وضع داكن
24-04-2024
Logo
الدرس : 05 - سورة لقمان - تفسير الآيات 13 - 15 من وصايا لقمان لابنه: التوحيد ، بر الوالدين
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.


  الخصائص النفيسة التي خصَّ الله الإنسان بها خصائص حياديَّة:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الخامس من سورة لقمان.

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ(13)﴾ نقف عند كلمة: ﴿وَإِذْ قَالَ﴾ .. أي هذا البيان الذي علَّمه الله الإنسان، هذه الميزة التي خَصَّه الله بها، كيف يستخدمها؟ كما أن الإنسان بالبيان يرقى إلى الواحد الديَّان، كذلك بالبيان، واللغة، والكلام يهوي إلى أسفل سافلين..فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ. ))

[ صحيح الترغيب: حسن صحيح ]

هناك كلمة كفر، وكلمة فسق، وكلمة عصيان، وكلمة استهزاء، وكلمة جحود، وكلام تطاول، وكلمة تحدٍّ، هناك معاصٍ يرتكبها اللسان لا تُعَدُّ ولا تحصى، كما أن الإنسان باللسان يرقى إلى أعلى عليين، كذلك الإنسان باللسان يهوي إلى أسفل سافلين. 

إذاً: الخصائص النفيسة التي خصَّ الله الإنسان بها خصائص حياديَّة، يمكن أن تستخدم في الحق، ويمكن أن تستخدم في الباطل، وهل نشر الكفر إلا عن طريق اللغة، والبيان، والخطابات، والتأليف، والنشرات وما إلى ذلك؟ هل نشر الضلال إلا عن طريق اللغة؟ هل نشر الفتن، هل تحريض الناس على ارتكاب المعاصي إلا عن طريق اللغة؟ وهل دعوة الأنبياء إلا عن طريق اللغة؟ الهدى يتمُّ عن طريق اللغة؛ والإضلال يتمُّ عن طريق اللغة، إذاً: هذا البيان الذي خصَّ الله به الإنسان كيف يستخدمه ؟ 

 

استخدام لقمان الحكيم اللغة لبيان الحق:


سيدنا لقمان استخدمه في بيان الحق، فأنت حينما تشعر أن الله أعطاك هذا اللسان، أعطاك هذه العين لترى بها عورات المسلمين أم لترى بها ملكوت السماوات والأرض؟ أعطاك هذه الأذن لتستمع بها إلى الغناء والباطل والغيبة والنميمة أم لتستمع بها إلى الحق؟ أعطاك هذه اليد لتبطش بها أم لتعين بها الضعيف؟ أي كل شيءٍ أعطاك الله إياه يمكن أن يوظَّف للحق كما يمكن أن يوظَّف للباطل، هذا هو الاختيار، سيدنا لقمان وظَّف اللغة، وظَّف البيان، وظَّف القول لنشر الحق..﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ﴾

بالمناسبة الإنسان الذي لا يَمُتُّ إليك بصلة إن هديته هديتَه، وإن لم تهده فهناك من يهديه، أما ابنك ليس له إلا أنت، أي أن تهدي ابنك هذا عملٌ عظيم لقول النبي عليه الصلاة والتسليم: عن عائشة رضي الله عنها:

(( إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَ الرَّجُلِ مِنْ كَسْبِهِ. ))

[ صحيح النسائي  ]

لأنه جزءٌ منك، ولأنه امتدادٌ لك، ولأنه صدقةٌ جارية، طبعاً..عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ؛ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ. ))

[ صحيح الجامع  ]

فالمؤمن يسأل الله عزَّ وجل ذُرِّيَةً صالحة..

﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)﴾

[ سورة الفرقان ]

تقرُّ به العين. 

إذاً أولاً: ﴿وَإِذْ قَالَ﴾ هذا البيان الذي خصَّ الله به الإنسان كيف يستخدمه؟ تعلَّمت اللغة، تعلَّمت القراءة والكتابة لتقرأ ماذا؟ لتقرأ قصصاً ماجنة أم لتقرأ كتاب الله؟ لتقرأ موضوعاً يزيدك علماً وقرباً أم لتقرأ موضوعاً يزيدك بعداً وانحرافاً؟ هذه اللغة، فاللغة عاملٌ حيادي، إما أن ترقى بها إلى أعلى عليين؛ وإما أن تهوي بها إلى أسفل سافلين، فربنا عزَّ وجل يبين كيف أن الهداية تتمُّ عن طريق البيان، والحوار، والسؤال، والجواب، والتعليق، والاستيضاح.

 

منزلة الموعظة:


﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ﴾ ..كلمة الوعظ لها الآن في هذا العصر وقع غير مَرْضِي عنه، يقول لك: أخي كفاك مواعظ، إياك أن تعظ الناس، فكلمة وعظ ليست كلمةً محبَّبة، ما السبب؟ الحقيقة وأنا أقول لكم: إن أتفه عملٍ - دقِّقوا في كلامي - تفعله في حياتك أن تعظ الناس، أتفه عمل، وقد تستغربون، وإن أعظم عملٍ تفعله في حياتك أن تعظ الناس، أعظم عمل لا يرقى إليه عمل، ولا يسمو فوقه عمل، ولا يطمح إنسانٌ أن يصل إليه أن تكون واعظاً، وأتفه عملٍ هو أن تكون واعظاً، كيف؟

هذا الكلام فيه تناقض، الحقيقة إذا الوعظ عملية قراءة كتاب، وحفظ بعض المعلومات، وإلقائها على الناس، وجذب وجوه الناس إليك، والله هذا أتفه عمل، لأنه سهل أولاً، لا يكلِّف شيئاً ؛ بل يجلب نفعاً، وميزاتٍ، ووجاهةً، وهكذا قال عليه الصلاة والسلام: عن أبي هريرة:

(( مَنْ تعلَّمَ العلْمَ ليُباهِيَ بِهِ العلماءَ، أوْ يُمارِيَ بِهِ السفهاءَ، أوْ يصرِفَ بِهِ وجوهَ الناسِ إليه، أدخَلَهُ اللهُ جهنَّمَ.))

[ صحيح الجامع:  أبو داود ]

 

حقيقة الموعظة بين الواعظ والموعوظ:


سهلٌ جداً أن تعظ الناس، ولا يعرف الشوق إلا من يُكابده، قل للناس: ادفعوا أموالكم يا أخي، أنفقوا، والله هذا سهل، أما حينما تنفق أنت تعرف معنى الإنفاق، الإنفاق يحتاج إلى جهد، هذا المال مُحَبَّب، الله عزَّ وجل قال:

﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)﴾

[  سورة آل عمران  ]

فالمال محبَّب، الله عزَّ أودع حبَّ المال في قلوب البشر، فإنفاق المال يحتاج إلى مخالفة لطبيعة النفس، هو التكليف، فالحقيقة أن يقول الإنسان للناس: أنفقوا أموالكم، القضيَّة سهلة جداً لا تكلِّفه إلا حركات في فمه، وإخراج حروف على نحو معيَّن، قال الله تعالى، قال عليه الصلاة والسلام، فالموعظة على مستوى أن تقرأ شيئاً، وأن تلقيه على أسماع الناس عمليةٌ في منتهى البساطة والسهولة، بل إنها أتفه عملٍ تفعله، يبدو أن الناس حينما رأوا من يعظهم، ليس في مستوى وعظه، يبدو أن الناس حينما رأوا أن هناك من يحترف الدين، أو من يرتزق بالدين، أو من يُنَصِّبُ نفسه واعظاً، وهو ليس في مستوى الوعظ، هذه الممارسات الخاطئة، وهذه الأعمال التي ينفر منها الناس، هي السبب في أن كلمة وعظ ليست محبَّبَةً عند الناس، ولكن الأنبياء وعظوا، أما إذا أنفقت مالك أولاً والقصة معروفة عندكم؛ عبدٌ له سيِّد، ولهذا السيِّد شَيْخ، وكان هذا الشيخ يأتي دار تلميذه من حينٍ إلى آخر، فيرى هذا العبد احتفال سيده الكبير بشيخه، فخطر في باله أن يسأله أن يأمر سيده أن يعتقه، ففعل، فقال هذا الشيخ: أفعل إن شاء الله، ومضى أسبوعٍ تلو أسبوعٍ تلو أسبوعٍ، ولم يحدث شيء، فزاره مرَّةً ثانية، أعاد عليه الطلَبَ مرة ثانية فقال: أفعل إن شاء الله، ومضى شهر تلو شهرٍ تلو شهرٍ، ولم يحدث شيء، وزاره مرَّةً ثالثة، وأعاد عليه الكرَّة، وقال له الشيخ: أفعل إن شاء الله، وبعد أسبوعين استدعاه سيده، وأعتقه بناءً على توصية شيخه. 

دار سؤالٌ كبير في ذهن هذا العبد: ما دام هذا التوجيه لا يكلِّف الشيخ إلا كلمةً يقولها لسيده، فَلِمَ لمْ يقلها منذ أشهر طويلة؟ التقى به، وسأله هذا السؤال، قال له: يا ولدي، لقد كلَّفتني شيئاً كبيراً، لقد اقتصدت من نفقتي مبلغاً أعتقت به عبداً، وبعدئذٍ أمرت سيدك أن يعتقك. هذه قصَّةٌ لها مغزى كبير، أي أنت إذا طبَّقت وأخلصت يجعل الله في كلامك سراً، تطبيق بلا إخلاص غير مقبول، إخلاص من دون تطبيق لا يكون أساساً، إذا طبَّقت أمر الله عزَّ وجل، وأخلصت في تطبيقه، يجعل الله في كلامك روحانيّةً، وسرَّاً تهفو القلوب إليها، هكذا قيل: "ما أخلص عبدٌ لله إلا جعل قلوب المؤمنين تهفو إليه بالمودَّة والرحمة" .

 

كلمة الموعظة من الكلمات التي تغيَّرت نظرة الناس إليها:


إذاً: الوعظ - وإن كان كلمة قاسية - من أتفه الأعمال التي يفعلها الإنسان، إذا كان هو في واد ووعظه في واد، يأمر بما لا يأتمر، ينهى عما عنه ليس ينتهي، يدعو الناس إلى شيء وهو بعيدٌ عنه، يأمرهم بشيء ولا يسبقهم إليه، ما سرُّ عظمة الأنبياء؟ يمكن أن نجمِّع هذا السر في كلمةٍ واحدة؛ أنهم قالوا بألسنتهم ما فعلوه في حياتهم، ليس في حياة الأنبياء ازدواجيَّة، ليس في حياة الأنبياء اثنينيَّة، ليس في حياة الأنبياء ظاهرٌ وباطن، خلوةٌ وجلوة، حياة الأنبياء كل موحَّد، والمؤمن كذلك؛ ما في قلبه على لسانه، ما في لسانه في قلبه، سرُّه كعلانيَّته، سريرته كظاهره، حينما يكون هناك وعَّاظ كلامهم في واد وعملهم في واد، يرتزقون بالوعظ، ويطلبون الدنيا منه، عندئذٍ تسقط هذه الكلمة، يراها بعض الناس في الحَضيض، ربنا عزَّ وجل قال:

﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)﴾  

[ سورة النساء ]

وكذلك: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ﴾ أي الوعظ يستطيعه كل من أوتي لساناً وأثراً من عِلْمٍ، كل من أوتي شيئاً من علمٍ، قرأ كتاباً في التفسير، قرأ كتاباً في الحديث، قرأ كتاباً في الفقه، سمع بعض القصص، أي إنسان اطّلع على بعض المعلومات، وله لسان طليق، بإمكانه أن يعظ الناس، ولكن هذا الإنسان لا يُجْرِي الله الخير على يديه، لأنه ليس صادقاً، وليس مخلصاً، أما إذا كنت مطبِّقاً لما تقول، صادقاً فيما تقول، مخلصاً فيما تقول، عندئذٍ يصبح الوعظ أعلى عملٍ، وأشرف عملٍ، وأغلى عملٍ يفعله الإنسان، عندئذٍ تأخذ كلمة الوعظ بريقاً.

 

أمثلة على أن الوعظ أعلى عملٍ وأغلى عملٍ يفعله الإنسان: 


 أضرب لكم بعض الأمثلة؛ هناك كلمات كان لها بريق، ثمَّ خبا بريقها بسبب نوع استعمالها، فمثلاً: كلمة جرثومة هي أصل الشيء، يأتي شاعر إلى خليفةٍ عظيم، فيمدحه بقصيدةٍ ويقول له:  

أنت جرثومة الدينِ والإسـلامِ والحسبِ

* * *

يقول: أنت أصل الدين، وأنت أصل الإسلام، أما حينما اكتشفت كائنات حيَّة لا تُرى بالعين، هي أصل الأمراض، سميت جراثيم، فإذا قلت لإنسان الآن صديقٌ لك في معمل، في وظيفة: أنت جرثومة هذه الدائرة، إنها ذم، فانظروا كيف أن هذه الكلمة حينما كانت تستعمل بطريقةٍ معيَّنة كان لها بريق، فلما استعمِلَت بطريقةٍ أخرى خبا بريقها.

كلمة وعظ، كلمة عصابة..عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه: 

(( اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ.))

[ صحيح  مسلم ]

 هذا دعاء النبي، العصابة: الجماعة، أما حينما استخدمنا كلمة العصابة لقطَّاع الطرق والمجرمين فقد أصبح لهذه الكلمة معنىً آخر، فالكلمة كالكائن الحي كما يقول علماء اللغة: تولد، وتنمو، وتصبح شابَّةً، وتشيخ، وتموت، الكلمة كائن حيّ، هكذا عرَّفها علماء اللغة، فكلمة الوعظ الآن مرفوضة، أي إذا أردت أن تعلِّق تعليقاً ساخراً على كلام: لا تَعِظْنَا، لكن ربنا عزَّ وجل يقول: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ﴾ طبعاً إذا كان هناك صدق، إنسان امتلأ علماً، وامتلأ حباً لله، وامتلأ انضباطاً بأوامره، وامتلأ استقامةً على أمره، هذا إذا أراد أن ينشر الحق، أن ينشر الفضيلة، أن يدعو إلى الله عزَّ وجل، هذا أشرف عمل، أما إذا إنسان فارغ، لكن أراد أن يتَّخذ من الوعظ رزقاً، ودنيا، ومكسباً رخيصاً، فهذا الإنسان له شأنٌ آخر، هذا تعليقٌ طفيف على كلمة: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ﴾ .

 

التوحيد من أصول الدين:


 ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ .. كنت قبل أشهر ضربت مثلاً لأوضِّح فيه معنى الشرك، الحقيقة الإسلام فيه أصول، وله فروع، من أصول الإسلام التوحيد، وما تعلَّمت العبيد أفضل من التوحيد، وما من مشكلةٍ نُعاني منها إلا بسبب نقص في توحيدنا، متاعب الإنسان، مشكلاته النفسيَّة كلها بسبب الشِرك..

﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)﴾

[ سورة الشعراء ]

الأمر كله بيد الله..

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾

[  سورة هود ]

﴿ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)﴾

[ سورة هود ]

حينما يشرك الإنسان، حينما ينسب لزيدٍ أو لعُبَيْدٍ فعلاً، حينما يظنُّ أن فلاناً بإمكانه أن يفعل كذا وكذا، حينما يُعِّلق آماله على زيد أو عبيد، على فلان أو علان فقد أشرك، والحقيقة كما قال بعض العلماء: نهاية العلم التوحيد، ونهاية العمل التقوى، أي أرقى عمل أن تطيع الله عزَّ وجل، وأرقى علم أن توَحِّد، فليس عجباً أن يكثِّف الله عزَّ وجل فحوى دعوة الأنبياء كلِّهم بالتوحيد..

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)﴾

[ سورة الأنبياء ]

أي إذا أردت أن أضغط لك الدين كلَّه بكلمتين أقول لك: وحِّد واعبد، آمن بأنه لا إله إلا الله، آمن بالله خالقاً، ورباً، ومسيراً، وآمن به، وبوحدانيَّته، وبكماله، آمن بوجوده، وبوحدانيَّته، وبكماله، آمن بأسمائه الحسنى وصفاته الفُضلى، إذا آمنت ووحدت فقد بلغت قمَّة العلم، لأن فحوى دعوة الأنبياء كلِّهم هو التوحيد، والعمل لا يصلح إلا بالعبادة.

 

تعريف العبادة:


العبادة كما تعرفون طاعةٌ طوعيَّة، أي أنت في أرقى مستوياتك حينما تطيع الله عزَّ وجل في كامل أوامره، وتنتهي عن كل ما نهى عنه، العبادة كما تُعرَّفُ دائماً: طاعةٌ طوعيَّةٌ ممزوجةٌ بمحبَّةٍ قلبيَّة.. 

﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)﴾

[ سورة الروم ]

مائلاً..﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾،طاعةٌ طوعيَّةٌ، ممزوجةٌ بمحبَّةٍ قلبيَّةٍ، تسبقها معرفةٌ يقينيةٌ، تفضي إلى سعادةٍ أبديَّة. 


  مثالٌ واقعي لبيان الشرك:


يقول لقمان الحكيم لابنه وهو يعظه: ﴿يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ ..ضربت قبل أشهر مثلاً وسأعيده ثانياً: إنسان مهمَّته أن يصل إلى حلب، وهناك سيأخذ مبلغاً كبيراً في وقتٍ محدَّد، توجَّه إلى محطَّة القطار، إذا ركب القطار الذاهب إلى حلب، قد يرتكب آلاف الأخطاء، أو عشرات، أو مئات، قد يدفع ثمن بطاقةٍ في الدرجة الأولى، ويجلس في الدرجة الثالثة، ولكنَّه يصل، وقد يتضوُّر جوعاً، وفي القطار مركبة تبيع بعض الأطعمة وهو لا يدري، وقد يركب في مقعدٍ معاكسٍ لاتجاه القطار فيصاب بالدوار، يحدث هذا لكنه يصل، وقد، وقد...وقد يقبع في مقطورةٍ فيها شباب يصيحون، ويمزحون، وهو في سن غير هذا السن فينزعج، وقد يركب في مركبة فيها طفل صغير كثير البكاء وينزعج، وقد، وقد... لكن خطأً إذا ارتكبه لا يغتفر، هو أن يتجه إلى مقطورةٍ واقفةٍ لا علاقة لها بالقطار المتوجِّه إلى حلب، فكل هذه الأغلاط تُصَحَّح وتنتهي، القطار يصل، فالإنسان إذا آمن بالله عزَّ وجل، آمن به خالقاً، آمن به رباً، آمن به إلهاً، آمن بوجوده، وآمن بوحدانيَّته، وآمن بكماله، فكَّر في الكون فعرفه، قرأ القرآن فعرفه، تأمَّل في الحوادث فعرفه، المؤمن مذنب توَّاب، كل بني آدم خَطَّاء، لكن إذا ادعى أن مع الله إلهاً آخر فهذه مشكلة كبيرة، أي إذا اتجهت إلى جهةٍ لا تملك لك نفعاً ولا ضراً، لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً، فلأن لا تملك لك من باب أولى، هنا المشكلة أن تعقد آمالك على زيد.

 

قصة في التوحيد من حياة السلف:


ثمة قصَّة معروفة عندكم، عندما جاء توجيه من أحد خلفاء بني أميَّة لوالي البصرة، وكان عنده الحسن البصري رضي الله عنه، يبدو أن هذا التوجيه مخالفٌ لبعض القواعد الدينيَّة، وقع هذا الوالي في حيرة، ماذا يفعل؟ أمرٌ جاء من أعلى، فإن نفَّذه وقع في إثم، وإن لم ينفِّذه وقع في سخط السلطان، سأل الإمام الحسن البصري قال: ماذا أفعل؟ قال كلمةً: "إن الله يمنعك من يزيد، ولكن يزيد لا يمنعك من الله". 

أي مخلوق إذا أطعته، وأسخطت الله عزَّ وجل، هذا المخلوق لا يمنعك من الله، ولكنك إذا أرضيت الله عزَّ وجل، ولم تبالِ بسخط هذا المخلوق، الله عزَّ وجل يمنعك منه، هذا هو التوحيد. 

 

خطورة الشرك:


إذاً: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ﴾ ..إيَّاك والشرك..

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)﴾

[ سورة النساء ]

طبعاً على مستوى العالَم الإسلامي ليس هناك شركٌ جَلِي، ليس هناك صنمٌ يُعْبَد، لا، ولكن هناك شركٌ خفي، وقد ورد: "إن أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الخفي أما إني لست أقول إنكم تعبدون صنماً ولا حجراً ولكن شهوة خفية وأعمال لغير الله" . الشرك أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، وأدناه أن تبغض على عدلٍ، وأن تحبَّ على جورٍ، أن تحبَّ إنساناً ليس كما يجب أن يكون، لمصلحةٍ، فهذا أحد أنواع الشرك، وأن تغضب لنصيحةٍ وُجِّهَت إليك ثأراً لمكانتك، فهذا أحد أنواع الشرك، إما أن تجعل من نفسك ومن شهواتك إلهاً، وهكذا قال الله عزَّ وجل، الآية الكريمة هي: 

﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)﴾

[ سورة الفرقان  ]

إما أن تجعل من أهوائك آلهةً تعبدها، وإما أن تجعل من بعض الناس آلهةً ترضيهم بسخط الله.

 

الأخذ بالأسباب والتوكل على الله:


كيف تدعو فلاناً إلهاً؟ هذا شيء قد يكون له جواب، حينما تعلِّق عليه الآمال، وحينما ترجو رضاه، وتخاف من سخطه، على حساب طاعتك لله عزَّ وجل، وعلى حساب دينك، فهذا هو الشرك، وقد يكون هذا شركاً جلياً، فلذلك الشيخ محي الدين رضي الله عنه له تعريف دقيق قال: "إذا أخذت بالأسباب واعتمدت عليها فهذا شركٌ خفي" . مثلاً: أجريت مراجعة لمركبتك، وقال لك المختص: جيِّدة جداً، فقلت: لن يحدث معي شيءٌ في هذا السفر، هذا شرك، أخذت بالأسباب، واعتمدت عليها، المؤمن يأخذ بالأسباب ويعتمد على الله، إن لم يأخذ بالأسباب فقد عصى، وإن أخذ بالأسباب، واعتمد عليها فقد أشرك، وخلطٌ دقيقٌ جداً بين أن تأخذ بالأسباب وأن تعتمد عليها، وبين ألا تأخذ بالأسباب، في الأولى أشركت، وفي الثانية عصيت، المؤمن يأخذ بالأسباب، ويتوكَّل على ربِّ الأرباب، في اللحظة التي تقول: أنا؛ مُعْتَدَّاً بنفسك، مُعْتَدَّاً بعلمك، مُعْتَدَّاً بمالك، مُعْتَدَّاً بصحَّتك، مُعْتَدَّاً بقوَّتك، فقد أشركت، وإذا أشرك الإنسان سقط من السماء إلى الأرض. 

 

تعريف الجهل:


ما هو الجهل؟ الجهل كل شيءٍ خلاف الواقع، يعرِّفون العلم بأنه علاقةٌ ثابتةٌ مقطوعٌ بصحَّتها، يؤيِّدها الواقع، عليها دليل، فإن لم تكن هذه العلاقة ثابتةً، فليست علماً، إن لم يكن مقطوعاً بصحَّتها، هي إذاً شكٌ، أو وهمٌ، أو ظن، إن لم يكن عليها دليل فهي تقليد، إن لم تكن مطابقةً للواقع فهي جهل، كل شيءٍ يخالف الواقع فهو جهلٌ، إذاً أنت حينما تتجه إلى إنسان معلِّقَاً عليه الآمال، وهذا الإنسان ضعيف، لو أن الله عزَّ وجل جَمَّدَ ذرَّةً من دمائه في بعض شرايين دماغه لفقد ذاكرته، في مكان آخر أصبح مشلولاً، في مكان ثالث أصبح أعمىً، في مكان رابع اختلَّ توازنه العقلي، إذاً هذا الذي تعتمد عليه بيد الله عزَّ وجل، أي قوامه، وملكاته، وأجهزته، وأعضاؤه كلها بيد الله، فإذا اتجهت إلى مخلوق، وتركت الخالق فهذا جهل، لأن الواقع خلاف ذلك.. هناك آية أبلغ: 

﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)﴾

[ سورة الأعراف  ]

فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فلأن لا يملك للآخرين نفعاً ولا ضراً من باب أولى. 

 

بين الهدى البياني والهدى التوفيقي:


لو قال لك إنسان: أريد أن يلتقي بك ابني كي تهديه إلى الله، وكأنه يظن أن كلمة منك تكفي لهدايته، فقلت له: والله أنا ابني ليس كما أريد، ما معنى هذا الكلام؟ لو بالإمكان أن أصنع الهُدى في نفس إنسان لفعلت هذا مع ابني، ولكن الله يهدي من يشاء.. 

﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)﴾

[ سورة القصص  ]

إنك لا تستطيع أن تخلق أثر الهدى في النفس الإنسانية، ولكن تهدي:

﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)﴾

[ سورة الشورى ]

هذا المعنى بمعنى أنك من حيث التبليغ تهدي إلى صراطٍ مستقيم، أما من حيث إحداث الأثر فهذا ليس بيدك، لأن الإنسان مخيَّر. 

 

الشرك ظلمٌ عظيم:


إذاً: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ .. ظلمٌ لمن؟ ظلمٌ لصاحبه، الإنسان إذا أشرك، وأمضى حياته متجهاً إلى غير الله، وانقضت حياته، وجاءت الحياة الأبديَّة، لذلك في القول المأثور: "إن الميت حينما يوضع في قبره يقول الله عزَّ وجل له: عبدي، رجعوا وتركوك، وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبق معك إلا أنا، وأنا الحيُّ الذي لا يموت"، إذا أمضى الإنسان كل حياته مع الناس، زيد وعَبيد، وفلان، والجهة الفلانيَّة، وحقَّق نتائج كبيرة جداً، ارتقى إلى أعلى المراتب، وحَصَّل أكبر الأموال، فجاء ملك الموت..﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ كل شيءٍ حصَّله يفقده في ثانيةٍ واحدة، فالبطولة ليس أن تعيش في الدنيا مرفوع المَقَام، ولا كثير المال؛ البطولة أن تلقى الله عزَّ وجل وهو راضٍ عنك، أن تعرفه في الدنيا كي تسعد بهذه المعرفة في الآخرة، أما إذا أمضيت الحياة الدنيا في الشِرك فأنَّى لك أن تستطيع أن تسعد بالله في الآخرة؟! 

﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ إذا كان العظيم قال عن شيء إنه عظيم، فما قولك؟ مثلاً: لو قال لك طفلٌ صغير: أنا معي مبلغٌ كبير، كم تُقَدِّره؟ طفل صف أول ابتدائي، قال لك: أنا معي مبلغ كبير، أي خمس ليرات، عشر، خمس عشرة، مئة، أما إذا قال لك إنسان تاجر كبير جداً: أنا معي مبلغ كبير، كلمة كبير إذا قالها طفل لها معنىً، وإذا قالها إنسان غني لها معنىً آخر، تقول له: عمود، أي مليون، لا تعرف مقدارها، كلمة عظيم من غني تختلف عنها من طفل، فإذا قال ربنا عزَّ وجل: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ إذا قال العظيم عن الشرك: إنه شيءٌ عظيم، فكم هي عظمة الشرك؟ أي الشرك كل سعادتك بهذه المدينة، وكل المشكلات تُحلُّ إذا وصلت لهذه المدينة، واتجهت إلى مقطورةٍ لا علاقة لها بالقطار الذاهب إلى المدينة، هذا هو الشرك، المركبة واقفة، أما هي فإنها فخمة من الداخل، لَفَتَ نظرك فخامتها، لفت نظرك مقاعدها، لفت نظرك جُدرانها، لفت نظرك أناقتها، لكنها واقفة، وأنت كل مشكلتك بالوصول إلى هذه المدينة، فإذا اتجهت إلى مركبةٍ لها علاقة بالقطار، وصلت، وقد ترتكب في هذه السفرة عشرات الأغلاط كلها مغفورة، أما الغلط الذي لا يغتفر أن تتجه إلى مركبةٍ لا علاقة لها بالقطار، وإذا توجَّه الإنسان إلى إنسانٍ آخر، أو إلى جهةٍ، أو إلى جماعةٍ، أو إلى أي شيء، واعتقد به القوَّة، والغنى، وأنه يعطي ويمنع، ويرفع ويخفض، ويعز ويذل، وهو ليس كذلك، هو جهل..﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ لذلك ما تعلَّمت العبيد أفضل من التوحيد، اسمع آية التوحيد..﴿فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾ .

اليوم تكلمنا بالخطبة أن من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام الجامعة المانعة الموجزة البليغة أنه قال: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:

(( نصرت بالرعب وَأُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ. ))

[ صحيح مسلم ]

 

لا خوف للعبد إلا من الذنب والمعصية:


لا يخافنَّ العبد إلا ذنبه، ولا يرجونَّ إلا ربَّه ، أية جهةٍ مهما كانت مُخيفة لا ينبغي أن تخاف منها، لماذا؟ لأنها بيد الله:

﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)﴾

[ سورة الأعراف ]

﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)﴾

[ سورة الزمر ]

خَلَقَ مخلوقات قويَّة، وخلق مخلوقات لها وضع مخيف، ولكن الله عزَّ وجال مالِكُها، فالمؤمن لا يخاف إلا من الله، قال له: يا موسى خف ثلاثاً، خفني، وخف نفسك، وخف من لا يخافني، أي لا تأمن له. 

لا يخافنَّ العبد إلا ذنبه، ولا يرجونَّ إلا ربَّه، الشيء الذي ينبغي أن تخاف منه هو أن تُخْطِئ، أن تنحرف، أن تأكل حقوق الآخرين، أن تطغى عليهم، أن تبغي، أن تتجاوز الحد، من هذا فَخَفْ، لأن الله عزَّ وجل بالمرصاد، أما جهةٌ قويَّةٌ مخيفةٌ فهي بيد الله..﴿فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)﴾ ، هذا معنى:﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ .

 

بر الوالدين معطوف على طاعة الله:


﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ ..الآن عندنا ملاحظة: هو أن الله سبحانه وتعالى حينما يعطف شيئاً على شيء، العطف يقتضي التجانس، أو المقاربة، أنت مثلاً لا تقول: والله اشتريت أرضاً وملعقةً، لا يتناسبان، تقول: اشتريت أرضاً وحانوتاً، اشتريت بيتاً ومركبةً، اشتريت كتاباً ودفتراً، اشتريت ملعقةً وشوكةً، العطف يقتضي التقارب، فربنا عزَّ وجل رفع برَّ الوالدين حينما عَطَفَهُ على طاعته.. 

﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)﴾

[ سورة الإسراء ]

 وهذه الباء لها تفسير لطيف جداً أنتم تعرفونه، أي أحسن في اللغة إلى، لا الباء، فعل أحسن يتعدَّى بـ (إلى)، أما ربنا عزَّ وجل فعدَّاه هنا بالباء، والباء من معانيها الإلصاق، لأن الإحسان إلى الوالدين لا يُقْبَل إلا منك بالذات مباشرةً، إنسان في بحبوحة، عنده سائق، يقول للسائق: خذ والدي نزهة، هذا غير مقبول، خذ لوالدي هذه الفاكهة، لا، يجب أن تقدِّم الفاكهة بذاتك لوالديك، يجب أن تأخذه إلى النزهة بنفسك، لأن الإحسان إلى الوالدين لا يُقْبَل إلا من الابن بالذَّات، هذا معنى قوله تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ فربنا عزَّ وجل رفع برَّ الوالدين حينما عطفه على عبادة الله عزَّ وجل..﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ .

 

طاعة الوالدين بين الطاعة والطبع:


وهنا: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ﴾ ..إذا كان الله عزَّ وجل هو الخالق، فوالداك السبب في وجودك، السبب الذي جعله الله، لأن الله المسبِّب وهما السبب.

طبعاً هناك شيءٌ آخر هو أن الله سبحانه وتعالى أودع في قلب الأمَّهات والآباء حبَّاً لأولادهم، وهذا سرُّ الخَلق، تجد الأم، أيَّةَ أم في قلبها من الرحمة بابنها الشيء الذي لا يوصف، لذلك أي شيءٍ في طبع الإنسان التكليف أغفله، أما التكليف جاء ليُطالبك بما ليس في طبعك، كيف؟ من طبعك أن تقبض المال، التكليف أمرك أن تنفقه، من طبعك أن تنام، التكليف أمرك أن تستيقظ، من طبعك أن تتحدَّث عن قصص الناس لأن هذا شيءٌ مسلٍ، التكليف أمرك أن تضبط لسانك، من طبعك أن ترى هذه الأم، وقد كبرت سنُّها أصبحتْ عبئاً عليك، وأن تلتفت إلى زوجتك، التكليف أمرك أن تعتني بأمِّك..  يا رسول الله من أعظم الرجال في حقِّ المرأة فقال: "زوجها"، فلمَّا سُئل: من أعظم النساء في حقِّ الرجل؟ قال: "أمُّه..﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ﴾ ، طبعاً الأم مفضَّلة على الأب، قال عليه الصلاة والسلام: عن أبي هريرة:

(( قالَ رَجُلٌ: يا رَسُولَ اللهِ، مَن أَحَقُّ النَّاسِ بحُسْنِ الصُّحْبَةِ؟ قالَ: أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أَبُوكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ. ))

[ صحيح مسلم ]

 

تعريف الوهن:


﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ﴾ ..الوهن هو الضعف، ما معنى وهناً على وهن؟ هذه تشبه ظلاً ظليل، أي أن الضعف يتنامى، كلمَّا كبر حجم الجنين ازدادت حاجته إلى الغذاء، والجنين إما أن يأتيه الغذاء، وإما أن يأخذ من أمِّه الغذاء، أي يحتاج إلى كلس، فإما أن تشرب أمُّه الحليب بكميَّاتٍ جيِّدة حتَّى تؤمِّن له هذا الكلس، أما إذا قصَّرت فالجنين يأخذ الكلس من عظامها ومن أسنانها، فإذا أهمل الإنسان تغذية زوجته الحامل يدفع الثمن باهظاً، كان بثمن حليب صار بطب الأسنان، لأن الجنين يأخذ من كلس أمِّه إن لم يكن في غذائها ما يكفيه، هذا معنى: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ﴾ أي كلَّما كبر حجم الجنين ازدادت حاجته، وأخذ من جسمها، من قوَّتها، من حيويَّتها، من أعضائها.

 

مدة الرضاع عامان كاملان:


﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾ ..

﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)﴾

[ سورة البقرة ]

أي تمام الرضاعة حولان كاملان، وفي آية أخرى:

﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)﴾

[ سورة الأحقاف ]

استنبط العلماء من هاتين الآيتين أنه يمكن للحمل أن يكون في ستة أشهر، هذا حدُّه الأدنى، إذا إنسان زوجته ولدت من حملها في ستَّة أشهر فهذا ابنه في نظر الشرع، لأن أدنى حد للحمل ستَّة أشهر من موازنة الآيتين ببعضهما.

 

مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ:


 ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي﴾ ..هنا المشكلة..﴿وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ قال عليه الصلاة والسلام عن أبي سعيد:

(( مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ. ))

[ صحيح الترمذي: حسن صحيح ]

 هناك نمط غير مقبول، نمط أَرْعَن، أنه إذا جاء لإنسان خير من إنسان يقول: هذا سخَّره الله لي، هو ليس له فضل، أنا أشكر الله عزَّ وجل، هذا الموقف غير إسلامي، وغير شرعي، ومخالف للسُنَّة، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ)) الدليل: إذا جاءك معروف من خلال مخلوق ليس مخيَّراً، أي مسيَّراً، أحياناً يحدث شيء في عالَم الطبيعة، يُساق لك خير لا من طرف إنسان مخيَّر، بل من طرف حيوان أعجمي، طبعاً الشكر وحده لله عزَّ وجل، لكن إذا جاءك خير من طرف إنسان مخيَّر فالله عزَّ وجل هو الأصل في هذا المعروف، هو الذي سمح له أن ينفعك، وهو الذي ألهمه أن ينفعك، هو ألهمه وسَمَحَ له، هو الذي جعل هذا المعروف يتَّجه إليكَ، إذاً: الله عزَّ وجل هو أصل هذا المعروف، إذاً الشكر لله أولاً، لكن هذا الإنسان المخلوق، المخيَّر، الذي باختياره أراد أن ينفعك، ألا يستحقُّ أن تشكره؟ فلذلك المؤمن لا ينسى المعروف، بل إن من أخلاق المؤمن أنه إذا فعل معروفاً مع الآخرين نسيه وكأنه لم يفعله، أما إذا فعل الآخرون معه معروفاً ذكره حتَّى لا ينساه، هذا شأن المؤمن، والنبي عليه الصلاة والسلام أكَّد على هذا المعنى، وربنا عزَّ وجل يقول: 

﴿ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)﴾

[ سورة البقرة ]

بائع مثلاً: أخي رزقي على الله، هذا المشتري اشترى من عندك كميَّة ضخمة، يحتاج إلى مؤانسة، إلى ملاطفة، هذا الموقف المتعجرف المبني على توحيد موهوم هذا موقف غير إسلامي، وهذه الآية تؤكِّد ذلك: ﴿اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾ ..لأنني سُقْتُ لك هذا الخير عن طريق والديك، هما قضيا وقتاً طويلاً في رعايتك، في حملك، في تغذيتك، في تربيتك، في تنميتك، إذاً يجب أن يتَّجه شكرك لله أولاً ثمَّ لوالديك اللذين كانا سبب وجودك، واللذين كانا ممرَّ فضل الله عزَّ وجل إليك..﴿إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ لماذا يجب أن تشكر الله عزَّ وجل؟ لأنه إليه المصير، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن.

 

لا طاعة للوالدين في الشرك والمعصية:


الآن عندنا مشكلة أخرى هي أن هذا الأب الذي أعطاه الله هذه المكانة، ورفع الإحسان إليه حينما عطف الإحسان إليه على عبادته، هذا الأب قد يكون ضالاً، وقد يكون كافراً، وقد يكون عاصياً، وقد يكون فاسقاً، فما موقف الابن البار من أب منحرف؟ جاء الجواب: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي﴾ ..هنا معنى الشرك أي على أن تطيعهما وتعصيني؛ طلقها يا ابني، طلقها لم أحبها، الزوجة جيدة ممتازة، من أجل أن أرضي نزوة أبي أطلِّق زوجتي، هنا الشرك بمعنى أن تطيع والديك على حساب طاعتك لله، أمرك أبوك أن تتعامل مع الناس في تجارتك تعاملاً ربويَّاً يقول: إن أردت أن أرضى عنك فافعل كذا، فإذا كنت مجاملاً، وأطعت الأب، وعصيت الرب، فقد وقعت في شركٍ عظيم، جعلته إلهاً يُطاع من دون الله، مع أنه لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق.. أم سيدنا سعد قالت له: "إما أن تكفر بمحمَّد، وإما أن أدع الطعام حتَّى أموت"، فأجابها سيدنا سعد ببرود، وقال لها: " يا أمي، لو أن لكِ مئة نفسٍ فخرجت واحدةً وَاحدةً، ما كفرت بمحمَّد، فكلي إن شئتِ أو لا تأكلي"، وبعد هذا أكلت..﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾ .

 

الحدود الشرعية لا مساومة فيها:


في حياة المؤمن قضايا ليست خاضعةً للمساومة، الآن في المؤتمرات، في اللقاءات يوجد شروط مسبقة، مثلاً، هذا الموضوع لا يمكن أن يُدْرَجَ في جدول الأعمال، إذا أردتم اللقاء والمناقشة، احذفوا هذا الموضوع، وكذلك المؤمن إذا تناقش مع الآخرين هناك موضوعات ليست خاضعةً للمساومة أبداً، أي يدعوك شريكك إلى معصية الله فتقول: يا أخي استحيت ولم أقدر، الله بعث لنا رزقاً سوياً، هذا كلام فارغ، وليس له معنى أبداً، ضغط عليك والدك، أعطاني بيتاً، ضغط عليك والدك كي تعصي الله يقول لك: لا تفرِّق العائلة يا بني، رضي الله عليك، نحن هكذا تربينا، هل أنتم شرع؟! عندنا شرع، فأحياناً يأتي للإنسان ضغوط من والديه لتطبيق شيء، أو لمخالفة الشرع..﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي﴾ هنا معنى تشرك هنا بمعنى أن تعصيني، وأن تطيعهما في مصلحة دنيويَّة.

 

نفي العلم بالشيء لننفي الشيء أو ننفي قيمته:


﴿مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾ ..بعض المفسِّرين قالوا: ﴿مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ أي أراد من نفي العلم نفي الوجود، أحياناً الإنسان يقول: فلان لا شيء، هو شيء، ووزنه خمسة وثمانون كيلو، كيف لا شيء؟ ولكن يقصد لا شيء، أي ليس له قيمة، أحياناً نعبِّر عن نفي الوجود بنفي العِلم، يقول لك: فلان، فيرد قائلاً: من هو فلان؟لا أعرفه، هو يعرفه، ولكن لا أعرف له مكانةً.. 

يقولون هذا عندنا غير جائزٍ               فمن أنتمُ حتى يكون لكم عندُ؟

* * *

أحياناً ننفي العلم بالشيء كي ننفي الشيء، أو ننفي قيمته، فربنا عزَّ وجل، إذا قال له أبوه: التقاليد يا بني، العادات، هكذا نشأنا، هكذا ربينا، هكذا نحن في بلدنا، هذا كلام ليس له معنى إطلاقاً..﴿مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ يقول لك: في العرس يجب أن تدخل، وأن تجلس أمام الآخرين، أمام النساء، هكذا العادات، لكيلا يظنوا أن فيكَ عاهة يا بني، هذا خلاف الشرع، هناك أمثلة كثيرة جداً؛ من اختلاط، من أكل مال حرام، من احتفالات كلها لا ترضي الله عزَّ وجل، وهذه مشكلة يعانيها الشباب، إذا تاب شاب إلى الله توبة نصوحاً يعاني من أهله، يعاني من ضغوط اجتماعيَّة، من طرف الأهل، فإذا أراد ألا يجري اختلاطاً في حياته الاجتماعيَّة يُتَّهم بالمجافاة، والعداوة، ويسيءُ الظن بإخوته، فتُفسَّر طاعته لله تفسيرات ما أنزل الله بها من سلطان، هنا: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾ .

 

على الإنسان أن يؤدي الذي عليه ويطلب من الله الذي له:


لكن..﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً﴾ ..صاحبهما في الدنيا مصاحبةً لا ينكرها الشرع، ولا ينكرها الكَرَم، هناك شخص إذا أعطاه أبوه توجيهاً خلاف الشرع يقول له: أنت لا تفهم، أنت كافر، أعوذ بالله، هذا جفاء، يمكن لك أن تعتذر عن تلبية طلب من والديك بأدبٍ جم، يمكن أن ترفض تنفيذ طلب لوالدتك بمنتهى اللطف، هنا قوله تعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً﴾ كن كريماً معهم، واسِهِم، قدِّم لهم الخدمات تلو الكلمات، ليِّن كلامك معهم، هذا كلُّه مطلوب، ولو كانوا على خلاف ما تريد، ليس هذا من شأنك، أدِّ الذي عليك واطلب من الله الذي لك، هذه قاعدة، لكن تقول لي: والله والدي لم يسمح لي، والدي أمرني أن أفعل كذا خلاف الشرع، هكذا أحب والدي، معنى هذا أنت صفر، أنت لا شيء، أين استقلاليتك؟ أين إيمانك؟ أين عزيمتك؟ أين ورعك؟ لكن لكن أرجو الله عزَّ وجل أن يكون الآباء في المستوى المطلوب.

هناك مشكلة معاكسة؛ الأب يأمر بالصلاح والابن لا يستجيب، هذه مشكلة ثانية، لكن توجد حالات معيَّنة، الأب يأمر بما لا يأمر به الله عزَّ وجل، والقاعدة: لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق.

 

لا بدّ للإنسان من مرجعية وطريق صحيحة: 


﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ الذي أعقب النهي الأول: ﴿فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾ .. لابدَّ لك من مشربٍ صحيح. ابن عمر، دينك، دينك، إنه لحمك ودمك، خذ عن الذين استقاموا، ولا تأخذ عن الذين مالوا، الإنسان الذي رجع إلى الله رجع إليه بأوامره ونواهيه، رجع إليه بعلمه، وأطاعه، هذا اتبع سبيله.

 

المرجع والمصير إلى الله:


﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ .. أي أنبِّئكم بحقيقة أعمالكم، وأنبِّئكم بنتائج أعمالكم، أي  أنت على صواب وأنت على خطأ، وهذه النتيجة كانت كذا وكذا..﴿فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ .

وفي درسٍ آخر إن شاء الله نتابع تفسير هذه الآيات بفضل الله وعونه.

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور