- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (020)سورة طه
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ... مع الدرس الثامن من سورة طه ، وصلنا في الدرس الماضي من هذه السورة إلى قوله تعالى :
﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى﴾
حال المؤمن في الجنة :
هذه الآيات لابدَّ أن تنقلنا إلى موضوع الجنَّة ، فالإنسان في الجنَّة له حالٌ خاص تختلف اختلافاً بيِّناً عن حاله في الدنيا ، فإنه في الجنَّة نفسٌ مرتكزةٌ إلى جسد ، فالنفس ترى مباشرةً لا من خلال عينين كما هي الحال في الدنيا ، إن النفس كلها أعينٌ ، لمجرَّد أن تتجه إلى جهةٍ معيَّنة حتى ترى كل شيء ، والنفس كلُّها آذانٌ ، إنها نورٌ مركَّبٌ على جسده ، لذلك في الجنَّة لا شقاء ولا تعب ، ولا سعي ، ولا كدَّ ، ولا إرهاق، ولا جهداً يُبْذَل ، ولا أي شيء مما يُحِسُّه الإنسان في الدنيا .
فربنا سبحانه وتعالى لابدَّ أن يجعل من هذا النبي العظيم سيدنا آدم الذي بدأ به الخلق خليفته في الأرض ، وقبل أن يجعله خليفته أراد أن يعطيه درساً بليغاً ، إن نزول سيدنا آدم من الجنَّة إلى الأرض نزولٌ محقَّق ، ولكن كان بطريقةٍ فيها تعليمٌ له ولنا على مرِّ العصور والدهور .
والإنسان في الجنَّة نفسٌ مركَّبةٌ على جسد ، لكنَّه في الدنيا على الأرض جسدٌ في داخله النفس ،و هذا الجسد يشغل حيِّزاً إذ يحتاج إلى غذاء ، وإلى ماء ، ومتى تناول الغذاء ، والماء يحتاج إلى إخراج الفضلات ، وإلى سعيٍ ، فطبيعة الحياة على وجه الأرض طبيعةٌ فيها سعيٌ وكدٌ ، وتعبٌ ، وجوعٌ وعطشٌ ، يحتاج إلى طعامٍ ، وإلى شرابٍ ، ولباسٍ، ومسكنٍ ، وزوجةٍ ، بينما هو في الجنَّة لا يحتاج إلى أي شيءٍ من هذا ، فإن النفس تسعد فيها مباشرةً لا عن طريق الوسائط .
حكمةُ المحظور من أجل تربية الإرادة البشرية :
فربنا سبحانه وتعالى أراد أن يربي هذا الإنسان من خلال هذا الدرس البليغ الذي علَّمنا إياه ، فما هذه التربية ؟ لابدَّ من محظور ، ولماذا المحظور ؟ أنه من أجل تربية الإرادة ، وإن أثمن ما يملكه الإنسان الإرادة الحرَّة التي منحها الله إياه ، وهذه الإرادة الحرَّة لا قيمة لها إلا إذا كانت منضبطةً وفق القواعد والأصول ، فمن أجل أن تُرَبَّى هذه الإرادة لابدَّ أن يكون في الحياة شيءٌ محظور ، فهذا الذي ينساق وراء شهواته ضعيف الإرادة ، وليس أهلاً أن يكون خليفة الله في الأرض ، وهذا الذي يستجيب لكل رغبة ، وينساق مع كل شهوة ، يفعل كل ما يخطر بباله هذا إنسان ساقط ، مُتهافت ، ضعيف الإرادة ، إنه كتلةٌ من الشهوات تتحرَّك ، لكنَّ الإنسان الذي أعدَّه الله ليكون خليفةً في الأرض لابدَّ أن تنمو عنده الإرادة .
و لذلك فربنا سبحانه وتعالى فيما ترويه التفاسير عَهِدَ إلى سيدنا آدم أن لا يأكل من هذه الشجرة ..
﴿ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا ﴾
من أي شيءٍ كُلا إلا هذه الشجرة ، إذاً في هذه إشارةٌ إلى أن المُباحات أكثر بكثير من المُحَرَّمات ، وأن الإنسان حينما يدع جميع المُباحات ، ويقترف المحرَّم فقد أساء وظلم ، لأن الله سبحانه وتعالى أباح كل شيء ، وقد قال علماء الأصول : " الأصل في الأشياء الإباحة:
﴿ وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ﴾
نهيٌ واحد مع إباحةٌ لكل شيء ..
﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾
تفسير الآية ومعناها وما يُستنبَط منها :
أوجه التفاسير أن هذا النبي الكريم الذي قال عنه سيد المرسلين :
(( آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ إِلا تَحْتَ لِوَائِي وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ وَلا فَخْرَ ))
فاستنبط من هذا الحديث أن سيد ولد آدم هو النبي عليه الصلاة والسلام ، ويأتي بعده سيدنا آدم ، فهو أعظم النبيين صلى الله عليه وسلَّم ..
﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا﴾
أي وصَّيْنا ..
﴿ إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ ﴾
أي من قبل أن يأتي إلى الأرض ، ومن قبل أن يهبط إلى الأرض ، حينما كان في الجنَّة ، أبحنا له كل شيء عدا هذه الشجرة ..
﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ ﴾
لكنَّ هذا النبي الكريم ما كان يعرف الكذب ، ووَسْوَسَ إليه الشيطان أن:
﴿ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى َةً﴾
يبدو أن هذا النبي الكريم كان في حالةٍ من القرب شديدة ، وأنه أراد أن يبقى في هذه الحالة ، وأن يخلُد فيها ، ولم يكن يعرف ما الكذب ..
﴿ فَنَسِيَ ﴾
معاني : وَلم نجِدْ لَهُ عَزْمًا
المعنى الأول : معصيةُ آدم معصيةُ نسيان وسهوٍ :
إنه ما عصى عن تصوُّرٍ وتصميم ، لكنَّ معصيته جاءت عن نسيانٍ وسهوٍ ، ولذلك قال العلماء : " إن هذه الآية لا تقدح في عصمة سيدنا آدم ، " ولله عزَّ وجل أن يقول ما يشاء عن سيدنا آدم ، أما نحن البشر فليس لنا أن نقول عنه : إنه عصى ربَّه بالمعنى الذي يفهمه عامَّة الناس ، لأن الله سبحانه وتعالى برَّأه من أن تكون معصيته عن تصورٍ وتصميم ..
﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ ﴾
وقد قال عليه الصلاة والسلام :
(( وضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ ))
إذاً نسيان هذا النبي هذا الحظرَ الإلهيَ لا يعني أنه عصى ربَّه بالمعنى الذي نفهمه نحن ، أي عصاه عن تصورٍ وتصميم ، ولكنَّ هذه المعصية جاءت عن نسيانٍ وسهوٍ ..
﴿ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾
المعنى الثاني : عدمُ العزم على المعصية :
أيضاً من أوجه التفاسير أن هذا النبي الكريم ما كان يملك العزيمة على معصية الله ، فما كان عازماً على معصيته ، والدليل أن الله سبحانه وتعالى سرعان ما غفر له ، واجتباه وقَرَّبه ، ولو أنه عصى عن تصورٍ وتصميم ، أو كان يملك العزيمة الأكيدة على معصية الله عزَّ وجل لما كانت عودته واجتباؤه وتكريمه بهذه السرعة الفائقة ..
﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾
من فوائد الآية المسلكيةِ : لا بد في الحياة من المحظور :
إذاً هذه الآية تعلِّمنا أنه لابدَّ أن يكون في الحياة شيءٌ محظور، لأن هذا الشيء المحظور يربِّي الإرادة في الإنسان ، ولماذا الإرادة ؟ لأنها أثمن ما يملكه الإنسان ، فإنه بالإرادة يرقى إلى الله سبحانه وتعالى ، فالإنسان مخيَّر ، وإن مشيئة الله سبحانه وتعالى شاءت أن يكون الإنسان ذا مشيئةٍ حرَّة ، وإن الله سبحانه وتعالى منحه الاختيار ، فمنحه الإرادة الحرَّة ، والمشيئة الحرَّة ، وهذه المشيئة والإرادة لابدَّ لهما من تربية ، وتربيتهما تكون في أن هناك في حياة الإنسان شيئاً محظوراً .
فالصيام مثلاً ونحن على أبواب رمضان ، يربِّي في الإنسان الإرادة القويَّة ، فشيءٌ مباح ، شربةُ الماء ، وليست محرَّمة ، ولكنَّها في هذا الشهر محرَّمة من أجل أن تُربَّى في الإنسان الإرادة الصُلبة المتينة ، إذاً لا يمكن أن تكون الإرادةٍ ذات قيمةٍ إلا إذا كانت منضبطة لا وفق الهوى ، ولكن وفق الحق والقيم ، فهذا الذي يعطي نفسه ما تشتهي ، ومقاومته أمام الشهوات هَشَّة ، ضعيفةٌ ، فسرعان ما ينهار أمام كل شيءٍ مُغْرٍ ، وهذا الذي تجذبه المغريات ، وتخيفه الضغوط هذا إنسانٌ ضعيف الإرادة ، لا يصلح أن يكون خليفة الله في الأرض ، فالله سبحانه وتعالى أراد أن يعلِّمنا في نزول هذا النبي الكريم من الجنَّة إلى الأرض درساً لا يُنْسَى ، وهو أن الإنسان أثمن ما يملكه في حياته الإرادة الحرَّة ، وأن هذه الإرادة الحرَّة لا ترقى إلا بالمحظورات .
﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا ﴾
أي وصَّيْنا ..
﴿ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ ﴾
من قبل أن يهبط إلى الأرض ..
﴿ فَنَسِيَ ﴾
هذا العهد ، ونسي تلك الوصيَّة ..
﴿ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾
لأنه لو لم ينسَ لبقي في الجنَّة ، ولابدَّ أن يهبط إلى الأرض ..
﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى﴾
سجود الملائكة لآدم :
وأيضاً هذا السجود ليس سجود العبادة ، ولكنَّه سجود التعظيم ، فهناك سجود التكريم ، وهناك سجود التعظيم ، وهناك سجود العبادة ، أما سجود العبادة فهو لله وحده ، ولا ينبغي لبشرٍ أن يسجد لبشر إلا أن يكون السجود كنايةً عن التكريم والتعظيم كما ورد في بعض آيات القرآن الكريم .
نسي وصيَّتنا ، أو نسي أمْرنا ، ولم تكن عنده عزيمةٌ على المعصية ، فهذا تعليلٌ لطيف ، وتخريجٌ يتناسب مع مقام هذا النبي الكريم ، ومع عصمة النبي ..
﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى﴾
الحكمة من تكليف الملائكة بالسجود لآدم :
لماذا كُلِّفَ الملائكة السجود لسيدنا آدم ؟ لأن سيدنا آدم حمل الأمانة، والذي يحمل الأمانة يفوق بها من لم يحملها ..
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً َةً﴾
رُكِّبَ المَلَكُ من عقلٍ بلا شهوة ، ورُكِّب الحيوان من شهوةٍ بلا عقل ، ورُكِّب الإنسان من كليهما ، فإن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة، وإن سمت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان ، فالمؤمن إذا أخذ الأمانة بحقِّها ، وعرف ربَّه يفوق بهذا الملائكة المقرَّبين.
ما من شيءٍ أكرم على الله من شابٍ تائب ..
﴿ فَقُلْنَا يَا آدَمُ ﴾
درس بليغ :
درسٌ بليغٌ له ولذريَّته ، وهو على وشك أن يكون خليفة الله في الأرض ..
﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾
علَّمه أن الشيطان عدوٌ له ولذريَّته ..
﴿ فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾
أي إذا أخرجك من الجنَّة تشقى ، بمعنى أنك عندئذٍ تحتاج إلى سعيٍ لكسب الرزق ، وتحتاج إلى عمل ، وإلى كدٍّ ، ودأبٍ ، وجهدٍ تبذله من أجل أن تأكل ، إنك في الجنَّة تتنعَّم ، وتأكل بلا وسائط ماديَّة ، أي أن هذه التفَّاحة يمكن أن تتصل بها نفس الإنسـان فتأخذ كل ما فيها من طعمٍ طيِّب ، وهذا في الجنَّة ، فالإنسان في الجنَّة يمكن أن يأكل أعداداً لا حصر لها من الفواكه والثمار من دون أن يُضطرَّ إلى أن يُدخلها إلى جسـده ، إذ يأخذ طعمها الطيِّب ، ويبتعد عن مادَّتها التي هي عبءٌ على جسده ، لكنه في الأرض لا يستطيع أن يذوق طعم هذه التفاحة إلا إذا وضعها في فمه ، فإذا وضعها أصبحت عبئاً على جهازه الهضمي ، فكانت هناك التُخمة ، وهناك أمراض الجهاز الهضمي ، أي أن الحياة في الأرض تحتاج إلى جهدٍ كبير ، فمن أجل أن تأكل طبقاً من الطعام تحتاج إلى ساعاتٍ لإعداده، ومن أجل أن تصل إلى هذا الشيء تحتاج إلى سنوات ، وهكذا فسَّر بعض المفسِّرين معنى تشقى .
لماذا تشقى وحدك فقط ؟
والشيء الذي يجذب النظر في هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى لم يقل : فلا يخرجنَّكما من الجنَّة فتشقيا ، بل قال : فتشقى ، لأن السعي والكدّ في نظر الدين على الرجل ، ولأن الأمومة والتربية على المرأة ، فالرجل يعمل ليكسِبَ الرزق ، والمرأة تربِّي الأولاد وتنشـئهم تنشئةً عالية ، من هنا المرأة التي شـكت إلى النبي عليه الصلاة والسلام زوجها ، والتي قال الله في حقِّها :
﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ ﴾
هذه المرأة حينما خاطبت النبي عليه الصلاة والسلام قالت له : يا رسول الله إن فلاناً تزوَّجني وأنا شابَّة ذات أهلٍ ومالٍ وجمال ، فلمَّا كَبِرَتْ سني ونثر بطني وتفرَّق أهلي وذهب مالي قال : أنتِ عليَّ كظهر أمي ، ولي منه أولاد إن تركتهم إليه ضاعوا .. فهو لا يربيهم .. وإن ضممتهم إلي جاعوا .. فأنا لا أطعمهم ولكني أربيهم ، وهو لا يربيهم ولكنَّه يطعمهم .. " فهذه المرأة حدَّدت بالضبط مهمَّة الرجل في الحياة ، فالرجل يعمل خارج البيت لكسب الرزق ، والمرأة تعمل وأخطر عملٍ تقوم به المرأة على وجه الأرض وهو تربية الأولاد ، فمن أجل أن يكون الأولاد في المجتمع صالحين لابدَّ لهم من أمٍ رؤوم تحنو عليهم ، وتعطي وقتها من أجلهم ، فلذلك:
﴿ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾
فتشقى وحدك ، هي في البيت ، وأنت خارج البيت ، وإنك مكلَّفٌ بكسب المال ، فالرجل أحياناً قد يأتي إلى البيت مُتْعَبًا ، وليس التعب تعباً مادياً ، فحسب بل هو تعبٌ نفسي ، فإن صعوبات الحياة ، وإن المتاعب ، وإن العقبات كلَّها يواجهها الزوج بشكلٍ صارخ ، بينما الزوجة هي في بيتها ناَعِمَة البال يأتيها رزقها رغداً ، فلذلك على الزوجة أن تقدِّر أحياناً ظروف كسب المال ، وظروف الحياة الصعبة ، فلا تثقل على زوجها ، ولا تُحمِّله ما لا يطيق ، وقد كانت الصحابيِّات رضوان الله عليهن يقُلن لأزواجهن : " يا فلان نصبر على الجوع ، ولا نصبر على الحرام ، فاتَّقِ الله فينا " ، فالمرأة التي تُحمِّل زوجها فوق ما يطيق هذه امرأةٌ لا يحبها الله ورسوله ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُنَّ مَئُونَةً ))
وأقلَّهُنَّ مهراً ، فهذه المرأة اليسيرة التي ترضى باليسير ، والودود الولود السـتيِّرة ، التي تكتم نقاط الضعف في زوجها عن الناس ، ولا تفضحه ، فالنبي عليه الصلاة والسلام يكره المرأة التي تخرج من بيتها ، وتشتكي زوجها ، هذه امرأةٌ لا يحبُّها الله ورسوله ..
(( أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلاقَ فِي غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ ))
فإذا أسكنها في بيت ، وأطعمها ، وكساها ، وأمورها ميسورة ، وكل حينٍ تقول له : طلقني ، فهذه امرأةٌ لا تروح رائحة الجنَّة ، ولا ينظر الله إليها، والمرأة الصالحة تكون عوناً لزوجها على الشيطان ، ولا تكون عوناً للشيطان على زوجها .
أراد رجل أن ينصح امرأته فقال : إن في خُلُقي سوءاً ، فقالت له زوجته : إن أسوأ خُلُقاً منك من حاجكَ لسوء الخُلُق.
﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا ﴾
أي إن إبليس ..
﴿ عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ﴾
وبالتالي لذريِّتك ..
﴿ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى إِنَّ لَكَ ﴾
في الجنَّة ..
﴿ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى﴾
مشاهد ما في الجنة من النعم :
وربنا سبحانه وتعالى وصف الجنَّة ، فلك ألا تجوع فيها ، وإنك لست مضطرًّا أن تُدخل الطعام إلى فمك كي تحيا ، وإنك تحيا من دون أن تكون محتاجاً إلى الطعام ، وإن الطعام في الجنَّة لا من أجل أن تحيا به ، بل من أجل أن تتمتَّع به ، ولذلك حيثما اتجهت نفسك في الجنَّة إلى أية فاكهةٍ تأخذ كل اللذَّة منها من دون أن تأكلها .. ولذلك ..
﴿ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى﴾
وهذه النفس التي هي الأصل في الجنَّة مركَّبةٌ على الجسد كلهيب الشمعة كيف أنه يحيط بالفَتيل ، وإنها عيون ، وآذان ، ومشاعر ، وأحاسيس ، خَطَرَ بباله فلان .
﴿فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ﴾
فأنت في الدنيا من أجل أن تلتقي بفلان لابدَّ أن تسافر إليه ، وتركب المركبة الساعات الطِوال ، ولكنَّك في الجنَّة لمجرَّد أن يخطر ببالك تطلع عليه ، فالحياة في الجنَّة كما قال النبي عليه الصلاة والسـلام فيما يرويه عن ربِّه :
(( أعددت لعبادي المؤمنين ما لا عينٌ رأت ، ولا أذنٌ سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ))
فما في بالجنَّة تقدُّم في السن ، ولا ضعف في القلب ، ولا بالأعضاء ، ولا خرف ، ولا ضعف في البصر ، ولا تشمع في الكبد ، ولا صمم ، ولا وهَن ، ولا أمراض ، بل شبابٌ دائم ، نقص مواد لا يوجد ، ولا غلاء . فالجنَّة مبذولةٌ للمؤمنين في أبهى مظاهرها ، فلذلك :
(( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت ، ولا أذنٌ سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ))
وفي قوله تعالى :
﴿ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
أما الدنيا .. فهي " دار التواء ، لا دار استواء ، ومنزل ترحٍ ، لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء .. لأنه موقت .. ولم يحزن لشقاء .. لأنه موقَّت .. قد جعلها الله دار بلوى ، وجعل الآخرة دار عقبى ، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً ، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضَاً ، فيأخذ ليعطي ، ويبتلي ليجزي " ..
﴿ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى﴾
من ضروريات العبد في الدنيا : الطعام واللباس :
فأساس الحياة أن تكون شبعان البطن ، مكسوَّ البدن ، الثانويات أن تكون في مأوى ، وأن تكون في رِيّ ، فربنا سبحانه وتعالى فصل المتلازمين ، فكان بعضهم يقول : لو كان الله عزَّ وجل قال : إن لك ألا تجوع وألا تظمأ ، وألا تعرى وألا تضحى ، ومعنى ألا تضحى أي أنك لست بحاجةٍ إلى سكنٍ يحجُبُ عنك أشعَّة الشمس ، وضحَا بمعنى بَرَزَ إلى الشمس ، وهنا كنايةٌ عن المسكن ، لست في الجنَّة محتاجاً إلى طعامٍ وإلى مأوىً ، وإلى لباسٍ وإلى ماءٍ تطفئ به ظمأك ..
﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ ﴾
الشيطان أصل في الوسوسة والإضلال :
أي أنك في هذه الحالة الطيِّبة هل تحبُّ أن تستمرَّ بها ، وهل تحبُّ أن تخلُد في هذه الحالة ، هذه أول كذبةٍ يكذبها إبليس على أبينا آدم ، ما كان هذا النبي الكريم يعرف الكذب ، فحينما عصى لم يعصِ وهو يعلم أنه يعصي .. فنسـي .. وحينما عصى لم يعصِ وهو عازمٌ على المعصية ..
﴿ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾
والذي أغراه بهذا أن الشيطان توصَّل إلى نقطة الضعف فيه ، هل تحبُّ أن تكون خالداً في هذه الحالة ؟ قال : بلى ، قال : كل من هذه الشجرة ..
﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى فَأَكَلَا مِنْهَا﴾
آثارُ الأكل من الشجرة : العصيان وظهور السوءة :
وحينما أكلا من هذه الشجرة ، أي حينما وضعا التفَّاحة في الفم أصبحت لهما طبيعةٌ خاصَّة ، وأصبحت النفس داخل الجسد ، وصار الجسد محيطاً بالنفس كما هي الحال في الدنيا ، إذن بَدَت العورات ..
﴿ فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا ﴾
يخصفان أي يضعان ..
﴿ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾
معنى غوى أي خرج من هذه الحالة المُريحة في الجنَّة ، الغَوِيِّ الخروج عن الطريق ، وهذه الحالة المريحة في الجنَّة خرج منها ..
﴿ فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا ﴾
صار هناك عورات ، ويحتاج إلى لباس ، واللباس يحتاج إلى خياطة ، والخياطة تحتاج إلى نسيج ، والنسيج إلى خيوط ، والخيوط إلى غَزْل ، والغزل إلى قطن ، والقطن إلى زراعة ، وإلى حرث أرض ، فمن أجل أن يرتدي هذا الثوب لابدَّ من جهودٍ كبيرة ، وليضع هذه اللقمة في فمه يحتاج إلى زراعة ، وإلى أمطار ، وإلى بِذار ، وإلى حصاد ، وإلى دراسـة ، وإلى طحن ، وإلى عجن ، وإلى خبز ، وإلى نقود ، وإلى عمل..
﴿ فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾
انتقال آدم من درا النعيم إلى دار الفتن :
إنَّ هذا هو الدرس الأوَّل ، فانتقال هذا النبي الكريم من حالة أهل الجنَّة إلى حالة أهل الأرض ، وأهل الأرض جاؤوا إلى الدنيا للابتلاء ، والإنسان يُبْتلى بكسب رزقه ، وبزواجه ، وبالفقر ، وبالصحَّة ، وبالمرض ، وبالقوَّة ، والضعف ، وبالعُلوِّ في الأرض ، وبالذلَّة ، إنه دخل إلى دار البلاء ..
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾
دخل إلى دار الفِتنة ، ودخل إلى دار السَعْي ، والتكليف ، فهذا حلال ، وهذا حرام ، فهو الآن في الأرض ، وعلى الأرض بحاجةٍ إلى طعام ، والطعام يحتاج إلى كَسْب ، وكيف يكسب المال ؟ هل يكسبه حراماً ليأكل ، أم يكسبه حلالاً ليأكل ؟ دخل في الابتلاء ، وأصبحت فيه رغبةٌ إلى النساء لبقاء النوع ، فهل يُلَبِّي هذه الرغبة وفق الشريعة التي جاء بها الأنبياء أم وفق الشهوة العمياء كيف يلبي هذه الرغبة ؟ دخل آدم عليه السلام في حالة الابتلاء ، ودخل في حالة السَعي والشقاء ..
﴿ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ﴾
فإذا قلت : فلان عصى بمعنى خالف الأمر ، بصرف النظر عن دوافع المعصية ، فهناك من يعصي ساهياً ، أو مخطئاً ، ومن يعصي متعمِّداً ، أو متحدّياً ، أو فاجراً ، فكلمة عصى تعني الخروج عن الأمر ليس غير من دون أن يدخل الباعث على المعصية ، فإذا كان الباعث هو النِسيان فلهذه المعصية حُكْم ، وإذا كان الباعث هو المعرفة فلهذه المعصية حكم ، وإذا كان الباعث هو التحدِّي فهذا هو الفجور ، ولذلك ربنا عزَّ وجل قال :
﴿ وَعَصَى ﴾
أي أنه خرج بسلوكه عن الأمر الذي أمرناه به ، فهبط من الجنَّة إلى الأرض ، ولأن هذا النبي الكريم عصى ناسياً ولم يعصِ عازماً ..
﴿ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾
توبة الله على آدم :
سريعاً جداً ، ولذلك فالإنسان إذا وقع في مخالفةٍ من دون قصدٍ ، أو من دون تصميم ،ٍ وإرادةٍ ، ودون أن يكون راغباً في هذه المخالفة توبته سهلةٌ جداً ، أما إذا فعلها عن تَصَوُّرٍ وتصميم ، وإذا فعلها ، وهو يعلم أنه يعصي فهذه مشكلةٌ كبيرة ..
﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً ﴾
أي اهبطا ، وكأن حالة أهل الجنَّة أرقى بكثير من حالة أهل الأرض ، حالةٌ كلُّها نعيم ، وكلُّها راحة ، أما الإنسان على وجه الأرض فحياته شاقَّة .
﴾يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ ﴾
﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾
أي أن طبيعة حياته تحتاج إلى جهدٍ كبير ، ونحن في الدنيا يسكن أحدنا في بيت يكون أمامه زوجة وأولاد ، ويكون له دخل معقول ، ويقول: أربعون سنة وأنا أسعى ، وقد شقيت كثيراً حتى وصلت إلى هنا ، وهكذا طبيعة الحياة ، فيها ابتلاء ، وفيها امتحان في كل شيء ..
﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾
والإنسان في بعض الأحيان تكون امرأته عدوةً له إذا حملته بطلباتها على معصية الله ، وقد يكون الزوج عدواً لامرأته إذا حملها على معصية الله رغبةً في شهوته ، وقد يكون الابن عدواً لأبيه إذا سمح له الأب بشيءٍ يرفع مقامه في الدنيا على حساب دينه ، ويأتي يوم القيامة يقول : " يا رب لا أدخل النار حتى أُدْخِلَ أبي قبلي " .
﴿ الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ ﴾
فكل إنسان حمل إنساناً على معصية ، أو دفعه إلى مخالفة ، أو كلَّفه ما لا يطيق فعصى الله عزَّ وجل فهذه هي العداوة الحقيقيَّة ..
﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾
ومع أن الإنسان في الدنيا مُبْتَلى ، وهو في الدنيا صاحب إرادةٍ حُرَّة ، لكن الله سبحانه وتعالى نَصَبَ الآيات ، فكل شيءٍ ينطق بحمده ، وكل شيءٍ دالٌ عليه ، ومع ذلك ..
﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾
والله الذي لا إله إلا هو لو لم يكن في القرآن الكريم إلا هذه الآية لكَفَتْ ، فكلنا جميعاً هذه الآية تَبُثُّ في قلوبنا الطمأنينة ، فإذا اتبعت هُدى الله في كل شيء لا تضلُّ ولا تشقى ، ولا يضلُّ عقلك ولا تشقى نفسك ، بل تسعد ، وترقى ، وتنجح ، وتتفوَّق ، وتفلح ، وتحقِّق الهدف مِن خلقك على وجه الأرض ..
﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾
اتباع الهدى نفي للضلال والشقاء :
طمأنينة عقليَّة ، وهذا الذي لم يعرف الحق فيه خلل ، وعنده اختلال توازن ، وقلق ، وهذا الذي يعتقده لا يطمئن إليه ، دائماً في حالة غليان ، أو قلق ، أو خوف ، لكنَّ الذي اعتقد ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام فجاءت عقيدته مطابقةً لهدي الله عزَّ وجل ، يطمئنُّ عقله أنه على حق ، وكم من البشر من سار في دربٍ ثم اكتشف في نهاية المطاف أنه طريقٌ غير صحيح ! وكم من إنسانٍ ظنَّ أن هذا الشيء هو كل شيء ، وفي نهاية الحياة عرف أنه شيءٌ يسير لا قيمة له ! ضيّع من أجله حياته ، ولذلك فخيبة الأمل في خريف العمر شيءٌ لا يُحتمل ، تكون قد أمضيت أربعين عاماً من حياتك في طريقٍ غير صحيح ، تسعى للمال والمال عَرضٌ زائل ، وتسـعى لاقتناص اللذَّة ، واللذَّة مُنقطعةٌ بالموت ، ولذلك :
﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾
وهنيئاً لمن وافق سلوكه الهُدَى الربَّاني ، في زواجه ، وبيعه ، وشرائه ، وعقيدته ، ومعاملاته ، وعلاقاته ، ومشاعره ، وعواطفه ، ومن جاءت أحواله ، وأقواله وأفعاله مطابقةً لما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام فقد اطمأن عقله إلى أنه على الحق ، وأحياناً الإنسان يُفَسِّر حادثة ، فإذا كان تفسيره مطابقاً للواقع ترتاح نفسه ، فإذا اكتشف أن هذا التفسير غير صحيح يحتقر نفسه ، ويحتقر عقله ..
﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾
الآن الناس على صنفين ، إما أن تتبع الهدى فلا تضل ولا تشقى..
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي ﴾
من نتائج نتائج الإعراض :
1 - المعيشة الضنك :
هذا القرآن هو ذكر الله عزَّ وجل ، الذِكْرُ الذي أنزله الله ، إنه الدستور ، والمَنهج ، والكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه :
﴿ فَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ ﴾
معنى الإعراض وصوَرُه :
ما معنى أعرض عنه ؟ أي قد يقرؤهُ ، ولكنَّك إذا أعرضت عن تطبيق أحكامه ، فالله عزَّ وجل قال لك :
﴿ وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ﴾
فهذا المشرك عنده معمل ، وله مركبة فخمة ، وعنده بيت فسيح ، ودخله كبير ، وشكله جيِّد ، وجاءك خاطب مؤمن أقل من هذا المشرك بكثير ، إذ لا يملك ثمن البيت ، ودخله محدود ، فأنت إذا آثرت المؤمن على إيمانه ، ورفضت المشرك على دنياه العريضة فقد عرفت أن هذا الكلام حقٌّ من عند الله ، لكنَّك إذا خالفت كلام الله عزَّ وجل فهذا نوعٌ من أنواع الإعراض عن الله ..
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي ﴾
إذا قال الله لك :
﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ﴾
وأنت لم تلتزم بهذه الآية ، فأطلقت لبصرك العِنان وأنت بهذا أعرضت عن ذكر الله ، وجعلت أحكام القرآن وراء ظهرك ُ مع أن المؤمن ليس هذا شأنه ..
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾
فإذا حرَّم الله الربا انتهى الأمر ، ولا يوجد رأي ثالث ، ولا محاولة لإقناع الناس أن الربا مقبول ، وإذا حرَّم الله الاختلاط انتهى الأمر ، وإذا حرَّم الله النظر إلى الأجنبيَّات انتهى الأمر ، لذلك ..
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي ﴾
أي أنه أعرض عن تطبيق هذا القرآن الذي جعله الله تذكرةً للإنسان..
﴿ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ﴾
ما هو الشيء الضنك ؟
والشيء الضَنك هو الشيء الضَيِّق ، ضيقٌ ماديٌّ أو ضيقٌ نفسي ، أي إما أن يكون الضيق ماديًّا يكاد يُعْصَر ، وإما أن يكون الضيق نفسياً ، فلو أنه يملك أكبر ثروة في العالَم ، لمجرَّد أن هذا الإنسان أعرض عن ذكر الله إنه في ضيقٍ نفسي لا يعلمه إلا الله ، ولذلك سْئل بعض العلماء: هذه الآية كيف نفسِّرها في حقِّ الأغنياء الفَسَقَة ، أو أولي الحول والطول؟ فقال بعضهم : " إن الآية تعني ضيق النَفْس " ، ففي قلبه ضيق لو وزِّع على أهل بلدٍ لكفاهم ، ولو وزِّع على أهل الأرض لماتوا همَّاً وغمَّاً ..
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي ﴾
لا سعادةَ لمعرض أبدا :
ويا أيُّها الإخوة المؤمنون ... هذه الآية لو أن على وجه الأرض إنساناً واحداً أعرض عن ذكر الله ، وهو في سعادةٍ فهذا شيءٌ مستحيل ، مستحيل أن تترُكه وتسعد ، فهذه النفس لا تسعد إلا به ، ولا تطمئنُّ إلا بذكر الله ، ولا ترضى إلا بقضاء الله ، ولا ترتاح إلا لمشيئة الله ..
﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾
فما كانت له صلةٌ بالله عزَّ وجل كان في نور ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( الصَّلاةُ نُورُ ))
وبهذا النور ترى به الحقَّ حقَّاً فتتبعه ، وترى به الباطل باطلاً فتجتنبه ، ولكنَّ الإنسان المُنْقَطِع عن الله عزَّ وجل أعمى ..
2 – العمى يوم القيامة :
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً ﴾
كنت ذا عينين في رأسي ..
﴿قَالَ كَذَلِكَ﴾
كنت أعمى القلب
فلذلك :
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي﴾
هذا الذي جعل هذا القرآن وراء ظهره ، واشتغل بالدنيا ، إذا حُشِر يوم القيامة يُحْشَر أعمى ، لأنه لو كان يصلي لكان في قلبه نور ، وكان مقطوعاً عن الله سبحانه وتعالى ، وكانت الدنيا أكبر همِّه ، ومبلغ علمه لذلك كان أعمى ..
﴿ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ﴾
أنت لم تكن في الدنيا بصيراً ، لك بصرٌ ، ولم تكن لك بصيرة ، ولك عينان ترى بها صور الأشياء ، ولم تكن لك بصيرةٌ ترى بها حقائق الأشـياء ، غَرَّتك الحياة الدنيا ، فرأيتها كل شيء ، مع أنها ليست كل شيء ، ورأيت المال كل شيء ، ورأيت المباهج الدنيويَّة كل شيء ، ورأيت العُلوَّ في الأرض كل شيء ، ورأيت الشهوة كلَّ شيء ، بل إن معرفة الله هي كل شيء ..
﴿ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا ﴾
لا هلاك ولا عذاب إلا بعد إقامة الحجة :
الآيات بثَّها الله في الأرض ، وبثَّها في السـماء ، وجعلها في خلقك، وفي أولادك ، وفي زوجتك ، وفي طعامك وشـرابك ، وفي عملك، وأوجدها بتتابع سِنِيِّ ، حياتك من طفولةٍ إلى شبابٍ ، إلى رجولةٍ إلى كهولةٍ، إلى شـيخوخةٍ إلى ضعفٍ ، فإلى موت ، وكل ما حولك آيات ، وبعث لك الأنبياء ، وأنزل معهم الكتاب بالحق ، وبعث من يَدُلُّك عليه ..
﴿ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ﴾
جعلت الدنيا أكبر همِّك ومبلغ علمك ..
﴿ وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾
الجزاءُ مِن جنس العمل : وكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسَى :
أي كذلك اليوم تُتْرَك ، لم تستكمل موجبات الرحمة ، ولم تتعرَّف لي في الدنيا حتى تسعد في الآخرة ، ولم تجعل الدنيا دار ابتلاء ، بل جعلتها دار عطاء ، لم تجعل الدنيا مزرعة الآخرة ، لم تجعلها دار تكليف ، بل جعلتها دار تشريف ، ومع أن الدنيا دار تكليف ، والآخرة دار تشريف ، وربنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ ﴾
أسـرف على نفسه ، أي أنه أعطى نفسه ما تشتهي فحرمها كل الخَير ، واستهلك وقته استهلاكاً رخيصاً ، وأمضى الساعات الطِوال في القيل والقال ، وفي لغو الحديث ، وفي التَمَتُّع بما لا يرضي الله عزَّ وجل..
﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى﴾
وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وأبْقَى
عذاب الدنيا ما أخذ من عذاب الآخرة شيئاً ..
نارٌ محرقة ، تَلْفَحُ الوجوه ، وتشوي الجلود ، ومع ذلك فهو في ضيقٍ نفسي ، وفي عذابٍ نفسيٍّ لا يُحتمل ، لهذا ورد في بعض الأحاديث أن الإنسان إذا اطلع على مكانه في النار يصيح صيحةً لو سمعها أهل الأرض لصعقوا ، وربنا سبحانه وتعالى يؤكِّد هذا المعنى :
﴿ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ﴾
﴿فِيهِ يُصْعَقُونَ﴾
لذلك هنيئاً لمن أَعَدَّ العدَّة لهذا اليوم العصيب ، هنيئاً لمن عرف أنه سيموت قبل أن يموت ، وسيدنا عمر بن عبد العزيز اختار أحد كِبار العلماء ليكون مرافقاً له ، قال : << يا مُزاحم ، وظيفتك إذا رأيتني ضللت أمسكني من تلابيبي ، وهزَّني هزًّا شديداً ، وقل لي : اتق الله يا عمر ، فإنَّك ستموت >> ، هذه وظيفتك .
وقد قيل :
((إنَّ أكيسكم أكثركم للموت ذكراً ، وأحزمكم أشدُّكم استعداداً له ، ألا وإن من علامات العقل التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والتزوِّد بسكنى القبور ، والـتأهُّبِ ليوم النشور))
وسيدنا علي رضي الله عنه يقول : << الغنى والفقر بعد العرض على الله >> ، فلا يُسَمَّى الغني غنياً في الدنيا ، بل إنه مبتلى بهذا المال ، ولا يسمى الفقير فقيراً ، فإن الله سبحانه وتعالى وزَّع الحظوظ في الدنيا توزيع ابتلاء ، فالغني امتُحِنَ بالغنى ، فإما أن ينجح ، وإما أن يرسب ، والفقير امْتُحِنَ بالفقر ، فإما أن ينجح به فيصبر وإما أن يضجر فيرسب ، والصحيح امتحن بالصحَّة ، والسـقيم امتحن بالسَقَمِ ، والقوي امتحن بالقوَّة ، والضعيف امتحن بالضعف ، فهذه الحظوظ وزِّعت في الدنيا توزيع ابتلاء ، وسوف توزَّع في الآخرة توزيعاً آخر ، إنها توزَّع توزيع جزاء ، فكم من غنيٍّ لم ينجح في امتحانه ! وكم من فقيرٍ نجح في امتحانه ، فأصبح الفقير في الآخرة غنياً والغني فقيراً والآية عُكِسَت ، لذلك :
﴿ إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ* لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ* خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ﴾
قد ينجح الفقير في الامتحان فيصبر ، وقد يرسب الغني في الامتحان فيُسْرِف ، ويتكبَّر ، ويبخل ، وعندئذٍ تكون الحظوظ في الآخرة موزَّعةً توزيعاً آخر ، وربما كان الغني فقيراً ، والفقير غنياً ، ولذلك العبرة لما بعد الموت ، وهذه الدنيا عرضٌ زائل يأكل منه البَر والفاجر ،
((لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ))
((كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأبَرَّهُ))
فليسعَ الإنسان إلى جوهر الحياة ، وجوهرها أن تعرف الله ، وأن تستقيم على أمره ، وأن تتقرَّب إليه ، فإذا كنت كذلك فأنت الفالح .
﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾
﴿ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾
الآية الأخيرة :
﴿ أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ﴾
كفَّار قريش يذهبون صيفاً وشتاءً إلى الشام ، وفي طريقهم إلى الشام مدائن صالح ، وديار لوط ، وديار عادٍ وثمود ، وهؤلاء الأقوام الجبابرة الأقوياء الذين طغوا في البلاد ، والذين جابوا الصخر بالوادي ، والذين فعلوا ما فعلوا ، والذين أكثروا فيها الفساد ، أين هم الآن ؟ .
﴿ أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى﴾
لأصحاب العقول ، فالإنسان السعيد من يتعظ بغيره ، والشقي لا يتعظ إلا بنفسه .