصي بالعجلات.

 

مِن العزم عدمُ التردُّدِ:


﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ ..أحياناً تتردد في أمور، مثلاً: نذهب إلى نزهة أو لا نذهب، نجد أماكن أم لا نجد، يا ترى النفقات كبيرة؟ هل الآن وقتها أم ليس وقتها؟ قضية النزهة قضية تأخذ وتُعْطِي، لكن لا سمح الله ولا قَدَّرَ إذا أصاب الإنسان مرض ولابدَّ من أن يجري عملية جراحية، وأن حياته متوقفة على إجراء هذه العملية، هل هنا موازنات وتردد؟ إن إجراء هذه العملية من عزم الأمور، من الأمور المقطوع بها، التي لابدَّ من أن تُفعل، الإنسان أحياناً في قضايا له فيها خيار، لكن يوجد قضايا كثيرة جداً ليس فيها له خيار، أن تقيم الصلاة، وأن تأمر بالمعروف، وأن تنهى عن المنكر، وأن تصبر على ما أصابك، إن هذا لمن عزم الأمور، بمعنى أنه لابدَّ من أن تصلي، لابد من أن تأمر بالمعروف، لابد من أن تنهى عن المنكر، وهذا الأمر ليس أمراً اختيارياً، ليس أمراً احتمالياً، لا يحتمل التردد، ولا أن تقول: افعل أو لا تفعل، لا، إن ذلك من الأمور التي يجب أن تعزم عليها، من الأمور المقطوع بصحَّتها، وبحتميتها، وبضرورتها، وبأنها طريقٌ إلى الله وحيدة، هذا معنى من عزم الأمور، عزمتُ عليه أن يفعل، أي شددت عليه أن يفعل.

أحياناً يكون دخلُ الإنسان محدوداً جداً، لكن يصاب ابنه بمرض، وقد يقتضي هذا المرض أن ينفق عليه عشرات الألوف، بل مئات الألوف، تراه طائعاً يبيع بيته من أجل معالجة ابنه، لأن معالجة الابن من عزم الأمور، هكذا، أحياناً ينهدم حائط بالبيت بفعل الأمطار، فيصبح البيت مكشوفاً، فيضطر صاحبه أن يقترض من أية جهةٍ ليشيد هذا الجدار، أن تقيم هذا الجدار ليس هو أمرٌ مخيرٌ فيه، لا، من عزم الأمور، أصبحت مع الطريق.

  

الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من عزم الأمور:


أنا أضرب أمثلة، ما معنى من عزم الأمور؟ أنت في حياتك أشياء كثيرة تتردد بها، تقدم أو تحجم، توازن أفعل أو لا أفعل، لكن هناك أشياء كثيرة أيضاً حينما تقع ترى نفسك مندفعاً إلى فعلها دون تردد، دون سؤال، دون تريُّث، دون استشارة أبداً، التهبت الزائدة عند ابنه، وصاح من شدة الألم، وقال له الطبيب: لابدَّ من أن تجرى العملية اليوم، انتهى الأمر، يقول لك: والله ليس معي مالٌ، فيستدين، يضع الذهب رهناً، إجراء العملية لابنه ﴿إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ .. لابدَّ من أن يفعلها، فيجب أن تَعُدَّ الصلاة ومقدمات الصلاة؛ من عملٍ صالحٍ، من استقامةٍ على أمر الله، من معرفةٍ بالله من عزم الأمور، وأن تأمر بالمعروف، وأن تنهى عن المنكر من عزم الأمور، وأن تصبر على ما أصابك من عزم الأمور، أي مستحيل أن تمضي حياة المؤمن من دون ابتلاء، قال تعالى: 

﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)﴾

[  سورة المؤمنين  ]

إذاً: لابدَّ من أن تبتلى، ومع الابتلاء لابدَّ من أن تصبر، ولابدَّ من أن تحتسب، ﴿إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ .

 

الابتعاد عن التكبر:


﴿إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾ .. بعضهم قال: إذا دعوت إلى الله، إذا أمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر، لا ينبغي أن تستعلي على الناس، وأنت في هذه الطاعة، ينبغي أن تكون واحداً منهم، ينبغي أن تخفِض لهم جناحك، ينبغي أن تكون لهم لَيِّنَاً، أرحم بهم من أنفسهم، يجب أن تكون لهم كواحدٍ منهم.. ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً﴾ ..تصعير الخد أن تُمِيل خدك كبراً، واستعلاءً، وإعجاباً، واحتقاراً لمن دونك، كل هذه المعاني مستنبطة من: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾ أن تميل، أمال، يُمِيلُ، أن تميل رأسك كبراً، وتيهاً، وعُجباً، واحتقاراً للآخرين، أحياناً يفتخر الإنسان بنسبه، أو بشهاداته، أو بماله، أو بقوته، أو بوسامته، أو بذكائه، أو أنه وسيم جميل الطلعة، أو أنه ابن فلان فيفتخر بأبيه، أو بقوته، أو بماله، تفوُّقه في هذه النواحي يحمله على أن يتكبَّر، قال: الناس لا يحبون المتكبر، فإذا تكبرت عليهم انفضوا عنك، ونفروا منك، وانصرفوا إلى غيرك، فإذا أمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر، إياك أن تُصَعِّرَ خدك للناس، إياك أن تمشي في الأرض مرحاً، أن تفرح بالدنيا، أحياناً تأتي الدنيا كما تشتهي، في حالات كثيرة تأتيك الدنيا كما تريد، يزداد مالك، تزداد قوتك، يزداد شأنك، يتألَّق نجمك، تلمع في سماء الدنيا، يقبل الناس عليك معظِّمين، مُبَجِّلين، هذا امتحانٌ خطير، هذا مزلقٌ خطير، فإما أن تنجح وإما أن ترسب، حتى إنهم قالوا: ما من فاتحٍ على وجه الأرض إلا إذا دخل البلد المفتوح، إلا دخله متغطرساً، مختالاً، متكبراً، إلا النبي عليه الصلاة والسلام، حينما دخل مكة كادت ذُؤابة عمامته تلامس عنق بعيره، تواضعاً لله عزَّ وجل. هل لديك إمكانية وأنت في ساعات تألُّقَك، في ساعات نجاحك، في ساعات ارتفاع شأنك، أن تكون في أعلى درجات العبودية لله عزَّ وجل؟  


تعظيمُ النعمة مهما دقَّتْ:


سيدنا عمر جاءه رسولٌ من أذربيجان، وأذربيجان الآن تابعة للاتحاد السوفياتي، وقد كانت ولايةً تابعةً لسيدنا عمر، العاصمة كانت المدينة، وليست موسكو، بل المدينة، جاءه رسول من أذربيجان، فكرِه هذا الرسول أن يطرق بيته ليلاً فتوجه إلى المسجد، فسمع بكاءً ومناجاةً، يقول هذا الرجل الذي يناجي ربه: << رب، هل قبلت توبتي فأُهنِّئَ نفسي أم رددتها فأعزِّيها؟ قال له: من أنت يا رجل؟ قال له: أنا عمر، فهذا الذي كره الذي يطرق بيته ليلاً هو في المسجد يصلي، قال: يا أمير المؤمنين ألا تنام الليل؟ قال: إنني إن نمت ليلي كله أضعت نفسي أمام ربي، وإن نمت نهاري أضعت رعيتي، انطلقا بعد الفجر إلى البيت، قال: يا أم كلثوم ما عندكِ من طعام؟ قالت له: والله ما عندنا إلا خبزٌ وملح-خبزٌ وملح فقط في بيت أمير المؤمنين- فقال: هاتِه، أكل خبزاً وملحاً، ودعا الدعاء التالي فقال: الحمد لله الذي أطعمنا فأشبعنا، وأسقانا فأروانا >> . أنت تأكل سلطة، ولبناً، وفاصولياء، وأرزاً، وراءها تفاح، وهاتوا الحليب، وهاتوا كذا، وبعد ذلك والله الأكلات طيبات، القشدة جيدة، قلت: الحمد لله، الكوسا مثل الفستق، هذا الكلام فقط؟! سيدنا عمر أكل خبزاً وملحاً، قال: الحمد لله الذي أطعمنا فأشبعنا، وسقانا فأروانا، هكذا المؤمن، حتى مرّ بالأثر، إن شاء الله أذكرها لكم بالتفصيل، أن الإنسان إذا شرب كأس ماء، شربه على ثلاث دفعات، وفي كل دفعةٍ قال: بسم الله الرحمن الرحيم، فلما انتهى من الدفعة الأولى قال: الحمد لله رب العالمين، والمرة الثانية والثالثة هكذا، قال: ما دام هذا الماء في جوفه لن تحدَّثه نفسه بمعصية الله عزَّ وجل، أديت حق النعمة، هذا كأس الماء. 

قيل لملِكٍ عظيم: يا أمير المؤمنين بكم تشتري هذا الكأس من الماء إذا منع منك؟ قال: بنصف ملكي- قرأت قصةً عن باخرةً غرقت في عرض المحيط، أحد قوارب النجاة، أكبر قارب نجاة كان فيه حوالي سبعين إنساناً، وفي هذا القارب مستودع للماء لا يكفي لإنسانين، فوزع الماء بملعقة الشاي، كل واحد باليوم له ملعقة شاي من الماء، هل تصدقون أن ركاب هذا المركب قتل بعضهم بعضاً، ولم يصل إلى الشاطئ إلا اثنان، من أجل شربة ماء، من أجل أن يشرب ملعقتين من الماء بدلاً من ملعقة- قال له: يا أمير المؤمنين، بكم تشتري هذا الكأس إذا منع منك؟ قال له: بنصف ملكي، قال: فإذا مُنِع إخراجه، قال: بنصف ملكي الآخر، قال له: ملكك يساوي كأس ماء. 

إذا شرب الإنسان الماء، وكانت الكليتان سليمتين، والحالب والمثانة، وكله يعمل بانتظام، أليست هذه نعمة كبرى؟

 

التواضع مع الناس وعدم التعالي عليهم:


لذلك: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ كن متواضعاً.

 آيةً واحدة؛ إذاً إذا دعوت إلى الله، أو أمرت بالمعروف، أو نهيت عن المنكر، أو في أية حالةٍ من حالاتك..﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾ إياك أن تستعلي عليهم، إياك أن تخاطبهم من فوق، إياك أن تكون متعجرفاً، إياك أن تشعر أنك فوق الناس، ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مرَحاً﴾ ..إياك أن تستخفك الدنيا، أن تفرح بها، بمالها، بزينتها، بمباهجها، لا تنس أن البيت الذي جهدت في بنائه، وفي كسوته، وفي تزيينه، وفي تأثيثه لن يبقيك أحدٌ فيه ساعةٌ بعد الموت، ولن يسمح لك أن تدفن فيه، إلا في المقبرة، اشتريته، وجهدت في بنائه، وفي تزيينه، وفي تأثيثه، أقرب الناس إليك إكرامهم لك سرعة ترحيلك من هذا البيت، علامَ الفرح؟ 

 

الفرح بطاعة الله فقط: 


﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ .. يجب أن تفرح لا بالدنيا، ولكن بطاعة الله، يجب أن تفرح إذا أجرى الله الخير على يديك، يجب أن تفرح إذا سمح الله لك أن ينطلق لسانك في تعريف الناس بالله عزَّ وجل، يجب أن تفرح إذا جعلك الله مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، يجب أن تفرح إذا جعلك الله عز وجل باباً له، بهذا فافرح..

﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)﴾

[ سورة يونس ]

أما أن تفرح بالدنيا فليس لك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت، والباقي ليس لك. 

 

القصدُ في المشي لأن المتكبر المختال لا يعرف الله عزَّ وجل:


آخر آية: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ﴾ .. مرة جاء أحد علماء مصر الكبار إلى مجلس الشيخ بدر الدين رحمه الله تعالى، طبعاً الذي جاء شيخ الأزهر، جلس جلسة تَنِمُّ عن اعتزازه بعلمه ومكانته، هكذا سمعت القصة، بدأ الشيخ يتحدَّث، كلما حَدَّثَ حديثاً، وفَسَّرَهُ، وتعمَّق في شرحه، هذا الضيف بدأ يغَيِّر من جلسته، إلى أن انتهى المجلس وهو جالسٌ على ركبتيه وهو لا يدري، إذاً: كلما عرفت هذا الذي يتكلم تتأدب معه، إذا دخلت على إنسان يحتل منصباً رفيعاً، لاحظ نفسك، تجلس جِلْسَةً فيها أدب، لا تعبث بما على المنضدة، لا تقرأ جريدة أمامه، لا تُمسك المسبحة، إذا كنت أمام شخص مهم، تجلس بأدب، باحترام، تنظر إليه، تتطامن في جلستك، هذا مع إنسان، فكيف إذا عرفت الواحد الديان؟ إذاً المتكبر المختال لا يعرف الله عزَّ وجل، لو عرف الله لتأدب معه حتى في جلسته، حتى في مشيته، حتى في مَنْطِقِهِ، حتى في كلامه، إذاً: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ﴾ ..اقصد أي كن معتدلاً بين الكبر ومَيل الخد وبين التذلل، أيضاً هناك مشية لا يحبها الله عزَّ وجل، أن تمشي خانعاً ذليلاً، خافض الرأس، أن تتمسح بالناس، أن تذل نفسك لهم، هذا أيضاً مرفوض، المؤمن عزيز، لا ينبغي له أن يذل نفسه، <<متى أمَتَّ علينا ديننا >>؟ قالها سيدنا عمر لأحد الأشخاص، قال له: متى؟ لله العزة، إذًا بين التذلل المَقيت وبين الكبر المقيت، ودائماً الفضيلة وضعٌ وسطٌ بين نقيصَتَين، الكبر نقيصة، والخنوع نقيصة..﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ﴾ ، كن معتدلاً في مشيك.

ورد في بعض التفاسير معنى أخر أي واقصد في مشيك رضاء لله عزَّ وجل، في مشيك إلى دكانك، إلى عيادتك، إلى معملك، إلى أهل بيتك، إلى زيد، إلى عُبيد، كل حركةٍ من حركاتك اقصد بها رضاء الله عزَّ وجل، هذا ورد في بعض التفاسير.

﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ﴾ أي ارتفاع الصوت ليس فضيلةً، العربة الفارغة لها ضجيج، فإن كانت مُحَمَّلَةً ليس لها ضجيج، الشيء الفارغ له صَدى، كل الآلات الموسيقية مجوَّفة من الداخل، فارغة، ما دامت فارغة لها ضجيج.

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور